خطب ومحاضرات
المحرومون
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ينعقد هذا المجلس في ليلة السبت الموافق للحادي عشر من الشهر السادس للعام (1416هـ) وموضوع هذا اللقاء بعنوان: المحرومون.
وعفواً أيها الأحبة! وأعتذر أيضاً للأخوات، فلا نجزع من كلمة (محروم) بالرغم من قساوتها، فالكثير منا يشعر بالحرمان، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله، وسأوجه خطابي إلى المحرومين، وسأنادي المحرومين كثيراً فلا نجزع؛ فقد يكون المحروم أنا وقد تكون أنت، وقد يكون فلاناً أو فلانة، وقد نكون جميعاً، فالحرمان يتفاوت من شخص لآخر، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
فقد تحرم الراحة والسعادة، وقد تحرم لذة السجود والركوع، وقد تحرم قراءة القرآن وتدبر آياته، وقد تحرم كثرة الذكر والاستغفار، وقد تحرم لذة الخشوع والبكاء من خشية الله، وقد تحرم بر الوالدين والأنس بهما، وقد تحرم لذة الأخوة في الله، وقد تحرم السعادة الزوجية، وقد تحرم أكل الحلال ولذته، وقد تحرم التوبة والندم على ما فات. وقد تحرم حسن الخاتمة.
فيا أخي الحبيب! ويا أختي الغالية! قد نحرم هذه الأمور كلها، وقد نحرم الكثير منها، وقد نحرم القليل، والسعيد من جمعها ووفق إليها وقليل ما هم، فإن كنت منهم فاذكر نعمة الله عليك واشكره، واعلم أن من تمام شكره النصح والتوجيه للمسلمين، فلا تحرم نفسك أجر التبليغ، فالدال على الخير كفاعله.
إذاً: فقد يصيبك من الحرمان ولو القليل، فاحتمل خطابي واحتمل مناداتي لك بـ (يا أيها المحروم!) فإنما قصدت بها الشفقة والرحمة والحب والنصح، وأعوذ بالله أن أكون من الشامتين، فأنا أول المحرومين، أسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يتوب علينا توبة صادقة.
كثير ممن ظاهرهم الصلاح محرومون، فهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان ولا حقيقة الهداية والاستقامة، فليست الاستقامة أشكالاً ومظاهر، بل هي أعمال وسرائر.
وأنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة! ويا كل مهندس وطبيب وكاتب! أقول لكم جميعاً: أحسنتم يوم سهرتم وعملتم ونجحتم، ولا شك أنكم جميعاً من صناع الحياة، ومن أصحاب الأيادي البيضاء؛ لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر؟ ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله؟ ما هو نصيبكم من حلاوة الإيمان، ولذة السجود والمناجاة، ولذة الدمعة من خشية الله عز وجل؟
إذاً: فقد يكون لكم نصيب من الحرمان، فاسمعوا يا رعاكم الله! هذه الكلمات، وإذا كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين، فكيف بحال الغافلين اللاهين؟!
فمن الناس من كسب الدنيا والآخرة -نسأل الله عز وجل أن نكون منهم- ومنهم من كسب الدنيا وضيع الآخرة، ومنهم من ضيع الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المحرومون حقاً.
يحدثني أحدهم: أنه لم يركع لله ركعة، ولم يشعر بلذة الصيام يوماً من الأيام، وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار.
ويهمس لي آخر عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيه من الخنا والفساد والضياع.
وقال آخر: إنه يجلس الساعات، بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت -كما يقول- يقول عن نفسه: والحق أنني أبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمارة، فإذا انتهيت شعرت بندم وضيق وهم لا يعلمه إلا الله، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام، يقول: أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي، وباختصار: إنني أعيش بدوامة التعاسة والشقاء، وإن كنت في الظاهر في سعادة وهناء .. إلى آخر ما قال.
قلت في نفسي: صدق الله يوم أن قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول: إنكم مسئولون عنا أمام الله، أدركوا الشباب، مخدرات .. أفلام .. معاكسات .. سهر وغناء، ولواط وزنا، ثم يجهش في البكاء -هذه حاله والله العظيم- ويضع وجهه بين يديه وهو يقول: لقد فكرت بالانتحار عدداً من المرات!
