تفسير سورة المؤمنون (17)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.

قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:101-111].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:101]، أذكركم بأن السور المكية -كما علمتم- تقرر التوحيد والنبوة والبعث الآخر، أي: والحياة الثانية في الدار الآخرة، وتأملوا في هذا السياق تجدوه أنه يقرر هذا، فأولاً: أن لا إله إلا الله، وثانياً: أن محمداً رسول الله، وثالثاً: أن البعث الآخر والدار الآخرة حق.

قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:101]، والصور هو البوق الذي ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه ملك عظيم اسمه إسرافيل، والنفخات ثلاث أو أربع، فالنفخة الأولى: نفخة الفناء، إذ يتحلل كل شيء ويذوب، ولا يبقى إنس ولا جن ولا شمس ولا قمر ولا أرض ولا سماء، بل كل ذلك يذوب وينتهي، قال تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5]، وقال تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:1-6].

والنفخة التي هنا في هذه الآية هي النفخة الثانية، أي: نفخة البعث والخروج من القبور والتجمع للحساب والجزاء، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:101]، أي: النفخة الثانية، فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، أي: لا يسأل أحد عن آخر، لا أم عن ابنها، ولا ابن عن أبيه، ولا ولد عن والده أبداً، ولا هذا ابن فلان ولا هذا من القبيلة الفلانية كما كانوا في الدنيا، بل كل مشغول بنفسه هل ينجو من عذاب النار ويدخل الجنة أو يخلد في النار والعذاب والعياذ بالله؟

فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، أي: لا يسأل بعضهم بعضاً، وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها عندما سألته فقالت له رضي الله عنها: هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما في ثلاثة مواطن فلا، الموطن الأول: إذا تطايرت الصحف )، أي: إذا أخذت الملائكة توزع كتب الأعمال على من في أرض المحشر، ففي هذه الحال كل مشغول بنفسه لعله يعطى كتابه بيمينه فيسعد، أو يأخذ كتابه بشماله فيهلك والعياذ بالله، وعند ذلك لا يسأل أحد عن أحد، ( وأما الموطن الثاني: إذا وضع الميزان لوزن الأعمال )، قال الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [المؤمنون:102-103]، وفي هذا الموطن أيضاً لا يذكر أحد أحداً، لا أب ولا أم ولا زوجة ولا زوج، ( وأما الموطن الثالث: إذا نصب الصراط على جهنم ليجتازوه إلى الجنة أو ليسقطوا في جهنم ).

إذاً: فهذه الثلاث المواطن التي لا يذكر رجل زوجته، ولا المرأة زوجها، ولا الابن أباه، ولا الأب ابنه، فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

ثم قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]. والموازين جمع: ميزان، فأعمال العبد توزن بميزان، وهنا جاء الخبر عن سيد البشر بأن العبد يعمل الصالحات ويسيء إلى بعض الناس، وذلك كأن يأخذ حقوقهم ويظلمهم، فتأخذ الملائكة من حسناته وتعطي للذين ظلمهم وتضيف إلى حسناتهم، ويأخذون من الظالم حسناته التي عمل بها، وذلك كصلاة وزكاة وتعطى لمن ظلمهم، فإذا بقيت له حسنة بارك الله فيها ودخل الجنة، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، ويدخل الجنة، وإذا لم يبقى له حسنة، أي: انتهت حسناته وبقي أيضاً مسئولاً من الآخرين الذين ظلمهم، فيؤخذ من سيئاتهم ويوضع عليه ويلقى في جهنم والعياذ بالله.

مرة أخرى: إذا وضع الميزان وأخذت أعمال العباد توزن فالذي ظلم غيره من عباد الله يؤخذ من حسناته ويعطى للذين ظلمهم مقابل ظلمهم، وذلك كأن أكل أموالهم أو فجر بنسائهم أو سبهم أو شتمهم، فيؤخذ من حسناته وتعطى للذين ظلمهم، فإن بقيت له حسنة يضاعفها الله ويدخل الجنة، وإن لم يبقى له شيء فإنه يؤخذ من سيئات الذين ظلمهم وتضاف إلى سيئاته ويستوجب النار فيدخلها بإذن الله تعالى.

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، لا غيرهم، والمفلحون بمعنى: الفائزون الناجون من النار والداخلين الجنة دار الأبرار، فهذا هو الفوز وهذا هو الفلاح.

ثم قال تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103].

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:103]، أي: ما ثقلت، ما عنده حسنات، أو عنده حسنات لكنها ضاعت وأخذت منه، وذلك كأن ردت إلى أصحابها الذين ظلموا بها.

