تفسير سورة الحج (3)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة الحج المكية المدنية، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج:8-13].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8]، قد تقدم مثل هذا السياق في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3]، وقد ذكر أهل التفسير ومنهم ابن جرير أنها نزلت في النضر بن الحارث وغيره، والصواب أنها نزلت في أبي جهل عمرو بن هشام عدو الله ورسوله والمؤمنين، إذ هذه الصفات في الآية تتفق مع صفاته بالحرف الواحد.

وَمِنَ النَّاسِ [الحج:8]، أي: إنسان يجادل في الله بغير علم، وقد عرفتم أن الجدال في الله بغير علم مثل من يحاجون الرسول ويقولون له: لله زوجة! له ولد! له ملائكة نعبدها! له شريك يعبد معه! كما قد علمتم أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يتكلم في الله إلا بعلم، وما لم يعلم فلا يقل، إذ قد يصف الله عز وجل بما هو منزه عنه من تلك الصفات، ولذلك نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ونقول عنه ما قال هو عن نفسه وقاله عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت الآية تؤدبنا ولا تبيح لأحدنا أن يجادل بغير علم، وذلك في أي قضية من القضايا، أو في أي مسألة من المسائل، وإنما أولاً اعلم ثم جادل، أما أن تقول بدون علم فهذا عار وعيب ولا يقبله العقلاء، فكيف يقبله المؤمنون؟ فاعلم ثم قل، أما أن تقول بالحلال والحرام، والجائز والممنوع وأنت لا تدري ولا تعلم، والله لا يصح هذا ولا يجوز، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، من لم يكن يعلم فليسأل حتى يعلم، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، الآية.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى [الحج:8]، يهتدي به فيمشي وراءه، وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8]، كالتوراة أو الإنجيل أو الزبور أو القرآن أو صحف إبراهيم.

قال تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:9].

ثَانِيَ عِطْفِهِ [الحج:9]، وعطف الإنسان هو أحد الجانبين، وتناول الميلان إليه، وهذه صورة الجبار المتكبر، إذ إنه يمشي بين الناس ينكسر عن يمينه أو شماله في تبختر وتعالٍ وتكبر، وهكذا كل من الرجلين النضر وأبي جهل والعياذ بالله تعالى، وفي هذه الآية تأديب لنا، إذ لا يحل لغنينا ولا لبطلنا ولا لشريفنا ولا لعالمنا ولا لولينا أن يمشي مشية المتكبرين بيننا، إذ الكبرياء رداء الله تعالى، ومن نازع الله في كبريائه قصم ظهره ولا يبالي، فإياكم والتكبر، فالكبرياء لله تعالى ليس لعباده، وها هو ذا تعالى يصف هذا الطاغية ويذكر ما له من جزاء، ثَانِيَ عِطْفِهِ [الحج:9]، أي: مائل إلى جنبه متكبراً رافع رأسه عن الرسول والمؤمنين، كيف يسمع كلام هذا الساحر أو هذا الشاعر أو هذا المجنون؟

ثم قال تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:9]، أي: فعله هذا كله من أجل أن يصرف الناس عن الإسلام في مكة، وأيضاً ذاك الجدال والمعاندة والمكابرة حتى لا يؤمن الناس برسول الله ويتبعوه، حتى المؤمنون الضعاف قد يرجعون، وهذه همته وقصده، وهذا الذي يريده، لِيُضِلَّ [الحج:9]، الناس، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:9]، ما جادل ولا تعالى ولا تكبر إلا من أجل أن يصرف المؤمنين عن الإيمان، لِيُضِلَّ [الحج:9]، الناس، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:9].

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:9]، وسبيل الله هو الطريق الموصلة إلى رضاه، أو الطريق الذي إذا سلكته وصل بك إلى رضا الله عز وجل، وحينئذٍ هو الإسلام دين الله، فهو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو الطريق الموصل إلى جوار الله تعالى؛ لأن المؤمنين أولياء الله ينزلون الجنة في جوار ربهم، ويزيل الحجاب على نفسه ويسلم عليهم ويحييهم، فلمَ هذا التكبر وهذا التعالي وهذا الجدال؟ قال: العلة في ذلك من أجل أن يصرف الناس عن الإسلام، وقد يوجد هذا النوع الآن وقبل الآن وبعد الآن، فقد يوجد طغاة وظلمة يتكبرون ويترفعون ويجادلون ليصرفوا الناس عن الإسلام، ولا يخلو زمان من ذلك، والله تعالى أسأل أن يحفظنا من هذا البلاء.

لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [الحج:9]، أي: له في الحياة الدنيا خزي، والله لقد أخزاه الله تعالى، فهذه الآيات مكية، ومع هذا فقد أخبرت عما يقع في المدينة، فهذا النضر بن الحارث قد وضع الحبل في يديه وعنقه وحبس حتى مات، وهذا عبد الله بن مسعود القصير القامة، والذي كان يسخر منه أبو جهل، صعد على صدره وأمسك بلحيته وفصل رأسه من جسمه، فأخزاه الله في الدنيا، فأين ذاك التعالي والتكبر في مكة؟ أذله الله فأصبح أذل الخلق في بدر حتى ذبح وفصل رأسه عن جسده، وما وقع هذا لغيره، وصدق الله العظيم، لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [الحج:9]، وفي الآخرة ماذا؟ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:9]، بالنار، وَنُذِيقُهُ إذاقة خاصة، لشخص خاص، عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:9]، والله أعلم كيف يكون هذا؟

ومن الأدعية الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أعوذ بك من خزي الدنيا وعذاب الآخرة )، فمن يطيق خزي الدنيا؟ إنه الإذلال والإهانة، ولذا فاحفظوا هذه الدعوة وادعوا الله بها في صلاتكم ودعواتكم، وهذه الدعوة تستجاب إذا كنا مؤمنين موقنين موحدين، أما إذا كنا نسلك مسلك أبي جهل من التكالب على الدنيا والشهوات والأطماع والفسق والفجور فأنى يستجاب لنا؟!

قال تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:10].

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج:10]، هذا الخطاب لـأبي جهل أو للنضر أو لكليهما، أي: ذلك الذي سمعت ووعدت به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، بسبب بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج:10]، أي: بسبب عملك، إذ العمل عادة يعود بماذا باليدين، ويكون باللسان وبالرجل وبالفرج وبكل شيء، لكن الغالب أن العمل يكون باليدين، ذلك بسبب ما قدمت يداك، أي: من الكفر والشرك والظلم والخبث والكبر والشر والفساد.

وأخيراً التعقيب: وَأَنَّ اللَّهَ [الحج:10]، أي: وسبب ذلك لأن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:10]، أبداً، فلهذا أخزاه في الدنيا وعذبه في الآخرة، وما ظلمه الله تعالى، وحاشا لله تعالى أن يظلم، وإنما هذا بسبب شركه وكفره وظلمه؛ لأن الله مبرأ من الظلم، إذ ليس بظلام لعبيده، سواء أبيضهم وأسودهم، أولهم وآخرهم، وإنما يعذب من كفر به وفسق عن أمره وترك طاعته فخبثت نفسه، فيلقيه في أتون الجحيم مع أهل الشقاء أبداً، وما ظلمه الله تعالى، فإن الله ليس بظلام للعبيد.

فهل عرفتم هذه الشخصية؟ أعيد لكم الآيات التي نزلت فيها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:8-9]، ثم يقال له: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:10]، فما عذبه الله ظلماً له، ولكن بسبب ما قدمته يداه من الكفر والظلم والشر والفساد.

والآن مع شخصية أخرى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]، والعياذ بالله، وهذه الآية مدنية نزلت في أهل المدينة، وإن نزلت بمكة أيضاً فلا حرج كما نزلت في مكة أحداث أبي جهل في بدر، لكن هذه في المنافقين والبدو من الأعراب من ناحية المدينة، وذلك لما ظهر الإسلام كانوا يأتون المدينة ليكسبوا مالاً أو مصلحة، فإذا حصلوا على خير ومال، كأن ولدت نساؤهم الذكور، وولدت خيلهم، قالوا: البركة كلها في الإسلام، ويفرحون بالإسلام ويبقون فيه، وإذا أصيبوا بفتنة أو محنة، كأن ماتت زوجته، أو ولدت بنتاً، أو مات فرسه، أو ما حصل على صدقة، أو أصابته حمى المدينة، انتكس وقال: هذا هو الشر كله، كفرنا به، نعود إلى ديننا والعياذ بالله.

