تفسير سورة الحج (16)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن ما زلنا مع سورة الحج المكية، يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الحج:73-76].

استحباب ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ [الحج:73]، النداء هنا من الله عز وجل، والموجه إليهم هم المشركون من العرب وغيرهم، وبخاصة مشركي أهل مكة.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، فلا يدخل في هذا النداء المؤمنون الموحدون، ولكن يدخل فيه المشركون والكافرون، فماذا يقول تعالى لهم؟ يقول لهم: ضُرِبَ مَثَلٌ وضاربه هو الله تعالى، من أجل ماذا؟ ليفهموا عنه وليقبلوا عليه وليعبدوه وحده ولا يشركوا به غيره، إذ هو الذي ضرب المثل، أي: جعله، وطلب إليهم أن يستمعوا ويتأملوا، وقد كانت عادة العرب ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان، وذلك إذا كان المعنى صعب، فيفهمه السامع ويعقله وينتفع به، قال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر:27].

فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، والمثل هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وهي الأصنام والتماثيل، وقد كانت حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، ولا فرق بين لفظ: الصنم والتمثال، إلا أن التمثال قد يكون من الخشب والحطب، وقد يكون من الساج والعاج، وقد يكون من الورق، يعني: صورة، والصنم تمثال له ذات معينة.

التنديد بالشرك وبطلانه وبيان سفه المشركين

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: من تلك الأوثان والأصنام، وتدعون بمعنى: تعبدون، إذ الدعاء هو العبادة، وفي نفس الوقت كيف يعبدونهم؟ يذبحون الذبائح لهم، ويحلفون بهم، ويسألونهم ويستغيثون ويستعيذون بهم، وهذه هي العبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدعاء هو العبادة )، وفي حديث ضعيف: ( الدعاء مخ العبادة ).

وقد بينت لكم هذا عدة مرات وقلت: ارفع يديك وارفع رأسك إلى السماء وقل: يا رب! فماذا نقرأ عن هذه الصورة؟ هذا العبد والله إنه لفقير، فما الدلالة على فقره؟ رفع كفيه ضارعاً وسائلاً، وثانياً: هذا العبد موقن أن ربه عز وجل فوق سماواته، فلهذا رفع كفيه إليه، وثالثاً: هذا العبد موقن أن الرب تعالى يراه ويسمع صوته ونداءه، فلهذا رفع كفيه إليه وقال: يا الله! ورابعاً: هذا العبد لو كان يعلم أن هناك من يعطيه حاجته، ومن يقضيه حاجته، ومن يكرمه لرفع كفيه إليه ولقال هكذا أو هكذا، ولكن رفع يديه فقط إلى الله، فهو موقن أنه لا يوجد في الكون من يقضي حاجته إلا الله تعالى.

فلهذا كان الدعاء هو العبادة، ومع الأسف، ووا حزناه! ووا أسفاه! فإن الملايين ممن ينتسبون إلى الإسلام والرسول الكريم يسألون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! يا كذا! أنا في حماك، أنا دخيلك، اسأل لي كذا! فيواجهون الموتى بالأسئلة التي ما واجهوا الله بها! وهذا قد عم العالم الإسلامي في قرون الظلام والجهل، وما زالت بقايا إلى اليوم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، بالدعاء والضراعة والسؤال والعبادة، فإن حالهم وضعفهم وعجزهم: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا ، أي: هذه الآلهة لو اجتمعت وعزمت على خلق ذبابة واحدة والله ما قدرت، والذبابة تعرفونها، إذ هي حيوان صغير عفنة ضعيفة قذرة تنبت من الخرء والخبث، فلو اجتمعت الآلهة كلها على خلقها والله ما خلقت، ولو اجتمعوا على أن يخلقوا ذباباً ما قدروا عليه، فهل يجوز إذاً أن تطلب منهم الدينار والدرهم؟ وتطلب منهم النصرة والعون والقدرة وهو عاجز عن خلق ذبابة؟ وليس صنماً واحداً، بل كل الآلهة المعبودة من دون الله لا تستطيع أن تخلق ذباباً، بل ولو اجتمعوا على خلقه والله ما قدروا عليه.

وقد بينا هذا مرات وقلنا: لو تجتمع البشرية كلها من إندونيسيا إلى اليابان إلى الأمريكان على خلق ذبابة والله ما استطاعوا، حتى لو اجتمعوا على خلق قملة ما استطاعوا، فضلاً عن خلق إنسان أو حيوان، وقد صوروا صوراً وجعلوا فيها الكهرباء وغير ذلك من التكنولوجيا، لكن لا حياة ولا روح فيها، إذاً: لمن الخلق؟ لله عز وجل، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:54-55].