وكتب إلي أحدهم رسالة طويلة، قال في مقدمتها: قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف، مهملة من الجميع إلا ما شاء الله، فلا أدري من أين أبدأ في مشاكلهم المعاصرة، هل أبدأ بتضييعهم لأوقاتهم وأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم.
ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال: .. هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد، فضلاً عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة، وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف، وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب، ناهيك عن ترك الصلاة، وإني بمقامي هذا -والكلام ما زال له- وإني بمقامي هذا بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة وليس الخبر كالمعاينة، أقول: هذا واقع الشباب فاذهبوا وشاهدوا العجائب .. إلى آخر رسالته.
وحدثتني بعض الأخوات، فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف.
تقول إحداهن وقد كانت غافلة عابثة بالهاتف: أنا أعيش في محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله، فأنام وأصحو وأنا أبكي، وقلبي يكاد يتقطع، أحس أن الدنيا ضيقة، أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون ذلك الإحساس بضيق الدنيا قنوطاً أو يأساً من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك، تقول: فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به، والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية، ويغفر لي ويعوضني خيراً، وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق؛ لأن كل شيء يذكرني بالماضي، ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة، وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية .. إلى أن قالت: كنت أقول في نفسي: أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط، فالحمد لله، وأسأله أن لا يزيغ قلبي بعد إذ هداني .. وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات في كليتها .. إلى آخر قصتها من رسالة لطيفة بعنوان: دموع ساخنة من فتاة عائدة .
هدية إلى المحرومين
أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والبكاء خشيةً وخوفاً من الله.
أهديه إلى المحرومين من لذة السجود ومناجاة علام الغيوب.
إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته وتذوق معانيه.
إلى المحرومين من لذة الأخوة والحب في الله.
إلى المحرومين من بركة الرزق وأكل اللقمة الحلال.
إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه في الشهوات واللذات.
إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته.
إلى المحرومين من بر الوالدين والأنس بهما، والجلوس إليهما.
وجماع ذلك كله أقول: أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة والطاعة والالتزام.
إلى أولئك الذين أصابتهم الوساوس والشكوك، واستبد بهم الأسى والشقاء، واجتاحهم القلق والظلام، ونزلت بهم الهموم والغموم.
إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام.
إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد والنعيم.
إلى الذين حرموا نعمة الإيمان، لقد فقدتم كل شيء، وإن وجدتم المال والجاه.
إلى الذين حرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة. لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها.
إلى الذين حرموا السعادة والأنس، وأضاعوا الطريق.
إلى أولئك جميعاً أقول: اسألوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان، يوم اعترفوا بالحقيقة، والله ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها، ولا نادماً إلا وأعلنها، صرخات متوجع وزفرات مذنب وآهات نادم، اختصروها بكلمات فقالوا: .. نشعر بالسعادة لحظات، وقت الشهوة فقط، وعند الوقوع في المعصية واللذة، وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب، وضياع وظلام وشكوك وظنون، وبكاء وشكوى، وعُقَد وأمراض نفسية، وصدق الله عز وجل يوم أن قال: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] .
إذاً: فهو في أمان من الضلال والشقاء، متى؟ بالهداية، بالاستقامة، باتباع هدي الله، والشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها، فما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه، ولذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
قال ابن كثير: أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. انتهى كلامه رحمه الله.
فإلى المحرومين .. لماذا أعرضتم عن ذكر الله؟ لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر؟ تدعون فلا تأتون، وتنصحون فلا تسمعون، تغفلون أو تتغافلون، بل ربما تسخرون وتهزءون؛ ولكن اسمعوا النتيجة، اسمع للنهاية المرة، اسمعي للنهاية التي لا بد منها، قال الحق عز وجل : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124] هذا في الدنيا، أما في الآخرة: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
فنسيتها.. أعرضت عنها.. أغفلتها.. تناسيتها..
