تفسير سورة محمد (2)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وها نحن مع سورة محمد صلى الله عليه وسلم المدنية، ومع هذه الآيات، فلنصغ مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4-9].

مناسبة الآيات لما قبلها

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، تقدم قول الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:3]، إذاً: فبناء على هذا جاء قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4].

تقرير الآية وجوب جهاد الكفار

هذه الآية الكريمة تقرر وجوب الجهاد على المسلمين، والجهاد فرضه الله على أمة محمد، وبدأ بنبيه فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73] والجهاد لا يشك مؤمن ولا مؤمنة في فرضيته، وهو فرض كفاية وفرض عين.

فقول ربنا جل ذكره: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [محمد:4] أي: في معركة من المعارك في ساحة من ساحات القتال، فماذا تصنعون؟ فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4] عليكم بضرب رقابهم، ولم تضرب الرقاب؟ لأنها تخفف الموت، يضرب رقبته فتنقطع فيموت، بخلاف ضرب الأيدي والجوارح والبطن وكذا، فما يموت بها بل يعذب، فمن تدبير الله عز وجل أن السيوف في أيديهم يضربون بها عنق الكافر ليخر على الأرض.

فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4] أي: فضرب رقاب الكافرين أعدائكم وخصومكم الذين يعبدون غير الله ويحاربون دعوة الله، إلى متى؟

التوجيه إلى الأسر بعد الإثخان وبيان الحكم في الأسرى

قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ [محمد:4]، نحن في معركة منا ألف ومنهم ألفان، أو منا ألفان ومنهم عشرة، ودارت المعركة ونحن نضرب الرقاب، فإذا انهزموا فحينئذ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4]، خذوا الأسرى، واربطوهم بحبال في أيديهم وفي أعناقهم وفي أرجلهم خشية أن يهربوا ويفروا.

فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ [محمد:4] وحطمتموهم وما بقي لهم وجود يقاتلون به، فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4]، ثم أنتم بين ثلاثة أمور:

فَإِمَّا مَنًّا [محمد:4]، أي: عطاء منكم تطلقون سراحهم، هم الآن مربوطون بالحبال الواثقة في أيديهم وأرجلهم، والمعركة انتهت وانتصرنا، فماذا نصنع بهؤلاء الأسرى؟ واحدة من ثلاث:

الأولى: المن، وهو أن نمن عليهم فنطلقهم ونسرحهم، إذا رأى إمام المسلمين في ذلك فائدة ومصلحة تعود على الإسلام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم غير مرة.

ثانياً: الفداء، نأخذ مقابل الأسير مبلغاً من المال، يدفع لنا مبلغاً من المال لنفك أسره ونطلقه، ويذهب إلى بلده أو إلى إخوته.

والمسألة الثالثة ذكرت في أول الآية، وهي القتل، أما قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل عدداً من الأسرى، وحصل على عهد الصحابة والتابعين، فهذه الثلاثة تضمنتها هذه الآية الكريمة بعد إعلامنا بأن الجهاد فريضة، أي: جهاد المشركين والكافرين، لماذا يجاهدون؟ من أجل أن يعبدوا الله الذي خلقهم ويوحدوه، وبذلك يكملون في هذه الحياة ويسعدون، ويسودهم العدل الإلهي والرحمة الربانية، فيطهرون ويكملون ويسعدون، أما إهمالهم وتركهم وإضاعتهم فبلاء عليهم وشر لهم، فمن الذي يجب عليه أن ينقذ البشرية؟ المؤمنون الموحدون، هذا فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين.

معنى قوله تعالى: (حتى تضع الحرب أوزارها)

يقول تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، إلى متى؟ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]، حتى ينتهي القتال، أهل البلاد أسلموا، أهل المنطقة أسلموا، أهل هذا الإقليم أسلموا، انتهت الحرب فما بقيت حرب، حتى تضع الحرب أوزارها وأحمالها وأثقالها، يجب أن يستمر الوضع هكذا إلى أن تنتهي الحرب.

ومن أهل العلم من يقول: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] حتى ينزل عيسى عليه السلام، ويسلم اليهود والنصارى، ولا يبقى كافر على الأرض، فحينئذ وضعت الحرب أوزارها فما بقي قتال، لكن التوجيه الأول أصح.

