شرح زاد المستقنع أحكام المياه [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى جميع من سار على نهجه إلى يوم الدين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن استعمل في طهارة مستحبة].

تقدم أن ذكرنا أن العلماء رحمهم الله قسموا المياه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: ماء طهور، والقسم الثاني: ماء طاهر، والقسم الثالث: ماء نجس، ثم ابتدأنا ببيان الماء الطهور، وهو الماء الذي شرع الله للمكلف أن يتوضأ ويغتسل به من الجنابة ونحوها، وكذلك يزيل به القذر والنجس العالق بثوبه أو بدنه أو مكانه.

ثم تكلمنا على بعض المسائل المتعلقة بالماء الطهور، وهي تتلخص فيما إذا ألقي في الماء شيء خارج هل يؤثر فيه أو لا يؤثر، ذكرنا ذلك كله.

وسنبتدئ ببعض المسائل المتعلقة بتغير الماء إما إلى طاهر أو إلى نجس، فالماء الذي أوجده الله جل وعلا على أصل الخلقة والذي شرع لك أن تتوضأ وتغتسل به، قد يستعمله الإنسان في غسل مستحب، قال المصنف: (وإن استعمل في طهارة مستحبة) بمعنى أنك إذا توضأت بهذا الماء وضوءاً غير واجب، أو اغتسلت به غسلاً غير واجب، ثم جمعت هذا الماء الذي توضأت أو اغتسلت به في إناء، فجاء غيرك يريد أن يتوضأ به أو يغتسل به وضوءاً أو غسلاً واجباً، هل يصح إيقاع الوضوء بماء قد استعمله الإنسان في طهارةٍ مستحبة؟

استعمال الماء في تجديد الوضوء أو الغسل

استعمال المياه في الوضوء أو الغسل له صورتان:

الصورة الأولى: أن يتوضأ الأول ويغتسل وضوءاً وغسلاً واجباً، مثال ذلك: أذن مؤذن الصلاة للمغرب، فتوضأت في طشت، فجمع الطست فضلة الماء الذي توضأت به، فجاء آخر يريد أن يتوضأ بفضلة الماء الذي توضأت به لوضوءٍ واجب، فلو توضأ بهذا الوضوء أيصح وضوءه أو لا؟

هذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في الماء الطاهر.

الصورة الثانية: أن تغسل الأعضاء في صورة مستحبة، سواءً كان ذلك وضوءاً أو غسلاً، ومثل المصنف لها بقوله: [كتجديد وضوء وغسل جمعة].

أولاً: معنى تجديد الوضوء: أن يتوضأ الإنسان وضوءاً كاملاً، ثم بعد أن ينتهي من الوضوء، إما بزمان يسير، أو بزمان كبير كساعة ونحوها، يريد أن يعيد الوضوء مرة ثانية، هذا التجديد.

دليل مشروعيته ما ثبت في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فدل هذا الحديث على مشروعية تجديد الوضوء بالجملة الأولى، فإن السائل لما قال: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: يا رسول الله! لو كنا على وضوء، فأكلنا لحم الغنم هل ينتقص هذا الوضوء؟

فقال: (إن شئت)، فأجاز أن يوقع وضوءاً ثانياً غير واجب عليه، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية إيقاع الوضوء، ولو كان ذلك مرتين أو ثلاثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الوضوء غير مشروع لقال: لا تتوضئوا، وإنما قال: (إن شئت)، فخيره.

وللعلماء تفصيل في مسألة تجديد الوضوء.

لكن الذي يهمنا هنا أن تجديد الوضوء مشروع، والدليل على مشروعيته حديث جابر الذي ذكرنا، يبقى السؤال: لو أن إنساناً أخذ الماء الطهور -الذي تقدم ذكره- فتوضأ به لصلاة المغرب وضوءاً وكان قد توضأ قبل ذلك، فالعلماء يسمون طهارة الوضوء الثانية طهارة مستحبة، لقوله: (إن شئت)، أي: حبذ فيه الشرع، وهذا مثال لتجديد وضوءٍ.

(وغسل جمعةٍ) هذه الكلمة فيها فائدتان:

أولاً: دقة المصنف حيث جاء بطهارة صغرى مجددة كتجديد وضوء، وطهارة كبرى مجددة كغسل جمعةٍ.

وغسل الجمعة الصحيح وجوبه، وسنتكلم على وجوبه ودليل وجوبه في كتاب الجمعة إن شاء الله، لكن المصنف يسلك مسلك الجمهور من عدم وجوب الغسل للجمعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) واختلف في إسناد الحديث، وسنتكلم عليه إن شاء الله.

فقال المصنف ومن وافقه: إن غسل الجمعة ليس بواجب، فعلى القول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، لو أن إنساناً اغتسل الجمعة داخل موضع يحفظ ماء الغسل كالموجود الآن من البرك الصغيرة، ولكن هذا الغسل ليس بواجب، إنما هو غسل مستحب، هذا المثال الثاني: (وإن استعمل) أي: الماء الطهور (في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة).