إذاً: فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126].
فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف:51]
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [السجدة:14].
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].
أيها المحرومون
ونسي ما قدمت يداه.. أين النفس اللوامة؟ أين استشعار الذنب؟ أين فطرة الخير؟ أين القلب اللين الرقيق؟ أين الدمعة الحارة؟
اسمعوا وعوا: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
يقسم بعض التائبين -كما أسلفت- أنه ما ركع لله ركعة، وما سجد لله سجدة، فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟! أي حرمان بعد هذا الحرمان؟!!
عفوك اللهم عنا خير شيء نتمنى |
رب إنا قد جهلنا في الذي قد كان منا |
وخطينا وخطلنا ولهونا وأسأنا |
إن يكن رب خطئنـا ما أسأنا بك ظنا |
فأنلنـا الختم بالحسـ ـنى وإنعاماً ومنا |
أيها المحرومون! لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله، إلا في الهداية، إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله، يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج.
ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/1415هـ نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش)، قالت: إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها وغمومها .
ويذكر التاريخ لنا أن علي بن المأمون العباسي، ابن الخليفة، كان يسكن قصراً فخماً وعنده الدنيا مبذولة ميسرة، فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرأى عاملاً يكدح طيلة النهار، فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة، فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله، فدعاه يوماً من الأيام فسأله، فأخبره أن له زوجة وأختين وأماً يكدح لهن، وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يتكسبه من السوق، وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل، قال ابن الخليفة: فهل تشكو من شيء؟ قال العامل: لا، والحمد لله رب العالمين، فترك ابن الخليفة القصر، وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة، وكان يعمل في الخشب جهة خراسان.
فيا سبحان الله! من الإمارة إلى النجارة، لأنه وجد السعادة في عمله هذا، ولم يجدها في القصر.
أهدي هذا الموضوع (المحرومون) إلى المحرومين من نعمة الإيمان، الفاقدين حلاوته وأنسه وطعمه.
أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والبكاء خشيةً وخوفاً من الله.
أهديه إلى المحرومين من لذة السجود ومناجاة علام الغيوب.
إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته وتذوق معانيه.
إلى المحرومين من لذة الأخوة والحب في الله.
إلى المحرومين من بركة الرزق وأكل اللقمة الحلال.
إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه في الشهوات واللذات.
إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته.
إلى المحرومين من بر الوالدين والأنس بهما، والجلوس إليهما.
وجماع ذلك كله أقول: أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة والطاعة والالتزام.
إلى أولئك الذين أصابتهم الوساوس والشكوك، واستبد بهم الأسى والشقاء، واجتاحهم القلق والظلام، ونزلت بهم الهموم والغموم.
إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام.
إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد والنعيم.
إلى الذين حرموا نعمة الإيمان، لقد فقدتم كل شيء، وإن وجدتم المال والجاه.
إلى الذين حرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة. لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها.
إلى الذين حرموا السعادة والأنس، وأضاعوا الطريق.
إلى أولئك جميعاً أقول: اسألوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان، يوم اعترفوا بالحقيقة، والله ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها، ولا نادماً إلا وأعلنها، صرخات متوجع وزفرات مذنب وآهات نادم، اختصروها بكلمات فقالوا: .. نشعر بالسعادة لحظات، وقت الشهوة فقط، وعند الوقوع في المعصية واللذة، وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب، وضياع وظلام وشكوك وظنون، وبكاء وشكوى، وعُقَد وأمراض نفسية، وصدق الله عز وجل يوم أن قال: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] .
إذاً: فهو في أمان من الضلال والشقاء، متى؟ بالهداية، بالاستقامة، باتباع هدي الله، والشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها، فما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه، ولذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
قال ابن كثير: أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. انتهى كلامه رحمه الله.
فإلى المحرومين .. لماذا أعرضتم عن ذكر الله؟ لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر؟ تدعون فلا تأتون، وتنصحون فلا تسمعون، تغفلون أو تتغافلون، بل ربما تسخرون وتهزءون؛ ولكن اسمعوا النتيجة، اسمع للنهاية المرة، اسمعي للنهاية التي لا بد منها، قال الحق عز وجل : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124] هذا في الدنيا، أما في الآخرة: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
فنسيتها.. أعرضت عنها.. أغفلتها.. تناسيتها..
