خطب ومحاضرات
ألا إن نصر الله قريب
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الطيبين الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وشكر الله لأخي الحبيب فضيلة الدكتور عبد الله الطيار وبقية المشايخ الأكارم الذين استضافوني في هذا اللقاء الطيب, وتسببوا في هذا الاجتماع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يكتب أجر هذا الاجتماع لي ولهم ولكم أجمعين إنه على كل شيء قدير.
إخوتي الكرام! عنوان هذه المحاضرة هو جزء من آية في كتاب الله عز وجلأَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] والحديث حول هذا الموضوع حديث شيق من جهة، خاصة في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة؛ فإن كل مسلم يتطلع إلى نصر الله عز وجل لأوليائه وللمؤمنين العاملين المجاهدين، الذين يرفعون راية الإسلام, لا يريدون إلا وجه الله عز وجل.
كما أن الحديث عن مثل هذا الموضوع أيضاً حديث يطول؛ فإن هذه الآية تطوي في معناها الحياة الدنيا كلها, فإن مسرح الحياة وليس مسرح الأحداث أو مسرح العمليات فحسب, إن مسرح الحياة كلها هو المجال العملي لتطبيق هذا المعنى القرآني الذي أثبته الله تعالى في كتابه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
فكل لحظة من تاريخنا، وكل ذرة من ترابنا، وكل كلمة في حياتنا تقول ما تقوله هذه الآية، وتؤكد هذا المعنى أن نصر الله تعالى قريب, ونصر الله تعالى له صور كثيرة شتى, النصر في الميدان العسكري هو أحد معانيها، وهناك ألوان وألوان من هذا الانتصار قد لا يعيها الإنسان ولا يدركها.
ولعل الآيات التي عشنا معها ونحن نؤدي هذه الفريضة العظيمة (صلاة المغرب) هي نموذج للنصر الذي يمنحه الله تعالى لأوليائه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10], وأي نصر في الدنيا أعظم من أن يفتن الإنسان ويبتلى في دينه فيصبر صبراً تعجز عنه الجبال الراسيات! وأي صبر أعظم وأكبر من أن تأتي المرأة -وفي المرأة ما فيها من الرقة والحنان، وفيها ما فيها من العطف والحنو على أطفالها- تحمل رضيعها على كتفها فلما تقبل على النار التي أوقدها أصحاب الأخدود يحدث عندها بعض التردد فيُنطِق الله تعالى، الذي أنطق كل شيء، يُنطِق رضيعها الصغير فيقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق! هذا هو النصر العظيم, هذا هو النصر المبين!!
إذا،ً النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به المؤمنين له صور شتى، وله ألوان مختلفة وفي كل لحظة في تاريخ هذه الأمة، فهي تحقق ألواناً من الانتصارات.
إخوتي الكرام! وأود أن أقف باختصار في هذه المحاضرة عند عدد من النقاط المهمة, والأفكار الأساسية:
أولها: أن الحق والعدل أساس في هذا الكون, وأصل في بناء السماوات والأرض, فبالحق قامت السماوات والأرض, ولذلك يقولون: (الحق أبلج والباطل لجلج), ويقولون: (دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة)!
إذاً، الحق أصل والعدل أساس تعود إليه هذه الدنيا ويوم بدأت الدنيا بدأت بالحق, وتنتهي الدنيا أيضاً إلى الحق, وبعد الدنيا يتجلى الحق في أوضح وأظهر صوره يوم ينـزل الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، وتوضع الموازين القسط ليوم القيامة قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فالحق أصل عظيم بدأت منه هذه الحياة وتنتهي إليه, وكثير من الناس يترددون في قبول هذا الكلام, ويتعجبون وربما رمونا بشيء من قلة الفهم وقلة الإدراك، وقالوا: كيف تزعمون هذا الزعم وأنتم ترون أن هذه الدنيا بطولها وعرضها تسيطر عليها حضارات مادية، وأمم كافرة، وقد مد الله تعالى لهم وأعطاهم، ووسع لهم في الرزق وفتح عليهم أبواب كل شيء، ومع ذلك لا زلتم تقولون: الحق والعدل؟!!
فأقول: إن سر هذه الضلالة الكبيرة التي يرددها بعض الناس هو أنهم ينظرون إلى لحظة محدودة من الزمان، وفي رقعة محدودة -أيضاً- من المكان, فيرى الواحد منهم -لضيق أفقه وقلة إدراكه- في هذا القرن غلبة الباطل والشر، وغلبة الدول الكافرة، وشموخ الحضارات المادية غربيها وشرقيها, فيتشكك في صدق الله عز وجل, فلا بد من تصحيح هذه النظرة بالمقارنة الصحيحة, وكيف تكون المقارنة؟
المقارنة بالدار الآخرة
لكن الآخرة غير محدودة، فأهل الجنة كما في قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108], وأهل النار كما قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].
إذاً هي الجنة أبداً أو النار أبداً, جعل لهم الأبد ولو علم أهل النار أنهم يمكثون في النار عدد رمل عالج, أي: رمال صحراء الربع الخالي -مثلاً- لفرحوا، ولكن جعل لهم الأبد! قال سبحانه: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:169] وقال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] وقال: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23].
إذاً: هل يمكن المقارنة بين رقم محدود معروف ينتهي، وبين رقم لا يتناهى أبداً؟! إن المقارنة مستحيلة, لأنه لا يمكن المقارنة بين شيء ينتهي وشيء لا ينتهي.
