أرشيف المقالات

قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
5 - قصة المكروب كيف كشفه رجاله ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم اسبلنزاني صلة حديثه حتى العلماء كانوا في جانب انبعاث الأحياء من لا شيء.
أعلن الطبيعي الإنجليزي (رس) بأسلوب توكيد تحس فيه يقين العالم وثقة العارف، قال: (إن من يتشكك في أن الخنافس والزنابير تكونت من روث البقر فإنما يتهم العقل والحس والتجربة).
حتى الحيوانات التي هي أعقد من هذه وأكثر أعضاء كالفئران لا حاجة بها إلى الأمهات والآباء.
ومن قال غير هذا فعليه أن يذهب إلى مصر ليعرف كيف تعج الحقول بالفئران التي تكونت من غرين النيل فآذت السكان إيذاء كبيراً سمع اسبلنزاني كل هذه الأقاصيص التي اعتقد صدقها أناس كثيرون ذوو خطر وعلم، وقرأ قصصا أكثر من هذه عدداً وأبعد في الأغراب، ورأى الطلبة تتنافس فتتخاصم وتتلاكم لتثبت أن الفأر لا حاجة به إلى أب أو أم.
ومع كل هذا لم يعتقد في شيء مما رأى أو سمع.
كان في رأسه تحزب، وفي قلبه تغرض وتعصب، وكثيراً ما نجد العلم يتقدم بمثل هذا التعصب والتحزب، بفكرة ليست من العلم، وليست مما يقال عادة في العلم، ولكن فكرة تخلق في رأس الرجل العلمي خلقاً، مبناها كره لخز عبلة شائعة وخرافة سائدة.
رأى اسبلنزاني أن الإنسان تكفيه النظرة الظاهرة إلى الأمور ليقتنع بان الحياة لا توجد من عدم، وبأن الأحياء لا تخلق اتفاقاً من الأوساخ والأقدار، وإنما هي تولد عن سبب، وحسب نظام وقانون.
ولكن كيف السبيل إلى إثبات ذلك؟ وفي خلوة في ذات ليلة وقع على كتاب صغير بسيط ساذج قرأه فأفاد منه طريقة جديدة لو اتبعها لعرف بها كيف تنشأ الحياة.
كتاب لم يحاجج بالكلام، ولم يتمنطق بالألفاظ، بل اكتفى بالتجربة.
وأي تجربة؟ وأي حقائق تتضح منها وتبين في سهولة ويسر، وذهب عن صاحبنا النعاس، ونسى أن الفجر يقترب، وظل يقرأ ثم يقرأ.
قرأ في الكتاب أن تخلق الدود والذباب من اللحم الفاسد خرافة أي خرافة، وإن كثيراً من العقلاء الأذكياء يؤمنون بهذا الزعم على سخافته وبطلانه.
وبينا هو يقرأ أتى على فقرات من الكتاب كادت تخرج لها عيناه من رأسه استغراباً لها وإعجاباً بها، على وصف تجربة بسيطة ذهبت بالخرافة من نفسه دفعة واحدة ولغير رجعة وقال لنفسه وهو يتخفف من بعض ملابسه ويميل بعنقه الغليظ إلى ضوء الشمعة: (إن (ريدى) هذا الذي كتب الكتاب رجل لا شك عظيم.
انظر كيف هو يحل المشاكل حلاً غاية في البساطة.
أخذ قدرين ووضع بكل منهما قطعة لم، ثم غطى أحدهما بغطاء خفيف، وترك الآخر مكشوفاً.
ثم أخذ ينظر، فوجد الذباب يدخل إلى اللحم في القدر المكشوفة، وبعد زمن قليل وجد بها الدود، وبعد زمن آخر وجد بها ذباباً جديداً، ثم نظر إلى القدر المغطاة فلم يجد بها دوداً ولا ذباباً.
فالأمر بسيط جداً.
فالمسألة مسألة الغطاء الذي يحول بين اللحم والذباب وتجربة بسيطة جداً، ولكنها تدل على ذكاء كبير، فان الناس تناقشوا وتجادلوا وبحت أصواتهم آلاف السنين، ولكنهم لم يهتدوا إلى هذه التجربة البسيطة) وفي الصباح لم يستطع (لازارو) صبراً، فأسرع إلى العمل يطلب حل الأشكال، لا فيما يختص بالذباب ودوده، ولكن فيما يختص بالأحياء المكرسكوبية الصغيرة.