إذاً: فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126].
فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف:51]
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [السجدة:14].
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].
أيها المحرومون .. لماذا نسيتم لقاء ربكم؟ لماذا هذا الإعراض العجيب؟! إنكم حرمتم أنفسكم، فحرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي، لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم؟ لماذا غفلتم؟ ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب؟ اسمع لقول الحق عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف:57].
ونسي ما قدمت يداه.. أين النفس اللوامة؟ أين استشعار الذنب؟ أين فطرة الخير؟ أين القلب اللين الرقيق؟ أين الدمعة الحارة؟
اسمعوا وعوا: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
يقسم بعض التائبين -كما أسلفت- أنه ما ركع لله ركعة، وما سجد لله سجدة، فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟! أي حرمان بعد هذا الحرمان؟!!
عفوك اللهم عنا خير شيء نتمنى |
رب إنا قد جهلنا في الذي قد كان منا |
وخطينا وخطلنا ولهونا وأسأنا |
إن يكن رب خطئنـا ما أسأنا بك ظنا |
فأنلنـا الختم بالحسـ ـنى وإنعاماً ومنا |
أيها المحرومون! لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله، إلا في الهداية، إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله، يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج.
ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/1415هـ نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش)، قالت: إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها وغمومها .
ويذكر التاريخ لنا أن علي بن المأمون العباسي، ابن الخليفة، كان يسكن قصراً فخماً وعنده الدنيا مبذولة ميسرة، فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرأى عاملاً يكدح طيلة النهار، فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة، فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله، فدعاه يوماً من الأيام فسأله، فأخبره أن له زوجة وأختين وأماً يكدح لهن، وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يتكسبه من السوق، وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل، قال ابن الخليفة: فهل تشكو من شيء؟ قال العامل: لا، والحمد لله رب العالمين، فترك ابن الخليفة القصر، وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة، وكان يعمل في الخشب جهة خراسان.
فيا سبحان الله! من الإمارة إلى النجارة، لأنه وجد السعادة في عمله هذا، ولم يجدها في القصر.
محرومون من لذة الصلاة
أقسم لي شاب: إنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياء.
فأقول: أيها المحروم! إنه الكفر والضلال: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) كما عند الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) كما عند مسلم في صحيحه.
مسكين أنت أيها المحروم! يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله، إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة، إنها اللمسة الحانية للقلب الـمتعب المكدود، إنها زاد الطريق، ومدد الروح، وجلاء القلوب، إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.
إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] .
وقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] .
من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه؛ يدعوه ويناجيه .. يخافه ويخشاه .. قيام وسجود، وبكاء وخشوع، فيتنور القلب، وينشرح الصدر، وتشرق الوجوه، قال عز وجل: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].
أما المحروم.. فظلام القلب، وسواد الوجه، وقلق في النفس، هذا في الدنيا، وفي الآخرة يقول الله عنهم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43] حرموا من السجود في الآخرة؛ لأنهم كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون، أي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت صلته بالله، أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين؟! فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام والعذاب.
مسكين أيها المحروم! كيف تريد التوفيق والفلاح، والسعادة والنجاح، وأنت لا تصلي، قد قطعت الصلة ما بينك وبين الله؟!
اسمع لقول الله عز وجل : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] واسمع لقول الحق عز وجل : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم المحروم جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه.
إن من المحرومين من إذا ذُكِّر بالصلاة سخر واستهزأ، وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58] ويقول: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] أي: في الدنيا وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] ولكن السعيد من يضحك في النهاية، ولذلك قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34].