ولذلك نخشى أن يقع هذا لبعض اليهود أو النصارى أو المشركين الآن، فيدخل أحدهم في الإسلام، ثم لما يفقد الوظيفة أو المال يرجع إلى ملته الباطلة، ولهذا يجب على المؤمنين أن يشجعوا المسلمين الجدد وينصرونهم ويتعاونوا معهم، وذلك حتى يثبتوا على الدين ولا ينتكسوا وينقلبوا، إذ إن ذلك سنة بشرية، فالأعراب حول المدينة كان يدخل في الإسلام بالطمع، فلما يجد الخير يفرح ويتأصل الإسلام في نفسه، لكن إذا وجد ما لا يليق به انتكس وعاد إلى الكفر والعياذ بالله.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرفٍ [الحج:11]، شك، إذ لا يدخل في الإسلام على يقين، وإنما يدخل في الإسلام من أجل الفائدة والمصلحة، وذلك لعله يرزق مالاً أو أي شيء، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ [الحج:11]، مال أو ذرية، اطْمَأَنَّ [الحج:11]، وسكنت نفسه واستراح وفرح بالإسلام، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ [الحج:11]، في ماله أو في نفسه، انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11]، أي: عاد إلى الشرك والكفر، وانقلب على وجهه يمشي هارباً، وقد خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11].

وَمِنَ النَّاسِ [الحج:11]، رجال يعبدون الله على حرف وشك لا على يقين، فإن أصابهم خير اطمأنوا بالإسلام والإيمان وثبتوا عليه، وإن أصابهم فتنة امتحاناً لهم انقلبوا على وجوههم، فحالهم أنهم خسروا الدنيا والآخرة، فالدنيا في فسق وكفر وفجور، وأما في الآخرة فلا تسل عن مصيرهم والعياذ بالله.

ثم قال تعالى تعقيباً على هذا الحكم: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، والله العظيم، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، فالذي خسر الدنيا والآخرة هل بقي خسران أعظم من هذا؟ إن هذا لخسران واضح بين وعظيم، إذ لو خسر الدنيا فقط لقلنا: هان عليه الأمر، أو لو خسر الآخرة فقط أخف، لكن خسر الدنيا والآخرة فهذا هو الخسران المبين.

مرة أخرى اسمعوا عن البدو وعن بعض المنافقين في كل زمان ومكان: يدخلون في الإسلام طمعاً ورغبة فيما فيه من الخير، لكن لما لا يجدون ذلك ينتكسون ويعودون إلى كفرهم وشركهم والعياذ بالله، وهنا أنصح للمؤمن فأقول: يا عبد الله! أنت الآن مستقيم تصوم وتصلي وتعبد الله عز وجل، لكن احذر إذا امتحنت فزالت الوظيفة أو قل الراتب أو ماتت الزوجة أو فقدت كذا، هل تصبر وتبقى على طاعة الله طالباً رضاه أو تنتكس؟ قد يقع هذا، أما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31]؟ فلابد وأن يفتن العبد ولو أسبوعاً أو عاماً حتى لا يقع في هذه المحنة التي وقع فيها بعض الأعراب وبعض المنافقين في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11]، أي: بالإسلام وبالعبادة، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11]، ولم يقل: على رأسه، وإنما على وجهه والعياذ بالله، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، فلا خسران أوضح وأعظم من أن يخسر الإنسان الدنيا والآخرة معاً، إذ لو خسر الدنيا فقط ما ضره ذلك الخسران إذا ربح الآخرة وفاز بها.

