رمضان والرحيل المر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه ليلة الثلاثاء الموافق للسادس عشر من شهر شوال للعام (1416هـ) وفي هذا الجامع المبارك في مدينة الرس، ومع هذا الموضوع والذي هو بعنوان: (رمضان والرحيل المر).

وها هو نصف شهر -أيها الأحبة- يمضي بعد رحيلك أيها الحبيب رمضان، ويا لها من أيام مرة المذاق!

ليسأل كل إنسان منا نفسه: كيف حالكِ أيتها النفس بعد رمضان؟!

أيها الإخوة والأخوات! لقد تعمدت تأخير هذا الموضوع إلى هذه الأيام؛ لنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان، رغم أنه لم يمض عليه سوى أيام.

إيه أيتها النفس! كنت قبل أيام في صلاة وقيام، وتلاوة وصيام، وذكر ودعاء، وصدقة وإحسان، وصلة للأرحام، قبل أيام كنا نشعر برقة القلوب واتصالها بعلام الغيوب، كانت تتلى علينا آيات القرآن؛ فتخشع القلوب وتدمع العيون، فنزداد إيماناً وخشوعاً وإخباتاً لله سبحانه وتعالى، ذقنا حلاوة الإيمان، وعرفنا حقيقة الصيام، ذقنا لذة الدمعة، وحلاوة المناجاة في السحر .. كنا نصلي صلاة من جعلت قرة عينه في الصلاة، وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه، وكنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر، كنا وكنا مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك العظيم الذي رحل عنا.

وهكذا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه، حتى قال قائلنا: يا ليتني مت على هذه الحال؛ لما يشعر به من حلاوة الإيمان ولذة الطاعة.

فتذكرت حينها قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما بكى في مرض موته، فسئل: ما الذي يبكيك؟ فقال رضي الله عنه: [إنما أبكي؛ لأنه أصابني في حال فترة -أي الموت- ولم يصبني في حال اجتهاد] كما في مجمع الزوائد للهيثمي .

تقصير النفس وتفريطها بعد رمضان

وهكذا مضت الأيام ورحل رمضان، ثم ماذا؟

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما رجع تارك الصلاة لتركه، وآكل الربا لأكله، وسامع الغناء لسماعه، ومشاهد الفحش لفحشه، وشارب الدخان لشربه.

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما نسينا لذة الصيام، فلا الست من شوال ولا الخميس والاثنين ولا الثلاثة الأيام.

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما لم نذق فيها طعم القيام.

سبحان الله! أين ذلك الخشوع، وتلك الدموع في السجود والركوع؟ أين ذلك التسبيح والاستغفار؟ وأين تلك المناجاة لله الواحد القهار؟

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما هجرنا القرآن، وقد كنا نقرأ بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وفي الليل والنهار، وها هو نصف شهر مضى فكم قرأنا فيه من القرآن؟

خليلي شهر الصوم زُمَّت مطاياه     وسارت وفود العاشقين بمسراه

فيا شهر لا تبعد لك الخير كله     وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه

نشرق بدموع الفراق أيها الأحبة! فلا نستطيع أن نبث المشاعر والآلام والأحزان، لما نجده من فقد لذة الطاعة، وحلاوة الإيمان، هكذا حال الدنيا اجتماع وافتراق، ومن منا لا تؤلمه لحظات الفراق ودموع العناق؟!

رمضان أيها الصديق! أيها الجليس الصالح! أيها الحبيب!

أحس بجرحي يا صديقي كأنه     يدب إلى أعماق قلبي ويوغل

ونفسي أمام المغريات قوية     ولكنها عند الأحبة تسهل

كأن فؤادي لو تأملت ما بـه     بما فيه من شتى المشاعر معمل

رمضان كيف ترحل عنا وقد كنت خير جليس لنا؟! بفضل ربنا كنت عوناً لنا، ونحن بين قارئ وصائم ومنفق وقائم، وباكٍ ودامع، وداعٍ وخاشع.

