سلاح المؤمنة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم أما بعد:

أخواتي المسلمات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

فهذا أول لقاء من لقاءات الدراسات النسائية، وموضوع درس هذه الليلة: هو الدعاء وأثره.

وسيتكون الموضوع من عدة نقاط:

النقطة الأولى: البداية.

ثم: قبل الموضوع.

ثم: مقدمة للموضوع.

ثم: من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم: من أقوال السلف.

ثم: من شروط الدعاء.

ثم: فن الثناء.

ثم: مسألة في الإبطاء في إجابة الدعاء.

ثم: من أدب الدعاء.

ثم: الافتقار إلى الله.

ثم: لا تيأسي من روح الله.

ثم: وقفة أخيرة.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم أما بعد:

أخواتي المسلمات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فهذا أول لقاء في لقاءات الدراسات النسائية، وموضوع الدرس هذه الليلة: عن الدعاء وأثره.

وسيتكون الموضوع من عدة نقاط:

النقطة الأولى: البداية.

ثم: قبل الموضوع.

ثم: مقدمة للموضوع.

ثم: من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم: من أقوال السلف.

ثم: من شروط الدعاء.

ثم: فن الثناء.

ثم: مسألة في الإبطاء في إجابة الدعاء.

ثم: من أدب الدعاء.

ثم: الافتقار إلى الله.

ثم: لا تيأسي من روح الله.

ثم: وقفة أخيرة.

البداية

الحمد لله على جزيل إنعامه وإفضاله، والشكر له على جليل إحسانه ونواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى في إلهيته وربوبيته، وتقدس في أحديته وصمديته، وتنزه في صفات كماله عن الكفء والنظير، وعز في سلطان قهره وكمال قدرته عن المنازع والمغالب والمعين والمشير، وجل في بقائه وديموميته وغناه وقيوميته عن المطعم والمجير، وصلى الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.

يا رب حمداً ليس غيرك يحمد

يا من له كل الخلائق تصمد

أبواب غيرك ربنا قد أوصدت

ورأيت بابك واسعاً لا يوصد

هو القائل جل جلاله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

اسمعي كيف سماهم عِبَادِي بأشرف الأسماء، فأضاف العباد إليه، ورد عليه مباشرة، أي: لم يقل: فقل لهم، وإنما تولى الجواب بنفسه، ليبين لهم أنه لا واسطة بينهم وبينه، وأن بابه مفتوح، وهو قريب ممن دعاه، حليم على من عصاه، غني عمن تناساه.

قال صاحب الظلال: إنها آية عجيبة، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضا المطمئن، والثقة واليقين، لم يقل: أسمع الدعاء، إنما عجل بإجابة الدعاء: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ .

قبل الموضوع

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة، وقرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]).

وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48-49]، فسمى الدعاء: عبادة.

السؤال: ما هي العبادة؟

قال ابن القيم : هي غاية الحب مع غاية الذل والخضوع.

والعرب تقول طريق معبد: أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً.

وقال رحمه الله: وسر الخلق، والأمر، والكتب، والشرائع، والثواب، والعقاب، في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]: وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين؛ فقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ : هي لله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هي للعبد، فهذا معنى العبادة.

أما معنى الاستعانة: فهي الثقة بالله، والاعتماد عليه، فقد تثقين بالواحد من الناس لكنك لا تعتمدين عليه، وقد تعتمدين على أحد من الناس ولكنك لا تثقين به، وإنما اعتمدت عليه للحاجة إليه، قال سبحانه في هذا المعنى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123].

وفي قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]: دليل على أننا نستعين بالله على عبادته.

فوالله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

والناس أختي الحبيبة! في هذين الأصلين أي: العبادة والاستعانة على أقسام: أولها -وهو أجلها وأفضلها-: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه سبحانه أن يعينهم عليها ويوفقهم لها، وهذا أجل وأفضل ما يسأل فيه الرب تبارك وتعالى أي: الإعانة على مرضاته.

وهذا الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: (يا معاذ ! والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، والحديث صحيح.

فأنفع الدعاء أختي الحبيبة: طلب العون على مرضاة الله، وأفضل المواهب والعطايا: إسعاف الطالب بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضادها، فتأملي ذلك في كل الأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

تأملي قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أصلح لي ديني)، وقوله: (ولا تجعل مصيبتي في ديني)، تأملي هذا الدعاء، استشعريه يا رعاك الله.

ثانيها: أهل الإعراض عن عبادة الله وعن الاستعانة به سبحانه، فلا عباده، ولا استعانة، وإن سأل أحدهم ربه أو استعان به فإنما ذلك لحظوظ وشهوات الدنيا، لا لمرضاة ربه وحقوقه عليه.