فان الأساتذة العلماء كانوا قد بدأوا يقولون إنه قد يجوز أن الذباب يخرج من بيض، ولكن الأحياء التي تدق عن البصر تأتي من ذات نفسها وأخذ اسبلنزاني يتعلم في عثار كثير كيف يربي تلك الأحياء، وكيف يستخدم المجهر.
فجرح يديه وكسر قبابات كبيرة ثمينة؛ وكان ينسى أحياناً أن يمسح عدساته وينظفها، ثم ينظر من خلالها إلى تلك الحيوانات الصغيرة، فلا يراها إلا بمقدار ما يرى السمك الصغير في الماء بساحل البحر وقد عكره بتحريك قاعه؛ ولم يكن يبالي أن يتحدث عن أخطائه ويقصف بالضحك منها، فلم يكن في خلقه ذلك الجمود وتلك الشراسة التي اتصف بها (لوفن هوك).
وكان مندفعاً متهوراً، ولكنه برغم اندفاعه وتهوره كان لحوحاً لجاجاً، لا ينعطف لخيبة ولا يثنيه يأس؛ قام ليفضح تلك الأكاذيب التي يحكونها عن تلك الحيوانات الصغيرة فلن يقعد حتى يبلغ ما أراد، ولكن مهلاً.
(إذا أنا نصبت نفسي بغية الوصول إلى غاية معينة فلست والله بعالم، إن العالم يجب عليه أول شيء أن ينزع من قلبه التعصب والتغرض، وأن يتعلم أن ينقاد للحقائق التي تتكشف له إلى حيث تسوق.
) وأخذ يدرس تلك الحيوانات بصبر طويل، وأخذ يسوم نفسه قصد السبيل، وينفي عنها الهوى بقدر الطاقة حتى علمها أن تنصاع للحق ولو كان مراً واتفق في هذا الوقت أن قسيساً آخر اسمه (نيدم كان يسره أن يرى نفسه تحذق فن التجربة، وكان كاثوليكياً تقياً.
وكان اسمه أخذ يذيع في إنجلترا وأيرلندا بأنه الرجل الذي يعرف كيف ينشئ تلك الأحياء الصغيرة في مرق الضأن من لاشيء.
وأرسل إلى علماء الجمعية الملكية البريطانية يصف لهم تجاريبه، فتفضلوا بالإعجاب بها قال لهم إنه أخذ من قدر وهي تغلي بمرق الضأن مقداراً ثخينا من هذا المرق، ووضعه في زجاجة سدها بفلينة فأحكم سدها فأصبحت بمعزل عن الهواء، فلا تدخلها تلك الأحياء أو ما يمكن أن يكون لها من بيض.
ولم يكتف بذلك، بل ذهب فوضع الزجاجة في رماد ساخن زيادة في الحرص والتوكيد.
قال الرجل الطيب: (وبهذا لاشك قد قتلت كل ما قد يكون بقي في الزجاجة من كائن حي أو بيض).
واحتفظ بهذا المرق في الزجاجة أياماً، ثم نزع سدادها، وأتى بالعدسة فرأى - وما أخطر ما رأى - رأى المرق يعج بالأحياء عجيجاً وصاح (نيدم) يقول للجمعية: (إن هذا كشف خطير أي خطير.
إن هذه الأحياء لا يمكن أن يكون مأتاها إلا من المرق، فدونكم إذن تجربة تثبت أن الشيء الحي قد يخرج من الشيء الميت).
وقال لهم فيما قال: إن الحساء يصنع من الحب أو اللوز يقوم مقام المرق سواء بسواء وثارت الجمعية الملكية والعالم المثقف لما علموا بكشف (نيدم) كشف صدق لا أقصوصة كاذبة، وحقيقة تجريبية لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها، واجتمع أعضاء الجمعية يفكرون في جزاء (نيدم) بتنصيبه عضواً فيها، وهي الجمعية الوقور المترفعة التي تمثل أرستقراطية العلم وتتضمن صفوة العلماء.