رمضان فيك المساجد تعمر، والآيات تذكر، والقلوب تجبر، والذنوب تغفر، كنت للمتقين روضةً وأنساً، وللغافلين قيداً وحبساً، كيف ترحل عنا وقد ألفناك وعشقناك وأحببناك؟!

رمضان ألا تسمع لأنين العاشقين وآهات المحبين؟!

اسمع أنين العاشقين إن استطعت له سماعا

راح الحبيب فشيعته مدامع ذرفت سراعا

لو كلف الجبل الأصم فراق إلف ما استطاعا

كلمات مضيئة في رحيل رمضان

قال ابن رجب في وداع رمضان، واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله تعالى عليهم كيف كانت تتخرق لفراق هذا الشهر:

يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق،

عسى وعسى من قبل يوم التفرق     إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي

فيجبر مكسور ويقبل تائـب     ويعتق خطاء ويسعد من شقي

انتهى كلامه رحمه الله.

رحلت يا رمضان! والرحيل مر على الصالحين، فابكوا عليه بالأحزان وودعوه، وأجروا لأجل فراقه الدموع وشيعوه.

دع البكاء على الأطلال والدار     واذكر لمن بان من خل ومن جار

وذر الدموع نحيباً وابك من أسف     على فراق ليال ذات أنوار

على ليال لشهر الصوم ما جُعلت     إلا لتمحيص آثام وأوزار

يا لائمي في البكاء زدني به كلفاً     واسمع غريب أحاديث وأخبار

ما كان أحسننا والشمل مجتمع     منا المصلي ومنا القانت القاري

وهكذا مضت الأيام ورحل رمضان، ثم ماذا؟

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما رجع تارك الصلاة لتركه، وآكل الربا لأكله، وسامع الغناء لسماعه، ومشاهد الفحش لفحشه، وشارب الدخان لشربه.

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما نسينا لذة الصيام، فلا الست من شوال ولا الخميس والاثنين ولا الثلاثة الأيام.

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما لم نذق فيها طعم القيام.

سبحان الله! أين ذلك الخشوع، وتلك الدموع في السجود والركوع؟ أين ذلك التسبيح والاستغفار؟ وأين تلك المناجاة لله الواحد القهار؟

رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما هجرنا القرآن، وقد كنا نقرأ بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وفي الليل والنهار، وها هو نصف شهر مضى فكم قرأنا فيه من القرآن؟

خليلي شهر الصوم زُمَّت مطاياه     وسارت وفود العاشقين بمسراه

فيا شهر لا تبعد لك الخير كله     وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه

نشرق بدموع الفراق أيها الأحبة! فلا نستطيع أن نبث المشاعر والآلام والأحزان، لما نجده من فقد لذة الطاعة، وحلاوة الإيمان، هكذا حال الدنيا اجتماع وافتراق، ومن منا لا تؤلمه لحظات الفراق ودموع العناق؟!

رمضان أيها الصديق! أيها الجليس الصالح! أيها الحبيب!

أحس بجرحي يا صديقي كأنه     يدب إلى أعماق قلبي ويوغل

ونفسي أمام المغريات قوية     ولكنها عند الأحبة تسهل

كأن فؤادي لو تأملت ما بـه     بما فيه من شتى المشاعر معمل

رمضان كيف ترحل عنا وقد كنت خير جليس لنا؟! بفضل ربنا كنت عوناً لنا، ونحن بين قارئ وصائم ومنفق وقائم، وباكٍ ودامع، وداعٍ وخاشع.

رمضان فيك المساجد تعمر، والآيات تذكر، والقلوب تجبر، والذنوب تغفر، كنت للمتقين روضةً وأنساً، وللغافلين قيداً وحبساً، كيف ترحل عنا وقد ألفناك وعشقناك وأحببناك؟!

رمضان ألا تسمع لأنين العاشقين وآهات المحبين؟!