إن المتهاون بالصلاة حرم خيراً كثيراً، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع
أيها المحروم! حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا؛ لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود، حرمت نفسك أعظم اللذات، لذة المناجاة، لذة التذلل والخضوع، إنك تملك أغلى شيء في هذا الوجود، تملك كنزاً من كنوز الدنيا! الصلوات الخمس، الثلث الأخير من الليل، ساعات الاستجابة .. اسأل المصلين الصادقين، اسألهم ماذا وجدوا، اسألهم ولا تتردد، سيجيبونك بنفوس مطمئنة راضية ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها، سيقولون: أكثر الناس هموماً وغموماً وكدراً المتهاونون المضيعون للصلاة.
لا تيأس أيها المحروم
التائب أعتق نفسه من أسر الهوى، وأطلق قلبه من سجن المعصية.
التائب يجد للطاعة حلاوة، وللعبادة راحة، وللإيمان طعماً، وللإقبال لذة.
التائب يجد في قلبه حرقة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسراراً.
التائب منكسر القلب، غزير الدمع، رقيق المشاعر.
التائب صادق العبارة؛ فهو بين خوف وأمن، وقلق وسكينة.
اليوم ميلادي الجديد وما مضى موت بليت به بليل داجي |
أنا قد سريت إلى الهداية عارجا يا حسن ذا الإسراء والمعراج |
أيها المحروم! تب إلى الله، ذق طعم التوبة، وذق حلاوة الدمعة، اعتصر القلب وتألم؛ لتسيل دمعة على الخد تطفئ نيران المعاصي والذنوب .. اخل بنفسك .. اعترف بذنبك، ادع ربك وقل: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ابك على خطيئتك، وجرب لذة المناجاة، اعترف بالذل والعبودية لله، تب إلى الله بصدق، ناج ربك وقل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم .
جرب مثل هذه الكلمات كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يرددها.
أيها المحروم! (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) كما عند مسلم في صحيحه .
اسمع لملك الملوك وهو يناديك أنت، اسمع إلى جبار الأرض والسماوات وهو يخاطبك أنت، وأنت من أنت؟! اسمع للغفور الودود؛ للرحيم الرحمن وهو يقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] .
ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر .
ويقول الله في الحديث القدسي الآخر: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) كما عند الترمذي من حديث أنس وهو صحيح .
إذاً فيا أيها المحروم! ما هو عذرك وأنت تسمع هذه النداءات من رب الأرض والسماوات.
إن أسعد لحظات الدنيا يوم أن تقف خاضعاً ذليلاً خائفاً باكياً مستغفراً تائباً، فكلمات التائبين صادقة، ودموعهم حارة، وهممهم قوية، ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان، ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة، وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب، فلماذا تحرم نفسك هذا الخير وهذه اللذة والسعادة! فإن أذنبت فتب، وإن أسأت فاستغفر، وإن أخطأت فأصلح، فالرحمة واسعة والباب مفتوح.
قال ابن القيم في الفوائد : ويحك لا تحقر نفسك، فالتائب حبيب، والمنكسر صحيح، إقرارك بالإفلاس عين الغنى .. تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة .. اعترافك بالخطأ نفس الإصابة . انتهى كلامه رحمه الله.
إذاً: العبودية لله عزة ورفعة، ولغيره ذل ومهانة.
أيها الحبيب، أيتها الغالية! إننا نفرح بتوبتك، ونسر لرجوعك إلى الله، وليس لنا من الأمر شيء.
عين تسر إذا رأتك وأختها تبكي لطول تباعد وفراق |
فاحفظ لواحدة دوام سرورها وعد التي أبكيتها بتلاقي |
عِدنا بالرجوع إلى الله، عِدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد، نسر ونفرح، نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء، إنما هو لنفسك.
محرومون من لذة قراءة القرآن
عن عطاء قال: (دخلت أنا و
إذاً فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن، وربما قرأه في رمضان بدون تدبر ولا خشوع.
اسأل نفسك أيها المحب!
كم آية تقرأ في اليوم؟ بل كم مرة تقرأ في الأسبوع؟
كم مرة دمعت عيناك وأنت تقرأ القرآن؟
إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة، مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن! وربما دمعت مراراً ومدراراً عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والحرام، والعياذ بالله!