قال تعالى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [الحج:12]. ‏

بيان حال المشرك بالله تعالى

ثم قال تعالى مبيناً لنا حال هذا المرتد المنافق: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ [الحج:12]؛ لأنه يدعو هذا الصنم الذي يعبده، أو يدعو الملائكة التي يعبدها، أو يدعو عيسى الذي يعبده النصارى أو العزير كاليهود، ومع الأسف فإن المسلمين في الشرق والغرب طيلة الألف سنة تقريباً يدعون غير الله تعالى، أي: وبينهم من يدعو غير الله تعالى، فيدعون الأولياء، ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ابنته فاطمة، ويدعون أحفاده الحسن والحسين، بل تجد مكتوباً على السيارة: الحسن أو الحسين أو يا فاطمة! كما قد دعي عبد القادر الجيلاني، ويا راعي الحمراء! فيدعونهم بأعلى الأصوات في الشرق والغرب، حتى في مدينة الرسول قبل مجيء الملك عبد العزيز، إذ كانوا يعبدون الأولياء، والعبادة ليست صلاة أو صيام، نعم هذه عبادة، لكن الدعاء هو مخ العبادة، أي: أصلها، فالذي يقول: يا سيدي فلان! المدد أو الغوث، أنا في حماك، أنا نازل بدارك، أنا كذا وكذا، فأية عبادة أعظم من هذه العبادة؟!

وما زال هذا النوع ولكن الحمد لله قد قل قليلاً، فيوجد عند الجهال والمتعمدين والمصرين على الباطل كبرياء، ولكن عدد قليل جداً، فقولوا: الحمد لله، ولهذا فإن من أسباب اختفائه انتشار العلم، والآن قد أصبح العلم في كل بيت، فهذه إذاعة القرآن في كل بيت في العالم، فتسمع كل يوم العلم والهدى، وتريد أن ترحل من بلد إلى بلد ففي ساعات، وقبل ذلك سواء في صحراء أو في جبل أو في وادي لا يصل إليه الناس أيضاً، أما الآن فقد فتح الله البلاد والعباد، فلهذا قل الشرك، وقل ما تسمع شخصاً يقول: يا رسول الله! أنا في كذا، ولا فرق بين أن يدعو رسول الله أو عبد القادر أو البدوي أو العيدروس.

وإن من أسباب انتشار هذا الشرك هو الجهل، فهذا الاستعمار قد أبعدنا عن الإسلام وحال بيننا وبين أن نفقه دين الله، وقبله غرتنا الحياة الدنيا وتكالبنا عليها، وأشركنا بالله وفسقنا عن أمره فأصبحنا نستبيح نساء بعضنا البعض، ونستبيح أموال بعضنا البعض، وغير ذلك من الأمور التي يقشعر لها البدن، وذلك من اندونيسيا إلى موريتانيا، وأنا أتكلم معكم بهذا على علم، أما كان الحجاج يسلبون أموالهم في الطريق من المدينة إلى مكة؟ هل هناك أعظم من هذا؟ وعندنا في الجزائر لا تمر من قرية إلى قرية إلا وتدفع ضريبة، وإلا فالقتل أو السلب ينتظرك، فهبطت أمة الإسلام هبوطاً كاملاً.

ومن قال: ما البرهنة وما الدليل على ذلك؟ فنقول: لولا هبوطها تعلو عليها بريطانيا وتحكمها فرنسا وإيطاليا؟ ثم أما استعمرنا من إندونيسيا إلى موريتانيا؟ كيف يحكم الكافرون المسلمين؟ ما يعقل هذا أبداً، لكن انسلخوا من الإسلام، فمن فعل بهم هذا؟ إنه العدو المكون من اليهود والنصارى والمجوس، وقد بينت وعرفتم أن القرآن الكريم بمنزلة الروح للحياة، ولنقرأ لذلك قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، ما هذا الروح الذي أوحاه إليه؟ والله للقرآن، لكن للأسف عرف هذا العدو، وهو يعمل ليلاً ونهاراً منذ سقوط عرش كسرى وإجلاء اليهود من المدينة ودخول الإسلام إلى الأسبان أو بلاد الروم، على أن ينهي هذا الإسلام، فعثروا على هذا الروح فسلبوها فماتت الأمة.