قال رحمه الله: [وغسلة ثانية وثالثةٍ كره].

الغسلة المستحبة تأتي على صورتين:

إما أن تأتي الغسلة المستحبة في طهارة كاملة: كالوضوء والغسل من غير جنابة -أي: من غير الواجب- فهذه طهارة مستحبة كاملة للأعضاء كلها، وقد تأتي بإعادة غسل الأعضاء مرة ثانية وذلك بالغسلة الثانية والثالثة.

صورة هذه المسألة: لو أن إنساناً ترجح عنده قول بعض العلماء الذين يرون أن استعمال الماء في وضوء أو غسل يوجب سلبه الطهورية، فقال: أنا أحافظ على هذا الماء، فالغسلة الأولى التي أغسل بها وجهي هذه واجبة، فلا أحفظ ماءها، ولكن أغتسل الغسلة الثانية والثالثة للوجه فأحفظ الماء المتساقط منها، ثم غسل يده فغسل الغسلة الأولى للفرض، ثم غسل الثانية والثالثة استحباباً، وحفظ ماء الغسلة الثانية والثالثة، حتى انتهى من جميع أعضاء الوضوء.

فإن الماء في الغسلة الثانية والثالثة لم يفرضه الله على المكلف، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة)، فأصبحت المرتان والثلاث فضلاً لا فرضاً، فهذا الفضل الذي ليس بفرض، لو أن إنساناً حفظ ماءه ثم جاء ثانٍ يريد أن يتوضأ به، فسألك: ما الحكم؟ ومراد المصنف من ذكر هذه الثلاثة الأحوال كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة أن تحفظ القاعدة، وهي: إيقاع طهارة ليست بواجبة.

(وغسلة ثانية وثالثة كره).

أي: أن هذا الماء المستعمل في الطهارة الغير الواجبة يجوز أن يتوضأ به الإنسان ولكن على سبيل الكراهة، والسبب في ذلك ما سبق بيانه، فإن أصحاب هذا القول يرون أن استعمال الماء لوضوء وغسل واجب يسلبه الطهورية كما سنبينه.

وإذا استعمل في طهارة مستحبة فهو متردد بين الطهور السالم والطهور غير السالم فيعطى حكم الكراهة على القاعدة التي سبق بيانها (كره) المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، والصحيح أن من استعمل الماء في طهارة مستحبة لم يكره لغيره أن يتوضأ ويغتسل بذاك الماء، وسنبين ذلك -إن شاء الله- ونبين أدلته وأقوال العلماء فيه.

تحديد القليل والكثير من الماء بالقلتين

قال رحمه الله: [وإن بلغ القلتين وهو الكثير].

أي: اعلم رحمك الله لو أن هذا الماء الذي شرع الله لك أن تتوضأ به -وهو الماء الطهور- بلغ قلتين، والأصل في القلتين حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وهذا الحديث صحح إسناده غير واحد، وارتضى الحافظ ابن حجر كما في التلخيص والفتح صحته، والعمل عند جمع من العلماء إما على حسنه أو على صحته، وقال طائفة من العلماء: إنه ضعيف، كما اختاره بعض المحققين ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر ، والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع.

وعلى العموم بناء على هذا الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، قال لك المصنف: لو أن هذا الماء الطهور بلغ قلتين فهو الكثير.

(وهو الكثير).

كلمة: (وهو الكثير) اصطلاحية، بمعنى: أنها ستمر عليك في ثنايا كلام الفقهاء وفتاويهم، فإن قال العالم: يجوز ذلك في الماء الكثير، ولا يجوز في القليل، يؤثر في الكثير ولا يؤثر في القليل، أو العكس، فعندهم أن الكثير هو الذي بلغ قلتين، بناء على مذهب من يقول بصحة هذا الحديث والعمل به، وسنبين مسألة القلتين -إن شاء الله- في موضعها.

قال رحمه الله: [وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً].

حديث القلتين -كما قلنا- اختلف العلماء في سنده، والواقع أنه وإن صح الحديث فإن متنه لا يدل على اعتبار القلتين فاصلاً؛ لأن ذلك من باب المفهوم، وليس من باب المنطوق، وهو المفهوم الذي يسميه الأصوليون: مفهوم العدد، وفي مفهوم العدد خلاف، ورجح غير واحد عدم اعتباره، وقد تكلمت على هذه المسألة ببسطها وبيان أدلتها وأقوال العلماء والجواب عن هذا الحديث في شرح بلوغ المرام.

لكن الخلاصة أن اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير مرجوح، والصحيح -كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وجمع من المحققين- أن الماء العبرة فيه بأن يتأثر لونه أو طعمه أو ريحه، وأما أن يجعل العبرة فيه بالقليل والكثير فهذا لا يراه المحققون، وبينا وجه ذلك ودليله، لكن هنا لما كان المصنف يرى أن القلتين فرق بين القليل والكثير احتجنا أن نبين مسألة القلتين: فعند العلماء أن القلتين مثنى قلة، والقلة: ما يقل، بمعنى: يحمل، ومنه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [الأعراف:57] أي: احتملته الريح.