وما زلنا مع هذا المثل الذي ضربه الله للمشركين علهم يتوبون ويرجعون، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، ما هو؟ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وفي قراءة: (تعبدون من دون الله)، لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ .

ثم قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ، فقد كان المشركون يطلون آلهتهم بالزعفران والعطر وبمواد طيبة، فيأتي الذباب ويقع عليها ويسلبها، فهل يستطيعون أن يستردوها؟ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا ، مما عليهم في تلك الصور، هل يستطيعون إنقاذه؟ والله ما يستطيعون، لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ .

ضعف العابد المشرك والمعبود الصنم

وأخيراً يقول تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، فالطالب هو الذباب، والمطلوب هو الأصنام، فالذباب ضعيف، والأصنام حجارة مطلاة بالزعفران أو بالعطر وهي ضعيفة، وفي نفس الوقت ضعف الطالب وهو الداعي إلى الأصنام، والمطلوب وهو الأصنام، واللفظ يحمل المعنيين تمام الحمل، وصدق الله العظيم ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، أي: ضعف الطالب الذباب هو الذي يريد، أو المطلوب الصنم هو الذي يأخذ عطره، أو أراد الصنم أن يطرد الذباب فلم يستطع، وفي نفس الوقت ضعف المشركون وضعفت آلهتهم، إذ الكل لا يقدرون على شيء، فهذا معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ، إذاً، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].

ومن هنا والله ما صح لعبد أن يسأل غير ربه حاجته، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي في الصالحين، فضلاً عن القبور والأحجار والنباتات، وإنما الذي ترفع إليه الأكف ويسأل هو الله السميع الدعاء القريب المجيب، أما الإقبال على غير الله فهو ضياع وخسران وجهل مركب، ولكن أكثر الذين وقعوا ما فهموا هذه الآية ولا سمعوها ولا تدارسوها فيما بينهم، والآن أيها الحاضرون! هل فينا من يستطيع أن يقول: يا رسول الله! أعطني كذا؟! والله لا يستطيع أن يقول ذلك؛ لأنه يستحي من الله تعالى ورسوله، إذ الذي يدعى ويطلب ويسأل هو الله جل جلاله، أما غير الله فلا يعطي ولا يمنع، فالضار والنافع هو الله عز وجل.

وإن قلت: إذاً كيف نتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ اجلس في مصلاك وصل عليه مائة مرة أو ألف مرة وقل: يا رب! لقد صليت لك على نبيك فاقضي حاجتي، واستن بسنته في كل حياتك، واسأل الله متوسلاً إليه باستنانك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ التوسل معاشر المستمعين! يكون بأقوال وأعمال ونيات يحبها الله عز وجل، فإذا فعلتها لوجه الله فاسأل حاجتك، وليس ببعيد أبداً أن تتوضأ وتقوم وتصلي ركعتين في بيتك أو في المسجد، وأنت تريد أن يقضي الله حاجتك، والله لهي الوسيلة، وليس بقريب أو ببعيد أبداً أن تجلس وتقرأ سورة من كتاب الله في المصحف، ثم قل: رب! تلوت كتابك تقرباً وتزلفاً إليك، يا رب! اقضي حاجتي، والله لتعطى حاجتك، لكنه الجهل سبب هذا الضلال، فهذا الله تعالى يضرب لهم المثل ليوضح لهم الطريق ويبين لهم السبيل، ومن ثم والله آمن من آمن، ووحد من وحد، وأصبحوا أولياء الله تعالى.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ [الحج:73]، النداء هنا من الله عز وجل، والموجه إليهم هم المشركون من العرب وغيرهم، وبخاصة مشركي أهل مكة.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، فلا يدخل في هذا النداء المؤمنون الموحدون، ولكن يدخل فيه المشركون والكافرون، فماذا يقول تعالى لهم؟ يقول لهم: ضُرِبَ مَثَلٌ وضاربه هو الله تعالى، من أجل ماذا؟ ليفهموا عنه وليقبلوا عليه وليعبدوه وحده ولا يشركوا به غيره، إذ هو الذي ضرب المثل، أي: جعله، وطلب إليهم أن يستمعوا ويتأملوا، وقد كانت عادة العرب ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان، وذلك إذا كان المعنى صعب، فيفهمه السامع ويعقله وينتفع به، قال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر:27].

فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، والمثل هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وهي الأصنام والتماثيل، وقد كانت حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، ولا فرق بين لفظ: الصنم والتمثال، إلا أن التمثال قد يكون من الخشب والحطب، وقد يكون من الساج والعاج، وقد يكون من الورق، يعني: صورة، والصنم تمثال له ذات معينة.

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: من تلك الأوثان والأصنام، وتدعون بمعنى: تعبدون، إذ الدعاء هو العبادة، وفي نفس الوقت كيف يعبدونهم؟ يذبحون الذبائح لهم، ويحلفون بهم، ويسألونهم ويستغيثون ويستعيذون بهم، وهذه هي العبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدعاء هو العبادة )، وفي حديث ضعيف: ( الدعاء مخ العبادة ).

وقد بينت لكم هذا عدة مرات وقلت: ارفع يديك وارفع رأسك إلى السماء وقل: يا رب! فماذا نقرأ عن هذه الصورة؟ هذا العبد والله إنه لفقير، فما الدلالة على فقره؟ رفع كفيه ضارعاً وسائلاً، وثانياً: هذا العبد موقن أن ربه عز وجل فوق سماواته، فلهذا رفع كفيه إليه، وثالثاً: هذا العبد موقن أن الرب تعالى يراه ويسمع صوته ونداءه، فلهذا رفع كفيه إليه وقال: يا الله! ورابعاً: هذا العبد لو كان يعلم أن هناك من يعطيه حاجته، ومن يقضيه حاجته، ومن يكرمه لرفع كفيه إليه ولقال هكذا أو هكذا، ولكن رفع يديه فقط إلى الله، فهو موقن أنه لا يوجد في الكون من يقضي حاجته إلا الله تعالى.

فلهذا كان الدعاء هو العبادة، ومع الأسف، ووا حزناه! ووا أسفاه! فإن الملايين ممن ينتسبون إلى الإسلام والرسول الكريم يسألون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! يا كذا! أنا في حماك، أنا دخيلك، اسأل لي كذا! فيواجهون الموتى بالأسئلة التي ما واجهوا الله بها! وهذا قد عم العالم الإسلامي في قرون الظلام والجهل، وما زالت بقايا إلى اليوم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، بالدعاء والضراعة والسؤال والعبادة، فإن حالهم وضعفهم وعجزهم: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا ، أي: هذه الآلهة لو اجتمعت وعزمت على خلق ذبابة واحدة والله ما قدرت، والذبابة تعرفونها، إذ هي حيوان صغير عفنة ضعيفة قذرة تنبت من الخرء والخبث، فلو اجتمعت الآلهة كلها على خلقها والله ما خلقت، ولو اجتمعوا على أن يخلقوا ذباباً ما قدروا عليه، فهل يجوز إذاً أن تطلب منهم الدينار والدرهم؟ وتطلب منهم النصرة والعون والقدرة وهو عاجز عن خلق ذبابة؟ وليس صنماً واحداً، بل كل الآلهة المعبودة من دون الله لا تستطيع أن تخلق ذباباً، بل ولو اجتمعوا على خلقه والله ما قدروا عليه.

وقد بينا هذا مرات وقلنا: لو تجتمع البشرية كلها من إندونيسيا إلى اليابان إلى الأمريكان على خلق ذبابة والله ما استطاعوا، حتى لو اجتمعوا على خلق قملة ما استطاعوا، فضلاً عن خلق إنسان أو حيوان، وقد صوروا صوراً وجعلوا فيها الكهرباء وغير ذلك من التكنولوجيا، لكن لا حياة ولا روح فيها، إذاً: لمن الخلق؟ لله عز وجل، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:54-55].

وما زلنا مع هذا المثل الذي ضربه الله للمشركين علهم يتوبون ويرجعون، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، ما هو؟ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وفي قراءة: (تعبدون من دون الله)، لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ .

ثم قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ، فقد كان المشركون يطلون آلهتهم بالزعفران والعطر وبمواد طيبة، فيأتي الذباب ويقع عليها ويسلبها، فهل يستطيعون أن يستردوها؟ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا ، مما عليهم في تلك الصور، هل يستطيعون إنقاذه؟ والله ما يستطيعون، لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ .

وأخيراً يقول تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، فالطالب هو الذباب، والمطلوب هو الأصنام، فالذباب ضعيف، والأصنام حجارة مطلاة بالزعفران أو بالعطر وهي ضعيفة، وفي نفس الوقت ضعف الطالب وهو الداعي إلى الأصنام، والمطلوب وهو الأصنام، واللفظ يحمل المعنيين تمام الحمل، وصدق الله العظيم ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، أي: ضعف الطالب الذباب هو الذي يريد، أو المطلوب الصنم هو الذي يأخذ عطره، أو أراد الصنم أن يطرد الذباب فلم يستطع، وفي نفس الوقت ضعف المشركون وضعفت آلهتهم، إذ الكل لا يقدرون على شيء، فهذا معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ، إذاً، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].

