تفسير سورة المؤمنون (8)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.

قال تعالى: قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:39-44].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لهذه الآيات ارتباط بما سبقها، ولذا فاسمعوا إلى الآيات التي سبقت، يقول تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31]، أي: أناساً وأمماً بعد قوم نوح، فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، والذي عليه الجمهور كما علمتم أنه هود عليه السلام، فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، يأمرهم ويقول لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32].

فبماذا أجاب الملأ من أعيان البلاد وأشرافها وأغنيائها؟ قال تعالى مصوراً ذلك: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ [المؤمنون:33]، أي: لا يؤمنون بالبعث ولا بالدار الآخرة، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، بالمال وسعة الرزق، فماذا قالوا؟ قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، فكيف تؤمنون برسالته ودعوته وتتركون ما عليه آباءكم وأجدادكم وتمشون وراءه؟! وقالوا: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، فهذه كلمات الملأ وأعيان البلاد المحافظين على الشرك والظلم، وقالوا أيضاً: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، والرسول كان يعدهم بذلك بإذن الله تعالى، إذ ما خلقنا في هذه الحياة إلا للعمل، ولم نخلق للثانية إلا للجزاء.

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:36]، وهذا من كلامهم عليهم لعائن الله تعالى، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، وقد عرفتم معنى: نموت ونحيا، أي: نحيا ونموت، أو كنا أمواتاً نطفاً وحينا، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ [المؤمنون:38]، أي: هذا الرسول الذي هو هود عليه السلام، افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:38]، وهذا هو كلام القوم، وقد كانوا منكرين للدعوة إلى الله تعالى، إذ إنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، وذلك من أجل أن يستمروا على الشر والباطل والخبث والفساد في هذه الحياة، ولو أنهم آمنوا بالجزاء في الدار الآخرة والله ما يجتمعون على الكفر والشرك والظلم والفساد.

وهنا قال الرسول: رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39]، فمن القائل؟ ابن جرير الطبري يقول: إنه صالح عليه السلام، والجمهور من أهل التفسير يقولون إنه هود، والراجح أنه هود عليه السلام؛ لأن الله لما ذكر الأنبياء في سورة الأعراف بدأ بنوح وثنى بهود ثم بصالح، ولما ذكر قصص القرآن في سورة هود عليه السلام بدأ بنوح ثم بهود ثم بصالح إلى غير ذلك، وهذا هو الواقع، فبعد أن أهلك الله قوم نوح جاءت أجيال ونشأ قوم آخرين، ووجد قوم عاد في الجنوب.

وابن جرير يرى أنه صالح لقول الله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون:41]، لكن الجمهور يقولون: أخذتهم الصيحة مع الرياح، أي: أخذتهم الصيحة والرياح تغمرهم، ولا مانع من هذا أبداً، ثم إن قوم صالح أصبحوا في ديارهم جاثمين على الركب، تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود:65] فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف:91]، وتشتتوا وتمزقوا وأصبحوا كالنخيل الميتة هنا وهناك.

وإليكم ما قلته في الهامش أو في نهر الخير: ويرى الجمهور من المفسرين على أن القصص المذكور هناك ما هو في سائر السور هو قصص هود عليه السلام، وذهب ابن جرير وبعض آخر إلى أنه قصة صالح لقرينة: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون:41]، وقال الجمهور: يمكن أن تكون الصيحة ضمن عواصف الريح العظيم التي أرسلها تعالى على قوم هود، فأخذتهم فهلكوا بها، والرياح عصفت بهم فمزقت وشتت شملهم، وهذا هو كما علمتم.

قَالَ رَبِّ [المؤمنون:39]، من القائل؟ هود عليه السلام، وقال: رب! ولم يقل: يا رب! لأن يا رب! نداء للبعيد، ومعروف أن الله عز وجل أقرب إلينا من حبل الوريد، فكيف نقول: يا رب؟! ومن قال: يا رب! فله ذلك، لكن هو لم يقل: يا ربي! لقربه منه، قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39]، بسبب تكذيبهم انصرني عليهم، فأهلكهم ودمرهم وأبقني أنا والمؤمنين الصالحين.

فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون:40]، أي: فترة من الزمن ما هي بعيدة، لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40]، وفعلاً أصبحوا نادمين، إذ أرسل عليهم رياحاً عاصفة في سبع ليال وثمانية أيام، واقرءوا الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:1-8]؟ اللهم لا.

قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون:41]، فأهلكهم الله تعالى، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً [المؤمنون:41]، والغثاء يتكون عندما يسيل السيل فيجمع الحطب والعيدان والأخشاب والنبات اليابس، فذلكم هو الغثاء، فهم أصبحوا كذلك الغثاء، مع أنهم جبابرة وطغاة، وقد كان طول الرجل منهم ستون ذراعاً كما كان آدم عليه السلام.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون:41]، وقد قلنا كما قال أهل العلم: أخذتهم الصيحة مع العواصف، وذلك لأنهم مستحقون لتلك الصيحة، فأهلكهم الله ودمرهم لعنادهم وكفرهم وتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحاربتهم لدين الله تعالى.

فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً [المؤمنون:41]، أي: كغثاء السيل، فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:41]، أي: دعا عليهم أن بعداً للقوم الظالمين، ونحن نقول دائماً: بعداً للقوم الظالمين، فاللهم أبعدهم عنا، ومن هم الظالمون؟ أولاً القاعدة التي عرفناها في اللغة: أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والبشرية خلقت من أجل ماذا؟ لأجل عبادة الله تعالى، إذ لو سألت الله تعالى: يا رب! لم خلقتني؟ فالجواب: لتعبدني، إذ قال تعالى في كتابه العزيز: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57].

والإنسان إذا لم يعبد الله عز وجل وعبد غيره فهو كالعلمانيين، وقد ظلم ربه عز وجل، إذ الله خلقه ورزقه وحفظه وأوجد الحياة كلها من أجله ليعبده، فإذا لم يعبده فهذا من أفظع الظلم، ثم إذا كان يعبد معه غيره من الأصنام واللات والعزى وعيسى وأمه، فقد وضع العبادة في غير موضعها، إذ العبادة وضعها الحقيقي يكون لله الخالق المدبر الحكيم، أما غير الله من نبي أو ملك أو عبد صالح فلا حق له في تلك العبادة، وصرفها له والله لظلم، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وبالتالي فكل المشركين والكافرين ظالمون، بل وكل من أعرض عن ذكر الله وشكره فهو ظالم، إذ العلة في هذه الحياة وسبب هذا الوجود هو أن يذكر الله ويشكر تحت عنوان: العبادة.

فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:41]، أي: هلاكاً لهم وبعداً.

ثم قال تعالى بعد أن بين لنا ما تم لعاد مع نبيها هود عليه السلام وهو الدمار والخراب، ونجاة هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ [المؤمنون:42]، أي: أنشأنا من بعدهم أمماً أخرى غير التي هلكت، ومنها: قوم ثمود، لعلمنا اليقيني أن عاداً كانت في الجنوب في حضرموت وما حوليها، فلما أهلكهم الله تعالى خرج المؤمنون من هناك واتجهوا شمالاً، فمنهم من نزل بمكة، ومنهم من نزلوا بمدائن صالح، وتكونت هناك جماعة أمة ودولة وجماعة، وأصبحوا أقوياء جبابرة، ومن ثم أرسل الله إليهم صالحاً فيهم ومنهم، وذلك ليعلمهم كيف يعبدون الله تعالى؟ فرفضوا عبادة الله تعالى وكفروا بها، فأخذتهم الصيحة فدمروا وهلكوا.

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ [المؤمنون:42]، وقد عرفنا أن القرن هو مائة سنة، والذين يوجدون في القرن يقال فيهم: قرن، فهم أمم وقرون وأقوام، كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم هود وقوم شعيب.

ثم قال تعالى يقرر هذه الحقيقة: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [المؤمنون:43]، أي: أنه كتاب المقادير أو في اللوح المحفوظ قد كتب الله كل ما أراد أن يخلقه ويوجده في هذا الكون، ولا عجب في هذا كما علمتم، فالمهندس المعماري يضع بين يديه طاولة فوقها ورقة ويرسم ما شاء من عمارات ومن دور ومن أسواق ومن مدن، ولقدرته المالية ينفذ ذلك كما رسم ولا يتخلف شيئاً، فالله تبارك وتعالى أول ما خلق خلق القلم، ثم قال له: اكتب، قال: ما اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وبالتالي فما من شعب ولا أمة ولا جيل ولا قوم ولا قرن إلا وهم مكتوبون من البداية إلى النهاية، متى يوجدون؟ ومتى يعدمون؟ ولا يمكن أن يتخلف ما كتبه الله بدقيقة ولا يتقدم بأخرى، إذ لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون أبداً، ولو كان يقع التقديم والتأخير لاضطرب العالم وهلك، بل ما تنتظم الحياة عشرات الآلاف من السنين، لكن ما دام النظام الدقيق العجيب إذاً تمشي الحياة بنظامها إلى آخر ساعة من حياتها.