ولكن في هذه الأثناء كان اسبلنزاني بعيداً في إيطاليا يقرأ خبر هذا الكشف المدهش، وبينما هو يقرأ تقارب ما بين حاجبيه، وضاق حدق عينيه، وأخيراً أبرق وأرعد وقال: (إن هذا الحيوانات لا تنشأ من لا شيء، لا في المرق، ولا في حساء اللوز، ولا في شيء كائناً ما كان؛ إن في هذا التجربة تدليسة أو خدعة، من الجائر أن (نيدم) لا يعرف ذلك، ولكن لابد أن هناك ثغرة أنا كاشفها لا محالة) وبدأ شيطان التعرض يستيقظ في نفسه، وقام القسيس يشحذ سكينه لأخيه القسيس.
وكان الإيطالي رجلاً شريراً سفاحاً يغرم بنحر الآراء التي يخاصمها، فمن أجل هذا قام يسن سلاحه للإنجليزي.
وفي ذات ليلة، وهو قائم وحده في معمله، بعيداً عن جلبة الإعجاب التي تتحشى بها دروسه، بعيداً عن زئاط الصالونات البهيجة حيث تتظرف له السيدات وتتلطف معجبة بذكائه وسعة علمه، في تلك الليلة خال أنه وجد الثغرة التي طلبها في تجارب (نيدم).
فمضع ريشته، وأمر أصابعه خلال شعره المشعث، ثم قال: (لماذا ظهرت تلك الأحياء في مرق اللحم وفي نقيع الحب؟ لأن (نيدم) بلا شك لم يسخن زجاجته تسخيناً كافيا، لأن (نيدم) لم يحكم سد زجاجته إحكاماً كافياً) وبدأ شيطان البحث الصادق يستيقظ في نفسه.
فلم يذهب إلى مكتبه ليكتب لنيدم بالذي ارتأى، وإنما فزع إلى معمله الترب قد تناثر في أرجائه الزجاج من كل صنف، فأخذ من هذا الركن قبابة، ومن هذا الدرج بذوراً، ونفض التراب عن مجهره، وبدأ يمتحن موقع ظنه من الحقيقة، فأما أن ينصره، وإما أن يقهره.
إن (نيدم) لم يسخن حساءه تسخيناً كافياً - وقد يكون من بعض تلك الأحياء أو من بيضها ما يحتمل المقدار الكبير من الحرارة.
من يدري؟ وتناول اسبلنزاني قبابات من الزجاج كبيرة، عظيمة البطن، مستدقة العنق، وأخذ يغسلها ويدلكها ويدعكها، ثم جففها وصففها فبرقت على النضد فكانت كالجند لبس السلاح في ضحوة الصباح.
ثم جاء بأصناف مختلفة من البذور ووضع شيئاً من كل صنف في قبابه، ثم جاء بشيء من البسلة وشي من اللوز ووضع كلا في قبابه، ثم صب ماء في القبابات جميعا، ثم صاح: (ولآن لن أقع في الخطأ الذي وقع فيه (نيدم).
فلن أغلي هذه الأحسية دقائق بل ساعة كاملة)، وأوقد ناره، فلما تجهزت تساءل: (ولكن ماذا أصنع لسد هذه القبابات؟ أسدها بالفلين؟ ولكن هذه مهما أحمت فلعلها لا تمنع أصغر الأحياء أن يتسرب إلى الإناء).
وأخذ يفكر: (لا.
لا.
بل أسيح عنق القبابة في النار فألحمه لحماً، وأختم على الزجاجة ختماً، فلا تعود هنالك حاجة إلى الفلين، والزجاج لن يأذن لأصغر المكروب أن يتسرب خلاله). وهكذا تناول قباباته البارقة قبابة قبابة، وأدار عنقها الدقيق في اللهب حتى ساح والحتم؛ وكانت تسخن بعض هذه القبابات سخونة شديدة وهي في يده فتحرقها، فتسقط القبابة فتنكسر فيسخط ويلعن، ثم يبدلها بغيرها.
فلما أتم لحامها جميعاً صاح: (والآن فإلى نار شديدة).