اسمع أنين العاشقين إن استطعت له سماعا

راح الحبيب فشيعته مدامع ذرفت سراعا

لو كلف الجبل الأصم فراق إلف ما استطاعا

قال ابن رجب في وداع رمضان، واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله تعالى عليهم كيف كانت تتخرق لفراق هذا الشهر:

يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق،

عسى وعسى من قبل يوم التفرق     إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي

فيجبر مكسور ويقبل تائـب     ويعتق خطاء ويسعد من شقي

انتهى كلامه رحمه الله.

رحلت يا رمضان! والرحيل مر على الصالحين، فابكوا عليه بالأحزان وودعوه، وأجروا لأجل فراقه الدموع وشيعوه.

دع البكاء على الأطلال والدار     واذكر لمن بان من خل ومن جار

وذر الدموع نحيباً وابك من أسف     على فراق ليال ذات أنوار

على ليال لشهر الصوم ما جُعلت     إلا لتمحيص آثام وأوزار

يا لائمي في البكاء زدني به كلفاً     واسمع غريب أحاديث وأخبار

ما كان أحسننا والشمل مجتمع     منا المصلي ومنا القانت القاري

الناس بعد رمضان فريقان: فائزون وخاسرون، فيا ليت شعري من هذا الفائز منا فنهنيه؟ ومن هذا الخاسـر فنعزيه؟!

حال الصالحين الفائزين

رحل رمضان ورحيله مر على الجميع، الفائزين والخاسرين، الرحيل مر على الفائزين؛ لأنهم فقدوا أياماً ممتعة، وليالي جميلة، نهارها صدقة وصيام، وليلها قراءة وقيام، نسيمها الذكر والدعاء، وطيبها الدموع والبكاء، شعروا بمرارة الفراق؛ فأرسلوا العبرات والآهات، كيف لا وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟!

كيف لا والدعاء فيه مسموع، والضر مدفوع، والخير مجموع؟!

كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا نعلم أمن المقبولين نحن أم من المطرودين؟!

كيف لا نبكي على رحيله -أيها الأحبة- ونحن لا ندري أيعود ونحن في الوجود أم في اللحود؟!

الفائزون من خشية ربهم مشفقون! نعم. هم فائزون ولكنهم من خشية ربهم مشفقون وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] على رغم أنهم في نهاره في صيام وقراءة قرآن وإطعام وإحسان، وفي ليله سجود وركوع وبكاء وخشوع، وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكر واستغفار.

الفائزون شمروا عن سواعد الجد؛ فاجتهدوا واستغفروا وأنابوا ورجعوا، ما تركوا بابـاً من أبواب الخير إلا ولجوه، ولكن مع ذلك كله، قلوبهم وجلة خائفة بعد رمضان؛ أقبلت أعمالهم أم لا؟ أكانت خالصةً لله أم لا؟ أكانت على الوجه الذي ينبغي أم لا؟

كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحملون همّ قبول العمل أكثر من همّ القيام بالعمل نفسه، قال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوا وقع عليهم الهم! أيقبل منهم أم لا؟ لا يغفلون عن رمضان، فإذا فعلوا وانتهوا يقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا؟

و قال علي رضي الله تعالى عنه: [كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا لقول الحق عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]].

و قال مالك بن دينار : [الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل].

وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان ينادي في آخر رمضان: [يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟].

و عن ابن مسعود أنه قال: [من هذا المقبول منا فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟].

أيها المقبول هنيئاً لك! أيها المردود جبر الله مصيبتك!

ليت شعري من فيه يقبل منـا     فيهنى يا خيبة المردود

من تولى عنه بغير قبول     أرغم الله أنفه بخزي شديد

فيا ليت شعري -أيها الأحبة- بعد هذه الأيام مَن مِنا أشغله هذا الهاجس وقد مضى نصف شهر على رحيل رمضان؟ من منا أشغله هاجس هل قبلت أعماله أم لا؟ هل نحن من الفائزين في رمضان أم لا؟! من منا لسانه يلهج بالدعاء أن يقبل الله منه رمضان؟!