وها نحن الآن والحرب واضعة أوزارها، فهل المسلمون يقاتلون؟ الجواب: لا، هل الشيشانيون يقاتلون؟ إنه ليس قتالاً شرعياً، ما بايعوا إماماً ولا قاتلوا باسم الإسلام، فالقتال الشرعي أن تتحد كلمة المسلمين، وأن يؤمهم إمام واحد أبيض أو أصفر، ويطبقوا شرع الله الذي نزل من السماء عليهم ليكملوا ويسعدوا، حينئذ إذا شاهدوا أمة من الأمم كافرة فاجرة تأكلها النار وتعيش على الخبث وعلى الفساد والشر يطوقونها ويقاتلونها حتى تسلم وتدخل في رحمة الله، أو تدين لهم بالخضوع والسيادة، فيدخلون البلاد ويعلمون النساء والرجال والأطفال دين الله.

أما ولا إمام للمسلمين فبم يقاتلون؟ كيف يقاتلون؟ لا بد من بيعة إمام واحد تتحد عليه كلمة المسلمين، وحينئذ تقام شريعة الله في كل إقليم في كل بلد إسلامي، والآن ديار المسلمين كديار الكافرين إلا من رحم الله، فالخمر والزنا واللواط والفجور والكذب والخيانة، والشريعة معطلة وممنوعة لا تطبق إلا ما كان من هذه البقعة الطاهرة.

إذاً: فجهاد المسلمين للكافرين فريضة فرضها الله على المسلمين، فرض كفائي إذا قام به إمام يكفي، إذا قامت جماعة تكفي، ويكون الجهاد فرض عين، إذا عيّن الإمام أفراداً أو أمة بعينها فحينئذ يجب عليهم أن يقاتلوا.

فهنا لو أردنا الآن أن نقاتل أسبانيا على سبيل الفرض، وأرسينا سفننا على شاطئ البحر فما من حقنا أن نقاتلهم، لماذا؟ لأنهم ما منعوا الإسلام في ديارهم، ففي دارهم المساجد، والمسلمون يعبدون الله ويدعون إلى الله بينهم، ما بقي قتال، أو نرسي سفننا أمام إيطاليا أو فرنسا أو بريطانيا، الواقع كذلك، كيف نقاتلهم والإسلام بين أيديهم؟ أليس في فرنسا ثلاثة آلاف مسجد؟ وهكذا في بريطانيا وألمانيا، ما بقي جهاد؛ لأن الجهاد أن نجاهدهم ليدخلوا في الإسلام أو يسمحوا لنا أن ندخل ديارهم لنعلمهم، فقالوا: سمحنا لكم، فادخلوا وعلموا، فلا معنى لقتالهم أبداً.

ولكن مع هذا لو اتحدت كلمة المسلمين وبايعوا إماماً لهم وطبقوا شرع الله في القرى والمدن، في البادية والحاضرة، وسادت الأمة حينئذ نرحم تلك الأمم، نطلب منهم أن ندخل بلادهم، فإن قالوا: ادخلوا ما عندنا مانع، علموا من شئتم دخلنا، فإن قالوا: ما نقبل دخولكم، ولا ندين لكم بدين، ولا نسلم لكم أبداً؛ فحينئذ نقاتل امتثالاً لأمر الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193].

هكذا يقول تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، إلى متى؟ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4].

معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)

ثم قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4] هذا الذي أمرناكم به وعلمناكم إياه بقتال المشركين لو شاء الله لزلزل بهم الأرض، أو أسقط عليهم بيوتهم، أو أصابهم بمرض، لكنه يريد أن يمتحنكم أيها المؤمنون لتكملوا وتسعدوا، وإلا فالله ما هو بعاجز أن يدخل النصارى في يوم واحد في الإسلام، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] امتحاناً، الكافر يقتل ويدخل جهنم، أو يؤمن ويسلم ويدخل الجنة، والمؤمن يقاتل فيسعد ويدخل الجنة، وهكذا تدبير الله عز وجل، فالله ليس بعاجز أن يقول لأمة من الأمم: أسلمي فتصبح مسلمة، أو يصيبها بخسف في الأرض، أو زلزال في الأرض مثلاً.

وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] هذا هو الامتحان، لو شاء الله لكانت البشرية كلها مسلمة كالملائكة، أليس كذلك؟ أو كانوا كلهم كافرين، ولكن تدبير الله عز وجل، يحيي من شاء من عباده ويكلفهم بالدعوة إليه وقتال أعدائه وينصرهم عليهم وينتشر الإسلام في أرض الله.

جزاء المجاهدين والشهداء في سبيل الله تعالى

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:4]، وفي قراءة سبعية: (والذين قاتلوا في سبيل الله)، وقراءة: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:4] تعني الذين استشهدوا في أحد، وهم أكثر من سبعين قتيلاً.

وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4] هذا خبر، يخبر تعالى أن الذين قتلوا أو قاتلوا في سبيل الله في بدر أو في أحد أو في أي مكان لن يضل الله أعمالهم، بل يثيبهم عليها ويجزيهم بها خير الجزاء، ألا وهو -بعد رضاه- الجنة دار النعيم.