وسميت قلة لأنها تحمل باليد، وهي الجرة، أو الشراب الموجودة الآن وتسمى في العرف: الشربة، أو الزير الصغير الذي يحمل باليد، ولا يزال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونه ويستسقون به، يضعون فيه الماء من الآبار ويجلبونه إلى منازلهم، وهذه القلة تقل باليد، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) بمعنى: أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه طهور، وينبغي أن ننبه على أمور هي:

هناك ماء بلغ القلتين، وهناك ماء دون القلتين، وهناك ماء فوق القلتين، فأصبح الماء له ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون دون القلتين.

الحالة الثانية: أن يكون بلغ القلتين.

الحالة الثالثة: أن يكون فوق القلتين.

فإن كان دون القلتين، مثلاً: فرضنا أنه قلة واحدة، ومن أمثلتها السطل الموجود الآن، لو أن إنساناً كان عنده ماء على قدر السطل، فهذا يسمى ماء دون القلتين، إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة فعلى حالتين:

الحالة الأولى: مثلاً: عندك سطل فيه ماء، وجاء صبي وألقى فيه نجاسةً، أو سقطت منك نجاسة في السطل، فإن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فبالإجماع أنه نجس، سواء كانت النجاسة مائعة أو جامدة.

وإذا كان نجساً فلا يجوز لك لا أن تتوضأ به، ولا أن تغتسل به، ولا أن تزيل به النجاسة؛ لأنه نجس بذاته.

الحالة الثانية: أن يلقي النجاسة في الماء فلا يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، كقطرة بول -أكرمكم الله- ألقاها في السطل، فهل هذه القطرة تمنع من الوضوء والاغتسال من هذا السطل؟ أو وضع الإنسان بمكان غسله سطل ماء فتطاير رذاذ نجاسةٍ على السطل، فشك هل تطاير النجاسة إلى هذا السطل يمنع من الوضوء به؟ مع أنه لم يتغير الماء لا لونه ولا طعمه ولا رائحته، فهذا محل الخلاف بين العلماء.

فمن يقول: أعتبر القلتين يقول: كل ما كان دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، فإني أحكم بكونه نجساً ولو لم يتغير، وهذه فائدة اعتبار القلتين، فهو إذا كان دون القلتين وتغير فبالإجماع ينجس، لكن إذا لم يتغير فعند المصنف وغيره من العلماء وهو مذهب الشافعية والحنابلة أنه يحكم بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه.

وهكذا لو وقع فيه عطرٌ، أو شيء طاهر من مسك أو زعفران ونحوه، إذا وقع في هذا الماء الذي في السطل نقطة منه، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، يقولون: هذا طاهر وليس بطهور.

لكن مذهب المحققين وهو مذهب الظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمة الله عليه أن العبرة بتغير الماء، فإن وقعت هذه النجاسة وغيرت لون الماء الموجود في السطل أو طعمه أو ريحه حكم بنجاسته، أما إذا لم تغيره فليس بنجس، وهذا هو الصحيح.

الحالة الثالثة: إذا بلغ الماء فوق القلتين، فلا ينجس ولا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته، فلو سألك سائل عن بركة ماء -البركة تبلغ القلتين وزيادة- وقعت فيها نجاسة هل يجوز له أن يغتسل من هذه البركة أو يتوضأ منها؟ تقول له: إن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه فالإجماع أنه لا يجوز الوضوء من هذه البركة، أما إذا لم يتغير شيء من أوصافه فالإجماع على جواز التطهر منها، وإن كان هناك بعض الخلاف يحكيه بعض العلماء على مسألة البول في الماء الراكد سنبينه إن شاء الله.

فعندنا مذهبان:

مذهب يقول: الفرق عندي بين الماء القليل والكثير هو القلتان.

ومذهب يقول: المهم عندي تغير الماء بالطاهر والنجس، وهذا هو الصحيح.

فلما كان المصنف يرجح التقدير بالقلتين قال رحمه الله:

[فخالطته نجاسة غير بول آدمي، أو عذرته المائعة، فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه، كمصانع طريق مكة فطهور].

(فطهور) في كلتا الحالتين: إذا بلغ القلتين وخالطته نجاسة من غير بول الآدمي وعذرته، كأن يلقى فيه نجاسة خنزير مثلاً، فإن الخنزير نجس العين والفضلة، فأصبح الماء محل السؤال: هل وقوع النجاسة في هذا الماء الذي بلغ القلتين يوجب الحكم بعدم طهارته إذا لم يتغير؟

قلنا: إن اتفاق العلماء رحمهم الله الذين اختلفوا في القلتين واقع على أنه يجوز التطهر به، وهو طهور ما دام أنه لم يتغير.