وظل ساعات يرقب القبابات ترقص في ماء الغلايات ولم يغلها كلها مدة واحدة، فمن القبابات ما أغلاه دقائق.
ومنها ما أغلاه ساعة كاملة فلما بلغ منه الجهد، وضاقت عيناه من التعب، قام إلى أخيرة القبابات يخرجها من الماء والبخار يرتفع منها كأنها قطع اللحم المسلوق.
وجمع القبابات كلها واختزنها، واصطبر أياماً على أخر من الجمر يداور في رأسه ما عساه أن يحدث فيها، وقام بشيء آخر كدت أنساه، شيء بسيط جداً: قام يكرر ما صنع من جديد، فجهز عدداً من القبابات كالتي سلف ذكرها، ولكن بدل أن يلحم رقابها سدها بالفلين، ثم غلاها ساعة كاملة، ثم اختزنها ثم غاب عنها أياماً أمضاها في قضاء ألف مشغلة من مشاعل الحياة التي لم تكن تكفي لاستنفاد نشاطه الجم الكثير.
وكتب إلى العالم الطبيعي (بونت في سويسرا ينبئه بتجاربه، وقام إلى كرة القدم وأخذ نصيباً من اللعب، وضرب في الريف يطلب صيده، وذهب إلى البحر يتلهى بسمكة، وألقى دروساً في العلم، وحاضر طلبته في كل ما هب ودب، في كل ما ثقل من العلم وجف، وفي كل ما خف منه وطاب، ثم اختفى فجأة.
وتساءل الطلبة والأساتذة: (أين الأب اسبلنزاني؟) وتساءلت الهوانم أيضاً: (أين الأب اسبلنزاني؟) الأب اسبلنزاني ذهب إلى قباباته - 3 - ذهب أول شيء إلى قباباته الملحومة، وكسر رقابها واحدة بعد أخرى، وغاص في مرقها بأنبوبة طويلة رفيعة لينال منه شيئاً، ثم لينظر هل تكونت فيه تلك الأحياء الضئيلة على الرغم من تسخينه إياه طويلاً، وعلى الرغم من عزله إياه هذا العزل المحكم عن الهواء وما قد يعلق بترابه من الأحياء.
لم يكن اسبلنزاني في تلك الساعة اسبلنزاني المرح البشوش الضحوك.
كان في حركته بطء وفي وجهه وجوم.
كان يتحرك كرجل آلي صنعوه من الخشب، وأخذ ينقط من المرق القطرة بعد القطرة تحت عدسته وكانت تلك القطرات من القبابات الملحومة التي أغلاها ساعة كاملة، وكان جزاؤه على كل متاعبه أنه رأى - لا شيء! وبسرعة البرق توجه إلى القبابات التي لم يكن أغلاها غير دقائق، وإذا به يكسر رقابها، وإذا بقطرات منها تحت عدساته، وإذا به يصيح: (ماذا أرى!) رأى في مجال البصر الأدكن حييوينات صغيرة منثورة هنا وهنا تسبح وتلعب شرقاً وغرباً.
حقاً إنها لم تكن مكروبات كبيرة، ولكنها كانت مخلوقات صغيرة تجري فيها الحياة على كل حال.
وتمتم اسبلنزاني لنفسه: (إنها تسبح كالسمك! إنها صغيرة كالنمل!).
وغاب في التفكر ثم قال: (إن هذه القبابات الحمت الحاماً فما كان لشيء أن يستطيع دخولها من الهواء.
ومع هذا أجد تلك المخلوقات الصغيرة فيها.
لا شك أنها مخلوقات كانت موجودة في المرق، فلم يكف لقتلها اغلاء الماء دقائق قليل) وذهب بأيدٍ راجفة إلى صف القبابات التي سدها بالفلين - كما فعل خصيمه (نيدم) - ونزع سدادها واحدة بعد أخرى.
وما هي إلا ثوان حتى غاص بأنبوبته في مرقها، وما هي إلا ثوان أخرى حتى حدق بعدسته في قطرات منها.
وإذا به يثور ويصخب ويقوم عن كرسيه فيمسك بكراسة قديمة، فيكتب فيها على عجل ملاحظات مختصرة بخط كنبش الدجاج، لو استطعت قراءته لوجدت معناه أن إحدى هذه القبابات ذات السداد كانت تتنغش وتموج بالأحياء! حتى القبابات التي أغليت ساعة كاملة كانت (كالبحيرة تعج بالسمك الصغير والحوت الكبير).
