تفسير سورة الأنبياء (6)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]. هنا يخاطب الله تعالى ويتحدث مع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فمحمد والله لرسول الله، والله يكلمه ويوحي إليه، وأنتم تكذبون برسالته وتنفون نبوته، وهذا الله يخاطبه في كتابه القرآن العظيم، ويقول له: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ [الأنبياء:34]، أي: لإنسان ذكراً أو أنثى .. غنياً أو فقيراً مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]. والخلد: البقاء الدائم الذي لا يطرأ عليه الفناء والموت. وقال تعالى هذا لأن المشركين في أنديتهم ومجتمعاتهم كان يقول قائلهم: اصبروا على هذا الرجل، فما هو إلا كشاعر من الشعراء، وسوف يموت كما ماتوا، ولا تتراجعوا أبداً عن دينكم وملتكم، واثبتوا، فالرجل سوف يموت، فكم من شعراء ماتوا. وكانوا يقولون هذه الكلمات فيما بينهم، فعلمها الله عز وجل، وأخبر رسوله بها، فقال له تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34] حتى تخلد أنت، وهم يموتون ولا يخلدون. أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]؟ ولو كانوا عقلاء أو بصراء لما انتظروا موت الرسول، بل لانتظروا موتهم، فهم سيموتون. فهذه النظرية فاسدة وباطلة، ولا قيمة لها.

بل أولاً: الرسول سيموت كما ما من قبله، فليس هناك من يخلد.

وثانياً: أنتم يا من تتمنون موت الرسول ستموتون. وقد قرر تعالى هذه الحقيقة فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]. فكل نفس منفوسة إنسان أو حيوان أو جان لابد وأن تذوق مرارة الموت، ولابد أن تتمتع بغصصه في حلقومها. فبلغهم هذا، فلست أنت وحدك ستموت، ولا هم فقط، بل كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]. فالموت يذاق مرارته وآلامه وغصصه التي تحصل للإنسان، وستذوقه كل نفس من إنس أو جان أو حيوان.

قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. ( نبلوكم) أي: نمتحنكم ونختبركم في حياتكم الدنيا هذه بالخير والشر .. بالغنى والفقر .. بالصحة والمرض .. بالعلم والجهل .. بالسعادة والشقاء، فكل هذا ابتلاء، فالغني والله مبتلى بغناه، والفقير والله مبتلى بفقره، والمريض والله ممتحن بمرضه، والصحيح والله مبتلى بصحته، والذي يسمع ويبصر مبتلى بسمعه وبصره، وفاقد السمع والبصر مبتلى بفقد ذلك؛ لأن قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35]. وأنواع الشر لا حد لها، وأنواع الخير مقابل ذلك.

ومعنى: ( نبلوكم): نمتحنكم ونختبركم، فالأغنياء ممتحنون هل يصدقون الله فيما أخبر به، ويزكون أموالهم، ويتصدقون عن الفقراء والمساكين، ولا يسرفون ولا يسلكون مسالك الترف، والعياذ بالله تعالى. والفقراء مبتلون هل يصبرون، وهل يرجعون إلى الله، وهل يثبتون على عقيدتهم، ولا يمدون أيديهم، ولا يسألون غير ربهم. فهم ممتحنون. وكما علمتم ما منا إلا ومبتلى، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، أي: امتحاناً واختباراً، فمن وافق رضا الله وأقام على دين الله نفسه ولم يخرج عنه فهذا مصيره الجنة دار السلام، ومن انتكس وهلك وأعرض عن الله وذكره ولم يصبر ولم يفز في امتحانه فمصيره جهنم وبئس القرار، وبئس المصير.

والحقيقة التي لم ننساها: أن سر هذه الحياة وسر إيجاد الله لهذه الحياة هي: من أجل العمل. وأوجد الدار الثانية للجزاء فقط. ولو يجتمع أهل الدنيا كلهم على أن ينقضوا هذه الحقيقة والله ما ينقضونها. فقد خلق الله البشر في هذه الحياة الدنيا، وخلق هذه الحيوانات والنباتات، وغير ذلك، والله ليس في حاجة إلى ذلك، فقد كان ولم يكن شيء. ولكن الحكمة والسر: من أجل أن يعملوا بذكره وشكره، أو بالكفر به وبمعصيته. وخلق الدار الآخرة للجزاء، وليس فيها أبداً عمل، بل العمل هنا، والجزاء هناك، ولهذا قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] للجزاء. فمن صبر على إيمانه وتقواه سواء كان فقيراً أو غنياً .. عزيزاً أو ذليلاً .. غريباً أو بعيداً جازاه الله جزاء الصابرين، وهو: رضا الله عز وجل، وجوار الكريم في دار السلام.