أما إذا تغير فالإجماع على أنه لا يجوز الوضوء به ولا الطهارة.

الحالة الثانية: بلغ قلتين وألقيت فيه نجاسة، وغيرته لكن يشق نزحها، كمصانع طريق مكة، وكانوا في أيامهم يستقون على السابلة على الطرق ويكون فيها البرك ونحوها، فمثل المصنف بهذا المثال؛ لأن مكة مورد المسلمين، فكان شيئاً ظاهراً معروفاً عند غالب أو أكثر المسلمين، فمثل به على هذا الوجه.

(يشق نزحها) أي: يشق إخراج النجاسة من هذا الموضع، وذكروا من أمثلة ذلك أن يكون الموضع ألقيت فيه نجاسة ولم يمكن إخراج هذا النجاسة عن ذلك الموضع كما في الآبار والبرك، ويشق نزح هذه النجاسة، فإن شق النزح فالقاعدة: (أن المشقة تجلب التيسير)، ودليل الحكم في هذه المسألة قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ما دام أن الناس ليس بوسعهم أن يزيلوا هذه النجاسة فيخفف عنهم في التطهر بهذا الماء، ويقال: إن الأمر إذا ضاق اتسع، ولا يكلفهم الله إلا بما في وسعهم.

تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس

قال رحمه الله: [ولا يرفع حدث رجلٍ طهور يسير خلت به امرأه].

هذه مسألة ثانية، فقد ورد في حديث ابن عباس وميمونة وأصله في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة) فاختلف العلماء فيما إذا تطهرت امرأة من إناء وبقي بعد طهارتها ماء، هل يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من هذا الماء؟

فمذهب طائفة من العلماء الأخذ بظاهر الحديث، والمسألة لها صور:

جاءت امرأة إلى سطل من الماء واغتسلت منه فبقي نصف الماء فيه، فاحتاج رجل أن يتوضأ بهذا النصف أو يغتسل به، فهل يصح وضوءه وغسله؟!

ظاهر الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة).

فقال أموراً:

أولاً: فضل يعني: الزيادة.

ثانياً: فضل طهور لا فضل شرب، فلو شربت من السطل لم يرد الخلاف، ولو غسلت بعض أعضاء الطهارة لا يرد الخلاف، لكن يقع الخلاف إذا حصلت الطهارة الكاملة، فلو أنها غسلت يدها أو وجهها من سطل فليس هذا بفضل طهور، وإنما محل الخلاف أن تتطهر طهارةً كاملة، إما طهارة صغرى كأن تتوضأ من الماء أو تغتسل منه، فيبقى بعد غسلها من السطل بقية، فهل من حق الرجل أن يتوضأ أو يغتسل به؟

قولان عند العلماء مشهوران، أصحهما: أنه لا يجوز لظاهر الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وطائفة من أصحاب الحديث والظاهرية، على أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل من فضل ماء خلت به المرأة، إذاً هناك شروط:

أولاً: أن يكون المغتسل بهذا الماء أو المتوضئ امرأة، فلو كانت صبية طفلة صغيرة اغتسلت من السطل لا يقع الخلاف؛ لأن الخلاف في المرأة، والصبية ليست بامرأة.

ثانياً: أن يكون هناك تطهر كامل، إما من حدثٍ أصغر، أو من حدثٍ أكبر، فلو استعملته في شرب أو غسل وجه، أو جزء من أعضاء الوضوء والغسل لم يقع الخلاف.

ثالثاً: أن تخلو المرأة بذلك الماء، فلو اغتسلت أو توضأت أمام زوجها أو محرمها، واحتاج أن يتوضأ بعدها أو يغتسل فلا حرج، لأنها لم تخلُ به، إذاً أين محل الخلاف؟ فيما إذا تطهرت وكانت امرأة وخلت به، ففي هذه الحالة هل يجوز للرجل أن يتوضأ بهذا الماء؟ قلنا: الصحيح عدم جوازه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، وظاهر النهي التحريم.

وخالف الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا: يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من فضل طهور المرأة، ودليلهم حديث أم المؤمنين عائشة : (أنها كانت تغتسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تقول له: دع لي، ويقول لها: دعي لي) وجه الدلالة: أنها إذا غرفت الغرفة الأولى فإن الباقي الذي اغترف منه النبي صلى الله عليه وسلم فضلة، ثم لما اغترفت الثانية فأتبع النبي صلى الله عليه وسلم الغرفة بعد غرفتها الثانية فقد اغترف من فضل.

وهذا الحديث يجاب عليه من وجوه:

أولاً: أن محل الخلاف فيما إذا خلت، وهنا عائشة اجتمعت مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وثانياً: أن محل الخلاف أن تكمل الطهارة، وعائشة لم تكمل الطهارة.