إننا نقرأ ونسمع أن سلفنا الصالح كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يقبل الله منهم رمضان، ونحن لم يمض على رحيله سوى أيام فهل دعونا أم لا؟ أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه وكأننا أزحنا حملاً ثقيلاً كان جاثماً على صدورنا؟!

نعم. رحل رمضان، لكن ماذا استفدنا من رمضان؟ وأين آثاره على نفوسنا وسلوكنا وأقوالنا وأفعالنا؟

هكذا حال الصالحين العاملين، فهم في رمضان صيام وقيام، وتقلب في أعمال البر والإحسان، وبعد رمضان محاسبة للنفس، وتقدير للربح والخسران، وخوف من عدم قبول الأعمال، لذا فألسنتهم تلهج بالدعاء والإلحاح بأن يقبل الله منهم رمضان.

حال المفرطين الخاسرين

أما المفرطون -نعوذ بالله من حالهم- فهم نوعان:

أناس قصروا فلم يعملوا إلا القليل، نعم. صلوا التراويح والقيام سراعاً، فهم لم يقوموا إلا القليل، ولم يقرءوا من القرآن إلا القليل، ولم يقدموا من الصلوات إلا القليل، الصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها، والصيام يئن من تجريحه وتضييعه، والقرآن يشكو من هجره ونثره، والصدقة ربما يتبعها مَنٌّ وأذى، الألسن يابسة من ذكر الله، غافلة عن الدعاء والاستغفار، فهم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان، لكن فطرة الخير تجذبهم، فتغلبهم تارةً ويغلبونها تارات، فهم يصلون التراويح، لكن قلوبهم معلقة بالرياضة، ومشاهدة المباريات، ورمضان هذا العام يشهد بمثل ذلك.

سبحان الله! حتى في رمضان، حتى في العشر الأواخر وهي أفضل الأيام!

سبحان الله! كيف أصبحت الرياضة تعبد من دون الله؟! -لا حول ولا قوة إلا بالله- هم يقرءون القرآن في النهار، لكنهم يصارعون النوم بعد ليالي من السهر والتعب والإرهاق من الدورات الرياضية والجلسات الفضائية، أما الصلاة: فصلاة الظهر عليها السلام، وربما العصر .. بل وربما الفجر؛ كل ذلك بسبب التعب والإرهاق -كما يقولون- فهؤلاء لم ينتبهوا إلا والحبيب يرحل عنهم؛ فتجرعوا مرارة الرحيل، بكاء وندماً، حزنوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد فوات الأوان، بعد أن انقضت أفضل الأيام.

أما النوع الثاني من المفرطين فهم الخاسرون -نعوذ بالله من الخسران- فهناك من لم يقم رمضان، ولم يقرأ القرآن، وربما لم يصم في رمضان، فنهاره ليل وليله ويل، لا الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها، فمتى يصلح من لا يصلح في رمضان؟! متى يصح من كان من داء الجهالة والغفلة مَرْضان؟! متى يزرع من فرط في وقت البذار، فلم يحصد غير الندم والخسار؟!

مساكين هؤلاء! فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان؛ فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، لا صيام ينفع ولا قيام يشفع، قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، حالها في رمضان كحال أهل الشقوة، لا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينـزجر فيلحق بالصفوة.

أيها الخاسر! رحل رمضان وهو يشهد عليك بالخسران؛ فأصبح لك خصماً يوم القيامة! رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن؛ فيا ويل من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان!

فيا من فرط في عمره وأضاعه! كيف ترجو الشفاعة؟ أتعتذر برحمة الله؟ أتقول لنا: إن الله غفور رحيم؟ نعم. لكن إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] العاملين بالأسباب .. الخائفين المشفقين.

سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجمـاعات، فقال رضي الله تعالى عنه: [هو في النار].

و في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: (آمين.. آمين.. آمين.. قيل: يا رسول الله! إنك صعدت المنبر فقلت: آمين. آمين. آمين. قال: إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له؛ فدخل النار فأبعده الله -فكم هم أولئك المبعدين عن رحمة الله؟- قل: آمين. فقلت: آمين ...) إلى آخر الحديث.