في تلك الفترة قبل خمسة وعشرين أو ثلاثين سنة لا تجد واحداً يقول لك: أسمعني شيئاً من كلام الله تعالى، ولا تجد ثلاثة يقولون: هيا نسمع كلام الله تعالى، إذ ما يقرءون القرآن إلا على الموتى في المقابر أو في بيوت الهلكى فقط، ولو تقول: قال الله، يقولون لك: اسكت، أو تقول: القرآن فيه الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، يقولون لك: لا تقل هذا أبداً، فكممونا ووضعوا قاعدة تقول: تفسير القرآن صوابه خطأ، أي: إن فسرت فأصبت فقد أخطأت، إذ لا حق لك في ذلك، وخطأه كفر والعياذ بالله، فمن يستطيع أن يقول: قال الله؟! فما أصبح العالم الإسلامي عرباً وعجماً يجتمع على كتاب الله ويتدارسه أبداً، وإنما يكفيهم كتب الفقه والعقيدة، فهذا ماتريدي وهذا شافعي وهذا أشعري وهذا فقه مالكي وهذا فقه شافعي، أما الكتاب والسنة فلا.

وأما السنة فماذا فعلوا بها؟ في ديارنا الجزائرية إمام المسجد والمفتي يجتمع عليه رجال في رمضان يدرسون البخاري للبركة، وقد جئنا مهاجرين فوجدنا هذا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يجتمع أعيان البلاد في الروضة لا ليدرسوا البخاري فيتعلموا حكماً من أحكام الشرع، وإنما ليقرئوا البخاري للبركة فقط، ومن ثم هبطت أمة الإسلام وأصبحوا يتبجحون ويتفاخرون بالتلصص والإجرام والسرقة والخيانة، بل وقل ما شئت، وذلك من الشرق إلى الغرب، فلما لصقوا بالأرض جاءت أوروبا فحكمتهم، جاءت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا فسادوهم وحكموهم، حتى دول الإسلام في الشرق الأقصى وصلت إليهم أوروبا فحكموهم وسادوهم، بل الهند بكامله كان مستعمرة بريطانية بإسلامه وكفره.

الطريق الحق للخروج مما نحن فيه

فهيا نرجع إلى الله تعالى، فهيا نتب إلى الله تعالى، فإن قيل: يا شيخ! ما نستطيع، إذاً فلننتظر محنة أخرى كالتي سبقت، فإما أن نتوب بعد أن عرفنا الطريق، وإلا انتظرنا مصائب أخرى تنزل بنا، أين الله؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، والطريق هو ما كررت القول فيه وكتبت وبينت وقدمت للعالم الإسلامي: أن يجتمع أهل القرية أو أهل الحي في المدينة كل ليلة وطول العام، فيصلون المغرب في مسجدهم الجامع، ويجلس لهم معلم مربي، وليلة آية من كتاب الله يدرسونها بعد حفظها ومعرفة هداية الله فيها، والعزم على التطبيق والعمل بها، والليلة الثانية يأخذون سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتب الصحيحة، فيحفظون ويعلمون ويطبقون ويعملون، ثم سلوني كيف تصبح البلاد؟ والله ما يصبح فيها خمر ولا زنا ولا جرائم ولا موبقات ولا بخل ولا شح ولا كذب ولا خيانة ولا ربا ولا زنا، فإن قيل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟ أقول: إن هذه سنة الله عز وجل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وهذه سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، فكذلك أهل العلم ومعرفة الرب ومعرفة ما عنده وما لديه مستحيل أن يفسقوا ويفجروا.

وهذا أمر واضح، وأوضح من هذا ادخل قرية في الهند أو في السند أو في المدينة أو في الشرق أو في الغرب، واسأل في صدق عن أتقاهم؟ والله لن تجده إلا أعلمهم وأعرفهم بالله تعالى؛ لأنه إذا عرف العبد ربه أحبه وخافه، وإذا عرف محابه فعلها، وإذا عرف مكارهه تركها، وبذلك أصبح ولي الله لا خوف عليه ولا حزن، فهل هناك طريق غير هذا؟ والله لا طريق، والذين يقولون: اقتلوا وكفروا الحكام واذبحوا وفجروا! والله ما ينتج هذا، إذ ليس فقط إلا أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى، ونعود إلى ما كان عليه رسول الله وأصحابه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، أين هذا؟ في المدارس؟ لا والله، وإنما في المسجد.