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا [المؤمنون:43]، أي: المؤجل والمؤقت والمحدد لها باللحظة، وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [المؤمنون:43] كذلك، فإذا أمة من الأمم ظلمت ما تقول: لم ما نزل بها العذاب الآن أو أمس أو العام الماضي؟ لأن العذاب مؤجل ومحدد بوقت محدد، وبالتالي فلابد وأن يتم الموعد، هكذا يقول تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [المؤمنون:43]، أي: عن أجلها.

ثم يقول تعالى علم آخر: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون:44]، أي: يتبع بعضها بعضا، فنوح ثم هود ثم صالح ثم إبراهيم ثم شعيب ثم لوط وهكذا، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، أو موسى ثم هارون ثم داود ثم سليمان ثم عيسى، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون:44]، أي: يتبع بعضها بعضا، وجيلاً بعد جيل، ثم اسمع ماذا قال تعالى؟ قال: كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ [المؤمنون:44]، أي: كل ما جاء أمة من الأمم رسولها كذبوه، ولا عجب، ما كذب الناس محمداً حتى تشك بالسابقين؟

كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ [المؤمنون:44]، فالآن من الصين إلى اليابان إلى الأمريكان كلهم وأغلبهم يعلم أن محمداً رسول الله، وأنه رسول الله من عند الله تعالى، وأن الدين الذي جاء به هو دين الحق، ولكن لا يستجيبون حفاظاً على دينهم وباطلهم وشركهم كالأولين، وقلَّ من لا يعرف أن محمداً رسول الله، وخاصة في هذه السنين التي انتشر فيها العلم في العالم، وقبل هذا فقد بلغهم أصحاب رسول الله الدعوة فرفضوها.

كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ [المؤمنون:44]، إذاً، فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [المؤمنون:44]، أحاديث جمع: أحدوثة، وهي ما يتحدث به الناس ويتهكمون ويخبرون به.

وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:44]، وهذه دعوة على قوم لا يؤمنون إلى يوم القيامة، أي: بعداً لهم وسحقاً لأنهم كفروا بخالقهم وعبدوا غيره، فلم لا يستحقون البعد في جهنم والعياذ بالله؟

يقول تعالى: قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [المؤمنون:39-44]، لمن يأتي بعدهم، وذلك بعد إهلاكنا إياهم، فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:44].

إليكم الآن شرح هذه الآيات من الكتاب فتأملوها.

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات:

هذا ما قاله هود عليه السلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين ] ماذا قال هود؟ [ قَالَ رَبِّ [المؤمنون:26]، أي: يا رب! انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39]. أي: بسبب تكذبيهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك وعبادة غيرك، فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40] ]، وفعلاً أجابه ربه عز وجل، فهم عما قليل من الزمن ليصبحن وربنا والله لنادمين، [ أي: بعد قليل من الوقت، وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين، أي: ليصيرن نادمين على كفرهم بي، وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك، ولم يمض إلا قليل من الزمن حتى أخذتهم الصيحة] صيحة الهلاك [ ضمن ريح صرصر في أيام نحسات، فإذا هم غثاء كغثاء السيل لا حياة فيهم، ولا فائدة ترجى منهم.

فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:41]، أي: هلاكاً للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي ]. بعداً لمن؟ للظالمين، بماذا ظلموا؟ بشركهم وتكذيبهم وبعصيانهم لله ورسوله.

قال: [ وقوله تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ [المؤمنون:42]، أي: ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عاداً أهل قرون آخرين، كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب عليهم السلام.

وقوله تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [المؤمنون:43]، أي: إن كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها، أي: وقتها المحدود لها فتتقدمه، كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال من الأحوال ]. لما علمتم من دقة النظام.

[ وقوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون:44]، أي: يتبع بعضها بعضاً، كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا [المؤمنون:44] ]، بالدمار والهلاك والخراب والعياذ بالله، [ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون:44]، أي: يتبع بعضها بعضاً، كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا [المؤمنون:44]، أي: في الهلاك، فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله ربها والإنابة إليه تعالى أهلكها.

وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [المؤمنون:44]، أي: لمن بعدهم، يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم ]، وما تم لهم وما كان فيه، [ فَبُعْدًا [المؤمنون:44]، أي: هلاكاً منا، لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:44] في هذا تهديد قوي لقريش ]، أي: لكفار قريش، [ المصرة على الشرك والتكذيب والعناد، وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منهم في بدر ].