فكيف يجعل الإنسان تفكيره وهمه مقصوراً على هذه الدنيا الفانية المحدودة، وينسى تلك الآباد والآماد المتطاولة التي لا تتناهى أبداً في الدار الآخرة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع} أدخل إحدى أصابعك في البحر ثم أخرجها، فانظر ماذا أخذت أصبعك من البحر؟ هذا البلل البسيط الموجود في أصبعك هل يقاس إلى هذا البحر المتلاطم؟! أبداً! ومع ذلك فإن هذا لمجرد التقريب لذهن الإنسان, وإلا فالواقع أن الدار الآخرة لا يمكن أن تقاس أو تقرن بهذه الحياة الدنيا الفانية المحدودة في الزمان والمكان.
ولهذا يقول الله عز وجل مرشداً عباده المؤمنين لئلا يغتروا بهذه الدنيا وغلبة الباطل والكفر في وقت محدود أو زمان أو مكان محدود، يقول الله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].
إذاً، المؤمن حين يغفل عن الدار الآخرة؛ يختل الميزان في عينه, وتضطرب المقاييس في نظره، لماذا؟ لأنه أصبح ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، وينسى الدار الآخرة، وهو بذلك قد أخل بقضية في غاية الخطورة, فما الفرق بينك وبين الكافر؟ الفرق: يتلخص بأنك تؤمن بموعد غيب لم تره، ألا وهو الدار الآخرة, وهو لا يؤمن, ولهذا قال موسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27], ومدح الله رسله وأنبياءه وأولياءه فقال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46].
إلى أي مدى تعيش الدار الآخرة في قلبك؟ إلى أي مدى تدخل الآخرة في حساباتك بحيث تقول: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197] وأيضاً حينئذٍ يقول الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: نعم أنتم تتسلون بهذا الكلام, حينما رأيتم أن الدنيا قد أخذها الغرب والشرق، وهيمنت عليها حضارات الكفر والإلحاد، أصبحتم تتسلون بهذا الكلام.
وأقول: كلا! مع أن هذا الكلام فيه تسلية لقلوب المؤمنين، وفيه تسرية لأرواحهم، وشد لعزائمهم وهممهم، وتثبيت لهم، ومع ذلك كله فإن هذا الكلام لا يقال لمجرد التسلية؛ بل هو حساب منطقي جيد حتى في نظر غير المؤمنين.
ألم تر أن الكفار أحياناً يرضون بذل مؤقت طمعاً في نصر كبير؟! هذا موجود, وأقرب مثال: اليهود الآن؛ حين لم ينتقموا من الصواريخ العراقية التي أرسلت إليهم لماذا؟ ليس ذلك عجزاً، وإنما لأنهم يتحملون أن يظن أحد أنهم في فترة معينة سكتوا أو صبروا على شيء لحقهم طمعاً في نصر أكبر من هذا يحققونه.
إذاً قد يؤجل الإنسان أمراً من أموره طمعاً في ما هو أكبر منه, حتى في المقاييس المادية الدنيوية البحتة, فما بالك بالمقاييس الأخروية؟ إن الأمر بالنسبة لها أوضح وأعظم.
المقارنة بتعدد الأنصار
فيقول لك: عدد الكفار إذاً أعداد هائلة وكبيرة وكثيرة وخطيرة, فكيف والمسلمون قلة، وهم أيضاً في داخلهم الدخن، وداخلهم من ينتسب إلى الإسلام وليس منه وفيهم وفيهم..! فنقول: لا يجوز هذا القياس وهذه المقارنة؛ لأنها غير عادلة ولا صحيحة.
فأنت إذا كنت تنظر في جنود الله عز وجل، فيجب ألا تستبعد من حسابك نوعاً من الجنود، وهم الملأ الأعلى (الملائكة) إن كان أنصار الباطل يشكلون في هذه الدنيا كذا ألف مليون في الدنيا، فانظر في أنصار الحق الذين يسخرهم الله تعالى لئلا ترهبك هذه الكثرة والسطوة, وأنت تعلم عدد أنصار دين الله تعالى.
انظر على سبيل المثل إلى الملائكة في السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مستدرك الحاكم وعند ابن جرير في التفسير، وابن المنذر، وصححه الحاكم، وذكره البيهقي في شعب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن البيت المعمور في السماء السابعة} كما قال الله تعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:1-4], {البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة}, فإذا كنت ممن يؤمن بما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم -وأنت كذلك بحمد الله- فعليك أن تجري عملية حسابية بالأرقام, كل يوم سبعون ألف ملك, ففي الشهر أكثر من مليونين ومائة ألف ملك هذا في الشهر الواحد, فإذا حسبت في السنة كم يدخله؟ احسب في عشر سنوات، أو مائة سنة، أو ألف سنة أو في عشرة آلاف سنة!! كم مضى من الدنيا؟ وكم بقي؟ الله أعلم..!
فلو تصورنا -مثلاً- مائة ألف سنة والله تعالى أعلم، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله.
أما حسابات البشر فهي حسابات مجرد تخمين وإلا فالله عز وجل أعلم, كالذين يأتون إلى صخرة أو إلى جذع شجرة، فإننا رأينا بعض جذوع الأشجار في بعض البلاد مكتوب عليها (عمر هذه الشجرة عشرة آلاف سنة) وهذه الصخرة عمرها (خمسون ألف سنة) وهذه كلها تخمينات، وإلا فالله عز وجل يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].
المهم: لو تصورنا الدنيا كم هي من ألف سنة, ثم تصورنا في كل يوم سبعون ألف ملك يدخلون في البيت المعمور, فكم عدد الملائكة الذين دخلوا البيت المعمور؟! وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
وفي الحديث الآخر أيضاً الذي رواه الترمذي وصححه، ورواه أيضاً ابن ماجة وأحمد حديث أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو ساجد} والأطيط هو: أزيز وصرير الرحل من ثقل الراكب.