ومن البرهنة أيضاً: الملازمون لدرس في المسجد في أي بلد هم أتقى الآخرين والله العظيم، وهذا أمر مفروغ منه، وقد عرف هذا العدو فصرفنا عنه، وإلا فإنه إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب وقف العمل، فأغلق الباب يا صاحب الدكان! والفلاح صاحب المسحاة يتركها، والكاتب يرمي بالقلم من يده، والكل يتوضأ ويأخذ زوجته وأولاده إلى بيت ربه، فيصلون المغرب والعشاء ويتعلمون الهدى، ويعودون وكلهم ذكر وشكر لله عز وجل، فلا شح ولا رغبة في الشهوات ولا في الدنيا ولا في أطماعها، فهل فهمتم هذا؟ فهيا نتعاون على إيجادها، ولقد قلت: لو أن أهل قرية فعلوا هذا لحججناهم، أي: لزرناهم كالحج، ولأجزناهم بجائزة ثلاثين ألف أوروبية أو ليرة، لكن للأسف ليس هناك من فعل ذلك.

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ [الحج:12]، لو أنه دعاه فدفع عنه الضر لأجاز الله له ذلك؛ لأنه يحب للعبد أن يُرفع عنه الضر، أو لو كان ينفع إذا دعاه لأذن الله له في ذلك، لكن والله لا يضرك ولا ينفعك، فإن دعوته ما يضرك، وإن دعوته ما ينفعك، فكيف إذاً تدعوه؟! يدعو من دون الله ومن غير الله من المعبودات المزعومة أحجاراً أو أصناماً أو رجالاً أو غيرهم أو ملائكة ما لا يضرهم ولا ينفعهم.

معنى قوله تعالى: (ذلك هو الضلال البعيد)

ثم يقول تعالى: ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [الحج:12]، أي: هذا هو الضلال البعيد، يعرض عن الله ويغمض عينيه ويلتفت إلى غيره، ويترك السميع العليم الذي يضر وينفع، ويدفع الضر ويعطي النفع، ويعرض عنه ويدعو غيره معه! فأي ضلال أبعد من هذا الضلال؟ هذا أقصى الدنيا، ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [الحج:12]، هذا هو الضلال البعيد لا غيره.

ثم قال تعالى مبيناً لنا حال هذا المرتد المنافق: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ [الحج:12]؛ لأنه يدعو هذا الصنم الذي يعبده، أو يدعو الملائكة التي يعبدها، أو يدعو عيسى الذي يعبده النصارى أو العزير كاليهود، ومع الأسف فإن المسلمين في الشرق والغرب طيلة الألف سنة تقريباً يدعون غير الله تعالى، أي: وبينهم من يدعو غير الله تعالى، فيدعون الأولياء، ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ابنته فاطمة، ويدعون أحفاده الحسن والحسين، بل تجد مكتوباً على السيارة: الحسن أو الحسين أو يا فاطمة! كما قد دعي عبد القادر الجيلاني، ويا راعي الحمراء! فيدعونهم بأعلى الأصوات في الشرق والغرب، حتى في مدينة الرسول قبل مجيء الملك عبد العزيز، إذ كانوا يعبدون الأولياء، والعبادة ليست صلاة أو صيام، نعم هذه عبادة، لكن الدعاء هو مخ العبادة، أي: أصلها، فالذي يقول: يا سيدي فلان! المدد أو الغوث، أنا في حماك، أنا نازل بدارك، أنا كذا وكذا، فأية عبادة أعظم من هذه العبادة؟!

وما زال هذا النوع ولكن الحمد لله قد قل قليلاً، فيوجد عند الجهال والمتعمدين والمصرين على الباطل كبرياء، ولكن عدد قليل جداً، فقولوا: الحمد لله، ولهذا فإن من أسباب اختفائه انتشار العلم، والآن قد أصبح العلم في كل بيت، فهذه إذاعة القرآن في كل بيت في العالم، فتسمع كل يوم العلم والهدى، وتريد أن ترحل من بلد إلى بلد ففي ساعات، وقبل ذلك سواء في صحراء أو في جبل أو في وادي لا يصل إليه الناس أيضاً، أما الآن فقد فتح الله البلاد والعباد، فلهذا قل الشرك، وقل ما تسمع شخصاً يقول: يا رسول الله! أنا في كذا، ولا فرق بين أن يدعو رسول الله أو عبد القادر أو البدوي أو العيدروس.