ومن امتحن ورسب ولم ينجح ولم يصبر على فقره ولم يتصدق ولم يعط من ماله، وعاكس ما أراد الله عز وجل فهذا أيضاً خيبته وخسرانه في الدار الآخرة، وسيكون الجزاء بالعذاب الأليم. وقد قال تعالى في سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] أيها العمال! يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. وهذه الأجور قال تعالى عنها: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:36] كـعقبة بن أبي معيط وأبي جهل والنضر بن الحارث وأبي بن خلف وغيرهم من طغاة الشرك والمشركين. فهؤلاء إذا رأوك في الشارع .. في المسجد .. حول البيت كان فعلهم إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36]. يهزءون ويسخرون ويستهزئون بك، كأن يقولون: هذا الذي ينفي وجود الآلهة .. هذا الذي يندد بالمشركين. ويقولون هذا استهزاء وسخرية والله. والمخبر بهذا هو الله، فهو الذي قال: وَإِذَا رَآكَ [الأنبياء:36] يا رسولنا! الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:36]. فصفتهم أنهم كفروا، فهم الذين يستهزئون ويسخرون، وأما المؤمنون فحاشاهم، ولن يصدر عنهم سخرية ولا استهزاء، لا بالرسول ولا بغيره، ولكن أصحاب الظُلمة والنفوس الخبيثة والمنتنة بأوضار الشرك والمعاصي هم الذين يصابون بهذه الأمراض، فيستهزئون ويسخرون حتى من النبي صلى الله عليه وسلم، فهم كما قال الله تعالى عنهم: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36]. وذلك لظلمة نفوسهم، وخبث أرواحهم؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله حق الإيمان، ولا عبدوه ولا وحدوه، ولا آمنوا برسالته ولا بلقائه، بل هم في الظُلمة، فهم الذين إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم سخروا منه، واستهزئوا به، فهذا يدعي كذا وكذا، وهذا يقول كذا وكذا، وهذا يريدنا أن نترك آلهتنا، وأن نعدل عن دين آبائنا وأجدادنا. فهذا النوع هم الذين يسخرون ويستهزئون. وهذا خبر الله في قوله: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ [الأنبياء:36]، أي: ما يتخذونك إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36]. ويقولون: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36]؟ أي: هذا هو الذي يذكر آلهتكم بالسوء والقبح، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، وأنها حجارة، وأنها كذا وكذا. فهذا هو الذي يقول ذلك.

وبين لنا تعالى حتى صيغة الاستهزاء بقوله: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36]؟ يعني: بسوء، ولا يقول: صالحة ولا نافعة ولا شافية، بل يقول: لا تنفع ولا تشفع، ولا غير ذلك.

ثم قال تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء:36]. ويا للأسف! وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء:36]. ويعجبون من كون الرسول صلى الله عليه وسلم يسخر من آلهتهم، ويندد بها؛ لأنها أحجار وأصنام، ولأنها أباطيل وترهات، والحال أنهم بذكر الرحمن كافرون، إذ قالوا: ما عندنا الرحمن إلا رحمان اليمامة، وما نعرف يا محمد! إلا رحمان اليمامة فقط، وهو مسيلمة الكذاب ، وكما قال تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان:60].

إذاً: قوله تعالى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:36] أي: يا رسولنا! إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36]، أي: ما يتخذونك إلا هزواً، ويقولون: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36]، أي: بسوء وقبح وباطل، ولا يعظمها ولا يجلها. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء:36]. فيا للعجب! فذكر الرحمن لا يريدونه، بل يذكرون الأصنام والأحجار ويتبجحون بها، ويريدون أن نقدسها ونذكرها بينهم.

قال تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]. وهذه حقيقة كحقيقة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]. فالإنسان مخلوق من عجل، والعجل لا يفارقه الاستعجال لطلب الخير أو طلب الشر. ومعنى هذا: أنهم يستعجلون بالعذاب، ويطالبون به، فلا تعجل من ذلك يا رسولنا! إذ خلق الإنسان من عجل.

ويروى أن آدم عليه السلام خلقه الله تعالى في آخر ساعة من يوم الجمعة عند الغروب. ومن ثم قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: الساعة التي في يوم الجمعة لا يدعو فيها المؤمن بشيء إلا أعطاه الله تكون في الساعة الأخيرة التي خلق الله فيها آدم. وقد كان خلقه باستعجال آخر ساعة من يوم الجمعة، قبل أن ينتهي يوم الجمعة.

ويذكرون في استعجاله: أنه ما إن نفخ الله فيه الروح ووصلت إلى عينه حتى نظر إلى ثمار الجنة، ولما وصلت إلى صدره تاقت نفسه إليها، ولما وصلت إلى ركبته حاول أن يقوم، وذلك من العجلة التي خلق عليها.