السماوات السبع، ولا يعلم مدى السماوات السبع إلا الله عز وجل الذي خلقهن, ومع ذلك كل موضع في السماوات فيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ لله عز وجل، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت, سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت.
فتصور! هؤلاء الملائكة كلهم من أنصار الحق، وكلهم من جنود الله عز وجل الذين وصف الله تعالى طائفة منهم وهم خزنة النار بقوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] إذاً الله تعالى أقدرهم على أن يفعلوا كل ما كلفوا به من لدنه سبحانه, قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] هؤلاء كلهم مجندون لنصرة الحق والدفاع عنه وخذلان الباطل والزلزلة بأهله, ولهذا لما كان في الخندق، ورد الله تعالى الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيراً جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضع سلاحه يريد أن يغتسل ويزيل عنه غبار المعركة, فقال: {أو قد وضعت السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: أما نحن فوالله ما وضعنا السلاح بعد. فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار جبريل بيده صوب بني قريظة قال: اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم}.
إذاً إذا أردت المقارنة لا تقل عدد المؤمنين كذا.. وعدد اليهود كذا.. وعدد النصارى كذا..! لا بد أن تضم إلى عدد المسلمين الصادقين نوعاً من المؤمنين وهم الملائكة.
بل ومع ذلك تذكر أن لله عز وجل مخلوقات أخرى غير الإنس وهم الجن, وفيهم المؤمنون وفيهم من يكون أحسن وأفضل وأتقى من بعض الإنس, كما ذكر الله تعالى عنهم في كتابه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [الجن:1-2], ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] كانوا أحسن ردوداً من الإنس، فقالوا: [[ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ولك الحمد]].
وكذلك أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن هؤلاء الجن استمعوا القرآن فآمنوا، قال تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] أي: يدعون إلى الله تعالى ويبشرون بالرسالة الخاتمة.
إذاً، لا يجوز أن تعقد مقارنة بين عدد المسلمين مثلاً وعدد اليهود والنصارى, وتقول: معنى ذلك أن عدد الكفار أكثر , وتنسى أن هناك جنوداً لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل، وكل هؤلاء مجندون لنصرة الحق متى وجد البشر المكلفون الذين يقومون به حق القيام.
المقارنة التاريخية
السابق مثلاً: هل تدري أنه بعدما أهبط آدم من الجنة إلى الدنيا كان آدم حنيفاً مسلماً موحداً؟ لا بد أنك تعلم ذلك بل كان نبياً مكلماً عليه الصلاة والسلام, ثم ظل بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى كما قال الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال ابن عباس وغيره: [[كان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الهدى]].
إذاً: كيف تأتينا بمائة سنة أو خمسين سنة سيطرت فيها حضارات مادية زائلة منحرفة, وتنسى عشرة قرون. أي: ألف سنة كان المهيمن فيها هو دين الله وشرع الله، والتوحيد الذي لا يشوبه شائبة شرك, هل تنسى هذا؟! لا يجوز نسيانه, وأن يستغرق الإنسان في لحظة حاضرة.
كذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منصورة؟ لقد مكثت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرناً، وهي أمة ظافرة منتصرة بيدها تدبير كثير من أمور الأمم، حتى الكافرة, وهذا هو التاريخ الذي يتغنى به كثير من الشعراء, ويتحدثون عن تاريخ هذه الأمة، ومآثرها الخالدة الباقية, ودولها الراسخة, التي مازال التاريخ يذكرها, كما يقول أحدهم:
ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا |
وسطرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا |
حملناها سيوفاً لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا |
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا |
وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا |
تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا |
وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا |
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا |
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا |
إذاً: ليست سنيناً ولا عشرات أو مئات السنين! بل أكثر من ذلك, أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية كانت أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب, ومثلما حفظ لنا التاريخ من مآثر بني أمية وبني العباس بل وبني عثمان، خاصة في عصورهم الأولى، وكيف كانوا نموذجاً للهداية الربانية, على سبيل المثال القصة المعروفة لـهارون الرشيد رحمه الله! الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وكان ربما قطع الليل كله تسبيحاً وقرآنا, ومع ذلك كان يحكم دولة واسعة مترامية الأرجاء, فلما مرت السحابة بـبغداد وتجاوزت بغداد ولم تمطر, كان يقول لها: [[أمطري حيث شئت، فسوف يجبى إليّ خراجك]]
أين الرشيد وقد طاف السحاب به فحين جاوز بغداداً تحداه |
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
عبد الرحمن الناصر والداخل في الأندلس كيف بنوا القصور العامرة التي لا تزال باقية إلى اليوم, وخلدوا الحضارة ودعوا إلى الدين, ونشروا هداية الله تعالى في أرجاء الدنيا, ولم يبقَ بينهم وبين دخول عاصمة النصارى إلا أكيال معدودة على مشارف باريس، تراجع المسلمون في معركة بلاط الشهداء المعروفة في التاريخ بمعركة "تور بواتيه" ولو انتصروا -والأمر لله من قبل ومن بعد- في تلك المعركة لدخلوا أوروبا كلها واكتسحوها ولدخلوا إلى روما أيضاً.