وَالَّذِينَ قُتِلُوا [محمد:4]، والذين قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4] إلى يوم القيامة، أيما مؤمنين قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل الدينار والدرهم فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]، يثيبهم عليها كاملة ولن يبخسهم إياها.

وأضاف إلى ذلك أيضاً: سَيَهْدِيهِمْ [محمد:5] إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم ورضا ربهم عز وجل، وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:5]، ويصلح أعمالهم، فينجحون حتى في الزراعة والصناعة، أعمالهم كلها الدينية والدنيوية يصلحها فضلاً من الله ورحمة، لم؟ لأنهم أولياؤه وقاتلوا في سبيله، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:4-5] أولاً، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ [محمد:6] التي عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6] ثانياً.

يهديهم في الدنيا ويصلح بالهم، وإذا استشهدوا أو ماتوا يدخلهم الجنة التي عرفها لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا إذا دخلنا باب الجنة لا يخطئ أحدنا منزله أبداً، عرفها في أذهانهم، ما إن يدخلوا الجنة إلا وكل يعرف قصره، ولا يخطئه أبداً، كأهل الجمعة إذا صلوا توزعوا، كل واحد يذهب إلى منزله ما يخطئه أبداً.

وكذلك عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6] أيضاً بأنواع العرف الذي هو أنواع الطيب، كل ذلك صحيح.

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ [محمد:5-6] المعهودة في أذهانهم، فـ(أل) للعهد، دار السلام التي عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6]، جعلهم يعرفون منازلهم وقصورهم، وعرفها لهم في كتابه فوصف أنهارها، وقصورها وحورها بتعريف كامل.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، تقدم قول الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:3]، إذاً: فبناء على هذا جاء قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4].

هذه الآية الكريمة تقرر وجوب الجهاد على المسلمين، والجهاد فرضه الله على أمة محمد، وبدأ بنبيه فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73] والجهاد لا يشك مؤمن ولا مؤمنة في فرضيته، وهو فرض كفاية وفرض عين.

فقول ربنا جل ذكره: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [محمد:4] أي: في معركة من المعارك في ساحة من ساحات القتال، فماذا تصنعون؟ فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4] عليكم بضرب رقابهم، ولم تضرب الرقاب؟ لأنها تخفف الموت، يضرب رقبته فتنقطع فيموت، بخلاف ضرب الأيدي والجوارح والبطن وكذا، فما يموت بها بل يعذب، فمن تدبير الله عز وجل أن السيوف في أيديهم يضربون بها عنق الكافر ليخر على الأرض.

فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4] أي: فضرب رقاب الكافرين أعدائكم وخصومكم الذين يعبدون غير الله ويحاربون دعوة الله، إلى متى؟

قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ [محمد:4]، نحن في معركة منا ألف ومنهم ألفان، أو منا ألفان ومنهم عشرة، ودارت المعركة ونحن نضرب الرقاب، فإذا انهزموا فحينئذ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4]، خذوا الأسرى، واربطوهم بحبال في أيديهم وفي أعناقهم وفي أرجلهم خشية أن يهربوا ويفروا.

فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ [محمد:4] وحطمتموهم وما بقي لهم وجود يقاتلون به، فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4]، ثم أنتم بين ثلاثة أمور:

فَإِمَّا مَنًّا [محمد:4]، أي: عطاء منكم تطلقون سراحهم، هم الآن مربوطون بالحبال الواثقة في أيديهم وأرجلهم، والمعركة انتهت وانتصرنا، فماذا نصنع بهؤلاء الأسرى؟ واحدة من ثلاث:

الأولى: المن، وهو أن نمن عليهم فنطلقهم ونسرحهم، إذا رأى إمام المسلمين في ذلك فائدة ومصلحة تعود على الإسلام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم غير مرة.

ثانياً: الفداء، نأخذ مقابل الأسير مبلغاً من المال، يدفع لنا مبلغاً من المال لنفك أسره ونطلقه، ويذهب إلى بلده أو إلى إخوته.

والمسألة الثالثة ذكرت في أول الآية، وهي القتل، أما قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل عدداً من الأسرى، وحصل على عهد الصحابة والتابعين، فهذه الثلاثة تضمنتها هذه الآية الكريمة بعد إعلامنا بأن الجهاد فريضة، أي: جهاد المشركين والكافرين، لماذا يجاهدون؟ من أجل أن يعبدوا الله الذي خلقهم ويوحدوه، وبذلك يكملون في هذه الحياة ويسعدون، ويسودهم العدل الإلهي والرحمة الربانية، فيطهرون ويكملون ويسعدون، أما إهمالهم وتركهم وإضاعتهم فبلاء عليهم وشر لهم، فمن الذي يجب عليه أن ينقذ البشرية؟ المؤمنون الموحدون، هذا فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين.

