قاتل ومقتول


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطانا وخطاكم.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.

أهلاً بكم أحبتي في هذا اللقاء المبارك، في هذا البلد المبارك، في هذا البيت المبارك، في هذه الدقائق واللحظات المباركة التي أسأل الله فيها أن يذكرنا فيمن عنده كما ذكرناه جل في علاه.

عنوان هذا اللقاء كما قالوا: قاتل ومقتول، وأنا أقول: حوادث على الطريق، فهؤلاء الذين تهوروا في استخدام السيارة قتلوا أنفسهم، وتسببوا في قتل الآخرين، فجنوا على أنفسهم وجنوا على الآخرين، إن هذه السيارة نعمة، لكنها إن لم تستخدم الاستخدام الصحيح انقلبت إلى نقمة، وقس هذا على كثير من الأمور، فالتلفاز نعمة لو استخدمناه الاستخدام الصحيح، لكن اليوم الشاشات والقنوات قلبت التلفاز إلى نقمة في البيوت، فأفسدت ودمرت.

الهاتف نعمة، ففي لحظات تستطيع أن تصل الأرحام في أدنى الأرض وأقصاها، لكن يوم أسيء استخدامه فأصبح سبباً في هدم البيوت.

حديثنا الليلة عن السيارات وحوادث السيارات والاستخدام الخاطئ للسيارات، وما حكم الشرع في أولئك الذين يسيئون استخدامها.

يتكون اللقاء أحبتي من عناصر: بعد الحمد وقبل البداية تحية. ثم السيارة نعمة أم نقمة؟

ثم أرقام وإحصائيات، ثم ما هي الأسباب؟

ثم حوادث على الطريق: الحادث الأول: حادث قبل العيد، الحادث الثاني: من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث، الحادث الثالث: في ذمة الله، الحادث الرابع: الملتقى الجنة.

أما بعد: فأهلاً بالصغار والكبار، رجالاً ونساء، وقبل البداية هذه تحية:

إذا طلعت شمس النهار فإنها

أمارة تسليمي عليكم فسلموا

سلام من الرحمن في كل ساعة

وروح وريحان وفضل وأنعم

على الصحب والإخوان والولد والألى

دعوهم بإحسان فجادوا وأنعموا

وسائر من للسنة المحضة اقتفى

وما زاغ عنها فهو حق مقدم

أولئك أتباع النبي وحزبه

فلولاهم ما كان في الأرض مسلم

ولولاهم كادت تميد بأهلها

ولكن رواسيها وأوتادها هم

ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها

ولكن هم فيها بدور وأنجم

أولئك أصحابي فحي هلاً بهم

وحي هلاً بالطيبين وأنعم

أحبتي! إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، ومنها هذه السيارات التي نتنقل بها من مكان إلى مكان في يسر وسهولة واطمئنان، قال سبحانه: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:5-8] أي: ويخلق من الوسائل التي يركبها الناس في الجو والبر والبحر، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، ومن هذه الوسائل السيارة التي لا تخفى منافعها الكثيرة، ومصالحها الوفيرة، حتى صارت ضرورة من الضروريات في هذا العصر وفي هذا الزمان، حيث لا يستغنى عنها في قضاء الحوائج، وتحقيق المصالح، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، ومن شكرنا له ألا نستخدم هذه النعمة في أغراض سيئة، أو نسيء استعمالها، أو نستعين بها على فعل المعاصي والذنوب، قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لقد استعمل بعض الناس هذه السيارة في أغراضه السيئة والوصول إلى مآربه السافلة، فصار يفر بها إلى البراري ليقترف ما تهواه نفسه بعيداً عن أعين الناس، وعن أيدي الإصلاح، وتناسى أن الله يراه في كل مكان، يخرج بعض الناس بعيداً عن البلد ليضيع ما أوجب الله عليه من إقامة الصلاة في وقتها، فهل يصح أن يقال لمثل هذا: إنه شاكر لنعمة الله؟ وهل يصح أن نقول: إنه سالم من عقوبة الله جل في علاه؟ كلا، فهو لم يشكر نعمة الله، ولن يسلم من عقوبة الله إلا أن يرجع إلى الحق والصواب.

السيارة نعمة أم نقمة؟

أحبتي! كم سمعنا عن أولئك الذين ماتوا في حوادث السيارات وهم سكارى، وبعضهم كان يسمع الغناء، وبعضهم كان سائراً إلى أماكن الخنا واللهو والغناء وما يكره الله جل في علاه.

أحبتي! كم تسببت الحوادث في وفيات، وإصابات، وإعاقات! كم خسرنا من شباب! وكم ترملت من نساء وتيتم من أطفال! كل ذلك بسبب الاستخدام الخاطئ للسيارة، وبسبب مخالفة الأنظمة التي وضعت لحماية الجميع.

كم تسبب متهور بسرعته وعدم مبالاته في فقد كثير من الأبرياء! وكم تسببت الحوادث في إعاقات مستديمة لكثير من الناس!

قال أحدهم: أصبت في حادث مرور منذ عشرين عاماً بسبب السرعة الزائدة، وكانت الإصابة في ظهري فأدت إلى شلل كامل، وأنا الآن طريح الفراش منذ عشرين سنة، هكذا انقلبت حياتي رأساً على عقب بسبب التهور والسرعة، وبسبب عدم مبالاتي ضاعت أحلامي، وانتهت طموحاتي.

أقول: وهذا مثله كثير، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فالكيس الفطن هو الذي يعتبر بالآخرين، واعلم بارك الله فيك أنك إن لم تعتبر فستكون في يوم من الأيام عبرة للغادين والرائحين.