ولكن من حكمة الله عز وجل أن يتراجع المد الإسلامي من عند بلاط الشهداء، لأن الله تعالى قضى وقدر أن تفتح القسطنطينية في القرن التاسع قبل أن تفتح روما متى شاء الله عز وجل, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: {أيهما يفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية.
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه؟! |
وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه! |
هذي المعالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ |
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه |
المقارنة بالمستقبل
ومثله: أن المسلمين يتجمعون، حين ينـزل عيسى عليه الصلاة والسلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق, وكذلك يقودهم المهدي عليه السلام الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في أحاديث متواترة، كما حكم على ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث؛ أن أحاديث المهدي متواترة, وكذلك أحاديث نـزول عيسى عليه السلام فهي متواترة أيضاً بلا شك, والقرآن الكريم أشار إلى نـزوله, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أولها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وآخرها عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام.
إذاً: هذه أمة خير! أولها خير وحق وعدل, وآخرها خير وحق وعدل {يأتي خليفة يحثـي المال حثياً ولا يعده عداً، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً }.
ولا شك أن هذا الكلام يجب أن يفهم فهماً صحيحاً، أنا أذكر هذا الكلام لمجرد تذكير الناس بأنه لا يجوز أبداً أن نقارن في لحظة محدودة من الزمان والمكان، وننسى الماضي كله والمستقبل كله, هذا لا يجوز! وإلا: فالواقع أن الله عز وجل لم يتعبدنا أبداً بأن نقف في انتظار عيسى أو في انتظار المهدي أبداً فمتى جاءوا فكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو من جنودهم, وتحت رايتهم, وينصرهم بنفسه، ودمه، وماله، وأهله، وما ملك.
لكن ليس هناك مسلم على ظهر الأرض مطالب بأن يجلس واضعاً خده على يده ينتظر متى ينـزل عيسى أو متى يخرج المهدي! هذا أمر علمه عند الله عز وجل, فقد يخرج بعد مائة سنة أو ألف سنة أو أقل أو أكثر، هذا غيب! لا أحد يستطيع أن يتنبأ به أو يعرفه إلا الله عز وجل, فهو غيب عند الله وحده.
فمن الخطأ كل الخطأ أن يجلس المسلمون في انتظار هذا الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم! لا, بل يجب أن يقوم كل مسلم بدوره وواجبه، ويحرص على أن يكون ملتزماً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, سائراً على طريقته, دون أن يكون منتظراً لفرج لا يستطيع أن يفعله بذاته اللهم إلا أن دور المسلم هو الدعاء الصادق.
أولاً: تكون المقارنة مع الدار الآخرة: فإن الله عز وجل يقول: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38], وهذا القليل مما لا يمكن أن يخضع لحساب أيضاً, فإننا نعلم أن الدنيا محدودة, مهما طالت فهي عدد من السنوات محدود لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله!
لكن الآخرة غير محدودة، فأهل الجنة كما في قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108], وأهل النار كما قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].
إذاً هي الجنة أبداً أو النار أبداً, جعل لهم الأبد ولو علم أهل النار أنهم يمكثون في النار عدد رمل عالج, أي: رمال صحراء الربع الخالي -مثلاً- لفرحوا، ولكن جعل لهم الأبد! قال سبحانه: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:169] وقال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] وقال: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23].
إذاً: هل يمكن المقارنة بين رقم محدود معروف ينتهي، وبين رقم لا يتناهى أبداً؟! إن المقارنة مستحيلة, لأنه لا يمكن المقارنة بين شيء ينتهي وشيء لا ينتهي.
فكيف يجعل الإنسان تفكيره وهمه مقصوراً على هذه الدنيا الفانية المحدودة، وينسى تلك الآباد والآماد المتطاولة التي لا تتناهى أبداً في الدار الآخرة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع} أدخل إحدى أصابعك في البحر ثم أخرجها، فانظر ماذا أخذت أصبعك من البحر؟ هذا البلل البسيط الموجود في أصبعك هل يقاس إلى هذا البحر المتلاطم؟! أبداً! ومع ذلك فإن هذا لمجرد التقريب لذهن الإنسان, وإلا فالواقع أن الدار الآخرة لا يمكن أن تقاس أو تقرن بهذه الحياة الدنيا الفانية المحدودة في الزمان والمكان.
ولهذا يقول الله عز وجل مرشداً عباده المؤمنين لئلا يغتروا بهذه الدنيا وغلبة الباطل والكفر في وقت محدود أو زمان أو مكان محدود، يقول الله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].
إذاً، المؤمن حين يغفل عن الدار الآخرة؛ يختل الميزان في عينه, وتضطرب المقاييس في نظره، لماذا؟ لأنه أصبح ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، وينسى الدار الآخرة، وهو بذلك قد أخل بقضية في غاية الخطورة, فما الفرق بينك وبين الكافر؟ الفرق: يتلخص بأنك تؤمن بموعد غيب لم تره، ألا وهو الدار الآخرة, وهو لا يؤمن, ولهذا قال موسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27], ومدح الله رسله وأنبياءه وأولياءه فقال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46].
إلى أي مدى تعيش الدار الآخرة في قلبك؟ إلى أي مدى تدخل الآخرة في حساباتك بحيث تقول: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197] وأيضاً حينئذٍ يقول الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: نعم أنتم تتسلون بهذا الكلام, حينما رأيتم أن الدنيا قد أخذها الغرب والشرق، وهيمنت عليها حضارات الكفر والإلحاد، أصبحتم تتسلون بهذا الكلام.