وهذا مشاهد فينا، إلا من رباه الله، وأدبه الله بأدب كتابه ورسوله، فأصبح يتأنى ولا ويستعجل. وفي التأني السلامة، وفي العجلة الندامة. وهذا الخلق يكتسب اكتساباً، فلنعالج به هذه الفطرة أو هذه الخلقة فينا بالآداب النبوية الربانية، ونصبر إن شاء الله، ولا نعجل، ونتأنى ونتروى، وننتظر ولا نستعجل من أول مرة ونقول كذا، أو نفعل كذا، وهذا لقوله تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]. فإذاً: لا تحزن يل رسولنا! ولا تتألم مما يدعون ويقولون ويطالبون به؛ لأنهم خلقوا من العجل، فهم يمثلونه في حياتهم.

ثم قال تعالى: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]. فهو يخاطب البشرية كلها، وعلى رأسهم أهل مكة والمشركين، ويعدهم وعد الصدق والحق أنه سيريهم آياته التي تتجلى فيها حقائق علمه ورحمته وقدرته في الآيات القرآنية، وفي الأحكام الشرعية، وفي الأخبار والقصص القرآنية، وفي آيات الكون، فلا تستعجلون، بل اصبروا، وما هي مدة وإذا هؤلاء الطغاة كلهم يلقون في قليب في بدر عن آخرهم، وعددهم سبعون صنديداً، وصدق الله: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]. وقد أراهم الله آياته بنصرة نبيه، ونصرة دينه، ونصرة عباده المؤمنين.

قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38]. فهم يستعجلون بطبعهم ويقولون: متى هذا الوعد الذي تعدنا به. وقد تحقق ما وعدهم به، فقد مكث في مكة ثلاثة عشر سنة، ثم انتقل إلى المدينة، وفي العام الثاني كانت معركة بدر، وهلك الطغاة، وذلوا عن آخرهم. وقد كانوا يقولون: متى هذا الوعد الذي تعدنا إن كنت صادقاً. وما وعدهم الله بشيء إلا وحققه، وتم كما هو. فالاستعجال لا معنى له. ولو كان الله كل ما نستعجل بشيء يعطينا لفسدت الحياة، وهي لابد أن تمضي في نظامها، ويمضي ما قدره الله فيها إلى نهايتها. فاستعجال الناس لا قيمة له. ولو أنك الآن تستعجل وتقول: يا رب! أمتني لم يمتك أبداً؛ لأن لك موعد محدوداً، ولو قلت: يا رب! أحيي هذا الميت لم يستجب لك؛ لأن له موعداً محدوداً.

إذاً: فالاستعجال بالنسبة إلى أهل الإيمان مذموم، وليس بمحمود، والمحمود التأني والتروي، والتصديق بوعود الله. وما وعد الله به سوف يتحقق، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]. وهذا الوعد تم في أقل من ثلاثين سنة، فلم تمض خمسة وعشرون سنة فقط إلا والديار كلها ديار إيمان وإسلام.

والشاهد عندنا: أنه ليس هناك من هو أصدق من الله حديثاً.

والآن أسمعكم الآيات مرة ثانية، فتأملوها، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35] للجزاء، وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:36-38]. فقل لهم: سيأتي، فلا تستعجلونه.

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات ]: الآن إليكم شرح الآيات من الكتاب، فاسمعوها:

[ كأن المشركين قالوا شامتين: إن محمداً سيموت، وقالوا: نتربص به ريب المنون ] أي: الموت [ فأخبر تعالى أنه لم يجعل لبشر من قبل نبيه ولا من بعده الخلد حتى يخلد هو صلى الله عليه وسلم، فكل نفس ذائقة الموت، ولكن إن مات رسوله فهل المشركون يخلدون؟ والجواب: لا. إذاً: فلا وجه للشماتة بالموت لو كانوا يعقلون ] فلا يشمتوا بالموت أبداً؛ لأنه لابد منه لو كانوا يعقلون [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].

وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] أي: كل نفس منفوسة ذائقة مرارة الموت بمفارقة الروح للبدن، والحكمة في ذلك: أن يتلقى العبد بعد الموت جزاء عمله، خيراً كان أو شراً. دل عليه قوله ] تعالى [ بعد: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35] من غنى وفقر، ومرض وصحة، وشدة ورخاء، فِتْنَةً [الأنبياء:35]، أي: لأجل فتنتكم، أي: اختباركم؛ ليرى الصابر الشاكر والجزع الكافر.

وقوله تعالى: وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] أي: بعد الموت؛ للحساب والجزاء على كسبكم خيره وشره.