تأملي: أن الله يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، فإبليس وهو أبغض أعدائه سأل حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاته كانت زيادة له في شقوته، وبعده عن الله، وطرده عنه، وهكذا من استعانت بالله على أمر وسألته إياه، ولم يكن عوناً على طاعة الله كان مبعداً لها عن مرضاته قاطعاً لها عنه ولا بد.

تأملي واعلمي أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله العبد حاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه أو سقوطها من عينه، وتسأل الأمة حاجة فيمنعها الله ولا يجيبها لكرامتها ومحبته لها فيمنعها حماية وصيانة وحفظاً لا بخلاً، وهذا إنما يفعله بعبده وأمته لكرامتهما ومحبتهما، فيظنان بجهلهما أن الله لا يحبهما ويكرمهما، سيما عند قضائه حوائج غيرهما من الناس، فيساء الظن بالله والمعصوم من عصمه سبحانه.

فاحذري كل الحذر أن تسألي شيئاً معيناً خيريته وعاقبته مغيبة عنك، فإن كان لا بد من سؤاله فعلقي ذلك على شرط علمه تعالى فيه الخيرية، وقدمي بين يدي سؤالك: الاستخارة، ولكن لا تكن استخارة باللسان بلا معرفة، بل استخارة من لا علم له بمصالحه، ولا قدرة لها عليها، استخارة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفاً، بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك.

وتأملي قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، وقوله: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين).

مفهوم الدعاء وأقسامه

ما هو الدعاء؟

الدعاء لغة: مأخوذ من مادة: دعوا، والتي تدل في الأصل على إمالة الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك، ومن هذا الأصل: فالدعاء فيه معنى الرغبة إلى الله عز وجل، وهو واحد الأدعية، والفعل من ذلك: دعا يدعو، والمصدر: الدعاء والدعوة.

والدعاء اصطلاحاً: قال فيه الطيبي : هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وهذا تعريف يتناول دعاء العبادة كما جاء في فتح الباري.

وقال المناوي : هو لسان الافتقار لشرح الاضطرار، وهذا التعريف يتناول دعاء المسألة المتضمن لدعاء الثناء والعبادة.

أقسام الدعاء في القرآن: جاء لفظ الدعاء في القرآن متناولاً معنيين: الأول: دعاء العبادة، والثاني: دعاء المسألة.

فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي، كطلب كشف ما يضره ودفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود بحق كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية .

أما دعاء العبادة: فهو الذي يتضمن الثناء على الله بما هو أهله، ويكون مصحوباً بالخوف والرجاء.

والدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا أخرى، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان؛ فالعبد يدعو للنفع أو لدفع الضر دعاء مسألة، وهو كذلك يدعو خوفاً ورجاءً فيكون دعاء عبادة، وقد ورد المعنيان في قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56].

وقيل في قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186]: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني.

قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)، وإسناده حسن، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان : (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفراً ليس فيهما شيء)، صححه الألباني رحمه الله، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاه)، ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.

من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

عن شهر بن حوشب قال: قلت لـأم سلمة رضي الله عنها: (يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت كان أكثر دعاءه: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).

وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، رواه البخاري ومسلم .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً لك ذاكراً لك راهباً لك مطواعاً، إليك مخبتاً أو منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهدي قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي)، رواه أبو داود والترمذي والحديث صحيح.

من علامات إجابة الدعاء أختي الحبيبة:

ما يحصل لنفس الداعية من انشراح في صدرها، وبهجة في فؤادها؛ لامتثالها أمر ربها تبارك وتعالى، ولاشتغالها بذكره ودعائه، قال عمر : (والله إني لا أحمل هم الإجابة، ولكني أحمل هم الدعاء).

قال الطحاوي في شرح الطحاوية: والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات، ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر، وصار من أهل الحيم أ . هـ، والحيم: الهلاك.

فالداعية الصادقة تقصد بدعائها تعظيم ربها تبارك وتعالى، وتمجيده، ورجاء الأجر والمثوبة منه، مع الطمع بتحقيق ما وعد الله به من الاستجابة كلها، ودعوة الأمة المؤمنة لا ترد، والخير فيما يختاره الله، من تعجيل الإجابة، أو تعويضها بما هو أولى، أو ادخارها لها في الآخرة خيراً مما سألت.

والدعاء أختي الحبيبة! هو أقوى الأسباب لدفع المكروه، ودفع البلايا والمصائب.

وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات كما ذكر ابن القيم في الفوائد:

أولاً: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء، فيدفعه.

ثانياً: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكنه يخففه وإن كان ضعيفاً.

ثالثاً: أن يتقاوما؛ فيمنع كل واحد منهما صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان : (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، حسنه الألباني .

من فوائد الدعاء

فوائد الدعاء كثيرة أختي الحبيبة منها:

أولاً: سرعة الفرج، وتفريج الكرب.

ثانياً: إلقاء الهم على الرب؛ لحسن الظن بالقرب.

ثالثاً: الدعاء سلاح يتقى به العدو وسوء القضاء.

رابعاً: يجلب المصالح، ويدفع المفاسد.

خامساً: يشغل الأمة بذنبها وعيبها عن عيب غيرها.

سادساً: مداومة الشعور بالضعف والحاجة، فلا تزال الأمة تدعو حتى تنال حاجتها.

سابعاً: أنه من أجل أنواع العبادة فيقصد لذاته،كما يقصد لقضاء الحاجة، أو لدفع المضرة.

ثامناً: يشعر العبد والأمة بأن الله معهما دائماً أينما كانا.

يقول الناظم:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه

وما تدري بما صنع الدعاء

سهام لا تخطي ولكن

لها أمد وللأمد انقضاء

قال سهل التستري : شروط الدعاء سبعه:

أولها: التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.

من أقوال السلف رحمهم الله

هذه طائفة من أقوال السلف رحمهم الله.

قال ابن عطاء : إن للدعاء أركاناً، وأجنحة، وأسباباً، وأوقاتاً، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح.

فأركانه: حضور القلب، والرأفة، والاستكانة، والخشوع بين يدي علام الغيوب.

وأجنحة الدعاء: الصدق مع الله، ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قيل لـإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟! قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، أما قال الله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، أما قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، أما قال جل وعلا: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها، أما قال جل وعلا: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83]، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، أما قال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، أما قال جل من قائل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65]، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، أما قال سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، أما قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، أما قال سبحانه: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس قال سبحانه: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].

فن الدعاء

الثناء على الله: فن من الفنون، ولا يثنى على الله إلا بما أثنى به على نفسه في كتابه، أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ندعوا الله ونثني عليه تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته وآياته، فإذا حل الأمر الصعب، وادلهم الخطب، وعم الجدب، وأظلمت الأفق، وضاقت الطرق، وانشق بالمصائب الأفق، فالله المستعان، وإذا جاعت البطون، وأخطأت الظنون، وحلت المنون فالله المستعان، وإذا قست القلوب، وظهرت العيوب، وكثرت الذنوب فالله المستعان، وإذا فقد الولد، وقحط البلد، وضعف السند، فالله المستعان.

سبحان من انتشل ذا النون من الظلمات، ونجا نوحاً من الكربات، سبحان من أطفأ النار لإبراهيم، وجمد الماء للكليم، سبحان من على العرش استوى، سبحان من يسمع ويرى، سبحان الله العظيم، سبحان من لا يموت، سبحان من تكفل بالقوت، سبحان من وهب النور في الأبصار، وقصر بالموت الأعمار.

لا إله إلا الله ولا نعبد سواه، غالب فلا يقهر، أغنى وأقنى أضحك وأبكى، لا إله إلا الله عدد ما خطت الأقلام، وسجع الحمام، وهطل الغمام، وقوضت من منى الخيام.

لا إله إلا الله كلما برق الصباح، وهبت الرياح، وتعاقبت الأحزان والأفراح، عز فارتفع، خضع له كل شيء وركع، أعطى ومنع خفض ورفع، أعز وأذل سبحانه: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

يهدي ضالاً، ويغني فقيراً، ويغفر ذنباً، ويستر عيباً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن أمنن فإن الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أرفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع

ومن ذا الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشاك لمجدك أن تقنظ عاصياً الفضل أجزل والمواهب أوسع

الإبطاء في إجابة الدعاء

أختي الحبيبة! قد يبتلي الله العبد فيبطئ عليه في الإجابة، وكذا الأمة المؤمنة قد تدعو فلا يستجاب لها، فتكرر الدعاء وتطول المدة ولا ترى أثراً للإجابة، فينبغي لها أن تعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى صبر، ولا بد من معرفة أمور حتى ينقطع عنك وسوسة الشيطان:

أولاً: ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه، إن أعطى فبرحمته وإن منع فبعدله تبارك وتعالى.

ثانياً: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة.