وعلى هذا فنجمع بين الحديثين ونقول: هنا نصان خرجا من مشكاة واحدة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي نهى عن التطهر بفضل المرأة توضأ مع عائشة ، ففهمنا أن النهي لا يشمل الذي فعل، فاشترطنا خلو المرأة به، فدليل الشروط التي ذكرناها هو ما ورد في هذا الحديث، فيعتبر هذا الحديث مقيداً لإطلاق الحديث الذي سبق النهي فيه، وبناءً على هذا نخلص بفائدة وهي:

عدم جواز أن يتوضأ الرجل أو يغتسل من بقية وضوء أو غسل المرأة بشروط ذكرناها.

ثم يرد السؤال: إذا كان لا يجوز له فهل إذا فعل نقول بإثمه وصحة وضوئه وغسله، أو نقول بإثمه وعدم صحة وضوئه؟

وجهان للعلماء:

فمن يرى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، يقول: لو اغتسل الرجل من هذا الماء أو توضأ به لم يصح لا غسله ولا وضوءه، وهي مسألة أصولية، وقد تكلمت عن هذه المسألة بإسهاب أيضاً في شرح بلوغ المرام، فنكتفي هنا بالقول الراجح من أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل أو يتوضأ من فضل طهور المرأة بالشروط التي ذكرناها.

(ولا يرفع حدث رجل طهور).

مفهوم ذلك أن المرأة لو اغتسلت بفضل المرأة، ما الحكم؟ يجوز، والوضوء صحيح والغسل صحيح، محل الخلاف إذا كان رجلاً.

يرد السؤال: لو أن خنثى أراد أن يتوضأ ويغتسل بفضل امرأة، فهل الخنثى ملحق بالرجال أو ملحق بالنساء؟

الخنثى له حالتان:

الحالة الأولى: الخنثى البين، الذي بان كونه ذكراً أو كونه أنثى، وذلك بأمارات الرجولة أو أمارات الأنوثة، فهذا لا إشكال فيه، فإن ظهرت فيه علامات الرجولة فحكمه حكم الرجل، لا يتوضأ ولا يغتسل من فضل المرأة، وإن ظهرت فيه علامات الأنوثة فالحكم واضح بين.

الحالة الثانية: الإشكال عند العلماء في الخنثى إذا كان مشكلاً، بمعنى: ليس فيه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة، ولم يتميز، فهذا فيه ما لا يقل عن ثمانين مسألة، حيرت العلماء رحمة الله عليهم، هل يعطى حكم الرجل أو يعطى حكم المرأة؟ من ناحية الطهارة ومن ناحية الصلاة عليه وتغسيله وتكفينه إلى غير ذلك، المهم من هذه المسائل هذه المسألة، بعض العلماء يقول: الخنثى حكمه حكم المرأة؛ لأن اليقين فيه أنه في درجة المرأة، والشك أنه ارتفع إلى درجة الرجل؛ لأن الله فضل الرجل على المرأة وقال: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]... وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] فقالوا: نعطيه اليقين لكونه في حكم الإناث، وعلى هذا فيجوز له أن يتوضأ من فضل المرأة، لأنه آخذ حكم المرأة.

وعلى الوجه الثاني قالوا: فيه شبهة، فليس بمحض الأنوثة ولا الرجولة، فارتفع عن الأنوثة المحضة، ونزل عن الرجولة الكاملة، فأصبح بين بين، فلا يتوضأ بفضل المرأة، لأنه ليس بامرأة، فاشتبهنا في حكمه.

(ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة).

الطهور اليسير مثل: الذي في السطل، ومثل: الذي في الإناء المعروف، هذا يعتبر ماء طهوراً يسيراً، ولو قلنا بعموم هذا الحكم لصارت مصيبة؛ لأن البرك يغترف منها النساء، فلو أن امرأة اغترفت من بركة واغتسلت هل نقول: هذه البركة بكاملها لا يجوز للرجال أن يتوضئوا ويغتسلوا منها؟

فالجواب: أن هذا الحكم هو في الطهور اليسير، فالماء الموضوع في الأواني هو الماء الذي ورد فيه النص، وأما غيره فيبقى على الأصل.

(يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة).

قال بعض العلماء: شرط خلوها أن تكون في موضع لا يراها الرجل، وقال بعض العلماء: تكون فيها خلوة نكاح، بمعنى: أن لا تراها الأنظار، أو ترخى عليها الأستار ونحو ذلك.

المسألة الأخيرة: هل نهي الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويغتسل بفضل طهور المرأة تعبدي أو معلل؟ الصحيح أنه تعبدي لا نعقل علته، حكمة منه سبحانه، قال: هذا الماء توضئوا منه، وهذا الماء لا تتوضئوا منه، هذا الماء اغتسلوا منه وهذا الماء لا تغتسلوا منه، يبتلي عباده بما شاء، فليس الأمر معللاً، ولهذا يقولون: هذا الحكم تعبدي، بمعنى: لا يجري فيه القياس.

قال رحمه الله: [لطهارة كاملة عن حدث].