اسمع بعضاً من الأرقام والإحصائيات حتى تعلم أن الأمر خطير:

هذه إحصائيات الأعوام الماضية عن عدد الحوادث وعدد المصابين والمتوفين في المملكة، ولو أضفنا إليها الإحصائيات التي في قطر وفي دول الخليج لوصل الرقم إلى أرقام خيالية.

في عام ألف وأربعمائة وسبعة عشر كان عدد الحوادث: 135763 حادثاً، وعدد الإصابات: 250718 إصابة، وعدد الوفيات: 3131 حالة وفاة.

وفي عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر بلغ عدد الحوادث: 153727 حادثاً، وعدد الإصابات: 281044 إصابة، وعدد الوفيات: 3474 حالة وفاة والعدد في تزايد مستمر، ففي عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر بلغ عدد الحوادث: 264326 حادثاً، وعدد الوفيات: 4290 حالة وفاة.

وفي عام ألف وأربعمائة وعشرين بلغ عدد الحوادث: 267772 حادثاً، وعدد الوفيات: 4848 حالة وفاة، ولم أستطع أن أتحصل على إحصائيات الأعوام القريبة، ولكن الذي أعلمه يقيناً أن العدد في ازدياد لا يعلمه إلا الله.

أما لو أضفنا عدد الوفيات في قطر وفي الكويت وباقي دول الخليج لبلغ الرقم أرقاماً خيالية، وأسباب هذه الحوادث السرعة الجنونية، ومخالفة الأنظمة، وقطع الإشارات وغيرها، ومن أعظم أسباب هذه الحوادث تسليم السيارات لصغار السن الذين هم دون سن الرشد، أولئك الذين لا يدركون قيمة السيارة، ولا عظم المسئولية حين ركوبها، كم نرى صغاراً يجوبون الشوارع والطرقات مع أصحاب لهم في سيارات فارهة، ملئوا الشوارع بالتفحيط والمخالفات، وآذوا الناس وتطاولوا على الآخرين.

من الأشياء التي ابتلي بها كثير من الشباب اليوم (التفحيط) في الشوارع العامة، أو (التطعيس) على الكثبان الرملية في البراري، ولا شك أن فيهما إتلافاً للمال الذي بين أيديهم وهو السيارة، فهؤلاء لم يدفعوا قيمة هذه السيارات؛ لذلك لم يعرفوا قيمتها، لكني لا ألومهم وإنما ألوم الذي أعطاهم ذلك المفتاح حتى يقودوا تلك السيارة؛ لأن كثيراً منهم لا يعلم ماذا يصنع هؤلاء خلف أظهرهم، فكم وقعت من حوادث بسبب هذا (التفحيط) و(التطعيس) ذهب ضحيتها السائق وكثير من أولئك الذين يتفرجون أو بعض الذين ليس لهم علاقة بالأمر لا من قريب ولا من بعيد.

شهدت أحد مواقع التفحيط بعد حادث بدقائق معدودة، فرأيت أسرة كانت تمر بسلام في ذلك الطريق فاعترضها أحد هؤلاء الأشرار وقضى عليها بكاملها، ولم تدر تلك الأسرة من أين أتاها الموت في تلك اللحظة. فهؤلاء في ذمة من؟ ومن المسئول؟ هل هو الذي قاد السيارة أم ذاك الذي أعطى السيارة لمن لا يعرف ولا يستشعر قيمة المسئولية فقتل نفسه وقتل الآخرين؟

فتاوى العلماء حول حكم التفحيط وخطره على الفرد والمجتمع

بين علماؤنا حفظهم الله حكم (التفحيط) و(التطعيس)، والمفاسد والأضرار على الفرد والمجتمع.

يقول ابن جبرين حفظه الله ومد في عمره موجهاً كلامه للآباء: أربعوا على أنفسكم وتفكروا في العواقب، ولا تتهاونوا بدماء المسلمين، ألا تعلمون أنكم تحملون إثماً كبيراً متى حصل حادث بسبب هذه السيارات التي وليتم قيادتها هؤلاء الشباب الذين هم ليسوا على قدر المسئولية؟! عليكم أن تعتبروا بمن حولكم، وبمن تسمعون خبره من الآباء وأولياء الأمور الذين تساهلوا مع أولادهم.

الثقة مطلوبة، لكن الإفراط في الثقة هو الذي لا نطلبه، الثقة مطلوبة حتى يتربى هؤلاء وهم واثقون بأنفسهم، لكن الثقة المفرطة بغير حسيب ولا رقيب هي التي دمرت الشباب.

فنصيحتنا للآباء: ألا يمكنوا أولادهم من القيادة إلا بعد سن الثامنة عشرة، وأنا أقول: حتى أصحاب الثامنة عشرة لا يعرفون قيمة المسئولية اليوم، فلا نستأمنهم على أرواح الآخرين إلا بعد التمرين والتدريب الطويل، وبعد التأكد من أنهم سيقودونها في تأن وبعد عن التهور والمخاطرة، فعلى كل الآباء التقيد بذلك ليريحوا أولادهم، ويحفظوا فلذات أكبادهم، وليأمن الآخرون من أخطارهم وتعدياتهم، والله أعلم.

وسئل ابن عثيمين رحمه الله عن حكم الصعود على الكثبان الرملية المرتفعة وهو ما يعرف بـ(التطعيس)، وهل يعد آثماً من يشاهد ذلك، فضلاً عمن يقود السيارة؟

فأجاب رحمه الله بقوله: أولاً: خروج الشباب إلى البر على هذا الوجه ربما يفضي إلى مفاسد، منها: تركهم للجماعات في المساجد، وبعدهم عن الأهل، وإتلاف الأموال؛ لأن السيارات تتلف بمحاولة إجبارها على أن تصعد على الكثبان الرملية، وإذا تضررت كان هذا من إتلاف الأموال، وإتلاف المال لغير مصلحة شرعية دينية أو دنيوية محرم، قال الله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.