وإن من أسباب انتشار هذا الشرك هو الجهل، فهذا الاستعمار قد أبعدنا عن الإسلام وحال بيننا وبين أن نفقه دين الله، وقبله غرتنا الحياة الدنيا وتكالبنا عليها، وأشركنا بالله وفسقنا عن أمره فأصبحنا نستبيح نساء بعضنا البعض، ونستبيح أموال بعضنا البعض، وغير ذلك من الأمور التي يقشعر لها البدن، وذلك من اندونيسيا إلى موريتانيا، وأنا أتكلم معكم بهذا على علم، أما كان الحجاج يسلبون أموالهم في الطريق من المدينة إلى مكة؟ هل هناك أعظم من هذا؟ وعندنا في الجزائر لا تمر من قرية إلى قرية إلا وتدفع ضريبة، وإلا فالقتل أو السلب ينتظرك، فهبطت أمة الإسلام هبوطاً كاملاً.

ومن قال: ما البرهنة وما الدليل على ذلك؟ فنقول: لولا هبوطها تعلو عليها بريطانيا وتحكمها فرنسا وإيطاليا؟ ثم أما استعمرنا من إندونيسيا إلى موريتانيا؟ كيف يحكم الكافرون المسلمين؟ ما يعقل هذا أبداً، لكن انسلخوا من الإسلام، فمن فعل بهم هذا؟ إنه العدو المكون من اليهود والنصارى والمجوس، وقد بينت وعرفتم أن القرآن الكريم بمنزلة الروح للحياة، ولنقرأ لذلك قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، ما هذا الروح الذي أوحاه إليه؟ والله للقرآن، لكن للأسف عرف هذا العدو، وهو يعمل ليلاً ونهاراً منذ سقوط عرش كسرى وإجلاء اليهود من المدينة ودخول الإسلام إلى الأسبان أو بلاد الروم، على أن ينهي هذا الإسلام، فعثروا على هذا الروح فسلبوها فماتت الأمة.

في تلك الفترة قبل خمسة وعشرين أو ثلاثين سنة لا تجد واحداً يقول لك: أسمعني شيئاً من كلام الله تعالى، ولا تجد ثلاثة يقولون: هيا نسمع كلام الله تعالى، إذ ما يقرءون القرآن إلا على الموتى في المقابر أو في بيوت الهلكى فقط، ولو تقول: قال الله، يقولون لك: اسكت، أو تقول: القرآن فيه الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، يقولون لك: لا تقل هذا أبداً، فكممونا ووضعوا قاعدة تقول: تفسير القرآن صوابه خطأ، أي: إن فسرت فأصبت فقد أخطأت، إذ لا حق لك في ذلك، وخطأه كفر والعياذ بالله، فمن يستطيع أن يقول: قال الله؟! فما أصبح العالم الإسلامي عرباً وعجماً يجتمع على كتاب الله ويتدارسه أبداً، وإنما يكفيهم كتب الفقه والعقيدة، فهذا ماتريدي وهذا شافعي وهذا أشعري وهذا فقه مالكي وهذا فقه شافعي، أما الكتاب والسنة فلا.

وأما السنة فماذا فعلوا بها؟ في ديارنا الجزائرية إمام المسجد والمفتي يجتمع عليه رجال في رمضان يدرسون البخاري للبركة، وقد جئنا مهاجرين فوجدنا هذا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يجتمع أعيان البلاد في الروضة لا ليدرسوا البخاري فيتعلموا حكماً من أحكام الشرع، وإنما ليقرئوا البخاري للبركة فقط، ومن ثم هبطت أمة الإسلام وأصبحوا يتبجحون ويتفاخرون بالتلصص والإجرام والسرقة والخيانة، بل وقل ما شئت، وذلك من الشرق إلى الغرب، فلما لصقوا بالأرض جاءت أوروبا فحكمتهم، جاءت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا فسادوهم وحكموهم، حتى دول الإسلام في الشرق الأقصى وصلت إليهم أوروبا فحكموهم وسادوهم، بل الهند بكامله كان مستعمرة بريطانية بإسلامه وكفره.