رجل ماتت زوجته وهي في حالة ولادة، فأنجبت له بنية صغيرة، فأشار إليه أحد المشائخ أن يتزوج في الحال، حتى يجد من يرعى بنيته الصغيرة، وكان يأمل بالزواج زيادة النسل والذرية، تزوج وقامت المؤمنة برعاية ابنته كما ينبغي، لكنها مرت عليها السنة والسنتين ولم تنجب، فاشتكى إلى شيخه، فقال له الشيخ: اصبر فإن لله حكمة، ومرت أربع وخمس وهو يشتكي إلى شيخه، وهو يقول له: اصبر فإن لله حكمة، حتى مرت سبع سنوات، فإذا بها قد حملت ثم ذهب إلى شيخه يبشره بذلك، فقال: إن لله حكمة إذا أعطى، وله حكمة إذا منع، منع منك الولد حتى تربي بنيتك الصغيرة؛ لأنها لو أنجبت لتشاغلت عن تربية تلك الصغيرة.

ولكنها حكمة أختي الحبيبة! لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.

من الأمور التي يجب أن تعرف: أنه قد يكون التأخير مصلحة والاستعجال مضرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي).

ثالثاً: قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فابحثي عن هذه الأسباب لعلك تدركين بالمقصود.

ذكر إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار المنكر فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد وصلى ثم خرج فبصبص الكلب له، فمضى وأنكر المنكر، فسئل عن تلك الحال؟ فقال: كان هناك منكر وكان عندي ذنب فمنعني الكلب، فلما عدت وتبت واستغفرت فكان ما رأيتم.

رابعاً: ينبغي أن تبحثي عن مقصودك بهذا الطلب! أي: ماذا تريدين عندما تسألين ربك؟ وما مقصودك؟ فإن سألت مالاً، أو جاهاً، أو سلطاناً، أو أي سؤال سألتيه، فما هي نيتك ومقصدك من هذا السؤال؟ أسألت المال للازدياد في طاعة الله؟ وهل أردت الجاه حتى تتقربي به إلى الله؟ أم ماذا المراد من السؤال؟ أما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ ويقول: أعوذ بك من صحة تلهيني، أو غنى يطغيني، أما قال نوح عليه السلام: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47].

خامساً: ربما كان فقد ما فقدته سبباً للوقوف على باب الرحيم، واللجوء إليه، وربما كان حصول المراد سبباً للاشتغال به عن المسئول، فقد تكون هذه الحاجة التي أردتها سبباً لوقوفك بين يدي الله متضرعة، خاشعة، منيبة.

وكثير من الناس إذا قضى الله حوائجهم أعرضوا ونكصوا على أعقابهم، كما قال الله: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء:83-84].

فالحق عز وجل علم اشتغال كثير من الخلق عنه فأنزل عليهم عوارض تدفعهم إلى بابه ليستغيثوا به، فهذي من النعم في طي البلاء، أما البلاء المحض فهو اشتغالك عن الله تبارك وتعالى، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه عزك وجمالك.

حكي عن يحيى البكاء : أنه رأى ربه عز وجل في المنام فقال: يا رب! كم أدعوك ولا تجيبني، فقال: يا يحيى ! إني أحب أن أسمع صوتك.

وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه: فإما أن يعجلها وإما أن يؤخرها، وإما أن يدخرها له في الآخرة)، صححه الحاكم وإسناده جيد.

فإذا رأت الأمة يوم القيامة أن ما أجيبت فيه قد ذهب، وما لم تجب فيه قد بقي ثوابه، قالت: ليتك لم تجب لي دعوة قط!.

فافهمي هذه الأشياء، وسلمي قلبك من أن يختلج فيه ريب، أو استعجال، فالمنع لأمرين: إما لمصلحة وإما لذنب، وكل أدرى بحاله.

من آداب الدعاء

من آداب الدعاء: إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدمي التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب، فإذا تبت ودعوت ولم تري للإجابة أثراً فتفقدي أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت.. لماذا؟ لأن شروط التوبة أختي الحبيبة! بعض الناس قد يقوم بأحدها، ولا يأتي بالأركان الباقية.

وأعظم شروط التوبة: الندم، والإقلاع، والعزم، فقد تعزمين أو تقلعين ولكنك لا تندمين، فالتوبة حينئذٍ ناقصة، وقد تندمين وتعزمين ولا تقلعين فالتوبة ناقصة أيضاً.

إذاً: فلا بد من اكتمال شروط التوبة، صححي التوبة ثم ادعي ولا تملي، فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، لا في إجابتها، فإذا جاء إبليس وقال: كم تدعين ولا ترين إجابة؟! فقولي: أنا أتعبد الله بالدعاء، وأنا موقنة أن الجواب حاصل، غير أنه ربما كان في تأخيره بعض المصالح، فهو يجيء في الوقت المناسب كما قال الله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، ولو لم تحصل الإجابة حصل التعبد، والذل، والخضوع لله.