أي: بسبب حدث، فلو تطهرت طهارة كاملة لغير حدث كالغسلة المستحبة، فوجهان للعلماء:

قال بعض العلماء: حكمه حكم الغسلة الواجبة.

والصحيح القول الثاني: أنه ليس حكمه حكم الغسلة الواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بفضل طهور المرأة) والطهور الغالب فيه: الواجب، فيعطى حكم الغالب ويهدر النادر.

استعمال المياه في الوضوء أو الغسل له صورتان:

الصورة الأولى: أن يتوضأ الأول ويغتسل وضوءاً وغسلاً واجباً، مثال ذلك: أذن مؤذن الصلاة للمغرب، فتوضأت في طشت، فجمع الطست فضلة الماء الذي توضأت به، فجاء آخر يريد أن يتوضأ بفضلة الماء الذي توضأت به لوضوءٍ واجب، فلو توضأ بهذا الوضوء أيصح وضوءه أو لا؟

هذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في الماء الطاهر.

الصورة الثانية: أن تغسل الأعضاء في صورة مستحبة، سواءً كان ذلك وضوءاً أو غسلاً، ومثل المصنف لها بقوله: [كتجديد وضوء وغسل جمعة].

أولاً: معنى تجديد الوضوء: أن يتوضأ الإنسان وضوءاً كاملاً، ثم بعد أن ينتهي من الوضوء، إما بزمان يسير، أو بزمان كبير كساعة ونحوها، يريد أن يعيد الوضوء مرة ثانية، هذا التجديد.

دليل مشروعيته ما ثبت في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فدل هذا الحديث على مشروعية تجديد الوضوء بالجملة الأولى، فإن السائل لما قال: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: يا رسول الله! لو كنا على وضوء، فأكلنا لحم الغنم هل ينتقص هذا الوضوء؟

فقال: (إن شئت)، فأجاز أن يوقع وضوءاً ثانياً غير واجب عليه، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية إيقاع الوضوء، ولو كان ذلك مرتين أو ثلاثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الوضوء غير مشروع لقال: لا تتوضئوا، وإنما قال: (إن شئت)، فخيره.

وللعلماء تفصيل في مسألة تجديد الوضوء.

لكن الذي يهمنا هنا أن تجديد الوضوء مشروع، والدليل على مشروعيته حديث جابر الذي ذكرنا، يبقى السؤال: لو أن إنساناً أخذ الماء الطهور -الذي تقدم ذكره- فتوضأ به لصلاة المغرب وضوءاً وكان قد توضأ قبل ذلك، فالعلماء يسمون طهارة الوضوء الثانية طهارة مستحبة، لقوله: (إن شئت)، أي: حبذ فيه الشرع، وهذا مثال لتجديد وضوءٍ.

(وغسل جمعةٍ) هذه الكلمة فيها فائدتان:

أولاً: دقة المصنف حيث جاء بطهارة صغرى مجددة كتجديد وضوء، وطهارة كبرى مجددة كغسل جمعةٍ.

وغسل الجمعة الصحيح وجوبه، وسنتكلم على وجوبه ودليل وجوبه في كتاب الجمعة إن شاء الله، لكن المصنف يسلك مسلك الجمهور من عدم وجوب الغسل للجمعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) واختلف في إسناد الحديث، وسنتكلم عليه إن شاء الله.

فقال المصنف ومن وافقه: إن غسل الجمعة ليس بواجب، فعلى القول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، لو أن إنساناً اغتسل الجمعة داخل موضع يحفظ ماء الغسل كالموجود الآن من البرك الصغيرة، ولكن هذا الغسل ليس بواجب، إنما هو غسل مستحب، هذا المثال الثاني: (وإن استعمل) أي: الماء الطهور (في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة).

قال رحمه الله: [وغسلة ثانية وثالثةٍ كره].

الغسلة المستحبة تأتي على صورتين:

إما أن تأتي الغسلة المستحبة في طهارة كاملة: كالوضوء والغسل من غير جنابة -أي: من غير الواجب- فهذه طهارة مستحبة كاملة للأعضاء كلها، وقد تأتي بإعادة غسل الأعضاء مرة ثانية وذلك بالغسلة الثانية والثالثة.

صورة هذه المسألة: لو أن إنساناً ترجح عنده قول بعض العلماء الذين يرون أن استعمال الماء في وضوء أو غسل يوجب سلبه الطهورية، فقال: أنا أحافظ على هذا الماء، فالغسلة الأولى التي أغسل بها وجهي هذه واجبة، فلا أحفظ ماءها، ولكن أغتسل الغسلة الثانية والثالثة للوجه فأحفظ الماء المتساقط منها، ثم غسل يده فغسل الغسلة الأولى للفرض، ثم غسل الثانية والثالثة استحباباً، وحفظ ماء الغسلة الثانية والثالثة، حتى انتهى من جميع أعضاء الوضوء.