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: استجابة الله دعوة المظلومين من عباده لاسيما إن كانوا عباداً صالحين ]. استجابة الله لدعوة عباده المؤمنين إذا ظُلموا، وبالتالي فأيما مؤمن أو مؤمنة أو جماعة أو أمة ظلموا ورفعوا أيديهم إلى الله تعالى، إلا انتقم الله لهم من أعدائهم، وقد علمنا أن الرسول الكريم قال: ( دعوة المظلوم لا ترد، وليس بينها وبين الله حجاب )، فإذا ظُلم أحد من طغاة أو جبابرة أو ظلمة ودعا عليهم، فإن الله عز وجل يهلكهم، فلهذا يحذر المؤمنون بعضهم بعضاً من أن يعيشوا على الظلم.

[ ثانياً: الآجال للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه ] الآجال للأفراد أو للجماعات أو للأمم [ وهي المواعيد المؤقتة لا تتقدم ولا تتأخر] فلو تجتمع البشرية كلها على أن تقتل رجلاً لم يحن وقت قتله والله ما قدروا ولا استطاعوا، ولو أرادوا أن يبقوا على حياة رجل فمهما بذلوا والله ما استطاعوا، إذ ما هي إلا المواعيد الإلهية المؤقتة، فإذا دقت الساعة هلك العبد، أحب الناس أم كرهوا، ولا تشكن في مثل هذا أبداً، وقد بينت لكم فقلت: لو كان يجوز التقديم والتأخير لاضطرب العالم عاماً أو عامين أو ألف سنة ثم يخرب كله، لكنه بنظام دقيق ومحكم، فهذا يولد الليلة وهذا يولد بعد غد، وهذا يموت غداً وهذا بعد غد، ولا يمكن أن يختلطوا، وبذلك تستمر الحياة إلى آخر أيامها.

[ ثالثاً: تقرير حقيقة تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند نزول العذاب بها إلاّ المؤمنون مع رسولهم ]. وهذه قاعدة عامة، فالأمم السابقة قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا كذبت رسولها وكفرت بدعوته يهلكها الله، وينجي الله الرسول والمؤمنين معه، وقد تم هذا مع كل الأنبياء والمرسلين، وذلك لما يرسل الله عز وجل الرسول إلى أمة أو إلى قوم يدعوهم إلى الله ليعبدوه وحده، ويطيعوه في أمره ونهيه، وذلك ليكملوا ويسعدوا، فإذا رفضوا وعاندوا يدمرهم بما شاء من أنواع الهلاك والدمار، ولم تنج من هذا إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لحكمة عالية ألا وهي: أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي آخر الرسالات، وهو آخر رسول، فإذا أخذ الله هذه الأمة ما بقي من يعبد الله بعد ذلك، ومن هنا يحفظ الله هذه الأمة فلا يهلكها بالهلاك العام والدمار الكامل؛ لتبقى الحجة لله تعالى على الناس أجمعين.

ومن هنا: لا تزال طائفة من أمة محمد ظاهرين على الحق منصورين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون؛ لتقوم الحجة لله تعالى على الخلق، إذ لو انتهى من يعرف الله ما بقي؟ إما أن يبعث الله رسولاً، وإما ألا يهلكهم، فإن أهلكهم فقد ظلمهم وحاشاه أن يظلم، فهل فهمتم السر؟ فلهذا لا تزال طائفة من هذه الأمة -تقل وتكثر بحسب الظروف- ظاهرة منصورة حتى يأتي أمر الله وهو يوم القيامة، وذلك لتقوم الحجة لله على البشرية؛ لأنه لو مات العلماء والعارفون بالله لبقي الجاهل والعامي، والأجيال التي تأتي معذورة، إذ إنها ستقول: ما بلغتنا أي دعوة، ما عرفنا كيف نعبد الله؟ فمن هنا تبقى هذه الأمة.

[ رابعاً: كرامة هذه الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكاً عاماً، بل تبقى بقاء الحياة، تقوم بها الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة ]. وكما علمتم بأن السر في بقاء هذه الأمة وإن كفرت برسولها وحاربته، وخرجت عن طاعته -كما هو مشاهد- لكن الله رحمة بهم ما أهلكهم بالهلاك العام، وإنما أبقاهم ليؤمن من يؤمن، وليستمر على الكفر من يستمر، فحجة الله للبشرية أن رسالة محمد باقية، فهذا القرآن وهذه أحاديث الرسول، وهؤلاء العالمون من الرجال والنساء، وبذلك تقوم الحجة على كل إنسان عربياً كان أو عجمياً.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.