ومن هنا والله ما صح لعبد أن يسأل غير ربه حاجته، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي في الصالحين، فضلاً عن القبور والأحجار والنباتات، وإنما الذي ترفع إليه الأكف ويسأل هو الله السميع الدعاء القريب المجيب، أما الإقبال على غير الله فهو ضياع وخسران وجهل مركب، ولكن أكثر الذين وقعوا ما فهموا هذه الآية ولا سمعوها ولا تدارسوها فيما بينهم، والآن أيها الحاضرون! هل فينا من يستطيع أن يقول: يا رسول الله! أعطني كذا؟! والله لا يستطيع أن يقول ذلك؛ لأنه يستحي من الله تعالى ورسوله، إذ الذي يدعى ويطلب ويسأل هو الله جل جلاله، أما غير الله فلا يعطي ولا يمنع، فالضار والنافع هو الله عز وجل.

وإن قلت: إذاً كيف نتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ اجلس في مصلاك وصل عليه مائة مرة أو ألف مرة وقل: يا رب! لقد صليت لك على نبيك فاقضي حاجتي، واستن بسنته في كل حياتك، واسأل الله متوسلاً إليه باستنانك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ التوسل معاشر المستمعين! يكون بأقوال وأعمال ونيات يحبها الله عز وجل، فإذا فعلتها لوجه الله فاسأل حاجتك، وليس ببعيد أبداً أن تتوضأ وتقوم وتصلي ركعتين في بيتك أو في المسجد، وأنت تريد أن يقضي الله حاجتك، والله لهي الوسيلة، وليس بقريب أو ببعيد أبداً أن تجلس وتقرأ سورة من كتاب الله في المصحف، ثم قل: رب! تلوت كتابك تقرباً وتزلفاً إليك، يا رب! اقضي حاجتي، والله لتعطى حاجتك، لكنه الجهل سبب هذا الضلال، فهذا الله تعالى يضرب لهم المثل ليوضح لهم الطريق ويبين لهم السبيل، ومن ثم والله آمن من آمن، ووحد من وحد، وأصبحوا أولياء الله تعالى.

قال تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74].

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، أي: أولئك الذين عبدوا معه غيره، أولئك الذين رفعوا أكفهم إلى سواه، أولئك الذين علقوا قلوبهم بغيره، فهؤلاء ما قدروا الله حق قدره، ونحن والله ما قدرناه حق قدره، إذ والله لو قدرناه فإننا إذا ذكرناه ارتعدت فرائصنا وقد يغمى علينا، وذلك لما نذكر جلاله وعظمته وكماله، ولما نذكر أن أرواحنا بيده، وأنه خالقنا وخالق كل شيء، وأنه يقول للشيء: كن فيكون، كيف نقدره حق قدره؟ لو نبكي طول الدهر ما يجدي ذلك ولا ينفع، ولو نخر ساجدين ما أدينا لله حقه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، كيف تقدره حق قدره؟ لو نبكي طول الدهر، ولو نسجد فلا نرفع رءوسنا أبداً فما قدرنا الله حق قدره، ولكن مع الأسف شبهوه بخلقه وعبدوا الأصنام والتماثيل، وأقبلوا على الأهواء والشياطين.

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74]، فالقوي هو القادر على فعل كل شيء، والعزيز هو الذي لا يمانع في شيء يريده، ولا يستطيع أحد أن يمنعه أو يحول بينه وبين ما أراده أبداً، وهذا من وصف الله وحده، إذ هو القوي العزيز، فكيف يقبلون على أحجار وقبور وتماثيل وأصنام مصنوعة باليد محتاجة إليهم؟! فالذباب إن وقع عليها ما يطردونه، فكيف يتركون الله العلي العظيم؟! القوي العزيز؟! سبحان الله! إن هذه ظلمات الجهل، لكن لما بعث الله فيهم رسوله وأنزل عليهم كتابه، ففي خلال خمسة وعشرين سنة فقط والديار كلها تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ننسى أن هذه الدعوة الإسلامية التي انتشرت في هذه الظروف من ستين أو سبعين سنة قد خف الشرك بصورة عجيبة، إذ قبل سبعين سنة ما في بلد ما فيه قبر يُعبد أبداً، لكن الحمد لله فقد زال الجهل وحل محله العلم، فذهبت تلك الضلالات والترهات، وبقي ما بقي.