فإن الماء في الغسلة الثانية والثالثة لم يفرضه الله على المكلف، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة)، فأصبحت المرتان والثلاث فضلاً لا فرضاً، فهذا الفضل الذي ليس بفرض، لو أن إنساناً حفظ ماءه ثم جاء ثانٍ يريد أن يتوضأ به، فسألك: ما الحكم؟ ومراد المصنف من ذكر هذه الثلاثة الأحوال كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة أن تحفظ القاعدة، وهي: إيقاع طهارة ليست بواجبة.

(وغسلة ثانية وثالثة كره).

أي: أن هذا الماء المستعمل في الطهارة الغير الواجبة يجوز أن يتوضأ به الإنسان ولكن على سبيل الكراهة، والسبب في ذلك ما سبق بيانه، فإن أصحاب هذا القول يرون أن استعمال الماء لوضوء وغسل واجب يسلبه الطهورية كما سنبينه.

وإذا استعمل في طهارة مستحبة فهو متردد بين الطهور السالم والطهور غير السالم فيعطى حكم الكراهة على القاعدة التي سبق بيانها (كره) المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، والصحيح أن من استعمل الماء في طهارة مستحبة لم يكره لغيره أن يتوضأ ويغتسل بذاك الماء، وسنبين ذلك -إن شاء الله- ونبين أدلته وأقوال العلماء فيه.

قال رحمه الله: [وإن بلغ القلتين وهو الكثير].

أي: اعلم رحمك الله لو أن هذا الماء الذي شرع الله لك أن تتوضأ به -وهو الماء الطهور- بلغ قلتين، والأصل في القلتين حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وهذا الحديث صحح إسناده غير واحد، وارتضى الحافظ ابن حجر كما في التلخيص والفتح صحته، والعمل عند جمع من العلماء إما على حسنه أو على صحته، وقال طائفة من العلماء: إنه ضعيف، كما اختاره بعض المحققين ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر ، والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع.

وعلى العموم بناء على هذا الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، قال لك المصنف: لو أن هذا الماء الطهور بلغ قلتين فهو الكثير.

(وهو الكثير).

كلمة: (وهو الكثير) اصطلاحية، بمعنى: أنها ستمر عليك في ثنايا كلام الفقهاء وفتاويهم، فإن قال العالم: يجوز ذلك في الماء الكثير، ولا يجوز في القليل، يؤثر في الكثير ولا يؤثر في القليل، أو العكس، فعندهم أن الكثير هو الذي بلغ قلتين، بناء على مذهب من يقول بصحة هذا الحديث والعمل به، وسنبين مسألة القلتين -إن شاء الله- في موضعها.

قال رحمه الله: [وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً].

حديث القلتين -كما قلنا- اختلف العلماء في سنده، والواقع أنه وإن صح الحديث فإن متنه لا يدل على اعتبار القلتين فاصلاً؛ لأن ذلك من باب المفهوم، وليس من باب المنطوق، وهو المفهوم الذي يسميه الأصوليون: مفهوم العدد، وفي مفهوم العدد خلاف، ورجح غير واحد عدم اعتباره، وقد تكلمت على هذه المسألة ببسطها وبيان أدلتها وأقوال العلماء والجواب عن هذا الحديث في شرح بلوغ المرام.

لكن الخلاصة أن اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير مرجوح، والصحيح -كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وجمع من المحققين- أن الماء العبرة فيه بأن يتأثر لونه أو طعمه أو ريحه، وأما أن يجعل العبرة فيه بالقليل والكثير فهذا لا يراه المحققون، وبينا وجه ذلك ودليله، لكن هنا لما كان المصنف يرى أن القلتين فرق بين القليل والكثير احتجنا أن نبين مسألة القلتين: فعند العلماء أن القلتين مثنى قلة، والقلة: ما يقل، بمعنى: يحمل، ومنه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [الأعراف:57] أي: احتملته الريح.

وسميت قلة لأنها تحمل باليد، وهي الجرة، أو الشراب الموجودة الآن وتسمى في العرف: الشربة، أو الزير الصغير الذي يحمل باليد، ولا يزال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونه ويستسقون به، يضعون فيه الماء من الآبار ويجلبونه إلى منازلهم، وهذه القلة تقل باليد، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) بمعنى: أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه طهور، وينبغي أن ننبه على أمور هي:

هناك ماء بلغ القلتين، وهناك ماء دون القلتين، وهناك ماء فوق القلتين، فأصبح الماء له ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون دون القلتين.

الحالة الثانية: أن يكون بلغ القلتين.

الحالة الثالثة: أن يكون فوق القلتين.

فإن كان دون القلتين، مثلاً: فرضنا أنه قلة واحدة، ومن أمثلتها السطل الموجود الآن، لو أن إنساناً كان عنده ماء على قدر السطل، فهذا يسمى ماء دون القلتين، إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة فعلى حالتين:

الحالة الأولى: مثلاً: عندك سطل فيه ماء، وجاء صبي وألقى فيه نجاسةً، أو سقطت منك نجاسة في السطل، فإن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فبالإجماع أنه نجس، سواء كانت النجاسة مائعة أو جامدة.