وصاح يقول: (معنى كل هذا أن هذا (نيدم) جاء بتلك الأحياء التي طنطن بها من الهواء.
وهذه نتيجة خطيرة في ذاتها ولكن أخطر منها هذه الأحياء يصمد بعضها للماء المغلي زمناً.
فلا بد لقتله من إغلائه ساعة أو نحوها) كان هذا اليوم لاسبلنزاني من الأيام الضخمة العظيمة، وللدنيا من الأيام المذكورة المشهورة، ولو اسبلنزاني لم يكن يدرك كبره وخطره حق الإدراك.
إنه أثبت إثباتاً قاطعاً أن نظرية (نيدم) نظرية باطلة، وأن الحيوانات لا تنشأ في هذه الدنيا الجارية من العدم.
وأثبت ذلك بنفس اليقين الذي أثبت به (ريدي) العظيم أن الزعم بأن الذباب ينشأ من ذات نفسه في اللحم زعم فاسد وحسبان خاطئ.
وفعل اسبلنزاني فوق هذا، فقد خلص علم المكروب من ضياع محقق، وانتشله من خرافة كادت تؤدي به إلى النسيان فالعدم، فان العلميين كانوا قد بدأوا يعتبرون علم المكروب صنفاً من العرفان المدلس الذي لا يتقبل قواعد العلم الصحيحة وطرائقه المستقيمة واستدعى اسبلنزاني في هياجه أخاه نقولا وأخته كذاك، ليخبرهما بتجربته الرائعة.
وذهب بعيون واسعة إلى تلاميذه يخبرهما بأن الحياة لا تنتج إلا عن حياة، وأن كل حي لا بد له من أب، حتى تلك الأحياء الصغيرة الحقيرة! إلحم قبابتك بما فيها من المرق فلن يدخل إليها شيء.
وسخنها تسخيناً طويلا تقتل ما بها من الأحياء، حتى تلك التي تستعصي على التسخين الهين القصير! افعل ذلك وأنا ضمين لك ألا تجد بها حياً واحداً، واختزنها وأنا ضمين لك أن تبقى خلواً من الأحياء إلى يوم يبعثون.
ثم ترك تلاميذه وذهب فكتب مقالاً بارعاً لاذعاً توجه فيه إلى (نيدم) بالتقريع والسخرية.
فمال عالم العلم واضطرب، وثار واصطخب.
وتجمع المفكرون في الجمعيات العلمية بلندن وكوبنهاجن وباريس وبرلين، وتجمهروا في دورهم تحت أضواء المصابيح العالية وعلى أنوار الشموع الرفيعة، وأخذوا يتساءلون في لهفة: أيجوز حقاً أن يكون (نيدم) خاطئاً؟ ولم يقتصر الجدل الذي قام بين اسبلنزاني ونيدم على الأرستقراطية من العلماء، ولم يحتبس في قيعان الجمعيات العلمية النابهة، بل تسرب من خلال أبوابها الغليظة إلى الشوارع، وتحسس طريقه إلى الصالونات الفخمة، وودت الدنيا لو أن نيدم صادق، ومالت بقلبها إلى مؤازرته.
ذلك لأن الناس في القرن الثامن عشر كانوا يميلون إلى اللهو والدعابة، والى التحرر من كل شيء، والتشكك في كل شيء، والضحك من كل فكرة تنتسب للدين، ورفض أي سلطان يهيمن على الكون.
فلما جاءهم نيدم بأن الحياة تخرج اعتباطاً، وأن الشيء ينشأ من لا شيء.
صادفت الفكرة هوى في قلوبهم، فسروا منها، وضحكوا وسخروا من هذا الإله المزعوم الذي لا يستطيع حتى تنظيم كونه، والسيطرة على خليقته.
وساءهم أن تكون تجارب اسبلنزاني واضحة هذا الوضوح، ومقنعة هذا الإقناع، فلم يستطع دحضها حذاق الكلام، والبارعون في اللعب بالألفاظ (يتبع) أحمد زكي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