مساكين الذين ظنوا الحياة كأساً ونغمةً ووتراً.. مساكين الذين جعلوا وقتهم لهواً ولعباً وغروراً.. مساكين الذين حسبوا السعادة أكلاً وشرباً ولذة.
ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء.
ليل المحرومين مجون وخنوع، وليل الصالحين ذكر ودموع.
أيها المحروم من لذة البكاء! اعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، والعياذ بالله.
فقل أيها المحروم! قل لنفسك: وا أسفاه! وا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن، دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وكسلاً، وموته غبناً وكمداً.
ألم تسمع أيها المحروم! ألم تسمعي أيتها المحرومة! لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) فأيهما تختار وأيهما تختارين، لك أو عليك؟!
قال أحد الصالحين: (أحسست بغم لا يعلمه إلا الله، وبهم مقيم، فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني -والله- فجأة هذا الغم، وأبدلني الله سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدر).
فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها المسلمة! إن هذا القرآن رحمة، وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله سبحانه وتعالى ، فاسمع أيها المحروم! من قراءة القرآن، إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة، ومن أعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة.
محرومون من لذة الأخوة في الله
فيا أيها المحروم من الأخوة في الله! إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة وإلى كلمة طيبة، إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك وأحزانك، إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص، إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة.
أتراك تجد هذه الصفات بصديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات؟!
أيها المحب! أعد النظر في صداقاتك، استعرض أصدقاءك واحداً بعد الآخر، اسأل نفسك ما نوع الرابط بينكما؟ أهي المصالح الدنيوية؟ أو الشهوات الشيطانية؟ أم هي الأخوة الإسلامية؟
كل أخوة لغير الله هباء، وفي النهاية همٌّ وعداء، لاشك أنه مر بك قول الحق عز وجل: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
أيها المحروم من لذة الأخوة في الله! راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة: يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:28-29].
راجع أحبابك وخلانك، فإنك ستحشر معهم يوم القيامة، فقد قال حبيبك صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر المرء مع من أحب) فمن أي الفريقين أحبابك؟
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان |
فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعاً في شقا وهوان |
أيها المحروم،كم كسبت من صفات ذميمة، وكم خسرت من صفات حميدة بسبب أصحابك.
تقول لي: لماذا؟ أقول لك: لأن الطبع سراق: (وقل لي: من تصاحب؟ أقول لك: من أنت) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم وتوسمن أمورهم وتفقد |
فإذا وجدت أخا الأمانة والتقى فبه اليدين قرير عين فاشدد |
إن للأخوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة لا يشعر بها إلا من وجدها، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، وذكر منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
وفي الأثر المشهور: (لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر منها: مجالسة إخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب التمر) فكم من محروم حرم الأخوة في الله.
محرومون من لذة الأكل الحلال
كم من الناس حرموا لذة الأكلة الحلال، وحرموا بركة المال، وحرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من رباً وغش وخداع وسرقة وحلف كاذب، مسكين أنت أيها المحروم! ربما أنك تركع وتسجد وترفع يديك بالدعاء، فأنى يستجاب لك؟!
أيها الإخوة! أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر، فنحن نرفع أيدينا بالدعاء، ونلح على الله فيه، وربما سالت الدمعات على الخدين، انظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان، فربما لا نرى أثراً لدعائنا وبكائنا إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] اسمع لقول الله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] لنراقب أموالنا، ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا، وربما دخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا.
فيا أيها المحروم! إن لأكل الحلال أثراً عجيباً على القلب وراحته وسعادته، وإن لأكل الحلال أثراً كبيراً على صلاح الأولاد وبرهم بآبائهم، بل إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على سعة الرزق ونماء المال، فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب؟! ففي المسند من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) والحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه.
فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب! وانتبه أيها المحب! فليس كثرة المال عند بعض الناس دليلاً على بركته، بل قد يكون شقاء على صاحبه، وكم سمعنا عمن ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]
واسمع لـابن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي: ومن عقوباتها -أي المعاصي والذنوب- أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] وقال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن:16-17] وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) انتهى كلامه رحمه الله .