وأقول: كلا! مع أن هذا الكلام فيه تسلية لقلوب المؤمنين، وفيه تسرية لأرواحهم، وشد لعزائمهم وهممهم، وتثبيت لهم، ومع ذلك كله فإن هذا الكلام لا يقال لمجرد التسلية؛ بل هو حساب منطقي جيد حتى في نظر غير المؤمنين.
ألم تر أن الكفار أحياناً يرضون بذل مؤقت طمعاً في نصر كبير؟! هذا موجود, وأقرب مثال: اليهود الآن؛ حين لم ينتقموا من الصواريخ العراقية التي أرسلت إليهم لماذا؟ ليس ذلك عجزاً، وإنما لأنهم يتحملون أن يظن أحد أنهم في فترة معينة سكتوا أو صبروا على شيء لحقهم طمعاً في نصر أكبر من هذا يحققونه.
إذاً قد يؤجل الإنسان أمراً من أموره طمعاً في ما هو أكبر منه, حتى في المقاييس المادية الدنيوية البحتة, فما بالك بالمقاييس الأخروية؟ إن الأمر بالنسبة لها أوضح وأعظم.
هناك مقارنة أخرى أيضاً تجعل الميزان يعتدل في حس المسلم وهي: المقارنة مع الملأ الأعلى- مع الملائكة- فإن الإنسان قد ينظر في أنصار الباطل فيجد هذا الزبد الطافي الذي يجرفه السيل من المصفقين للباطل في كل مكان! قد يقول لك: عدد الكفار.. عدد النصارى.. عدد اليهود.. عدد الكافرين والمشركين.. أعداد هائلة وكبيرة لا يحصيهم إلا الله عز وجل, وإذا قستهم بعدد المسلمين -حتى المسلمين اسماً- وجدت أنهم قلة، قد لا تصل إلى نسبة (25%) نسبة المسلمين في الدنيا, مع أن هذا الرقم الإحصائي -إحصائية المسلمين- فيها المسلم الحقيقي وفيها المسلم على الورق كما يقال.
فيقول لك: عدد الكفار إذاً أعداد هائلة وكبيرة وكثيرة وخطيرة, فكيف والمسلمون قلة، وهم أيضاً في داخلهم الدخن، وداخلهم من ينتسب إلى الإسلام وليس منه وفيهم وفيهم..! فنقول: لا يجوز هذا القياس وهذه المقارنة؛ لأنها غير عادلة ولا صحيحة.
فأنت إذا كنت تنظر في جنود الله عز وجل، فيجب ألا تستبعد من حسابك نوعاً من الجنود، وهم الملأ الأعلى (الملائكة) إن كان أنصار الباطل يشكلون في هذه الدنيا كذا ألف مليون في الدنيا، فانظر في أنصار الحق الذين يسخرهم الله تعالى لئلا ترهبك هذه الكثرة والسطوة, وأنت تعلم عدد أنصار دين الله تعالى.
انظر على سبيل المثل إلى الملائكة في السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مستدرك الحاكم وعند ابن جرير في التفسير، وابن المنذر، وصححه الحاكم، وذكره البيهقي في شعب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن البيت المعمور في السماء السابعة} كما قال الله تعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:1-4], {البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة}, فإذا كنت ممن يؤمن بما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم -وأنت كذلك بحمد الله- فعليك أن تجري عملية حسابية بالأرقام, كل يوم سبعون ألف ملك, ففي الشهر أكثر من مليونين ومائة ألف ملك هذا في الشهر الواحد, فإذا حسبت في السنة كم يدخله؟ احسب في عشر سنوات، أو مائة سنة، أو ألف سنة أو في عشرة آلاف سنة!! كم مضى من الدنيا؟ وكم بقي؟ الله أعلم..!
فلو تصورنا -مثلاً- مائة ألف سنة والله تعالى أعلم، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله.
أما حسابات البشر فهي حسابات مجرد تخمين وإلا فالله عز وجل أعلم, كالذين يأتون إلى صخرة أو إلى جذع شجرة، فإننا رأينا بعض جذوع الأشجار في بعض البلاد مكتوب عليها (عمر هذه الشجرة عشرة آلاف سنة) وهذه الصخرة عمرها (خمسون ألف سنة) وهذه كلها تخمينات، وإلا فالله عز وجل يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].
المهم: لو تصورنا الدنيا كم هي من ألف سنة, ثم تصورنا في كل يوم سبعون ألف ملك يدخلون في البيت المعمور, فكم عدد الملائكة الذين دخلوا البيت المعمور؟! وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
وفي الحديث الآخر أيضاً الذي رواه الترمذي وصححه، ورواه أيضاً ابن ماجة وأحمد حديث أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو ساجد} والأطيط هو: أزيز وصرير الرحل من ثقل الراكب.
السماوات السبع، ولا يعلم مدى السماوات السبع إلا الله عز وجل الذي خلقهن, ومع ذلك كل موضع في السماوات فيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ لله عز وجل، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت, سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت.
فتصور! هؤلاء الملائكة كلهم من أنصار الحق، وكلهم من جنود الله عز وجل الذين وصف الله تعالى طائفة منهم وهم خزنة النار بقوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] إذاً الله تعالى أقدرهم على أن يفعلوا كل ما كلفوا به من لدنه سبحانه, قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] هؤلاء كلهم مجندون لنصرة الحق والدفاع عنه وخذلان الباطل والزلزلة بأهله, ولهذا لما كان في الخندق، ورد الله تعالى الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيراً جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضع سلاحه يريد أن يغتسل ويزيل عنه غبار المعركة, فقال: {أو قد وضعت السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: أما نحن فوالله ما وضعنا السلاح بعد. فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار جبريل بيده صوب بني قريظة قال: اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم}.