فهيا نرجع إلى الله تعالى، فهيا نتب إلى الله تعالى، فإن قيل: يا شيخ! ما نستطيع، إذاً فلننتظر محنة أخرى كالتي سبقت، فإما أن نتوب بعد أن عرفنا الطريق، وإلا انتظرنا مصائب أخرى تنزل بنا، أين الله؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، والطريق هو ما كررت القول فيه وكتبت وبينت وقدمت للعالم الإسلامي: أن يجتمع أهل القرية أو أهل الحي في المدينة كل ليلة وطول العام، فيصلون المغرب في مسجدهم الجامع، ويجلس لهم معلم مربي، وليلة آية من كتاب الله يدرسونها بعد حفظها ومعرفة هداية الله فيها، والعزم على التطبيق والعمل بها، والليلة الثانية يأخذون سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتب الصحيحة، فيحفظون ويعلمون ويطبقون ويعملون، ثم سلوني كيف تصبح البلاد؟ والله ما يصبح فيها خمر ولا زنا ولا جرائم ولا موبقات ولا بخل ولا شح ولا كذب ولا خيانة ولا ربا ولا زنا، فإن قيل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟ أقول: إن هذه سنة الله عز وجل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وهذه سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، فكذلك أهل العلم ومعرفة الرب ومعرفة ما عنده وما لديه مستحيل أن يفسقوا ويفجروا.

وهذا أمر واضح، وأوضح من هذا ادخل قرية في الهند أو في السند أو في المدينة أو في الشرق أو في الغرب، واسأل في صدق عن أتقاهم؟ والله لن تجده إلا أعلمهم وأعرفهم بالله تعالى؛ لأنه إذا عرف العبد ربه أحبه وخافه، وإذا عرف محابه فعلها، وإذا عرف مكارهه تركها، وبذلك أصبح ولي الله لا خوف عليه ولا حزن، فهل هناك طريق غير هذا؟ والله لا طريق، والذين يقولون: اقتلوا وكفروا الحكام واذبحوا وفجروا! والله ما ينتج هذا، إذ ليس فقط إلا أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى، ونعود إلى ما كان عليه رسول الله وأصحابه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، أين هذا؟ في المدارس؟ لا والله، وإنما في المسجد.

ومن البرهنة أيضاً: الملازمون لدرس في المسجد في أي بلد هم أتقى الآخرين والله العظيم، وهذا أمر مفروغ منه، وقد عرف هذا العدو فصرفنا عنه، وإلا فإنه إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب وقف العمل، فأغلق الباب يا صاحب الدكان! والفلاح صاحب المسحاة يتركها، والكاتب يرمي بالقلم من يده، والكل يتوضأ ويأخذ زوجته وأولاده إلى بيت ربه، فيصلون المغرب والعشاء ويتعلمون الهدى، ويعودون وكلهم ذكر وشكر لله عز وجل، فلا شح ولا رغبة في الشهوات ولا في الدنيا ولا في أطماعها، فهل فهمتم هذا؟ فهيا نتعاون على إيجادها، ولقد قلت: لو أن أهل قرية فعلوا هذا لحججناهم، أي: لزرناهم كالحج، ولأجزناهم بجائزة ثلاثين ألف أوروبية أو ليرة، لكن للأسف ليس هناك من فعل ذلك.

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ [الحج:12]، لو أنه دعاه فدفع عنه الضر لأجاز الله له ذلك؛ لأنه يحب للعبد أن يُرفع عنه الضر، أو لو كان ينفع إذا دعاه لأذن الله له في ذلك، لكن والله لا يضرك ولا ينفعك، فإن دعوته ما يضرك، وإن دعوته ما ينفعك، فكيف إذاً تدعوه؟! يدعو من دون الله ومن غير الله من المعبودات المزعومة أحجاراً أو أصناماً أو رجالاً أو غيرهم أو ملائكة ما لا يضرهم ولا ينفعهم.