فيا أيها الخاسر! نعم. رحل رمضان وربما خسرت خسارةً عظيمة، ولكن الحمد لله، فما زال الباب مفتوحاً والخير مفسوحاً، وقبل غرغرة الروح، ابكِ على نفسك وأكثر النوح، وقل لها:

ترحل الشهر وا لهفاه وانصرما     واختص بالفوز في الجنات من خدما

وأصبح الغافل المسكين منكسراً     مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما

من فاته الزرع في وقت البذار فما     تراه يحصد إلا الهم والندما

طوبى لمن كانت التقوى بضاعته     في شهره وبحبل الله معتصما

رحل رمضان ورحيله مر على الجميع، الفائزين والخاسرين، الرحيل مر على الفائزين؛ لأنهم فقدوا أياماً ممتعة، وليالي جميلة، نهارها صدقة وصيام، وليلها قراءة وقيام، نسيمها الذكر والدعاء، وطيبها الدموع والبكاء، شعروا بمرارة الفراق؛ فأرسلوا العبرات والآهات، كيف لا وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟!

كيف لا والدعاء فيه مسموع، والضر مدفوع، والخير مجموع؟!

كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا نعلم أمن المقبولين نحن أم من المطرودين؟!

كيف لا نبكي على رحيله -أيها الأحبة- ونحن لا ندري أيعود ونحن في الوجود أم في اللحود؟!

الفائزون من خشية ربهم مشفقون! نعم. هم فائزون ولكنهم من خشية ربهم مشفقون وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] على رغم أنهم في نهاره في صيام وقراءة قرآن وإطعام وإحسان، وفي ليله سجود وركوع وبكاء وخشوع، وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكر واستغفار.

الفائزون شمروا عن سواعد الجد؛ فاجتهدوا واستغفروا وأنابوا ورجعوا، ما تركوا بابـاً من أبواب الخير إلا ولجوه، ولكن مع ذلك كله، قلوبهم وجلة خائفة بعد رمضان؛ أقبلت أعمالهم أم لا؟ أكانت خالصةً لله أم لا؟ أكانت على الوجه الذي ينبغي أم لا؟

كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحملون همّ قبول العمل أكثر من همّ القيام بالعمل نفسه، قال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوا وقع عليهم الهم! أيقبل منهم أم لا؟ لا يغفلون عن رمضان، فإذا فعلوا وانتهوا يقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا؟

و قال علي رضي الله تعالى عنه: [كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا لقول الحق عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]].

و قال مالك بن دينار : [الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل].

وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان ينادي في آخر رمضان: [يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟].

و عن ابن مسعود أنه قال: [من هذا المقبول منا فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟].

أيها المقبول هنيئاً لك! أيها المردود جبر الله مصيبتك!

ليت شعري من فيه يقبل منـا     فيهنى يا خيبة المردود

من تولى عنه بغير قبول     أرغم الله أنفه بخزي شديد

فيا ليت شعري -أيها الأحبة- بعد هذه الأيام مَن مِنا أشغله هذا الهاجس وقد مضى نصف شهر على رحيل رمضان؟ من منا أشغله هاجس هل قبلت أعماله أم لا؟ هل نحن من الفائزين في رمضان أم لا؟! من منا لسانه يلهج بالدعاء أن يقبل الله منه رمضان؟!

إننا نقرأ ونسمع أن سلفنا الصالح كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يقبل الله منهم رمضان، ونحن لم يمض على رحيله سوى أيام فهل دعونا أم لا؟ أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه وكأننا أزحنا حملاً ثقيلاً كان جاثماً على صدورنا؟!

نعم. رحل رمضان، لكن ماذا استفدنا من رمضان؟ وأين آثاره على نفوسنا وسلوكنا وأقوالنا وأفعالنا؟

هكذا حال الصالحين العاملين، فهم في رمضان صيام وقيام، وتقلب في أعمال البر والإحسان، وبعد رمضان محاسبة للنفس، وتقدير للربح والخسران، وخوف من عدم قبول الأعمال، لذا فألسنتهم تلهج بالدعاء والإلحاح بأن يقبل الله منهم رمضان.