وإذا كان نجساً فلا يجوز لك لا أن تتوضأ به، ولا أن تغتسل به، ولا أن تزيل به النجاسة؛ لأنه نجس بذاته.

الحالة الثانية: أن يلقي النجاسة في الماء فلا يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، كقطرة بول -أكرمكم الله- ألقاها في السطل، فهل هذه القطرة تمنع من الوضوء والاغتسال من هذا السطل؟ أو وضع الإنسان بمكان غسله سطل ماء فتطاير رذاذ نجاسةٍ على السطل، فشك هل تطاير النجاسة إلى هذا السطل يمنع من الوضوء به؟ مع أنه لم يتغير الماء لا لونه ولا طعمه ولا رائحته، فهذا محل الخلاف بين العلماء.

فمن يقول: أعتبر القلتين يقول: كل ما كان دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، فإني أحكم بكونه نجساً ولو لم يتغير، وهذه فائدة اعتبار القلتين، فهو إذا كان دون القلتين وتغير فبالإجماع ينجس، لكن إذا لم يتغير فعند المصنف وغيره من العلماء وهو مذهب الشافعية والحنابلة أنه يحكم بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه.

وهكذا لو وقع فيه عطرٌ، أو شيء طاهر من مسك أو زعفران ونحوه، إذا وقع في هذا الماء الذي في السطل نقطة منه، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، يقولون: هذا طاهر وليس بطهور.

لكن مذهب المحققين وهو مذهب الظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمة الله عليه أن العبرة بتغير الماء، فإن وقعت هذه النجاسة وغيرت لون الماء الموجود في السطل أو طعمه أو ريحه حكم بنجاسته، أما إذا لم تغيره فليس بنجس، وهذا هو الصحيح.

الحالة الثالثة: إذا بلغ الماء فوق القلتين، فلا ينجس ولا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته، فلو سألك سائل عن بركة ماء -البركة تبلغ القلتين وزيادة- وقعت فيها نجاسة هل يجوز له أن يغتسل من هذه البركة أو يتوضأ منها؟ تقول له: إن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه فالإجماع أنه لا يجوز الوضوء من هذه البركة، أما إذا لم يتغير شيء من أوصافه فالإجماع على جواز التطهر منها، وإن كان هناك بعض الخلاف يحكيه بعض العلماء على مسألة البول في الماء الراكد سنبينه إن شاء الله.

فعندنا مذهبان:

مذهب يقول: الفرق عندي بين الماء القليل والكثير هو القلتان.

ومذهب يقول: المهم عندي تغير الماء بالطاهر والنجس، وهذا هو الصحيح.

فلما كان المصنف يرجح التقدير بالقلتين قال رحمه الله:

[فخالطته نجاسة غير بول آدمي، أو عذرته المائعة، فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه، كمصانع طريق مكة فطهور].

(فطهور) في كلتا الحالتين: إذا بلغ القلتين وخالطته نجاسة من غير بول الآدمي وعذرته، كأن يلقى فيه نجاسة خنزير مثلاً، فإن الخنزير نجس العين والفضلة، فأصبح الماء محل السؤال: هل وقوع النجاسة في هذا الماء الذي بلغ القلتين يوجب الحكم بعدم طهارته إذا لم يتغير؟

قلنا: إن اتفاق العلماء رحمهم الله الذين اختلفوا في القلتين واقع على أنه يجوز التطهر به، وهو طهور ما دام أنه لم يتغير.

أما إذا تغير فالإجماع على أنه لا يجوز الوضوء به ولا الطهارة.

الحالة الثانية: بلغ قلتين وألقيت فيه نجاسة، وغيرته لكن يشق نزحها، كمصانع طريق مكة، وكانوا في أيامهم يستقون على السابلة على الطرق ويكون فيها البرك ونحوها، فمثل المصنف بهذا المثال؛ لأن مكة مورد المسلمين، فكان شيئاً ظاهراً معروفاً عند غالب أو أكثر المسلمين، فمثل به على هذا الوجه.

(يشق نزحها) أي: يشق إخراج النجاسة من هذا الموضع، وذكروا من أمثلة ذلك أن يكون الموضع ألقيت فيه نجاسة ولم يمكن إخراج هذا النجاسة عن ذلك الموضع كما في الآبار والبرك، ويشق نزح هذه النجاسة، فإن شق النزح فالقاعدة: (أن المشقة تجلب التيسير)، ودليل الحكم في هذه المسألة قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ما دام أن الناس ليس بوسعهم أن يزيلوا هذه النجاسة فيخفف عنهم في التطهر بهذا الماء، ويقال: إن الأمر إذا ضاق اتسع، ولا يكلفهم الله إلا بما في وسعهم.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3706 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3622 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3444 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3376 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3343 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3321 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3276 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3230 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3171 استماع