إذاً إذا أردت المقارنة لا تقل عدد المؤمنين كذا.. وعدد اليهود كذا.. وعدد النصارى كذا..! لا بد أن تضم إلى عدد المسلمين الصادقين نوعاً من المؤمنين وهم الملائكة.
بل ومع ذلك تذكر أن لله عز وجل مخلوقات أخرى غير الإنس وهم الجن, وفيهم المؤمنون وفيهم من يكون أحسن وأفضل وأتقى من بعض الإنس, كما ذكر الله تعالى عنهم في كتابه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [الجن:1-2], ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] كانوا أحسن ردوداً من الإنس، فقالوا: [[ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ولك الحمد]].
وكذلك أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن هؤلاء الجن استمعوا القرآن فآمنوا، قال تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] أي: يدعون إلى الله تعالى ويبشرون بالرسالة الخاتمة.
إذاً، لا يجوز أن تعقد مقارنة بين عدد المسلمين مثلاً وعدد اليهود والنصارى, وتقول: معنى ذلك أن عدد الكفار أكثر , وتنسى أن هناك جنوداً لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل، وكل هؤلاء مجندون لنصرة الحق متى وجد البشر المكلفون الذين يقومون به حق القيام.
الوجه الثالث للمقارنة هو: المقارنة مع الحياة البشرية كلها, لا نريد منك يا أخي الحبيب أن تكون محصوراً في مكان معين أو زمان معين، لا, نريد أن تمد بصرك إلى الماضي كله, في الأرض كلها, وأيضاً أن تمد بصرك إلى المستقبل في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
السابق مثلاً: هل تدري أنه بعدما أهبط آدم من الجنة إلى الدنيا كان آدم حنيفاً مسلماً موحداً؟ لا بد أنك تعلم ذلك بل كان نبياً مكلماً عليه الصلاة والسلام, ثم ظل بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى كما قال الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال ابن عباس وغيره: [[كان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الهدى]].
إذاً: كيف تأتينا بمائة سنة أو خمسين سنة سيطرت فيها حضارات مادية زائلة منحرفة, وتنسى عشرة قرون. أي: ألف سنة كان المهيمن فيها هو دين الله وشرع الله، والتوحيد الذي لا يشوبه شائبة شرك, هل تنسى هذا؟! لا يجوز نسيانه, وأن يستغرق الإنسان في لحظة حاضرة.
كذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منصورة؟ لقد مكثت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرناً، وهي أمة ظافرة منتصرة بيدها تدبير كثير من أمور الأمم، حتى الكافرة, وهذا هو التاريخ الذي يتغنى به كثير من الشعراء, ويتحدثون عن تاريخ هذه الأمة، ومآثرها الخالدة الباقية, ودولها الراسخة, التي مازال التاريخ يذكرها, كما يقول أحدهم:
ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا |
وسطرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا |
حملناها سيوفاً لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا |
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا |
وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا |
تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا |
وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا |
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا |
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا |
إذاً: ليست سنيناً ولا عشرات أو مئات السنين! بل أكثر من ذلك, أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية كانت أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب, ومثلما حفظ لنا التاريخ من مآثر بني أمية وبني العباس بل وبني عثمان، خاصة في عصورهم الأولى، وكيف كانوا نموذجاً للهداية الربانية, على سبيل المثال القصة المعروفة لـهارون الرشيد رحمه الله! الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وكان ربما قطع الليل كله تسبيحاً وقرآنا, ومع ذلك كان يحكم دولة واسعة مترامية الأرجاء, فلما مرت السحابة بـبغداد وتجاوزت بغداد ولم تمطر, كان يقول لها: [[أمطري حيث شئت، فسوف يجبى إليّ خراجك]]
أين الرشيد وقد طاف السحاب به فحين جاوز بغداداً تحداه |
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
عبد الرحمن الناصر والداخل في الأندلس كيف بنوا القصور العامرة التي لا تزال باقية إلى اليوم, وخلدوا الحضارة ودعوا إلى الدين, ونشروا هداية الله تعالى في أرجاء الدنيا, ولم يبقَ بينهم وبين دخول عاصمة النصارى إلا أكيال معدودة على مشارف باريس، تراجع المسلمون في معركة بلاط الشهداء المعروفة في التاريخ بمعركة "تور بواتيه" ولو انتصروا -والأمر لله من قبل ومن بعد- في تلك المعركة لدخلوا أوروبا كلها واكتسحوها ولدخلوا إلى روما أيضاً.
ولكن من حكمة الله عز وجل أن يتراجع المد الإسلامي من عند بلاط الشهداء، لأن الله تعالى قضى وقدر أن تفتح القسطنطينية في القرن التاسع قبل أن تفتح روما متى شاء الله عز وجل, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: {أيهما يفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية.
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه؟! |
وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه! |
هذي المعالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ |
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه |
هذا الماضي..! أما المستقبل وهو غيب لا شك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن بعض هذا المستقبل, فمما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم: المعركة الظافرة مع اليهود وهي على نهر الأردن كما حدد النبي صلى الله عليه وسلم: {على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فاقتله}
ومثله: أن المسلمين يتجمعون، حين ينـزل عيسى عليه الصلاة والسلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق, وكذلك يقودهم المهدي عليه السلام الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في أحاديث متواترة، كما حكم على ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث؛ أن أحاديث المهدي متواترة, وكذلك أحاديث نـزول عيسى عليه السلام فهي متواترة أيضاً بلا شك, والقرآن الكريم أشار إلى نـزوله, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أولها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وآخرها عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام.