فإياك ثم إياك أن تسألي شيئاً إلا وتقرنيه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك، فإن كنا أمرنا بالمشاورة في أمور الدنيا، فكيف لا نسأل الله الخير في جميع أمورنا، وهو أعلم بما ينفعنا ويضرنا.

توسلي إلى الله به فقولي: يا محسناً! إلي قبل أن أطلبه، لا تخيب أملي فيك وأنا أطلبك، فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.

ومن آداب الدعاء: الافتقار إلى الله، بإعلان الحاجة، وبيان الذل والخضوع له سبحانه، قولي: يا رب! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، أمتك، وسائلتك، ومؤملتك لا ملجأ لها ولا منجى لها منك إلا إليك، أنت معاذها، وملاذها.

يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

يا من هو أرحم من الوالد بولده، والوالدة بولدها، من ذا الذي دعاك فرددته، وأتاك فطردته، يا قريباً ممن دعاه، يا حليماً على من عصاه، يا غنياً عمن تناساه، أنت القائل في الحديث القدسي على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ولا رجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).

يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى نياط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النحل

اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول

اسمعي افتقار محمد صلى الله عليه وسلم إلى مولاه في قوله: (إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي لا أبالي، ولكن رحمتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي سخطك أو ينزل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

اسمعي نبي الله موسى عليه السلام وهو يقول: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، اسمعي نبي الله يعقوب عليه السلام وهو يقول: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86]، اسمعي نبي الله يوسف عليه السلام وهو يقول: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].

أما دعاه زكريا نداء خفياً فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:4-6] فيأتيه الجواب: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7].

اسمعي يا رعاك الله! عندما دعاه أيوب وناداه بقوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] فقال سبحانه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84].

ناداه ذا النون في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، فسمع نداءه من فوق سبع سماوات قال سبحانه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].

رمي الخليل في النار فجاءه جبريل فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما لك فلا، أما لله فنعم، فحسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70].

دخل موسى وهارون عليهما السلام على فرعون فقالا: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:45-46].

فليس أحب إلى الله من الدعاء والانكسار والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له، فلله ما أحلى أن يقول العبد وكذا الأمة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وغناك وفقري، إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي -أو- وإماؤك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك دمعه وعينه، وذل لك قلبه.

تأملي ولا تيأسي من روح الله، وإنما يظهر الإيمان عند الابتلاء، فهو يبالغ والأمة تبالغ في الدعاء، ولا ترى أثراً للإجابة ولا يتغير أملها ولا رجاؤها ولو قويت أسباب اليأس؛ لعلمها أن الحق أعلم بالمصالح، أو لأن المراد منها الصبر والإيمان، فإنه لم يحكم عليها بذلك إلا وهو يريد من قلبها التسليم؛ لينظر كيف تصبرين، أو يريد كثرة اللجوء والدعاء والإلحاح عليه.

فأما من تريد تعجيل الإجابة وتتذمر إن لم يستجب لها فتلك ضعيفة الإيمان، ترى أن لها حقاً في الإجابة، وكأنها تتقاضى أجرة العمل، أما سمعتي قصة يعقوب عليه السلام بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لم يتغير، فلما زيد في بلائه وضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله، وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83]، وقد كشف الله هذا المعنى في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، وقال سبحانه: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسل والمؤمنين إلا بعد طول البلاء، وقرب اليأس من الفرج، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قيل له: وما يستعجل؟ قال: يقول دعوت فلم يستجب لي).

فإياك .. إياك! أن تستطيلي زمن البلاء، وتضجري من كثرة الدعاء، فإنك مبتلاة بالبلاء متعبدة بالصبر والدعاء، ولا تيأسي من روح الله وإن طال البلاء.

الرغبة والرهبة في الدعاء

تأملي في قوله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، لما ذكر الله تفريج هموم الأنبياء وإجابة الدعوات وقضاء الحاجات، ذكر عنهم هذه الآية العظيمة وبين حالهم أنهم: كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ .

والرغبة: هي ثمرة الرجاء.

والفرق بين الرجاء والرغبة: أن الرجاء طمع والرغبة طلب، فإن العبد إذا رجا الشيء طلبه، فالرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق، والراغبة سريعة في فعل الخيرات، مجدة مجتهدة بلا وهن ولا كسل، مثال ذلك: الكل يرجوا ويطمع أن يدخل الجنة،