محرومون من لذة ذكر الله تعالى
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، يحجون ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) .
قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة لما سئل عن كيفية ذكرهن قال: [يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين] متفق عليه.
وزاد مسلم في روايته: (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وأهل الدثور هم أهل المال الكثير.
وعنه -أي عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جداً ومستفيضة.
أسألك بالله، أليس محروماً من ترك مثل هذه الأذكار؟ فمن منا لا يرغب أن تغفر خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر؟ ومن منا لا يرغب أن يكسب ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة؟ ولكن بعض الناس لم يسمع بهذه الأحاديث قط، فضلاً على أن يحرص على فضلها، أليس هذا من الحرمان؟!
إنها كلمات قصيرة في أوقات يسيرة مقابل فضائل كثيرة، وهي سلاح للمؤمن تحفظه من شياطين الإنس والجان، وهي اطمئنان للقلب وانشراح للصدر كما قال عز وجل : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] والله عز وجل يقول: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35] ولكن سبق المفردون، وتأخر وخسر المحرومون، والمفردون هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات كما أخبر بذلك صلى الله عليه وآله وسلم عند مسلم في صحيحه .
فيا أيها المحروم من ذكر الله! احرص على تلك الأذكار، لعلها أن تمحو عنك السيئات، وإياك إياك وبذاءة اللسان، والسب واللعان فتزيد الطين بلة.
محرومون من لذة السعادة الزوجية
يعيش بدون مودة ولا رحمة، بدون لذة ولا متعة، بينه وبين زوجه وحشة، فلماذا كل هذا؟!
اسمع يا رعاك الله! قال بعض السلف : إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وزوجتي .
أيها الزوجان! ربما تحرما السعادة الزوجية والراحة النفسية بسبب الذنوب والمعاصي منكما أو من أحدكما، انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل إفساد تغضب رب العباد، انظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها، قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] إنه ما من مشكلة تقع بين زوجين إلا بمعصية أو ذنب، فكم في البيوت من المحرومين بسبب معصية رب العالمين؟
وأقف هنا؛ فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان: (السحر الحلال) فمن أراد فليرجع لهما.
محرومون من لذة بر الوالدين والأنس بهما
فقد ثنى بهما فقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بحقهما.
اسمع يا من حرمت برهما! قال صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه
ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه بكى لما ماتت أمه، فقيل له؛ فقال: [إني لأعلم أن الموت حق، ولكن كان لي بابان للجنة مفتوحان فأغلق أحدهما].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة) كما في مسلم .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) والحديث متفق عليه، فأي فضل حرمه بعض الناس بغفلته عن بر والديه؟!
ومن برهما ميتين: الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما.
إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى، وتذوب لها النفس حسرة.
أيها المحروم برهما، إن العقوق من الكبائر، بل لا يدخل الجنة عاق، ويحرم التوفيق بالدنيا، وربما عجلت له العقوبة، وربما ابتلي بأولاده فالجزاء من جنس العمل.
أبو هريرة كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمه، وكان يحملها وينزلها، فقد كانت كبيرة مكفوفة.
وابن الحنفية يغسل رأس أمه ويمشطها ويقبلها ويخضبها.
وكان علي بن الحسين من أبر الناس بأمه، وكان لا يأكل معها، فسئل فقال: [أخاف أن تسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أعلم به فآكله فأكون قد عققتها].
وطلبت أم مسعر ماء في ليلة، فجاء بالماء فوجدها نائمة، فوقف بالماء عند رأسها حتى أصبح.
وسئل عمر بن ذر عن بر ولده به فقال: [ما مشى معي نهاراً قط إلا كان خلفي، ولا ليلاً قط إلا كان أمامي، ولا رقى على سطح أنا تحته] فنستغفر الله من حالنا مع آبائنا، ونعوذ بالله من الحرمان.
إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان (أبناء يعذبون أبناءهم) قصص واقعية:
ابن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده!
وآخر يتخلص من أمه برميها بجوار القمامة!
وآخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول: خذوا أبي عندكم، وإذا أردتم شيئاً اتصلوا عليّ!
وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمناً لخاتم أعجبها، بل أخذ الخاتم من يدها ورماه على طاولة البائع!
وابنة تطرد والدتها من منزلها.
وأخرى غضبت بعد أن علمت أن والدتها ستعيش معها.
هذه عناوين لقصص واقعية، وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعوذ بالله من حال هؤلاء، محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم أعنا على برهما، اللهم ارفع درجتهم وأسكنهم الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين.
محرومون من حسن الخاتمة
عجيب أمرك أيها المحروم! إنك تعلم أن الموت حق، وأنه نهاية الجميع، ومع ذلك تصر على حالك وأنت تسمع هذه الكلمات مراراً وتكراراً.
أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! ليس العيب أن تخطئ، ولكن العيب الاستمرار على الخطأ، أيهما تريد: أن تموت على خير أو على شر؟!
أقول هذا لأننا نرى ونسمع نهاية بعض المحرومين، نسأل الله حسن الخاتمة.
قال ابن القيم في الجواب الكافي : ثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى! فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين ممن أصابهم ذلك.
ثم ذكر رحمه الله صوراً لبعضهم، منها:
قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تان تنا تن تنا.
وقيل لآخر: فقال: كل
إن من المحرومين من قال الله عنهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59] فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة؟
أقسم لي شاب: إنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياء.
فأقول: أيها المحروم! إنه الكفر والضلال: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) كما عند الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) كما عند مسلم في صحيحه.
مسكين أنت أيها المحروم! يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله، إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة، إنها اللمسة الحانية للقلب الـمتعب المكدود، إنها زاد الطريق، ومدد الروح، وجلاء القلوب، إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.
إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] .
وقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] .
من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه؛ يدعوه ويناجيه .. يخافه ويخشاه .. قيام وسجود، وبكاء وخشوع، فيتنور القلب، وينشرح الصدر، وتشرق الوجوه، قال عز وجل: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].
أما المحروم.. فظلام القلب، وسواد الوجه، وقلق في النفس، هذا في الدنيا، وفي الآخرة يقول الله عنهم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43] حرموا من السجود في الآخرة؛ لأنهم كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون، أي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت صلته بالله، أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين؟! فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام والعذاب.
مسكين أيها المحروم! كيف تريد التوفيق والفلاح، والسعادة والنجاح، وأنت لا تصلي، قد قطعت الصلة ما بينك وبين الله؟!
اسمع لقول الله عز وجل : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] واسمع لقول الحق عز وجل : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم المحروم جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه.
إن من المحرومين من إذا ذُكِّر بالصلاة سخر واستهزأ، وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58] ويقول: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] أي: في الدنيا وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] ولكن السعيد من يضحك في النهاية، ولذلك قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34].
إن المتهاون بالصلاة حرم خيراً كثيراً، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع
أيها المحروم! حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا؛ لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود، حرمت نفسك أعظم اللذات، لذة المناجاة، لذة التذلل والخضوع، إنك تملك أغلى شيء في هذا الوجود، تملك كنزاً من كنوز الدنيا! الصلوات الخمس، الثلث الأخير من الليل، ساعات الاستجابة .. اسأل المصلين الصادقين، اسألهم ماذا وجدوا، اسألهم ولا تتردد، سيجيبونك بنفوس مطمئنة راضية ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها، سيقولون: أكثر الناس هموماً وغموماً وكدراً المتهاونون المضيعون للصلاة.
استمع المزيد من الشيخ إبراهيم الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سهام للصيد | 2612 استماع |
توبة صايم | 2610 استماع |
اذهبوا بنا نصلح بينهم | 2609 استماع |
من كنوز الحج ... | 2480 استماع |
موعظة السبع البواقى | 2467 استماع |
بحر الحب | 2409 استماع |
بشائر ومبشرات | 2352 استماع |
السحر الحلال | 2350 استماع |
أهمية أداء الزكاة | 2340 استماع |
التوحيد وأثره في النفوس | 2321 استماع |