يقول تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، إلى متى؟ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]، حتى ينتهي القتال، أهل البلاد أسلموا، أهل المنطقة أسلموا، أهل هذا الإقليم أسلموا، انتهت الحرب فما بقيت حرب، حتى تضع الحرب أوزارها وأحمالها وأثقالها، يجب أن يستمر الوضع هكذا إلى أن تنتهي الحرب.

ومن أهل العلم من يقول: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] حتى ينزل عيسى عليه السلام، ويسلم اليهود والنصارى، ولا يبقى كافر على الأرض، فحينئذ وضعت الحرب أوزارها فما بقي قتال، لكن التوجيه الأول أصح.

وها نحن الآن والحرب واضعة أوزارها، فهل المسلمون يقاتلون؟ الجواب: لا، هل الشيشانيون يقاتلون؟ إنه ليس قتالاً شرعياً، ما بايعوا إماماً ولا قاتلوا باسم الإسلام، فالقتال الشرعي أن تتحد كلمة المسلمين، وأن يؤمهم إمام واحد أبيض أو أصفر، ويطبقوا شرع الله الذي نزل من السماء عليهم ليكملوا ويسعدوا، حينئذ إذا شاهدوا أمة من الأمم كافرة فاجرة تأكلها النار وتعيش على الخبث وعلى الفساد والشر يطوقونها ويقاتلونها حتى تسلم وتدخل في رحمة الله، أو تدين لهم بالخضوع والسيادة، فيدخلون البلاد ويعلمون النساء والرجال والأطفال دين الله.

أما ولا إمام للمسلمين فبم يقاتلون؟ كيف يقاتلون؟ لا بد من بيعة إمام واحد تتحد عليه كلمة المسلمين، وحينئذ تقام شريعة الله في كل إقليم في كل بلد إسلامي، والآن ديار المسلمين كديار الكافرين إلا من رحم الله، فالخمر والزنا واللواط والفجور والكذب والخيانة، والشريعة معطلة وممنوعة لا تطبق إلا ما كان من هذه البقعة الطاهرة.

إذاً: فجهاد المسلمين للكافرين فريضة فرضها الله على المسلمين، فرض كفائي إذا قام به إمام يكفي، إذا قامت جماعة تكفي، ويكون الجهاد فرض عين، إذا عيّن الإمام أفراداً أو أمة بعينها فحينئذ يجب عليهم أن يقاتلوا.

فهنا لو أردنا الآن أن نقاتل أسبانيا على سبيل الفرض، وأرسينا سفننا على شاطئ البحر فما من حقنا أن نقاتلهم، لماذا؟ لأنهم ما منعوا الإسلام في ديارهم، ففي دارهم المساجد، والمسلمون يعبدون الله ويدعون إلى الله بينهم، ما بقي قتال، أو نرسي سفننا أمام إيطاليا أو فرنسا أو بريطانيا، الواقع كذلك، كيف نقاتلهم والإسلام بين أيديهم؟ أليس في فرنسا ثلاثة آلاف مسجد؟ وهكذا في بريطانيا وألمانيا، ما بقي جهاد؛ لأن الجهاد أن نجاهدهم ليدخلوا في الإسلام أو يسمحوا لنا أن ندخل ديارهم لنعلمهم، فقالوا: سمحنا لكم، فادخلوا وعلموا، فلا معنى لقتالهم أبداً.

ولكن مع هذا لو اتحدت كلمة المسلمين وبايعوا إماماً لهم وطبقوا شرع الله في القرى والمدن، في البادية والحاضرة، وسادت الأمة حينئذ نرحم تلك الأمم، نطلب منهم أن ندخل بلادهم، فإن قالوا: ادخلوا ما عندنا مانع، علموا من شئتم دخلنا، فإن قالوا: ما نقبل دخولكم، ولا ندين لكم بدين، ولا نسلم لكم أبداً؛ فحينئذ نقاتل امتثالاً لأمر الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193].

هكذا يقول تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، إلى متى؟ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4].




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الأحقاف (8) 3861 استماع
تفسير سورة الفتح (8) 3472 استماع
تفسير سورة الأحقاف (7) 3331 استماع
تفسير سورة ق (6) 3235 استماع
تفسير سورة الفتح (1) 3128 استماع
تفسير سورة الأحقاف (1) 3061 استماع
تفسير سورة ق (2) 3048 استماع
تفسير سورة الفتح (3) 3023 استماع
تفسير سورة الأحقاف (4) 2963 استماع
تفسير سورة الفتح (4) 2895 استماع