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، فهذا حكم الله تعالى على هؤلاء الذين خسروا أنفسهم وأضاعوها، إذ ما بقي لهم قيمة ولا وجود إلا في جهنم والعياذ بالله.

فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، و(جهنم) علم على دركة من دركات النار، إذ النار سبع دركات لا درجات، وهي دركة تحت دركة، وجهنم واحدة منها، وهي لمن أشد النار حرارة والعياذ بالله، خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، أبداً لا يخرجون منها، مع العلم أنه قد جاء في السنة المبينة: أن من كانت له حسنات ودخل النار بذنوبه فإن الله عز وجل يعذبه ما شاء من العذاب، ثم يخرجه من النار إلى الجنة، وذلك بشرط أن يكون مؤمناً موحداً، لكن إن دخل جهنم بذنوب عظاماً فهل يخرج من النار أو يخلد فيها؟ لا يخلد فيها إلا المشركون الكافرون الملاحدة.

أما أصحاب التوحيد وأهل لا إله إلا الله محمد رسول الله بحق، والذين ما عبدوا غير الله تعالى، ولكن ظلموا وأساءوا وارتكبوا ذنوباً، وماتوا بدون توبة يدخلون النار ويبقون فيها ما شاء الله، ثم يخرجهم الله عز وجل بإيمانهم، ولذلك يخرج الله من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما جاء في صحيح مسلم وغيره.

ثم قال تعالى عنهم: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، أي: ليس مجرد خلود فقط ويأكلون ويشربون، وإنما خلود في جهنم مع لفح وسفع النار لوجوههم والعياذ بالله، وذلك حتى يصبحوا كالحين، والكالح هو أن تكون شفته السفلى تتدلى إلى صدره، والأخرى ترفع إلى رأسه، وتبقى أسنانه ظاهرة والعياذ بالله، وهذا أبشع منظر وأقبحه، فلا تستطيع أن تنظر إليه. يقال: كلح يكلح إذا ارتفعت شفتاه إلى رأسه وظهرت أسنانه وهبطت الأخرى إلى صدره، والنار قد أحرقت وجهه كاملاً: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، فهذا كلام الله واضح بين.

ثم قال تعالى موبخاً لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [المؤمنون:105]، يا أهل جهنم! يا أهل الخلود في النار! يا من كلحت النار وجوههم! ألم تكن آياتي تتلى عليكم؟ يقولون: ما تليت علينا؟! تليت، ما كان يقرأ عليكم القرآن وتسمعونه؟

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي [المؤمنون:105]، أي: القرآنية، تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]؟ فتقولون: خرافة، رجعية، تأخر، تخلف، ضلال، جنون كما يقول المشركون والكافرون، فَكُنتُمْ بِهَا [المؤمنون:105]، أي: بتلك الآيات القرآنية التي يتلوها رسول الله والمؤمنون في كل زمان ومكان، فتتلى وتقرأ عليكم فكنتم بها تكذبون، أي: غير مؤمنين بها ولا مصدقين بأنها كلام الله تعالى ووحيه أوحاه إلى رسوله، وكتابه أنزله عليه، وهذا شأن الملاحدة والعلمانيين والبلاشفة الحمر والمكذبين والعياذ بالله، بل إلى الآن وإلى يوم القيامة، وإن نزلت هذه الآيات في مكة في أبي جهل وأبي لهب، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن القرآن كتاب هداية لا كتاب ساعة أو حكاية، وإنما هو كتاب هداية للخلق إلى يوم القيامة. أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]؟ فماذا يقولون؟

قال تعالى حاكياً لقولهم: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106]. هل ينفع هذا العذر؟ هل يجزئهم؟ غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106]، أنت كتبت في كتاب المقادير: أننا أشقياء، فغلب ذلك حالنا وما استطعنا أن نعبدك ولا أن نوحدك، هل هذا العذر يقبل؟ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106]، والله ما يقبل هذا العذر أبداً.