وقوله تعالى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء:36]، يخبر تعالى رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ بأن المشركين إذا رأوه ما يتخذونه إلا هزواً؛ وذلك لجهلهم بمقامه، وعدم معرفتهم فضله عليهم، وهو حامل الهدى لهم، وبين وجه استهزائهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36]؟ أي: بعيبها وانتقاصها؟ قال تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء:36]، أي: عجباً لهم يتألمون لذكر آلهتهم بسوء، وهي محط السوء ] ومحله [ فعلاً، ولا يتألمون لكفرهم بالرحمن ربهم ] سبحانه وتعالى! حتى إنهم أنكروا أن يكون اسم الرحمن اسماً لله تعالى، وقالوا: لا رحمان [ إلا رحمان اليمامة.

وقوله تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، قال تعالى هذا لما استعجل المشركون العذاب، وقالوا للرسول والمؤمنين: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38]؟ فأخبر تعالى أن الاستعجال من طبع الإنسان الذي خلق عليه، وأخبرهم أنه سيريهم آياته فيهم بإنزال العذاب بهم، وأراهم ذلك في بدر الكبرى، وذلك في قوله: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]

أي: فلا داعي إلى الاستعجال.

وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38]؟ أخبر تعالى عن قيلهم للرسول والمؤمنين وهم يستعجلون العذاب: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38]؟ وهذا عائد إلى ما فطر عليه الإنسان من العجلة من جهة، وإلى جهلهم وكفرهم من جهة أخرى، وإلا فالعاقل لا يطالب بالعذاب ] أبداً [ بل يطالب بالرحمة والخير، لا بالعذاب والشر ] ولكنهم كافرون.

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات:

من هدايات الآيات:

أولاً: إبطال ما شاع من أن الخضر حي مخلد لا يموت؛ لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر ] وقد أخذنا هذه الهداية من قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]. وفي قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34] دليل قاطع على أن الخضر عليه السلام مات، وقد توفاه الله. والخضر صاحب موسى، وقد استفاد منه موسى. فالخضر قد مات.

وقد وجدت طوائف من المسلمين وهم غلاة المتصوفة يزعمون إلى الآن أن الخضر موجود، وأنه لم يمت.

ونحن ببسيط كلامنا نقول: لم ما جاء وبايع الرسول وقاتل معه؟ فالرسول لما كان محاصراً في مكة وفي الغار لم يأته الخضر. وهم قصدهم من هذا أن يدعوا دعاوى يأكلون بها أموال الناس، ويضلون الجهال، ويركبون على ظهورهم، حتى إن أحدهم قال: هذه الحناء التي في يدي حنانيها الخضر، وأرى أصحابه حناء في يده.

فالشاهد عندنا: هو قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]. فهو يقرر أنه لا يوجد إنسان يخلد أبداً، بل كل من وجد يموت من آدم إلى يوم القيامة.

والبرهان الذي قلته لكم لا تنسوه، وهو: أنه والله لو كان الخضر حياً لكان صحب رسول الله وعاش معه، وقاتل إلى جنبه، ودعا بدعوته، ولم يختف. وهذه وحده يقضي على هذه النظرية الباطلة.

وقد يقول قائل: إنهم يحتجون بعيسى، ويقولون: إن الله رفعه إليه وعمره ثلاث وثلاثون سنة، ولم يبلغ الكهولة، بل كان ما زال شاباً في عمر ثلاثة وثلاثين سنة، فرفعه الله تعالى إلى الملكوت الأعلى، وهو والله لفي الملكوت الأعلى في دار السلام، وعما قريب ينزله تعالى من الملكوت الأعلى، ولا عجب، فقد رفع الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى، ثم أنزله إلى مكة.

وقد أبقى الله عيسى فقط هذه المدة طويلة التي بعد بالقرون لحكم يعلمها الله، ثم ينزله على منارة دمشق، ويا ويل الصليبين والكافرين والمشركين!

[ ثانياً: بيان العلة من وجود خير وشر في هذه الحياة الدنيا، وهي الاختبار ] فالعلة من وجود الصحة والمرض، والفقر والغنى، والعز والذل، وغير هذا هي الاختبار والامتحان، فمن صبر نجا

ومن ضجر وجزع فله الهلاك.

[ ثالثاً: بيان ما كان عليه المشركون من الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم ] فقد استهزئوا وسخروا به كثيراً. ولا نذكر تلك الألفاظ التي قالوها.

[ رابعاً ] وأخيراً: [ تقرير حقيقة أن الإنسان مطبوع على العجلة، فلذا من غير طبعه بالتربية فأصبح ذا أناة وتؤدة كان من أكمل الناس وأشرافهم ].

معاشر المستمعين! ما دمنا علمنا أن الإنسان خلق عجولاً وخلق ضعيفاً فينبغي أن نعمل على تربية أنفسنا، ونتعلم الأناة والصبر وعدم العجلة؛ لنفوز بهذه الفضيلة، ولا نصبح مثل الناس الذين ما تربوا في حجور الصالحين.