إذاً: هذه أمة خير! أولها خير وحق وعدل, وآخرها خير وحق وعدل {يأتي خليفة يحثـي المال حثياً ولا يعده عداً، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً }.
ولا شك أن هذا الكلام يجب أن يفهم فهماً صحيحاً، أنا أذكر هذا الكلام لمجرد تذكير الناس بأنه لا يجوز أبداً أن نقارن في لحظة محدودة من الزمان والمكان، وننسى الماضي كله والمستقبل كله, هذا لا يجوز! وإلا: فالواقع أن الله عز وجل لم يتعبدنا أبداً بأن نقف في انتظار عيسى أو في انتظار المهدي أبداً فمتى جاءوا فكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو من جنودهم, وتحت رايتهم, وينصرهم بنفسه، ودمه، وماله، وأهله، وما ملك.
لكن ليس هناك مسلم على ظهر الأرض مطالب بأن يجلس واضعاً خده على يده ينتظر متى ينـزل عيسى أو متى يخرج المهدي! هذا أمر علمه عند الله عز وجل, فقد يخرج بعد مائة سنة أو ألف سنة أو أقل أو أكثر، هذا غيب! لا أحد يستطيع أن يتنبأ به أو يعرفه إلا الله عز وجل, فهو غيب عند الله وحده.
فمن الخطأ كل الخطأ أن يجلس المسلمون في انتظار هذا الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم! لا, بل يجب أن يقوم كل مسلم بدوره وواجبه، ويحرص على أن يكون ملتزماً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, سائراً على طريقته, دون أن يكون منتظراً لفرج لا يستطيع أن يفعله بذاته اللهم إلا أن دور المسلم هو الدعاء الصادق.
ومع هذا كله -مع المقارنة بالدار الآخرة، ومع المقارنة بالملائكة عند الله عز وجل، ومع المقارنة بالماضي كله وبالمستقبل كله -فإنه حتى هذا البرزخ المظلم الذي عاش المسلمون فيه زماناً من التخلف في جميع مجالات الحياة: التخلف الديني عن دينهم وشريعة ربهم, وتبع ذلك التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي، والتخلف الصناعي، والتخلف العسكري، والتخلف الإعلامي، وكل صور التخلف التي هي أثر -أصلاً- عن تخلفهم عن الموقع الشرعي الذي أراد الله تعالى شرعاً أن يكونوا فيه؛ حتى هذا البرزخ المظلم لا يخلو من ومضات وإشراقات تصدق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله}.
فمثلاً: في هذا البرزخ المظلم منذ عشرات السنين الحركات الدعوية التي قامت في كل مكان تدعو إلى الله عز وجل, وتبصر الناس بأمر ربهم, وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام, وآتت ثماراً حسنة في كل قارة؛ بل في كل بلد إسلامي, في الدعوة إلى الله وتربية الشباب على الإسلام, وعلى الدين وعلى الهدى، وحماية الشباب من لوثات الإلحاد والمادية والتشكيك، وحمايتهم -أيضاً- من الشهوات التي حاول الغرب بحضارته المادية أن يغرقهم فيها, هذه الدعوات هي إشراقات وإضاءات.
لا يخلو الواقع من حركات جهادية، ترفع السلاح في وجه الباطل في أكثر من بلد إسلامي, ليس أفغانستان هي المثال الوحيد، وإن كانت من أبرز الأمثلة وأوضحها, وفيها حركة جهادية طالت، ونرجو أن تثمر -بإذن الله تعالى- ما يتمناه كل مسلم من نصر مبين للمجاهدين, ليست هي المثال الوحيد؛ بل هناك أمثلة كثيرة في إرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي عدد من بقاع العالم الإسلامي؛ بل إن الحركات التي طردت المستعمر من بلاد المغرب والشام وغيرها هي حركات جهادية كان يقوم عليها علماء أفاضل كالشيخ عبد الحميد بن باديس -مثلاً- وعز الدين القسام، وأمثالهم من الأبطال العلماء المشايخ، الذين طاردوا فلول الاستعمار حتى أجلوه عن تلك الديار.
لا يخلو هذا الواقع من علماء مجاهدين يهدون بالحق وبه يعدلون، وهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا موجودين إلى أن يشاء الله عز وجل وإلى قيام الساعة, فإن هؤلاء هم الحجة على عباد الله تعالى, قال الله تبارك وتعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181].
ومع ذلك، فما أسرع أن تسلل اليأس إلى كثير من القلوب والنفوس, فأحبطها وأثر فيها, فوجدنا كثيراً من المسلمين -ومع الأسف من المسلمين الذين يتحرقون لواقعهم، ويتأسفون على واقع الأمة- أصبحوا يعيشون اليأس.
واليأس له صورتان يجب أن نقرن بينهما:
العزلة والانقطاع عن العمل الديني
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي |
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ |
حتى سمعت بعض اليائسين يقول: هؤلاء الناس.. وهذا الجيل، لا أمل فيه إلا بطوفان يكتسحه ثم يأتي الله تعالى بجيل من عنده, هذا كلام غير صحيح بحال من الأحوال, هذا كلام النفوس الضعيفة, وكلام القلوب التي ما أشرق عليها نور الإيمان, وما أشرق عليها نور الوعد الإلهي بنصر المؤمنين.
معي الأمة خير كثير, وفي الأمة قوة وعزة وإيمان، تحتاج -فقط- إلى أن ينفخ هذا الغبار، حتى ينصقل قلب المؤمن وتظهر الأمة على حقيقتها.