ثم قال تعالى حاكياً قولهم أيضاً: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون:107]، وهذا الكلام يقولونه وهم في النار: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون:107]، أي: من النار، فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، اعترفوا بظلمهم وشركهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم، فطلبوا من الله أن يخرجهم من النار، فبم أجابهم الله تعالى؟ ماذا يقول لهم؟

ثم يقول تعالى لهم: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، أي: ابعدوا في أتون جهنم أذلاء مهانين ولا تكلمون. وسواء يقول هذا الرب تعالى بنفسه، أو يقوله ملك جهنم المسئول عنها! إذ قالوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، أي: نموت حتى نستريح من العذاب، والشاهد عندنا في أن الله يقول لهم بنفسه أو بواسطة ملكه المعروف بملك النار: اخْسَئُوا فِيهَا [المؤمنون:108]، أي: ابعدوا في أعماقها أذلاء، ولا جواب لكم. لماذا؟

ثم بين تعالى السبب فقال: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109-110]، وأول من يدخل في هذه الآية بلال وصهيب وعمار وخباب ، إذ كان المشركون يسخرون منهم ويستهزئون بهم ويضربونهم ويحملونهم الأحمال الثقيلة؛ لأنهم كانوا شبه عبيد مملوكين.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:110] أي: تهزئون وتسخرون منهم، حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون:110]، فما أصبحتم تعرفون ولا تسألوا عني، وإنما شغلكم الباطل واللهو والعبث والسخرية، وما انتفعتم بكتاب الله الذي يتلوه رسولنا وأصحابه.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:110]، وفي قراءة: (سُخرياً)، أي: تحملونهم ما لا يطيقونه، وتكلفونهم بأعمال كثيرة، فتنكلون بهم وتشددون عليهم؛ لأنهم كيف يؤمنون بمحمد وبما جاء به؟!

حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:110]، وإلى الآن فالملاحدة والعلمانيين المصابين بالإلحاد والكفر يسخرون من المؤمنين ويضحكون من صلاتهم وصيامهم، بل ومن لحاهم ولباسهم ومن كل حالهم، والله العظيم! إذ هم البشر والشيطان ملكهم فعبدوه وسخروه لأنفسهم وسخرهم لنفسه والعياذ بالله.

قال تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:111]، من القائل؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ [المؤمنون:111]، جزى من؟ بلالاً وعماراً وصهيباً وخباباً، بل وكل مؤمن عذب في ذات الله وسخر منه واستهزئ به في الدنيا، فصبر على إيمانه وتقواه حتى لقي الله ربه.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:111]، جزاهم بماذا؟ برضاه عنهم وإدخالهم جنته دار النعيم المقيم، أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، وفي قراءة: (إنهم هم الفائزون)، والكل صحيح، والفائزون جمع: فائز، يقال: فاز فلان في الكرة، وفاز فلان في تجارته، أي: نجح، ولذا فالفائز الحق هو الذي ينجو من النار فلا يدخلها ويدخل الجنة دار النعيم ويعيش فيها، فهذا والله هو الفوز العظيم، لا ربحك شاة أو بعيراً أو زوجة أو ولداً.

وتذكرون حكم الله في هذه القضية، إذ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أفلح من؟ من زكى نفسه وطيبها وطهرها، فأصبحت مشرقة طيبة يحبها الله ويقبلها في جواره، فبم زكاها؟ بالماء والصابون؟ لا، إنما زكاها بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عما يخبثها ويدسيها ويعفنها من الشرك والكفر والذنوب والآثام، وعكسه المشرك الكافر الفاسق الفاجر الذي خاب وخسر دنياه وأخراه، والذي صب على نفسه أطنان الذنوب والآثام فأصبحت عفنة منتنة لا يحبها الله ولا يرضى أن تكون في جواره، وبالتالي فمصيرها جهنم، وصاحبها هو الخاسر، وهذا هو الخسران المبين.

معاشر المستمعين! إن كلام الله سبحانه واضح وبين، لكن حرمونا من الاجتماع عليه ومن دراسته، حتى قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ! والله كتبوها في كتبهم، وخطؤه كفر! وبالتالي فمن يتكلم حينئذ؟ ومن يقول: قال الله؟ من يقول: قال الله يكفر! هكذا وضعوا لنا ذلك حتى أصبحنا لا نجتمع على القرآن إلا في ليلة الميت فقط، وذلك خلال ليال سبع أو ثلاث! أما أن نجتمع هكذا لنتلو كتاب الله ونتدارسه فممنوع، لماذا؟ لأن هذا العمل كفر، ونحن على هذه الحال قرابة ألف سنة وزيادة، والمسلمون للأسف محرومون من هذا، وإلا فكيف هبطوا؟ كيف نزلوا من علياء السماء؟ كيف أصبحوا أذلاء؟ كيف أصبحوا تابعين؟ كيف استغلوا واستعمروا وأذلوا؟ الجواب: بذنوبهم، فمن أين تأتي الذنوب؟ إعراضهم عن كتاب الله وهدي رسوله، وهذه سنة الله التي لا تتبدل! وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ [طه:124-127]، والعياذ بالله.