ثم قال رحمه الله: ثم إني أسمع كثيراً من الناس يشكون من هذه السيارات، حيث إنها تفسد الأرض والنبات، ومعلوم أنه إذا كثر تردد السيارات على أرض بعينها فإنها تتلف، وتموت زروعها ومواشيها، وإذا تبين أن مثل هذا العمل مضيعة للمال، وقد يكون سبباً لأمور محظورة، فيكون تشجيعه والخروج له والتفرج عليه محرماً.

إذاً: الذي يقود يأثم، والذين يجتمعون هناك ليتفرجوا هم أيضاً آثمون؛ لأن فعلهم فيه إقرار للمحرم، ومساعدة عليه، وهؤلاء ما تجمعوا هنا إلا لإظهار مهاراتهم لهؤلاء الذين تجمهروا من حولهم، والله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

بين علماؤنا حفظهم الله حكم (التفحيط) و(التطعيس)، والمفاسد والأضرار على الفرد والمجتمع.

يقول ابن جبرين حفظه الله ومد في عمره موجهاً كلامه للآباء: أربعوا على أنفسكم وتفكروا في العواقب، ولا تتهاونوا بدماء المسلمين، ألا تعلمون أنكم تحملون إثماً كبيراً متى حصل حادث بسبب هذه السيارات التي وليتم قيادتها هؤلاء الشباب الذين هم ليسوا على قدر المسئولية؟! عليكم أن تعتبروا بمن حولكم، وبمن تسمعون خبره من الآباء وأولياء الأمور الذين تساهلوا مع أولادهم.

الثقة مطلوبة، لكن الإفراط في الثقة هو الذي لا نطلبه، الثقة مطلوبة حتى يتربى هؤلاء وهم واثقون بأنفسهم، لكن الثقة المفرطة بغير حسيب ولا رقيب هي التي دمرت الشباب.

فنصيحتنا للآباء: ألا يمكنوا أولادهم من القيادة إلا بعد سن الثامنة عشرة، وأنا أقول: حتى أصحاب الثامنة عشرة لا يعرفون قيمة المسئولية اليوم، فلا نستأمنهم على أرواح الآخرين إلا بعد التمرين والتدريب الطويل، وبعد التأكد من أنهم سيقودونها في تأن وبعد عن التهور والمخاطرة، فعلى كل الآباء التقيد بذلك ليريحوا أولادهم، ويحفظوا فلذات أكبادهم، وليأمن الآخرون من أخطارهم وتعدياتهم، والله أعلم.

وسئل ابن عثيمين رحمه الله عن حكم الصعود على الكثبان الرملية المرتفعة وهو ما يعرف بـ(التطعيس)، وهل يعد آثماً من يشاهد ذلك، فضلاً عمن يقود السيارة؟

فأجاب رحمه الله بقوله: أولاً: خروج الشباب إلى البر على هذا الوجه ربما يفضي إلى مفاسد، منها: تركهم للجماعات في المساجد، وبعدهم عن الأهل، وإتلاف الأموال؛ لأن السيارات تتلف بمحاولة إجبارها على أن تصعد على الكثبان الرملية، وإذا تضررت كان هذا من إتلاف الأموال، وإتلاف المال لغير مصلحة شرعية دينية أو دنيوية محرم، قال الله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.

ثم قال رحمه الله: ثم إني أسمع كثيراً من الناس يشكون من هذه السيارات، حيث إنها تفسد الأرض والنبات، ومعلوم أنه إذا كثر تردد السيارات على أرض بعينها فإنها تتلف، وتموت زروعها ومواشيها، وإذا تبين أن مثل هذا العمل مضيعة للمال، وقد يكون سبباً لأمور محظورة، فيكون تشجيعه والخروج له والتفرج عليه محرماً.

إذاً: الذي يقود يأثم، والذين يجتمعون هناك ليتفرجوا هم أيضاً آثمون؛ لأن فعلهم فيه إقرار للمحرم، ومساعدة عليه، وهؤلاء ما تجمعوا هنا إلا لإظهار مهاراتهم لهؤلاء الذين تجمهروا من حولهم، والله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

اسمع هذا الخبر وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، يقول أحد ضحايا التفحيط: أنا شاب أبلغ من العمر ثلاثين سنة أمضيت تسع سنوات منها على كرسي الإعاقة، والسبب هو التفحيط، فقد كنت أتباهى بمقدرتي وبراعتي في قيادة السيارة، وبينما كنت أفحط في يوم من الأيام أمام إحدى المدارس، سقطت سيجارتي من يدي فوقعت على قدمي، وعندها اختل توازني فاصطدمت سيارتي بعمود كهرباء وحصل ما حصل، فأحذر الشباب من خطورة التفحيط الذي جنيت عاقبته بإحراق زهرة شبابي، ولن ينفعني إلا رحمة الله. أقول: وهذا مثله كثير، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].

حادث قبل العيد

أذكر هنا حوادث على الطريق، الهدف من ذكرها العبرة والاعتبار لا التسلية والإخبار. أول هذه الحوادث بعنوان: (حادث قبل العيد) يقول صاحب القصة: أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي، والعيد أصبح قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين سنذهب أنا وصديق الطفولة، ولكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني: هل جهزت ثوباً جديداً تستقبل به العيد؟ قلت له: لا، قال: ما رأيك أن نذهب إلى الخياط الآن، سألته متعجباً وأنا أهز رأسي: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام، فلم يجبني، وإنما انطلق بسيارته بسرعة مجنونة كأنه يسابق الزمن حتى توقف أمام محل للخياطة الرجالية، سلم صاحبي على الخياط بحرارة فهو يعرفه تمام المعرفة، ثم قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، ضحك الرجل وأجاب وهو يربت على كتف عبد الرحمن : يا عبد الرحمن ! ألا تعلم كم بقي على العيد؟ لماذا لم تأت مبكراً؟ أجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى: سنزيدك في الأجرة، المهم أن ينتهي قبل العيد، ثم أعاد عليه: المهم أن ينتهي قبل العيد. يقول: وبينما أنا أرقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزءاً من الثمن وهو يردد قائلاً للخياط: لا تنس الموعد، بعد غد إن شاء الله نريد أن نلبس الجديد. يقول: ثم انصرفنا بسيارتنا نجوب الشوارع بلا هدف حتى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة ولم نذكر الله عز وجل فيها ولا مرة واحدة، وربما كانت ليلة القدر ونحن لا نشعر، حياة لا طعم لها، سعادة لا مذاق لها.

يقول: ولجنا من المعاصي كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، تفحيط بالليل وتطعيس بالنهار، وحسبنا أن الأمر يمضي دون حساب، إظهار للسرور والسعادة، وضحكات تملأ المكان، ولكن -وضع تحت لكن عدة خطوط- في القلب هم وغم لا يعلمه إلا الله، والنفس تحترق بألم وحسرات وهي لا تدري كيف الهرب من هذا الألم وهذا الضيق، افترقنا قبيل الفجر يجمعنا الليل والسهر والعبث، نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب، نوم طويل يمتد من الفجر حتى العصر، صيام بلا صلاة، وصلاة بلا قلب، ساعة الصيام الوحيدة التي أستيقظ فيها هي قبيل المغرب، كانت أيام الصيام عبارة عن أيام عادية أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة وبقراءة الصحف والمجلات، متتبعاً أخبار الفنانين والفنانات، وغيري يختم القرآن مرات ومرات، وذات مرة بينما أنا أنتظر موعد أذان المغرب، جاءتني مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء، وكان صوته متغيراً فقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت: لا، مساء البارحة كان بصحة وعافية، قال: إنه مريض، أدرك صاحبك! انتهت المكالمة، والأمر بالنسبة لي لا يعدو عن أن يكون معلومة غير صحيحة، وبينما كان المؤذن يرفع أذان العشاء إذا بصوت جرس الهاتف ينطلق مرة ثانية، رفعت السماعة فإذا به الشقيق الأكبر لـعبد الرحمن ، قلت في نفسي: ماذا يريد؟! أكيد أنه سيلومني وسيؤنبني على ما نفعله أنا وعبد الرحمن طوال الليل، أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا، لكن أتى صوته منهكاً مجهداً وعبراته تقطع حديثه، أخبرني بالخبر، قال: مات عبد الرحمن ! بهت ولم أصدق، لا زال صوته يرن في أذني كأني أراه! كيف مات؟ من غير المعقول أنه مات بالأمس، ليلة البارحة افترقنا أنا وإياه وهو في أتم الصحة والعافية، قال أخوه: بينما هو منطلق إلى المنزل ليلة البارحة بسرعته الجنونية ارتطم بسيارة أخرى عند أحد التقاطعات فمات كل من في السيارة الأخرى، وحمل هو إلى المستشفى ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم. يقول راوي القصة: أذني لا تصدق ما تسمع، لا أزال أراه أمامي.. نعم أمامي! بل اليوم كان موعدنا لنذهب إلى السوق الفلاني، وغداً موعدنا لنأخذ ثياب العيد، أيقظني صوت شقيق عبد الرحمن من غفوتي وهز جوانحي وأزال غشاوة كانت على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملاءك. انتهى الحديث بيني وبينه، وتأكدت أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن أيام عبد الرحمن قد انقضت، آمنت بأن الموت حق، وأن موعدنا غداً هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد كان يتمنى أن يلبس ثوب العيد فتركه ولبس كفناً جديداً، تسمرت في مكاني، وأصبت بتشتت في ذهني ودوار في رأسي، فقررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الخبر وأستوضح الفاجعة، عندما ركبت سيارتي فإذا بشريط غناء في جهاز التسجيل، هذا هو الغناء الذي أفسد قلوبنا! ورباها على النفاق وجعلها أقسى من الحجارة! أخرجت الشريط فانبعث صوت إمام الحرم، من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته، أنصت بكل جوارحي وكأنني أسمع هذا الكلام لأول مرة، وكأن الدنيا انقلبت، والقيامة قامت والناس تغيرت، أوقفت سيارتي على جانب الطريق أستمع إلى قراءة القرآن من الحرم، وكأني أسمع القرآن لأول مرة في حياتي، وعندما بدأ دعاء القنوت كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام، فرفعت يدي لتستقبل تلك الدموع، يا الله ما أجمل الدعاء! وما أجمل الخضوع والخشوع واللجوء إلى الله! أخذ قلبي يردد صدى تلك العبرات، وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع أعلنتها توبة صادقة، بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة، ودعنا عبد الرحمن في اليوم التالي، وانطلقت أنا في طريق الهداية مع رفقة صالحة، أولئك الذين تركتهم بالأمس هم أحب الناس إلي اليوم.. من تطاولت عليهم بالأمس هم أنفع الناس في عيني اليوم.. من استهزأت بهم بالأمس هم أكرم الناس عندي اليوم، كنت على شفا جرف هار ولكن الله رحمني مع الرفقة الصالحة، هدأت نفسي، وأطلت علي السعادة التي كنت أبحث عنها ولا أعرفها، وأصبحت أشعر بانشراح في الصدر، وظهرت على وجهي أماراة سكينة ووقار زينتها تلك اللحية الجميلة التي بدأت تنمو وتكبر على وجهي، يا ألله ما أجمل السنة وما أجمل الاتباع!

بعد يومين فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي، سأل عن عبد الرحمن ، قلت: عبد الرحمن مات، أعاد الاسم مرة ثم مرة، قلت له: عبد الرحمن مات، فبدأ يصف لي عبد الرحمن ، ويصف لي سيارته، وكلامه، قلت له: نعم هذا هو، ولكنه مات، عندها أراني ثوبه، فبدأت أسترجع الذكريات ولسان حالي: هل حقاً مات؟ هذا ثوبي بجوار ثوبه، ومقعدي في السيارة بجوار مقعده، ولكن بقي لي أجل وعمر لعلي أستدرك ما فات، فحمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة. ولكن بقي لنا إخوة كثر مثل عبد الرحمن يعيشون في غفلة، ولا تزال الغشاوة على أعينهم، ولا يزال يعلو قلوبهم ران المعصية، فهل نتركهم يموتون كما مات عبد الرحمن ؟ عبد الرحمن ذاك الذي كان يؤمل أن يلبس ثياب العيد، فلبس بدلاً عنه الأكفان، كيف نتركهم وأمامهم قبر ونار وعذاب؟! كيف نتركهم وأمامهم وأهوال صعاب؟ لن نتركهم وقد هدانا الله، بيننا وبينهم كتاب وشريط ونصيحة صادقة، اللهم ارحم عبد الرحمن برحمتك يا أرحم الراحمين.

من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث

يقول صاحب القصة: كنت شاباً غافلاً بعيداً عن الله غارقاً في لجج المعاصي والآثام، فلما أراد الله لي الهداية قدر لي حادثاً أعاد إلي رشدي وصوابي، ففي يوم من الأيام -وبعد أن قضينا أياماً جميلة في نزهة عائلية في مدينة الدمام- انطلقت بسيارتي عبر الطريق السريع بين الدمام والرياض ومعي أخواتي الثلاث، وكن في مقتبل العمر كالورود والأزهار، وبدل أن أدعو بدعاء السفر المأثور استفزني الشيطان بصوته وأجلب علي بخيله ورجله، وزين لي سماع لهو الحديث المحرم؛ لأظل ساهياً غافلاً عن الله، لم أكن حينئذ أحرص على سماع إذاعة القرآن أو الأشرطة الإسلامية النافعة للمشايخ والأئمة والعلماء؛ لأن الحق والباطل لا يجتمعان في مكان واحد وكما قيل:

حب الكتاب وحب ألحان الغنا

في قلب عبد ليس يجتمعان

إحدى أخواتي كانت صالحة مؤمنة ذاكرة لله حافظة لحدوده - نحسبها كذلك والله حسيبها- طلبت مني أن أسكت صوت الباطل، وأن أستمع إلى صوت الحق، ولكن أنى لي أن أستجيب وقد استحوذ علي الشيطان وملك علي جوارحي وفؤادي فأخذتني العزة بالإثم؟! رفضت طلبها، وقد شاركني في ذلك أختاي الآخرتان، فقد كانتا غافلتين كحالي، كررت أختي المؤمنة طلبها فازددت عناداً وإصراراً، وأخذنا نستهزئ بها ونسخر منها، وقلت لها: إن أعجبك الحال وإلا أنزلتك على قارعة الطريق، فسكتت على مضض، وقد كرهت هذا العمل بقلبها بعد أن أنكرته بلسانها وأدت ما عليها، والله سبحانه يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وفجأة وبقدر سبق من الله انفجرت إحدى عجلات السيارة ونحن نسير بسرعة شديدة فانحرفت السيارة عن الطريق وهوت في منحدر جانبي وأصبحت رأساً على عقب بعد أن انقلبت عدة مرات، صرنا في حال لا يعلمها إلا الله العلي العظيم، اجتمع الناس حول سيارتنا المنكوبة، وقام أهل الخير بإخراجنا من بين الحطام والزجاج المتناثر، ولكن ما الذي حدث؟ لقد خرجنا جميعاً سالمين، إلا من بعض الإصابات البسيطة، ما عدا أختي الصالحة الصابرة الطيبة فقد أصيبت إصابات بالغة وماتت من حينها، لقد ماتت أختي الحبيبة التي كنا نستهزئ بها، واختارها الله إلى جواره، وإني لأرجو أن تكون في عداد الشهداء الأبرار، وأسأل الله عز وجل أن يرفع منزلتها، ويعلي مكانها في جنات النعيم، أما أنا فقد بكيت على نفسي قبل أن أبكي على أختي، وانكشف عني الغطاء فأبصرت حقيقة نفسي وما كنت فيه من الغفلة والضياع، وعلمت أن الله قد أراد بي خيراً، وكتب لي عمراً جديداً لأبدأ حياة جديدة ملؤها الإيمان والعمل الصالح.

أما أختي الحبيبة فلا تكاد تغيب عن مخيلتي، أراها في كل حين، وأتخيلها وأذرف دموع الحزن والندم، فكم وجهت لنا تلك النصائح، وكم دعت لنا تلك الدعوات، لقد كان موتها سبباً لاستيقاظي وانتباهي من غفلتي، أتذكر تلك الذنوب والمعاصي وأتساءل في نفسي: هل سيغفر الله لي؟ فأجد الجواب في قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر:53].

هذه نصيحتي للغافلين والمدبرين والمعرضين عن الصراط المستقيم، أقول: من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث، أفيقوا من غفلتكم، وخذوا من غيركم العبرة، قبل أن تكونوا لغيركم عبرة، والكيس من اعتبر بغيره، قبل أن يكون عبرة للآخرين.

احفظ الله يحفظك

يقول عبد الله راوي هذه القصة: في ضحى أحد الأيام وحين كانت درجة حرارة الجو عالية انطلقت أنا وزميل لي إلى منطقة بعيدة في مهمة عمل، وكان صاحبي يتولى القيادة، وكنت بجانبه بين نائم ويقظان، وكنت أثناء ذلك أنبهه إلى عدم تجاوز السرعة المحددة، وكنا نستمع إلى شريط لأحد المشايخ، وكان يتكلم فيه عن الجنة ونعيمها، وقبل وصولنا إلى تلك المنطقة حدث ما لم يكن على البال ولا في الحسبان، انفجر الإطار الخلفي لسيارتنا من شدة الحرارة، وسبب انفجاره صوتاً عالياً مما أربك صاحبي وأفقده السيطرة تماماً على السيارة التي أخذت تسير بنا كسفينة بلا ربان تتقاذفها الأمواج، ازداد الموقف شدة وسوءاً حين اتجهت سيارتنا إلى الطريق المعاكس، وأخذت تتجه نحو شاحنة أقبلت علينا بسرعة عظيمة، لم يبق على الموت إلا لحظات، حينها مرت بخاطري أمور وذكريات استرجعت بها شريط الحياة، فتذكرت أمي التي ودعتها في الصباح على أن أرجع إليها في المساء، وقلت في نفسي: كيف سيكون حالها وهي تتلقى الخبر؟ مر بي شريط حياتي الماضية في لحظات، أخذت أردد: باسم الله.. لا إله إلا الله.. الله أكبر.. لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].. اللهم هون علينا الموت وسكراته، وأثناء ذلك أغمضت عيني بانتظار الاصطدام وبانتظار الموت، ثم فتحت عيني فإذا بسيارتنا قد مرت من أمام الشاحنة التي لم يكن بيننا وبينها إلا خطوات، ثم سقطت سيارتنا في حفرة على جانب الطريق، وساد السيارة صمت قطعه أصوات الذين اجتمعوا حول سيارتنا، نزلت من السيارة وأنا أردد: الحمد لله.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.. الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، والله ما كان بيننا وبين الموت إلا لحظات، أما صاحبي فلم يستطع النزول من السيارة وانكب على وجهه باكياً من شدة الموقف، وأنا أهدئ من روعه، وبينما نحن على هذه الحال أقبل علينا شيخان كبيران تزينهما لحى بيضاء وثياب قصيرة فأخذوا يقبلاننا ويهنئاننا ويحمدان الله على سلامتنا، ثم قال لنا أحدهما كلمات سأظل أذكرها أبداً ما حييت، قال: كنا خلفكم ورأينا كيف مالت بكم السيارة يميناً ويساراً، ورأينا مروركما من أمام الشاحنة ونجاتكما من الموت بأعجوبة، ولا أقول إلا: إنكما كنتما في حفظ الله ورعايته، وإنكما صليتما الفجر في جماعة فكنتما في ذمة الله، يقول عبد الله : قلت في نفسي: الحمد لله، فأنا منذ سنوات طوال وأنا أحافظ على جميع الصلوات في المسجد، وصلاة الفجر خاصة، كم أشعر بالأمن والأمان والراحة والاطمئنان، كيف لا وهي حفظ من الله وضمان، ثم سألت صاحبي: أين صليت الفجر اليوم؟ فلم يستطع الإجابة، وإنما توجه إلى خلف السيارة وتوضأ ثم بدأ يصلي. سبحان الله! لم يبق على صلاة الظهر إلا وقت يسير، وصاحبي لم يصل الصبح إلى الآن، أي حياة هذه؟! أسألكم بالله كيف سيكون حاله لو فارق الحياة في تلك اللحظة؟ وفي ذمة من سيكون؟ إن صلاة الفجر تشتكي هجراً ومقاطعة من شباب المسلمين وشيبهم ونسائهم وأطفالهم، إنك لتحزن أشد الحزن على حال الأمة وهي تمر في أحلك الظروف وأشد المواقف، وإلى الآن لم ترجع إلى ربها، ولم تراجع حساباتها!

لي فيك يا ليل آهات أرددها أواه لو أجدت المحزون أواه

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد

تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

قال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42-43]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:96-99].

يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا

واغفر أيا رب ذنباً قد جنيناه

كم نطلب الله في ضر يحل بنا

فإن تولت بلايانا نسيناه

ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا

فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه

ونركب الجو في أمن وفي دعة

وما سقطنا لأن الحافظ الله

المحافظة على الصلوات سبب في حفظ الله للعبد

أبشر يا من حافظت على صلاة الفجر وباقي الصلوات، فأنت في ذمة الله حين تغدو وحين تروح، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح)، قال أهل العلم: (في ذمة الله) يعني: في حفظ الله ورعايته، وقالوا: إذا مات من يومه دخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة)، والبردان: الصبح والعصر.

أبشر يا من صليت الفجر وباقي الصلوات في المسجد بالنور التام يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وما أدراك ما يوم القيامة! قال سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:12-14].

فاعلم بارك الله فيك أن من أعظم صفات المنافقين التخلف عن الصلوات، وصلاة الفجر خاصة. جاء في الحديث المتفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)، لكن هناك الثمن إذا أردت أن ترى وجه الحي القيوم فإن هناك ثمناً لذلك قال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)، الثمن هو أن تصلي الفجر مع الجماعة، وتصلي باقي الصلوات مع المسلمين، وتنتظم في صفوف المصلين، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

فبينما هم في عيشهم وسرورهم وأرزاقهم تجري عليهم وتختم

إذا هم بنور ساطع أشرقت له

بأقطارها الجنات لا يتوهم

تجلى لهم رب السماوات جهرة

فيضحك فوق العرش ثم يكلم

سلام عليكم يسمعون جميعهم

بآذانهم تسليمه إذ يسلم

يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما

تريدون عندي إنني أنا أرحم

فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضا

فأنت الذي تولي الجميل وترحم

فيعطيهم هذا ويشهد جميعهم

عليه تعالى الله فالله أكرم

فيا بائعاً هذا ببخس معجل

كأنك لا تدري بلى سوف تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.

رسالة إلى من ضيع الصلاة

إليك يا من آثرت نومك على طاعة ربك أرسل إليك رسالة: أترضى أن تتصف بصفات المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلوات على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) رواه أحمد .

وقال الله عز وجل عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:142-143].

أفترضى أيها المتخلف عن الصلوات أن تكون مثل هؤلاء؟

(سئل صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح، فقال -بأبي هو وأمي-: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، أترضى أن يكون هذا حالك كل يوم؟!

إذا استيقظت وفاتتك الصلاة وقد صلى المصلون، وأشرقت الشمس وكنت مع المتخلفين، وقد بال الشيطان في أذنيك؛ فاغسل أذنيك سبعاً، ستاً بالماء وواحدة بالتراب.

اسمع بارك الله فيك هذا الوعيد الشديد لمن ينام عن صلاة الفجر أو صلاة العصر أو أي صلاة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قال: فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع -وفي رواية: ملقى على قفاه- وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يعود رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -قال الراوي: أحسب أنه قال- فإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: علت أصواتهم وصاحوا من الألم- قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قالا: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على نهر -قال الراوي: حسبت أنه قال- مثل الدم، وإذا في النهر رجل يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا بذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي إلى ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه -أي: يفتح فمه- فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قلت: سبحان الله ما هذا؟ قالا: انطلق انطلق) إلى أن قال في آخر الحديث: (قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟! قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن وينام عن الصلاة المكتوبة -وهذا ينطبق على المرأة التي تفعل مثل ذلك العمل-، أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في نهر من الدم ويلقم بالحجر فإنه آكل الربا)، قد كفانا الله بحلاله عن حرامه، فاتق الله اتق الله يا من تنام عن الصلوات! اتق الله يا من تعاقر الزنا والمومسات! اتق الله يا من تأكل الأموال الربوية!

أيها اللاهي بلا أدنى وجل اتق الله الذي عز وجل

قال سبحانه وتعالى: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

فإلى متى الغفلة؟ إلى متى هذا الضياع؟ فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى

صريع الأماني عن قليل ستندم أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده

سوى جنة أو حر نار تضرم وبالسنة الغراء كن متمسكاً

هي العروة الوثقى التي ليس تفصم وهيئ جواباً عندما تسمع الندا

من الله يوم العرض ماذا أجبتم به رسلي لما أتوكم فمن يجب

سواهم سيخزى عند ذاك ويندم وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة

ليوم به تبدو عياناً جهنم وينصب ذاك الجسر من فوق متنها

فهاو ومخدوش وناج مسلم ويأتي إله العالمين لوعده

فيفصل ما بين العباد ويحكم فيا ليت شعري كيف حالك عندما

تطاير كتب العالمين وتقسم فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة

وعدلك مقبول وصرفك قيم

أذكر هنا حوادث على الطريق، الهدف من ذكرها العبرة والاعتبار لا التسلية والإخبار. أول هذه الحوادث بعنوان: (حادث قبل العيد) يقول صاحب القصة: أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي، والعيد أصبح قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين سنذهب أنا وصديق الطفولة، ولكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني: هل جهزت ثوباً جديداً تستقبل به العيد؟ قلت له: لا، قال: ما رأيك أن نذهب إلى الخياط الآن، سألته متعجباً وأنا أهز رأسي: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام، فلم يجبني، وإنما انطلق بسيارته بسرعة مجنونة كأنه يسابق الزمن حتى توقف أمام محل للخياطة الرجالية، سلم صاحبي على الخياط بحرارة فهو يعرفه تمام المعرفة، ثم قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، ضحك الرجل وأجاب وهو يربت على كتف عبد الرحمن : يا عبد الرحمن ! ألا تعلم كم بقي على العيد؟ لماذا لم تأت مبكراً؟ أجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى: سنزيدك في الأجرة، المهم أن ينتهي قبل العيد، ثم أعاد عليه: المهم أن ينتهي قبل العيد. يقول: وبينما أنا أرقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزءاً من الثمن وهو يردد قائلاً للخياط: لا تنس الموعد، بعد غد إن شاء الله نريد أن نلبس الجديد. يقول: ثم انصرفنا بسيارتنا نجوب الشوارع بلا هدف حتى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة ولم نذكر الله عز وجل فيها ولا مرة واحدة، وربما كانت ليلة القدر ونحن لا نشعر، حياة لا طعم لها، سعادة لا مذاق لها.

يقول: ولجنا من المعاصي كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، تفحيط بالليل وتطعيس بالنهار، وحسبنا أن الأمر يمضي دون حساب، إظهار للسرور والسعادة، وضحكات تملأ المكان، ولكن -وضع تحت لكن عدة خطوط- في القلب هم وغم لا يعلمه إلا الله، والنفس تحترق بألم وحسرات وهي لا تدري كيف الهرب من هذا الألم وهذا الضيق، افترقنا قبيل الفجر يجمعنا الليل والسهر والعبث، نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب، نوم طويل يمتد من الفجر حتى العصر، صيام بلا صلاة، وصلاة بلا قلب، ساعة الصيام الوحيدة التي أستيقظ فيها هي قبيل المغرب، كانت أيام الصيام عبارة عن أيام عادية أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة وبقراءة الصحف والمجلات، متتبعاً أخبار الفنانين والفنانات، وغيري يختم القرآن مرات ومرات، وذات مرة بينما أنا أنتظر موعد أذان المغرب، جاءتني مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء، وكان صوته متغيراً فقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت: لا، مساء البارحة كان بصحة وعافية، قال: إنه مريض، أدرك صاحبك! انتهت المكالمة، والأمر بالنسبة لي لا يعدو عن أن يكون معلومة غير صحيحة، وبينما كان المؤذن يرفع أذان العشاء إذا بصوت جرس الهاتف ينطلق مرة ثانية، رفعت السماعة فإذا به الشقيق الأكبر لـعبد الرحمن ، قلت في نفسي: ماذا يريد؟! أكيد أنه سيلومني وسيؤنبني على ما نفعله أنا وعبد الرحمن طوال الليل، أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا، لكن أتى صوته منهكاً مجهداً وعبراته تقطع حديثه، أخبرني بالخبر، قال: مات عبد الرحمن ! بهت ولم أصدق، لا زال صوته يرن في أذني كأني أراه! كيف مات؟ من غير المعقول أنه مات بالأمس، ليلة البارحة افترقنا أنا وإياه وهو في أتم الصحة والعافية، قال أخوه: بينما هو منطلق إلى المنزل ليلة البارحة بسرعته الجنونية ارتطم بسيارة أخرى عند أحد التقاطعات فمات كل من في السيارة الأخرى، وحمل هو إلى المستشفى ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم. يقول راوي القصة: أذني لا تصدق ما تسمع، لا أزال أراه أمامي.. نعم أمامي! بل اليوم كان موعدنا لنذهب إلى السوق الفلاني، وغداً موعدنا لنأخذ ثياب العيد، أيقظني صوت شقيق عبد الرحمن من غفوتي وهز جوانحي وأزال غشاوة كانت على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملاءك. انتهى الحديث بيني وبينه، وتأكدت أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن أيام عبد الرحمن قد انقضت، آمنت بأن الموت حق، وأن موعدنا غداً هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد كان يتمنى أن يلبس ثوب العيد فتركه ولبس كفناً جديداً، تسمرت في مكاني، وأصبت بتشتت في ذهني ودوار في رأسي، فقررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الخبر وأستوضح الفاجعة، عندما ركبت سيارتي فإذا بشريط غناء في جهاز التسجيل، هذا هو الغناء الذي أفسد قلوبنا! ورباها على النفاق وجعلها أقسى من الحجارة! أخرجت الشريط فانبعث صوت إمام الحرم، من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته، أنصت بكل جوارحي وكأنني أسمع هذا الكلام لأول مرة، وكأن الدنيا انقلبت، والقيامة قامت والناس تغيرت، أوقفت سيارتي على جانب الطريق أستمع إلى قراءة القرآن من الحرم، وكأني أسمع القرآن لأول مرة في حياتي، وعندما بدأ دعاء القنوت كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام، فرفعت يدي لتستقبل تلك الدموع، يا الله ما أجمل الدعاء! وما أجمل الخضوع والخشوع واللجوء إلى الله! أخذ قلبي يردد صدى تلك العبرات، وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع أعلنتها توبة صادقة، بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة، ودعنا عبد الرحمن في اليوم التالي، وانطلقت أنا في طريق الهداية مع رفقة صالحة، أولئك الذين تركتهم بالأمس هم أحب الناس إلي اليوم.. من تطاولت عليهم بالأمس هم أنفع الناس في عيني اليوم.. من استهزأت بهم بالأمس هم أكرم الناس عندي اليوم، كنت على شفا جرف هار ولكن الله رحمني مع الرفقة الصالحة، هدأت نفسي، وأطلت علي السعادة التي كنت أبحث عنها ولا أعرفها، وأصبحت أشعر بانشراح في الصدر، وظهرت على وجهي أماراة سكينة ووقار زينتها تلك اللحية الجميلة التي بدأت تنمو وتكبر على وجهي، يا ألله ما أجمل السنة وما أجمل الاتباع!

بعد يومين فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي، سأل عن عبد الرحمن ، قلت: عبد الرحمن مات، أعاد الاسم مرة ثم مرة، قلت له: عبد الرحمن مات، فبدأ يصف لي عبد الرحمن ، ويصف لي سيارته، وكلامه، قلت له: نعم هذا هو، ولكنه مات، عندها أراني ثوبه، فبدأت أسترجع الذكريات ولسان حالي: هل حقاً مات؟ هذا ثوبي بجوار ثوبه، ومقعدي في السيارة بجوار مقعده، ولكن بقي لي أجل وعمر لعلي أستدرك ما فات، فحمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة. ولكن بقي لنا إخوة كثر مثل عبد الرحمن يعيشون في غفلة، ولا تزال الغشاوة على أعينهم، ولا يزال يعلو قلوبهم ران المعصية، فهل نتركهم يموتون كما مات عبد الرحمن ؟ عبد الرحمن ذاك الذي كان يؤمل أن يلبس ثياب العيد، فلبس بدلاً عنه الأكفان، كيف نتركهم وأمامهم قبر ونار وعذاب؟! كيف نتركهم وأمامهم وأهوال صعاب؟ لن نتركهم وقد هدانا الله، بيننا وبينهم كتاب وشريط ونصيحة صادقة، اللهم ارحم عبد الرحمن برحمتك يا أرحم الراحمين.


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3543 استماع
بر الوالدين 3428 استماع
أحوال العابدات 3413 استماع
يأجوج ومأجوج 3350 استماع
البداية والنهاية 3336 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3271 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3255 استماع
أين دارك غداً 3205 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3099 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3097 استماع