أما المفرطون -نعوذ بالله من حالهم- فهم نوعان:

أناس قصروا فلم يعملوا إلا القليل، نعم. صلوا التراويح والقيام سراعاً، فهم لم يقوموا إلا القليل، ولم يقرءوا من القرآن إلا القليل، ولم يقدموا من الصلوات إلا القليل، الصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها، والصيام يئن من تجريحه وتضييعه، والقرآن يشكو من هجره ونثره، والصدقة ربما يتبعها مَنٌّ وأذى، الألسن يابسة من ذكر الله، غافلة عن الدعاء والاستغفار، فهم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان، لكن فطرة الخير تجذبهم، فتغلبهم تارةً ويغلبونها تارات، فهم يصلون التراويح، لكن قلوبهم معلقة بالرياضة، ومشاهدة المباريات، ورمضان هذا العام يشهد بمثل ذلك.

سبحان الله! حتى في رمضان، حتى في العشر الأواخر وهي أفضل الأيام!

سبحان الله! كيف أصبحت الرياضة تعبد من دون الله؟! -لا حول ولا قوة إلا بالله- هم يقرءون القرآن في النهار، لكنهم يصارعون النوم بعد ليالي من السهر والتعب والإرهاق من الدورات الرياضية والجلسات الفضائية، أما الصلاة: فصلاة الظهر عليها السلام، وربما العصر .. بل وربما الفجر؛ كل ذلك بسبب التعب والإرهاق -كما يقولون- فهؤلاء لم ينتبهوا إلا والحبيب يرحل عنهم؛ فتجرعوا مرارة الرحيل، بكاء وندماً، حزنوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد فوات الأوان، بعد أن انقضت أفضل الأيام.

أما النوع الثاني من المفرطين فهم الخاسرون -نعوذ بالله من الخسران- فهناك من لم يقم رمضان، ولم يقرأ القرآن، وربما لم يصم في رمضان، فنهاره ليل وليله ويل، لا الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها، فمتى يصلح من لا يصلح في رمضان؟! متى يصح من كان من داء الجهالة والغفلة مَرْضان؟! متى يزرع من فرط في وقت البذار، فلم يحصد غير الندم والخسار؟!

مساكين هؤلاء! فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان؛ فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، لا صيام ينفع ولا قيام يشفع، قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، حالها في رمضان كحال أهل الشقوة، لا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينـزجر فيلحق بالصفوة.

أيها الخاسر! رحل رمضان وهو يشهد عليك بالخسران؛ فأصبح لك خصماً يوم القيامة! رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن؛ فيا ويل من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان!

فيا من فرط في عمره وأضاعه! كيف ترجو الشفاعة؟ أتعتذر برحمة الله؟ أتقول لنا: إن الله غفور رحيم؟ نعم. لكن إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] العاملين بالأسباب .. الخائفين المشفقين.

سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجمـاعات، فقال رضي الله تعالى عنه: [هو في النار].

و في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: (آمين.. آمين.. آمين.. قيل: يا رسول الله! إنك صعدت المنبر فقلت: آمين. آمين. آمين. قال: إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له؛ فدخل النار فأبعده الله -فكم هم أولئك المبعدين عن رحمة الله؟- قل: آمين. فقلت: آمين ...) إلى آخر الحديث.

فيا أيها الخاسر! نعم. رحل رمضان وربما خسرت خسارةً عظيمة، ولكن الحمد لله، فما زال الباب مفتوحاً والخير مفسوحاً، وقبل غرغرة الروح، ابكِ على نفسك وأكثر النوح، وقل لها:

ترحل الشهر وا لهفاه وانصرما     واختص بالفوز في الجنات من خدما

وأصبح الغافل المسكين منكسراً     مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما

من فاته الزرع في وقت البذار فما     تراه يحصد إلا الهم والندما

طوبى لمن كانت التقوى بضاعته     في شهره وبحبل الله معتصما