في الواقع أن هذه الأمة أمة خير أمة جهاد، أمة بركة، أمة علم وتعليم, ألم تر إلى هذه الأمة وقد أصبحت لا ترضى بالعلماء بديلاً؟! هذا لا يدل إلا على أنها أمة الدعوة والعلم والجهاد, حتى البعثي اليوم أصبح لا يقول: أنا بعثي واشتراكي, ولا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما أصبح يرفع راية الإسلام ويلبس لبوسه ويتكلم بقضايا الجهاد, لماذا؟ لأنه رأى أن الإسلام هو العملة الرائجة -كما يقال- وأنه لا يحرك الشارع إلا الإسلام, ورأى أن الشعارات كلها تآكلت وانتهت, فأصبح العلماني الذي كان بالأمس لا يجيد إلا فن الغناء والطرب واللهو والكلام الفارغ, أصبح يتكلم قال الله.. قال رسول الله.. رواه البخاري.. رواه مسلم.. متفق عليه.. صححه الألباني!.
وأصبح الذي كان بالأمس بعثياً يحارب الله ورسوله، أصبح لا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما يعلن الجهاد المقدس والحرب بين المسلمين والكفار، ومثل ذلك, فعلى ماذا يدل هذا؟! يدل على أن الجميع عرفوا أن هذه الأمة هي أمة الدعوة وأمة الجهاد, أنها أمة الإسلام بدءاً وانتهاءً، ولهذا أصبحوا يخادعونها على هذا الدين, وكل واحد منهم يرفع الإسلام، يريد أن تعطيه الأمة شهادة حسن سيرة وسلوك.
إذاً: الأمة فيها خير كثير، وعندها استعداد كبير، ووعد الله تعالى بها، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، لا يزال قائماً أبداً, ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أو ينخدع عن هذا الأمر, فكثيراً ما نسمع التهويل من شأن الناس, وشأن الأمة, وأن هؤلاء دهماء وما أشبه ذلك..! لا يا أخي! هؤلاء المسلمون الواحد منهم له عند الله تعالى أعظم المنـزلة؛ لأنه من أهل لا إله إلا الله, إذا كان لم يأت بما ينقضها, فهو من الموعودين بالجنة, وكلمته لها ثقل, ودعوته تفتح لها أبواب السماء, وله ثقل في الدنيا وفي الآخرة، وفي السماء والأرض.
إذاً: من الناس من آثر العزلة عن هذا الواقع, وقال: هذا واقع لا خير فيه..! مع أنه يرى بعينه ثمرة العمل, وأن الذين عملوا وجدوا واجتهدوا ودعوا، وجدوا، واستجاب الناس لهم بل حتى من الكفار، وجدنا من تقبل الدعوة إلى الله تعالى, فضلاً عن المسلمين، وما قام داعٍ إلى الله تعالى مهما كان أسلوبه غير مناسب, ومهما كان عنده من النقص ومهما كان عنده من الخطأ, ما قام داعٍ إلى الله تعالى في بلد إسلامي، ثم ظل وحده أبداً مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمم السابقة فقال: {يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد..} الحديث.
إذاً: هذه الأمة أمة مُجرَبةٌ، أنها تملك الاستعداد، وأنها تملك قلوباً حية متى سمعت المنادي الصادق, متى سمعت الحق, قالت: لبيك لبيك.. هاأنا بين يديك.
التصرف غير المدروس
فـالله تعالى وضع في الدنيا سنناً لا بد أن تمشي وفق هذه السنن الإلهية, فالعمل لا بد أن يأخذ مجراه الطبيعي، تدرجه الطبيعي، ينتقل المسلمون تدريجياً وفق سنن مرسومةٍ وطريقة واضحة, أما تعجل الخطوات والارتباك والطيش والتعجل، فهذا لا يمكن أن ينفع إنما ينفع الأعداء فقط!
فمثلاً: كثير من المسلمين يخيل إليهم أن المسلمين يجب أن يتجاوزا كل هذه الأمور، وأنه بين يوم وليلة سوف يتحقق لهم نصر للإسلام ساحق لا يخطر في بالهم! هذا لا يكون, وإن كان الله تعالى على كل شيء قدير، لكن السنن الإلهية ماضية والتدرج قائم, ومن الممكن جداً أن ينتقل المسلمون من الوضع السيئ الذي يعيشونه اليوم إلى وضع أحسن, وأن يتيح الله لهم أمماً ودولاً من الكفار يستطيعون أن يتعاملوا معها، ويستفيد المسلمون من التناقض الموجود بينها, بمعنى: أنه لو ظهر على مسرح الأحداث بعد حين مجموعة من الأمم الكافرة كـالألمان والصين واليابان وغيرهم وأصبحوا يتنافسون على مراكز الصدارة في هذه الدنيا؛ لاستطاع المسلمون أن يستفيدوا من هذا التنافس في تحقيق نصر لهم, وبعد فترة أخرى الله أعلم بها يمكن أن يحقق المسلمون حضارة قوية وعلماً وتعليماً، ويكون لهم ريادة في هذه الحياة.
أما تصور أن الأمور تأتي ارتجالاً هكذا وبصورة عفوية وعشوائية؛ فهذا مناقض ومخالف للسنن التي ركبها الله تعالى في الكون, قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:114] يقولونه استبطاءً طال عليهم الأمر, حتى وهم الرسل الذين فقهوا سنة الله عز وجل استبطئوا النصر، وقالوا: متى نصر الله؟ فهنا يأتي نصر الله كما قال جل شأنه: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. حتى وقال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110].
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |