خطب ومحاضرات
أركان الإيمان
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن موضوعنا عن الإيمان الذي شرطه الله تعالى على عباده، وأرسل الرسل من أجله، فقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5] , ومن أجله يعرف الله عز وجل، وتعرف كتبه ورسله، ومن أجله يؤمن الشخص بقضاء الله وقدره النافذ، ومن أجله يؤمن باليوم الآخر والبعث بعد الموت.
تعريف الإيمان لغة
إن الإيمان في اللغة يطلق على إطلاقين:
أحدهما: معدى بالباء.
والآخر: معدى باللام.
أما المعدى بالباء فمعناه: التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك والذي يحض على العمل. فالتصديق غير الجازم لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي يقبل الشك لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي لا يقبل الشك إذا لم يترتب عليه عمل لا يسمى إيماناً.
الإطلاق الثاني: المعدى باللام، وهو التصديق الجازم، فالتصديق الجازم فقط يقال له: الإيمان لكذا. وأما التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل فهو الذي يعدى بالباء فيقال: الإيمان بكذا.
فمن الأول قول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ[البقرة:285] , فالرسول صلى الله عليه وسلم آمن بما أنزل إليه من ربه، فصدق تصديقاً جازماً لا يقبل الشك، ويحض على العمل بما أنزل إليه من ربه؛ لأنه لا يمكنه أن يتردد لحظة في صدق ما جاءه؛ لأن الوحي ليس كالخبر وليس كالمشاهدة، فقد يشاهد الإنسان أمراً بعينه ثم يشك فيه بعد ذلك للتقادم، أو لطول الزمن، أو لقصور في النظر، أو لوجود عدد كبير من الناس يخبر بخلاف ما رأى فيتراجع عما رآه ببصره، وكذلك قد يسمع الشيء بأذنه ويجزم به في وقت معين، ثم يتزلزل ذلك الجزم بسبب طول الزمان، أو بسبب النسيان، أو بسبب مناقشة أدت به إلى أن يقلد الآخرين ويقدم سماعهم على سماع نفسه.
وسبب ذلك القصور في الجوارح، فالبصر جارحة من جوارح ابن آدم الحادث المخلوق، وهي جارحة قاصرة، ومن أجل هذا القصور فإنك ترى الشيء القريب منك في حجم معين، وكلما ابتعد صغر عنك، ترى الإنسان القادم من بعيد وهو صغير في حجمه، وكلما اقترب ازداد حجمه حتى يصل إلى مستواه الذي يجزم به البصر، وإن كان هذا المستوى غير مقطوع به، فيدك هذه إذا اقتربت من عينك غطت عن الرؤية، وإذا ابتعدت صغرت، وكلما ابتعدت ازدادت في الصغر، وهذا يقتضي منك الشك في المرئيات؛ لأنك لا يمكن أن تجزم جزماً حقيقياً بأن الحجم الحقيقي للأشياء هو ما تراه لحصول التذبذب حسب المسافة.
ومن هنا فنحن نرى الشمس قرصاً صغيراً يتصور الإنسان أنه بالإمكان أن يضعها في يده، والواقع أن الأرض كلها أقل من ربع مساحة الشمس، وكذلك نرى الكواكب السيارة الكبيرة في هذا الحجم الصغير في حجم شعلة النار أو في حجم المقباس، والواقع أن حجمها أضعاف حجم الأرض، فكل هذا يدلنا أن المرئيات المحسوسة بعلم الحادث كلها قابلة للشك، فلا يمكن أن يقول الإنسان: آمنت بأن فلاناً جالس بين يدي؛ لأن الإيمان لا بد أن يكون يقيناً لا يقبل الشك ولا يتزلزل، وينبنني عليه عمل.
وكذلك الحقائق العلمية لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان، بمعنى: أن يجزم بها جزماً لا يقتضي الشك، بإمكان التذبذب فيها والزوال، لا يمكن أن يقول الإنسان الآن: آمنت بكروية الأرض -مثلاً-؛ لأن هذا لم ينزل به الوحي، وإنما هو راجع إلى مشاهدات قد تكون خطأً وقد تكون صواباً، فلذلك تقيد الإيمان المعدى بالباء بهذا اليقين.
الوحي ليس مأخوذاً عن طريق السماع ولا عن طريق البصر، وإنما: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:193-195] , فلا يمكن أن يتشكك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه من ربه، فأنت يمكن أن تشك فيما حدثك به إنسان أو رأيته أو سمعته، لكن ما نزل به الوحي لا يمكن أن يقع فيه الشك، ومن هنا قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ[البقرة:285] .
أما الإطلاق الثاني -وهو تعدية الإيمان بالله باللام بمعنى التصديق الجازم الذي يقبل الشك- فمنه قول الله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] , فإخوة يوسف عليه السلام وعليهم عندما قدموا بالمكيدة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وأتوه بدم كذب وزعموا أن الذئب قد أكل يوسف عليه السلام قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] , فلو كنت تجزم بصدقها فإنك لا تصدقنا بذلك، ومعنى الإيمان هنا التصديق الجازم الذي يقبل الشك؛ لأنه عدي باللام ولم يعد بالباء، فلم يقولوا: وما أنت بمؤمن بنا ولو كنا صادقين. بل قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] .
ومثل هذا قول الله تعالى: وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ[التوبة:61] , فـ(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) هذا التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) معناه: يصدقهم فيما يقولون. وهذا هو التصديق الجازم، لكنه مع ذلك يقبل الشك؛ لأن شهادة العدل -مثلاً- الأصل فيها أنها تفيد علماً، ولكن هذا العلم غير يقيني، ومن هنا اختلف أهل الحديث في الحديث الصحيح الذي رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه دون انقطاع ولا شذوذ ولا علة، هل هو يقتضي اليقين الجازم أو لا يقتضيه؟
فجمهورهم على أنه لا يقتضي القطع، وهذا الذي عليه أهل المصطلح وجمهور أهل الحديث، وخالف في ذلك بعض الأصوليين فزعموا أن ما صح إسناده لزم الجزم به، سواءٌ أكان من أخبار الآحاد أو كان من المستفيض المشهور.
تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي
ومن هنا نصل إلى تحديد مفهوم الإيمان في الاصطلاح بعد أن حددناه في اللغة، فنقول: إن الإيمان في اصطلاح المتشرعين من المسلمين يطلق على إطلاقين:
فيطلق على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى الذي ينجي صاحبه من عذاب النار، ويكون وسيلة لدخول الجنة، هذا هو تعريف الإيمان بمعناه العام الذي يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، ويمكن أن نعرفه تعريفاً إحصائياً فنقول: هو التصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.
فـ(التصديق بالجنان) معناه: بالقلب. و(النطق باللسان) أي: بالشهادتين، و(العمل بالأركان) معناه: بالجوارح، وهو الصلاة والزكاة والصوم والحج.
(الذي يزيد بالطاعات) فالإيمان يزيد بالطاعات، فكلما ازدادت طاعته ازداد الإيمان، (وينقص بالعصيان)، فكلما وقع الشخص في معصية نقص إيمانه بقسط تلك المعصية، وهذا التعريف هو الذي عليه جمهور سلف هذه الأمة.
وقد خالف فيه بعض التابعين من أهل العراق، منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة رحمهم الله، وكذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي ، وكذلك عدد من الذين يلونهم، ومنهم: أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل رحمه الله، وكذلك منهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله، فكل هؤلاء يرون أن الإيمان إنما يطلق على عمل الجنان فقط، على الاعتقاد بالقلب فقط، وأن الأعمال لا تدخل في مسماه، وهذا هو الإطلاق الثاني للإيمان.
إن الإيمان في اللغة يطلق على إطلاقين:
أحدهما: معدى بالباء.
والآخر: معدى باللام.
أما المعدى بالباء فمعناه: التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك والذي يحض على العمل. فالتصديق غير الجازم لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي يقبل الشك لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي لا يقبل الشك إذا لم يترتب عليه عمل لا يسمى إيماناً.
الإطلاق الثاني: المعدى باللام، وهو التصديق الجازم، فالتصديق الجازم فقط يقال له: الإيمان لكذا. وأما التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل فهو الذي يعدى بالباء فيقال: الإيمان بكذا.
فمن الأول قول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ[البقرة:285] , فالرسول صلى الله عليه وسلم آمن بما أنزل إليه من ربه، فصدق تصديقاً جازماً لا يقبل الشك، ويحض على العمل بما أنزل إليه من ربه؛ لأنه لا يمكنه أن يتردد لحظة في صدق ما جاءه؛ لأن الوحي ليس كالخبر وليس كالمشاهدة، فقد يشاهد الإنسان أمراً بعينه ثم يشك فيه بعد ذلك للتقادم، أو لطول الزمن، أو لقصور في النظر، أو لوجود عدد كبير من الناس يخبر بخلاف ما رأى فيتراجع عما رآه ببصره، وكذلك قد يسمع الشيء بأذنه ويجزم به في وقت معين، ثم يتزلزل ذلك الجزم بسبب طول الزمان، أو بسبب النسيان، أو بسبب مناقشة أدت به إلى أن يقلد الآخرين ويقدم سماعهم على سماع نفسه.
وسبب ذلك القصور في الجوارح، فالبصر جارحة من جوارح ابن آدم الحادث المخلوق، وهي جارحة قاصرة، ومن أجل هذا القصور فإنك ترى الشيء القريب منك في حجم معين، وكلما ابتعد صغر عنك، ترى الإنسان القادم من بعيد وهو صغير في حجمه، وكلما اقترب ازداد حجمه حتى يصل إلى مستواه الذي يجزم به البصر، وإن كان هذا المستوى غير مقطوع به، فيدك هذه إذا اقتربت من عينك غطت عن الرؤية، وإذا ابتعدت صغرت، وكلما ابتعدت ازدادت في الصغر، وهذا يقتضي منك الشك في المرئيات؛ لأنك لا يمكن أن تجزم جزماً حقيقياً بأن الحجم الحقيقي للأشياء هو ما تراه لحصول التذبذب حسب المسافة.
ومن هنا فنحن نرى الشمس قرصاً صغيراً يتصور الإنسان أنه بالإمكان أن يضعها في يده، والواقع أن الأرض كلها أقل من ربع مساحة الشمس، وكذلك نرى الكواكب السيارة الكبيرة في هذا الحجم الصغير في حجم شعلة النار أو في حجم المقباس، والواقع أن حجمها أضعاف حجم الأرض، فكل هذا يدلنا أن المرئيات المحسوسة بعلم الحادث كلها قابلة للشك، فلا يمكن أن يقول الإنسان: آمنت بأن فلاناً جالس بين يدي؛ لأن الإيمان لا بد أن يكون يقيناً لا يقبل الشك ولا يتزلزل، وينبنني عليه عمل.
وكذلك الحقائق العلمية لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان، بمعنى: أن يجزم بها جزماً لا يقتضي الشك، بإمكان التذبذب فيها والزوال، لا يمكن أن يقول الإنسان الآن: آمنت بكروية الأرض -مثلاً-؛ لأن هذا لم ينزل به الوحي، وإنما هو راجع إلى مشاهدات قد تكون خطأً وقد تكون صواباً، فلذلك تقيد الإيمان المعدى بالباء بهذا اليقين.
الوحي ليس مأخوذاً عن طريق السماع ولا عن طريق البصر، وإنما: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:193-195] , فلا يمكن أن يتشكك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه من ربه، فأنت يمكن أن تشك فيما حدثك به إنسان أو رأيته أو سمعته، لكن ما نزل به الوحي لا يمكن أن يقع فيه الشك، ومن هنا قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ[البقرة:285] .
أما الإطلاق الثاني -وهو تعدية الإيمان بالله باللام بمعنى التصديق الجازم الذي يقبل الشك- فمنه قول الله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] , فإخوة يوسف عليه السلام وعليهم عندما قدموا بالمكيدة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وأتوه بدم كذب وزعموا أن الذئب قد أكل يوسف عليه السلام قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] , فلو كنت تجزم بصدقها فإنك لا تصدقنا بذلك، ومعنى الإيمان هنا التصديق الجازم الذي يقبل الشك؛ لأنه عدي باللام ولم يعد بالباء، فلم يقولوا: وما أنت بمؤمن بنا ولو كنا صادقين. بل قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ[يوسف:17] .
ومثل هذا قول الله تعالى: وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ[التوبة:61] , فـ(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) هذا التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) معناه: يصدقهم فيما يقولون. وهذا هو التصديق الجازم، لكنه مع ذلك يقبل الشك؛ لأن شهادة العدل -مثلاً- الأصل فيها أنها تفيد علماً، ولكن هذا العلم غير يقيني، ومن هنا اختلف أهل الحديث في الحديث الصحيح الذي رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه دون انقطاع ولا شذوذ ولا علة، هل هو يقتضي اليقين الجازم أو لا يقتضيه؟
فجمهورهم على أنه لا يقتضي القطع، وهذا الذي عليه أهل المصطلح وجمهور أهل الحديث، وخالف في ذلك بعض الأصوليين فزعموا أن ما صح إسناده لزم الجزم به، سواءٌ أكان من أخبار الآحاد أو كان من المستفيض المشهور.
ومن هنا نصل إلى تحديد مفهوم الإيمان في الاصطلاح بعد أن حددناه في اللغة، فنقول: إن الإيمان في اصطلاح المتشرعين من المسلمين يطلق على إطلاقين:
فيطلق على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى الذي ينجي صاحبه من عذاب النار، ويكون وسيلة لدخول الجنة، هذا هو تعريف الإيمان بمعناه العام الذي يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، ويمكن أن نعرفه تعريفاً إحصائياً فنقول: هو التصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.
فـ(التصديق بالجنان) معناه: بالقلب. و(النطق باللسان) أي: بالشهادتين، و(العمل بالأركان) معناه: بالجوارح، وهو الصلاة والزكاة والصوم والحج.
(الذي يزيد بالطاعات) فالإيمان يزيد بالطاعات، فكلما ازدادت طاعته ازداد الإيمان، (وينقص بالعصيان)، فكلما وقع الشخص في معصية نقص إيمانه بقسط تلك المعصية، وهذا التعريف هو الذي عليه جمهور سلف هذه الأمة.
وقد خالف فيه بعض التابعين من أهل العراق، منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة رحمهم الله، وكذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي ، وكذلك عدد من الذين يلونهم، ومنهم: أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل رحمه الله، وكذلك منهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله، فكل هؤلاء يرون أن الإيمان إنما يطلق على عمل الجنان فقط، على الاعتقاد بالقلب فقط، وأن الأعمال لا تدخل في مسماه، وهذا هو الإطلاق الثاني للإيمان.
واختلف هل هذا الخلاف حقيقي أو صوري؟ على قولين لأهل العلم:
القول الأول: أنه خلاف حقيقي؛ لأنه ينبني عليه مسائل عقدية، منها قضية الإرجاء، فمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنه لم يصل ولم يزك وباشر الفواحش فما مصيره؟ هل هو إلى جنة أو إلى نار؟
فمذهب جمهور أهل العلم أنه صائر إلى الجنة بإيمانه؛ لأن كل من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فمصيره الجنة، سواءٌ عذب في القبر أو دخل النار، فإن مكث ملايين السنين في النار لا بد أن يخرج منها بإيمانه ويدخل الجنة، فالله تعالى يدخل النار من شاء بسبب معصيته، ويخرجه منها بإيمانه، لكن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله لا يخلد في النار أبداً، وهنا يعلم أن الأعمال مكملة لهذا الإيمان وزائدة في مفهومه، ومرسخة له.
كذلك من المسائل المبنية على هذا الخلاف مسألة زيادة الإيمان ونقصه، وقد اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الإيمان يزيد وينقص مطلقاً. وهذا المذهب هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الذي عقد له البخاري كتاب الإيمان في صحيحه، فذكر أنه يزيد وينقص، واستدل لذلك بالآيات الواردة في زيادة الإيمان في القرآن، مثل قول الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ[التوبة:124] , وكذلك قول الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ[محمد:17] , وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260] , وكذلك قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ[الفتح:4] , وغيرها من الآيات التي فيها التصريح بزيادة الإيمان، وزيادته تقتضي نقصه؛ لأن الشيء الذي يزيد معناه أنه يقبل النقص أيضاً.
القول الثاني: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وهذا القول يقول به طائفة من الفقهاء يسمون (مرجئة الفقهاء)، وهو مخالف لما عليه جمهور أهل السنة والجماعة من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فهؤلاء يرون أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وإنما هو الجزم بالقلب، فما كان يقبل الزيادة والنقصان فإنه متذبذب لم يصل إلى حد الثبات المطلوب في الإيمان، وهؤلاء الطائفة يؤولون هذه الآيات التي فيها زيادة الإيمان فيقولون: المقصود بها زيادة ما يؤمن الإنسان به، فعندما أنزلت سورة العلق مثلاً: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[العلق:1-5] أول ما نزل من القرآن هذه الآيات من سورة العلق، ففي وقتها لم يكن يشترط على أهل الأرض إلا الإيمان بهذه الآيات فقط، فما لم ينزل من القرآن لا يجب عليهم الإيمان به، وكلما ازدادت سورة ونزلت سورة جديدة تزداد أفراد ما يلزم الإيمان به، حتى اكتمل القرآن فاكتمل الإيمان به، واكتملت السنة فاكتمل الإيمان بها، وهكذا.
ومن هنا فإن الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الإيمان وماتوا قبل أن تكتمل الواجبات، كـخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فهي أول من صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ومن الناس عموماً، ومع ذلك ماتت قبل فرض الصلاة، فلم تصل ولم تصم ولم تزك، هذه الفرائض تجددت بعدها، لكن لا يقتضي هذا نقصاً في إيمانها؛ لأن الإيمان الموجود هو ما قامت به، والذي كان موجوداً قد حققته وأتمته على أكمل الوجوه.
وكذلك الذين ماتوا بالمدينة قبل الهجرة ودفنوا إلى غير القبلة، فبعد الهجرة بسبعة عشر شهراً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الشام، هؤلاء الذين ماتوا إذ ذاك دفنوا إلى غير جهة القبلة؛ لأنهم دفنوا إلى الشام، فلذلك تشكك الناس فيهم كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في الصحيحين، لكن الواقع أنهم ماتوا على الإيمان وقد استكملوا ما نزل من الإيمان إذ ذاك، وما تجدد منه لم يكن تكليفاً لهم؛ لأنهم قد ماتوا قبل أن ينزل. فهذا قول هذه الطائفة.
ولهم قول آخر في تأويل زيادة الإيمان المذكورة في الآيات، فقالوا: المقصود بزيادة الإيمان زيادة لازم الإيمان لا زيادته. ولازمه هو شرطه وهو العمل، فالعمل شرط في الإيمان وليس شطراً فيه عندهم، لكن هذه التأويلات لا يحتاج إليها، فالأصل أن تبقى الآيات على فهمها الصحيح، وأن هذه الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنه يزيد وينقص.
القول الثالث في زيادة الإيمان ونقصه قول مروي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو أن الإيمان يزيد ولا ينقص، قول بالتفصيل، ونحن ذكرنا القول الأول أن الإيمان يزيد وينقص.
وهذا القول يرى قائله أن الإيمان يزيد ولا ينقص, وسبب هذا القول أن الله تعالى ذكر في القرآن زيادة الإيمان ولم يذكر فيه نقصه، فلم يرد في القرآن ذكر لنقص الإيمان، وجاء فيه التصريح بزيادة الإيمان في عدد من الآيات، ومبنى الاعتقاد على التسليم المطلق، اعتقاد لا يرجع فيه إلى العقول المحضة؛ لما ذكرناه من أن الإيمان لا بد أن يكون جازماً لا يقبل الشك، وما أخذ عن طريق الجوارح يقبل الشك، فلذلك قال مالك رحمه الله: إن زيادة الإيمان ثابتة بالنص، ونقص الإيمان مفهوم بالعقل، وما كان وارداً بالنص فهو الاعتقاد، وما كان مأخوذاً بالعقل لا يجعل عقيدة يلزم بها الناس، فهذه رواية عنه، وإن كانت الرواية التي اشتهرت عن الإمام مالك رحمه الله موافقة لمذهب جمهور العلماء من أن الإيمان يزيد وينقص، وهي الراجح إن شاء الله تعالى.
والقول الراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الزيادة مقتضية للنقص.
أما أركان هذا الإيمان فهي ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله فقال: (أخبرني عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وفي رواية: (بالله، ولقائه، وكتابه، والبعث بعد الموت)، ولقاؤه هو الموت، والبعث بعد الموت من اليوم الآخر، لكن لقاؤه والبعث بعد الموت كلاهما داخل في مسمى اليوم الآخر؛ لأن الموت من أمور الآخرة وليس من أمور الدنيا؛ لأنه انتقال من حال إلى حال، وتحول من دار إلى دار: (وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته).
وكذلك لقاء الله، وهو العرض عليه الذي بينه الله تعالى في كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا[الأنعام:30] , وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة:18] , فهذا العرض داخل في اليوم الآخر.
فهذه الأركان الستة تقتضي منا تفصيلاً، وهو ما سنحاول الإلمام بما تيسر منه فيما يأتي.
الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله.
والإيمان بالله هو الذي يسمى توحيداً، والتوحيد يغلط فيه كثير من الناس، فيظنون أنه من التفعيل بمعنى: التصيير؛ لأن (فَعَّل) ترد في اللغة بمعنى: (صَيَّر)، مثل: (كَبَّرتََ الشيء) أي: جعلته كبيراً. و(ضَخَّمتهُ) معناه: جعلته ضخماً. و(صَغَّرته) معناه: جعلته صغيراً. و(صَغَّرتْ هذا الاسم) معناه: نطقت به على هيئة تصغير، ولكن التوحيد مخالف لهذا، فمعناه: اعتقاد أنه واحد. وليس معناه تصييره واحداً، فهو واحد، والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
توحيد لله في ربوبيته.
وتوحيد له في إلاهيته.
وتوحيد له في أسمائه وصفاته، فهذه ثلاثة أقسام هي معنى الإيمان بالله.
توحيد الله في ربوبيته
توحيد الله في ربوبيته معناه: الجزم بأنه هو الواحد الأحد الذي خلق هذا العالم، وليس للعالم رب سواه، وهذا التوحيد هو أصل الإيمان؛ لأنه ينبني عليه كل ما بعده، فما بعده كله تابع له، فمن اعتقد تعدد الآلهة أو أن للعالم خالقاً غير الله لا ينفعه أي توحيد آخر بعد هذا.
ولهذا فإن المشركين الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثير منهم يؤمن بتوحيد الربوبية، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك. أنت تملكه وما ملك. وكذلك فإن الله تعالى أثبت عليهم هذا التوحيد في القرآن في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[لقمان:25] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[العنكبوت:63] , فلم يكونوا يخالفون في هذا التوحيد إلا نادراً.
والذين يخالفون في هذا التوحيد أجناس، منهم الدهرية، والطبيعيون الذين نسميهم في زماننا هذا بالشيوعيين، الذين ينكرون وجود إله أصلاً، ويزعمون أن هذه الحياة مادة، وأن طبيعة العالم تفرز الطفرات، وأن الطفرة الكبيرة التي اقتضت الانقسام بين السماء والأرض، واقتضت توزع الكائنات هي منشأ هذا العالم، ومنها تغيرت الأمور وكانت بطبيعتها تتولد وتحتك، والاحتكاك الدائم الذي فيها يقتضي حصول تنوع شديد، وهذا الذي قالوه رد الله عز وجل عليه في كتابه بآية هي أبلغ دليل على هذا، وأبلغ دليل على إنكار تأثير الطبيعة هي قول الله سبحانه وتعالى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4] .
لو كانت الطبيعة مؤثرة فما الفرق بين هذه البقعة في هذا المتر الواحد يخرج فيه أجناس من النبات متفاوتة متباينة الألوان، ومتباينة الطعوم، ومتباينة الرائحة، وقد نبتت في تربة واحدة، وسقيت بماء واحد؟! وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4] طعمها مختلف، فالمكان الواحد تخرج فيه نخلة، وتخرج علقمة، وتخرج وردة، وتخرج ثمرة أخرى مباينة لها، فتجد الشبر الواحد من الأرض فيه ألوان متلونة، فلو كانت الطبيعة هي التي أثرت فيها لجاءت جميعاً على شكل واحد وطعم واحد وفائدة واحدة، فعلم أن هذا بإرادة الله وتقديره، وأنه لا يمكن أن تقع طفرة دون مؤثر؛ لأن كل فعل لا يقبل العقل حصوله دون تأثير ودون مؤثر، وهذا المؤثر لا يمكن أن يكون جاهلاً به؛ إذ لو كان جاهلاً به لاختلطت الأشياء واختل نظامها.
ولا يمكن أن يكون قد خفي عليه، لتمام تناسقه وانسجامه، فعلم بطلان اعتقاد الطبائعيين، علم بطلانه عقلاً بهذه الآية، وعلم بطلانه لما يترتب عليه من فساد العالم كله، فلو كانت الطفرة التي يزعمونها صحيحة فلماذا تأخرت ولم تقع طفرة أخرى في آلاف السنين التي تأتي؟ ومن الذي حدد وقت تلك الطفرة؟
وما هي العوامل التي عملت على وقت تلك الطفرة ولم تعمل على ذلك في زماننا هذا؟
لماذا لا يقع انفجار كبير كما يزعمون في آلاف السنين التي جاءت بعد ذلك؟
إن هذا رد واضح وصريح على هذه الطائفة التي تنكر الإلهية؛ وطائفة الدهرية نسبةً إلى الدهر، وهذه من النسبة الشاذة، ولغة العرب فيها شواذ النسب، مثل الدهريين، ومثل الطبعيين، ومثل الخرفيين، وغيرها من النسب الشاذة.
كذلك من الذين ينكرون توحيد الربوبية الذين يزعمون أن لهذا العالم خالقين وهما: النور، والظلمة.
وهؤلاء يسمون بالمانوية ، وهم يزعمون أن النور هو إله الخير، وأن الظلمة هي إله الشر، وأنه لا خالق لهذا العالم سوى هذين الإلهين، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وجوابهم العقلي أن يقال: زعمتم أمرين موجودين في هذا العالم مؤثرين فيه، فمن خلقهما؟ هل خلقا أنفسهما أو خلقهما إله ثالث؟
وهنا لا بد أن نصل بهم إلى الدور أو التسلسل، فالدور أن يرجعوا من حيث بدؤوا، فيقال: النور خلقته الظلمة والظلمة خلقها النور. فيأتي الدور المستحيل؛ لأنه يتوقف كل واحد منهما على وجود الآخر فينعدمان ولا يكونان أبداً.
أو نذهب إلى التسلسل، فيقولون: النور والظلمة خلقهما إله ثالث، وذلك الإله الثالث خلقه إله آخر، وهكذا حتى يصلوا إلى حوادث لا أول لها، وهذا يمنعه العقل.
ولذلك يقول أبو الطيب المتنبي :
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
فظلام الليل استفاد منه كثيراً في مغامراته وهروبه، فقال: إن ظلام الليل يخبر أن المانوية تكذب، فليس هو إله الشر؛ لأنه أتى بالخير.
كذلك الذين يزعمون أن هذا الكون إلهه فرعون -مثلاً- من عباده، حيث زعم هو أنه لا إله لهم سواه، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وقد كذب نفسه؛ لأنه حكم على نفسه بجهله بالسماوات وما فوقها بقوله: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ[غافر:36-37] , فكيف تخلقها وأنت تجهلها وتجهل ما فوقها؟ فقد رد على نفسه.
إذاً: فالمخالفون في توحيد الربوبية قلة، والموجود منهم في زماننا هذا هم الشيوعيون وبعض عبدة الأوثان في الديانات الهندية فقط.
توحيد الله في إلاهيته
أما توحيد الإلهية فمعناه: توحيد الله بالعبادة بحيث لا يعبد إلا هو، ولا يدعى إلا هو، ولا تعلق الحوائج إلا به، ولا يشرع إلا هو، وهذا التوحيد يخطئ فيه أكثر الناس، فلذلك احتاج إلى بيانه أكثر مما سواه.
فمثلاً: في مجال العبادة لا يمكن أن يستحق العبادة إلا الخالق الرازق المدبر الحي القيوم الدائم الذي لا تخفى عليه طرفة عين، ولا يغفل، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فهو وحده المستحق للعبادة، ولا يمكن أن يعبد من سواه أبداً.
ويدخل في العبادة السجود له، ولا يخالفه في ذلك إلا الذين يعبدون الأصنام أو يسجدون لها، وهؤلاء لا يلحدون في توحيد الربوبية؛ لأنهم يزعمون أن هذه الأصنام مملوكات لله، وإنما يتقربون بها إلى الله فقط، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى[الزمر:3] , فهم لا يعبدون هذه الأصنام لأنهم يزعمون أنها خالقة، ولكنهم يعبدونها تقرباً إلى الخالق فقط، فهؤلاء يخالفون في توحيد الألوهية ولا يخالفون في توحيد الربوبية، ومثل هذا الذين يعبدون غير الله ببعض العبادات المخصوصة، فلا يصلون لغير الله ولا يصومون لغير الله، ولكن يذبحون لغير الله، مثل الذبح للأصنام، والذبح للقبور ونحوها، فهذا عبادة لغير الله؛ لأن الذبح عبادة مختصة لله، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ[الأنعام:162-163] .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في صحيفة رسول الله صلى الله عليه سلم التي أعطاه: (لعن الله من ذبح لغير الله).
كذلك من العبادات النذر، فكثير من الناس لا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا لله، ولكنه ينذر لغير الله. والنذر عبادة؛ لقول الله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29] , ولقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً[الإنسان:7] , فمن نذر لغير الله فقد أشرك؛ لأن النذر عبادة مختصة لا تحل إلا لله، فهي مثل الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك.
ومن هنا احتيج إلى بيان معنى النذر الذي يجهله كثير من الناس، فالنذر معناه: إيجاب ما ندب تقرباً لله تعالى وشكراً له أن يتقرب الإنسان إلى الله بأن يلزم نفسه بطاعة مندوبة، فما ليس مندوباً من المباحات لا يمكن أن يكون نذراً، كمن نذر أن يشرب كأساً من الشاي، أو أن يشرب كأساً من الماء، فهذا لا يسمى نذراً؛ لأنه مباح وليس عبادة.
ومن نذر واجباً فقد كان واجباً قبل هذا ولم يستفد من النذر شيئاً، ومن نذر مندوباً فقد تأكد حكمه وازداد أجره بسبب نذره، ولكن هذا النذر ينبغي أن لا يكون مشروطاً، وأن لا يكون مكرراً، فالنذر المشروط هو الذي يقول صاحبه: إن نجحت في الامتحان فسأصلي ركعتين شكراً لله. وينذر بذلك، أو: أتصدق بكذا. أو: أحج. أو: أصوم. أو نحو ذلك، فهذا النذر المشروط أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يرد من قدر الله شيئاً، وإنما ينتزع الله به من يد البخيل), فالذي يفعله بخيل في تعامله مع الله، حيث يشرط على رب العالمين، فجعل نفسه بخيلاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولذلك لا يصدر من أهل الإيمان الكامل.
والنذر المكرر قد يوقع الشخص في حرج، كمن نذر أن يصوم يوم الإثنين دائماً، أو يوم الخميس دائماً، فربما أتاه ذلك اليوم وهو عاجز عن صيامه، أو مشغول بأمر لا يستطيع التخلص منه، فلذلك كره هذا النذر المكرر، وإنما يطلب النذر إذا أقبل الشخص على عبادة مندوبة، فأراد أداءها وتيسرت له أسبابها، فينذرها ليكون ذلك زيادة في الأجر، كمن يجلس في مصلاه وينتظر صلاة المغرب، ويعلم أنه ليس لديه شغل سيقيمه من هذا المسجد.
وقبل النذر قد كان الفعل مندوباً فصار واجباً يثاب عليه ثواب الواجب.
كذلك من العبادات التي يشرك فيها الناس الحلف، فالحلف عبادة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وكان الناس يحلفون بآبائهم في الجاهلية، فسمع رسول الله صلى عليه وسلم عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فدعاه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم! من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت), وكانوا يحلفون بأصنامهم في الجاهلية، فدأب بعض الناس على ذلك في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله), فالحلف بغير الله عبادة لمن حلف به.
كذلك الشرك في التشريع فهو شرك في الإلهية، فالله وحده هو الذي يشرع لعباده ما شاء، وسبب ذلك أنه وحده العالم بحياتهم ومماتهم ومصالحهم الدنيوية والأخروية، ولا يعلم أحد منهم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، ولا ما يكسب غداً، ولا يمكن أن يطلع على مصالحه هو، بل تخفى عنه، ولذلك نرى كثيراً من الناس يجتهد في أمر فيه له مضرة، يجتهد أن يسافر سفراً هو فيه على موعد مع ملك الموت، ويتحرك حركة معينة فينكسر منه عضو بسبب تلك الحركة، ويخرج لحاجة غير مهمة فيصادفه قدر من قدر الله يصيبه بمصيبة عظيمة، كل هذا يدل على أن الإنسان جاهل بمصالحه، ومن كان جاهلاً بالمصالح والمفاسد لا يمكن أن يشرع شيئاً؛ لأن التشريع أصله على معرفة المصالح والمفاسد، ولذلك قال الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14] , فالذي هو اللطيف الخبير بالناس هو الذي يستطيع أن يشرع لهم ويعرف مصلحتهم.
فإذا شرع شيئاً فأباح أو حرم أو أوجب فذلك لمصلحة بني آدم لا لمصلحته هو، فلا يصل إليه نفع ولا ضرر من ذلك، ولهذا قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ[الحج:36-37] , فهذه الأنعام لا ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولا يمكن أن يصل إليه نفع منها، ولا أن يوصل إليه المخلوق نفعاً ولا ضرراً، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فالتشريع من اختصاصات رب العالمين لا يمكن أن ينازعه فيها أحد، فمن شرع فقد أشرك، ولهذا قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21] , فكل من سن قانوناً أو وضع تشريعاً مما لم يأت به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أشرك مع الله عز وجل من شرع لهم.
ومن هنا فإن اليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين، يشركون أحبارهم ورهبانهم في الإلهية؛ لأنهم يحلون لهم الحرام فيستبيحونه، ويحرمون عليهم الحلال فيتركونه، وهذا مقتض لعبادتهم، ولهذا قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً[التوبة:31] , وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله أنه قال: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله! قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتستحلوه؟ قال : بلى. قال: ألم يحرموا عليكم الحلال فتتركوه؟ قال: بلى. قال: فقد عبدتموهم), وهذه عبادته، ولهذا جعل الله تعالى القوانين ديانة، فيسمى القانون ديناً، كما في قوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] , معناه: في قانون الملك إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[يوسف:76] ، فكل قانون غير شرع الله فهو دين أراد به صاحبه نسخ دين الإسلام وتغييره، فهو إشراك بالله العظيم عز وجل .
كذلك من الإشراك في الإلهية الإشراك في محبة الله عز وجل ومسألته، فإن الله وحده هو الصمد الكريم الغني الحميد الذي يستحق أن ترفع إليه الحوائج كلها، وأن ترفع إليه الأيدي في كل المطالب، فمن تعلق قلبه بمخلوق فأصبح يعلق به حوائجه ويخافه ويطمع فيه ويسأله فقد أشرك هذا الشرك، فدعوة غير الله مثل الاستغاثة بمخلوق أو مسألته أمراً لا يقدر عليه شرك بالله، كمن سأل مخلوقاً أن ينزل المطر، أو أن يكفر عنه ذنبه، أو أن يدخله الجنة، أو أن يجيب عنه الملكين، أو أن ينور له قبره، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، أو أن يرزقه ولداً أو مالاً أو نحو ذلك، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، فالخلق والرزق من عند الله وحده.
ومن هنا فإن دعوة المخلوق شرك بالله، ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14] , وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ[الفرقان:68] , وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً[الإسراء:57] .
فكثير من الناس يدعون من هم يخافون ويرغبون فيما عند الله عز وجل، يدعون أولياء الله وأنبياءه وملائكته من دون الله، وهؤلاء كلهم يخافون من الله ويرغبون فيما عنده، وكلهم سيقولون يوم القيامة: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي. كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن كل نبي يقول يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ[الإسراء:57] ، فكلهم يسعى ليقرب نفسه إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) يتنافسون في القرب إليه بالأعمال الصالحات، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ[الإسراء:57] .
ومن هنا فإن هذا النوع من الشرك فيه أيضاً إذلال للنفس؛ لأن الإنسان إذا أصبح يدعو غير الله فقد عبد نفسه لمخلوق، والله تعالى يقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[الزمر:29] .
ومن هنا فإن الطمع في المخلوق وسؤاله والاستغاثة به تنقسم هذه الحال إلى قسمين:
القسم الأول: شرك بالله وكفر به، وهو مسألة المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك بالله وكفر به.
القسم الثاني: مسألة المخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، فهذه تنقسم إلى قسمين: محرم ومباح.
فالمحرم مسألة المخلوق لغير عذر، فلا تحل المسألة إلا لمن أحلها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة، أما المسألة من غير عذر من هذه الأعذار فلا تحل أصلاً.
ومسألة المخلوق أمراً يقدر عليه ولا يكلفه كأن تسأله أن يناولك عصاً أو نعلاً، أو أن يفتح الباب، أو نحو هذا من الأمور السهلة، فهذه مباحة، لكنها قد تصل إلى حد الكراهة، كما إذا لم تكن المسألة احتراماً فتأمر كبيراً بأن يقوم ويأتيك بشيء ونحو ذلك، وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه على أن لا يسألوا أحداً شيئاً، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يسأل أحداً، فإذا وقعت عصاه وهو على راحلته لم يأمر أحداً أن يناوله عصاه وهو خليفة رسول الله، بل ينزل عن راحلته حتى يأخذ عصاه بيده، وهذا هو تمام الإيمان بالله والتوكل عليه، أن يكون الإنسان حراً من الأغيار، لا يسأل أحداً شيئاً بالكلية، مستغنياً بالله عمن سواه.
أما الذين يشركون بالله في المسألة فأنواع:
فمنهم: من يشرك معه الجن، وهؤلاء هم أضعف الناس حيلة وأدناهم عقلاً، وفيهم أنزل الله تعالى سورة الجن، وفيها يقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً[الجن:6] , هؤلاء زادوهم مشقة وتعباً وعنتاً، ولم يستفيدوا منهم شيئاً.
ومنهم الذين يدعون الجمادات كالأشجار والأحجار ونحو ذلك، وهؤلاء جعلوا أنفسهم في أخس مكان، حيث جعلوا هذه الجمادات خيراً منهم، كقوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الحجارة من دون الله ويدعونها في قضاء حوائجهم، وكذلك أصنام عمرو بن لحي التي هي أصنام قوم نوح الخمسة المذكورة في القرآن: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر فهذه الخمسة هي أصنام قوم نوح، وقد أخذها عمرو بن لحي فأخرجها للعرب في جزيرتهم فعبدوها في عصر الجاهلية.
وكذلك دون هؤلاء الذين يستغيثون بأولياء الله وأنبيائه والصالحين من عباده، فهؤلاء يستغيثون بهؤلاء العباد الذين هم مشغولون في التقرب إلى الله وعبادته، ولا يضر ذلك أولئك الذين عبدوا من دون الله، فلا ينقص هذا من قدرهم، فعيسى بن مريم عليه السلام عبده النصارى من دون الله، وهو سيتخلص من شفاعة يوم القيامة بذلك، فعندما يأتيه الناس يسألونه الشفاعة إلى الله يفكر في ذنب قد اقترفه فلا يجد شيئاً فيقول: قد عبدت من دون الله. ولا يضره ذلك شيئاً، فالذين عبدوه خالفوا أمره، وما أمرهم إلا بالحق، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنه: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:116-118] , وقد صدقه الله تعالى في ذلك فقال: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ[المائدة:119] ، فهؤلاء الأولياء والصالحون الأنبياء لا يضرهم شيئاً أن يستغاث بهم من دون الله، لكن هذا يضر الذين فعلوا.
ومن هنا فإن كثيراً من الناس يغلط، فإذا رأى شخصاً أو سمع شخصاً يدعى من دون الله عادى ذلك الشخص وتجرأ عليه وتهجم عليه، وجعله طاغوتاً من الطواغيت، والواقع خلاف ذلك، فقد يكون هذا ولياً من أولياء الله أو عالماً أو رجلاً صالحاً ولم يأمر الناس أن يتوسلوا به ولا أن يدعوه، فلذلك لا يكون ذنب دعوته في ذنوبه هو، وإنما هو في ذنوب الذين دعوهم من دون الله، فإن علم بذلك وأقرهم عليه فهذا أمر آخر، فيكون إقراره من ذنبه هو.
توحيد الله في أسمائه وصفاته
أما التوحيد الثالث فهو توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته، فإن الله سبحانه وتعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103] , ولا يمكن أن يشبه شيئاً ولا أن يشبهه شيء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] , فلا يمكن أن يعرف بالعيان ولا بالمثال، فلم يبق إلا معرفته بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستدلال عليه بمخلوقاته، وفي هذا يقول العلامة محمد بن فال المتالي رحمه الله تعالى:
وطرق المعرفة الكبار عيان أو مثال أو آثار
فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار
والثاني أيضاً منعه في النقل لأنه ليس له من مثل
لم يبق بعد ذا سوى آثار صنعته في العالم السيار
فهذا الدليل الباقي على معرفته، فالله سبحانه وتعالى أثنى على نفسه بكثير من الصفات، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك بكثير منها، ولا أحد أعلم بالله من الله، وبعد ذلك لا أحد أعلم به من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا), فإذا أخبر عن نفسه بصفة وجب الإيمان بذلك وتصديقه ومعرفة أن تلك الصفة واجبة لله، وإذا أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بشيء وجب الإيمان بذلك، وتصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ذلك.
ومع هذا يجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يكون لصفات الله أي مثال في عالم الحوادث، فشتان بين الخالق والمخلوق، لكن لا يخفى علينا أيضاً أن الأسماء قد تشترك، فقد تكون الصفة التي يتصف بها الله عز وجل يستمي بها المخلوق، فيتسمى بهذه الصفة المخلوق، لكن لا علاقة بين الصفتين إلا في الاسم فقط، فعلم الله يطلق عليه لفظة العلم، وعلم المخلوق يطلق عليه لفظة العلم، لكن شتان بين العلمين، فعلم المخلوق قال الله تعالى عنه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[الإسراء:85] , والله هو علام الغيوب: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59] .
كذلك وجه الله يطلق عليه هذا اللفظ (الوجه)، ووجه المخلوق يطلق عليه (وجه)، لكن شتان بين الأمرين، شتان بين الخالق والمخلوق، ومثل ذلك ما نسميه ذاتاً، فنحن نقول: ذات الله، وذات المخلوق. لكن شتان بين الأمرين، فنحن لا نعرف من الذوات إلا ذوات المخلوقين، وذات الله عز وجل هي نفس الله التي سماها في القرآن (نفساً) في قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ[المائدة:116] , وفي قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران:28] ، في آيتين من سورة آل عمران، وغير ذلك من لفظ النفس في القرآن.
فإن لفظ الذات لم يرد فيه، وليست في اللغة بهذا المعنى، ولكنها مصطلح للمتكلمين، فنحن ننطق بها على هذا المصطلح، ولا ننطق بها إلزاماً لأن تكون من ألفاظ الاعتقاد الواردة في الكتاب أو السنة فليست كذلك.
وهذه النفس مخالفة لنفس المخلوق، وإنما تشترك معها في الاسم فقط، فنحن لا نعرف من الأنفس إلا نفس المخلوق، ولا يمكن أن نقيس عليها نفس الخالق أبداً، وشتان بينهما.
ومن هنا لزم أن نطرد هذا التفريق في كل الأمور، فلله نفس تخالف أنفس المخلوقين، فلا أحد يزعم أن ذات الله مثل ذوات المخلوقين أبداً، لكن كذلك لله صفات تنافي صفات المخلوقين، وإذا كان كذلك فلا فرق بين الكلام في النفس والكلام في الصفات، فالقول في الصفات كالقول في الذات مطلقاً، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، فلا يرى ضرراً في إطلاق الذات على الله كما تطلق على ذات المخلوق مع الفرق الشاسع بينهما، لكن إذا جاء إلى الصفات تأثر من إطلاق بعض الصفات على الله؛ لأنه يفهمها على منوال صفات المخلوقين، وهذا غلط، فلماذا تميز بين الذات والصفات؟
فالقول في الذات كالقول في الصفات، وبعد هذا فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضه، فما الفرق بين العلم واليد والعين ونحوها؟ فكلها صفات أثبتها الله لنفسه لا يمكن أن تكون مشابهةً لصفات المخلوقين، وكلها تدل على التمام والكمال، وكلها تقتضي محبته وتمام الإيمان به والتوكل عليه، وليس شيء منها يقتضي نقصاً فيه ولا عجزاً ولا تشبهاً بالمخلوق أبداً، واشتراكها في الاسم مع صفات المخلوق لا يقتضي نقصاً لها، فالمخلوق قد يشترك مع المخلوق بالاسم وشتان بينهما، فللإنسان عين وللفيل عين، لكن شتان بين عين الفيل وعين الإنسان، وقد قال ابن عباس : (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فالجنة فيها اللبن والدنيا فيها اللبن، فهل هذا اللبن مثل اللبن الذي في الجنة؟ شتان بينهما.
والجنة فيها خمر والدنيا فيها خمر، لكن شتان بين خمر الجنة وخمر الدنيا، والجنة فيها ماء والدنيا فيها ماء، لكن شتان بين الماء الذي في الدنيا والماء الذي في الجنة.
كذلك مثال آخر، فأقرب شيء إلى الإنسان نفسه التي بين جنبيه، وهو يعلم أن له روحاً يؤمن بها، وأنها تصعد وتعرج وتنزل وتذهب وتستقر، وترضى وتغضب، ومع ذلك لا ينكر شيئاً من هذه الصفات؛ لأنه يحس بها في داخله ولا يمكن أن يصورها بوجه من الوجوه، ولا يدرك لها حقيقة، وكثير من الناس اليوم يقولون: نحن نطبق المنهاج التجريبي على كل شيء. فينكرون الإيمان بالله؛ لأنهم يقولون: الحقائق كلها أصبحت علمية تجريبية. لكن يقال لهم: ألا تؤمنون أن لكم أرواحاً وعقولاً؟
فإذا قالوا: ليس لنا أرواح وعقول قلنا: أنتم إذاً أحجار أو أشجار فلا نتكلم معكم. وإذا قالوا: لنا أرواح وعقول فنقول: صفوها لنا! فما صفة عقلك أنت وما صفة روحك؟
فإذا شهد على ذلك وسلم وقال: أنا أؤمن بأن لي روحاً وعقلاً لكن لا أستطيع وصفها نقول: كيف تنكر هذا عن رب العالمين وتقر به لمخلوق ضعيف؟
فآمن بالله، واعلم أنك عاجز عن معرفته، فكما عجزت عن معرفة روحك التي هي أقرب شيء إليك فأنت معذور إذا عجزت عن معرفة الله عز وجل.
ومن هنا فإن صفات الله عز وجل التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده التي وصف بها نفسه في القرآن ووصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الإيجابية.
القسم الثاني: الصفات السلبية.
فالصفات الإيجابية جاءت على وجه التفصيل، والصفات السلبية جاءت على وجه الإجمال، فالصفات السلبية مثل قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[الإخلاص:3-4] , وهي نافية للنقص عنه، والصفات الإيجابية مثل العلم، والحياة، والقدرة، وغيرها من الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن نفصله تفصيلاً آخر فنقول: تنقسم إلى:
صفات ذاتية.
وصفات فعلية.
فالصفات الذاتية مثل الوجود الذي يمكن أن نقول فيه: (الحق) بدل الموجود، ومثل الأولية التي يقول فيها المتكلمون: (القدم)، ومثل البقاء والدوام، ومثل الغنى ونحو ذلك، فهذه صفات ذات، ومنها أيضاً الوجه، والعين، واليدان، والساق، والقدم، فهذه صفات ذاتية.
أما الصفات الفعلية فهي تنقسم إلى قسمين:
صفات اختيارية، وصفات دائمة.
فالصفات الاختيارية هي مثل الكلام بمعنى التكلم، والنزول، وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء، وغير ذلك من الأفعال كالغضب والرضا والرحمة والمحبة والسخط ونحوها، فهذه صفات اختيارية.
والصفات الدائمة من الصفات الفعلية كصفة الاستواء؛ فإنه قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5] , بصيغة الماضي، فليس ذلك مثل غيره من الأفعال التي تكون بصيغة المضارع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا).
فهذه الصفات يجب الإيمان بها، والإيمان بها يقتضي الإيمان بكمال الله عز وجل وجلاله وجماله وتمام التعلق به ومحبته، وكذلك يقتضي التوكل عليه وحده وعدم منازعته في شيء من أمره، فهو الذي يقول: (الكبرياء ردائي، ومن نازعني ردائي قصمته), ( قصمته ) ومعناه: أهلكته وقطعت دابره. فهذه الصفات يجب الإيمان بها بالإجمال، ولا يجب التفصيل، ولهذا لم يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الناس، وكثير منها إنما جاء في أحاديث آحاد، كثير من صفات الله جاءت في أحاديث يرويها آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمها لكل الناس، فلا يجب أن نمتحن الناس عموماً بصفات الله، بل لا يجب على كل الناس أن يتعلموا ذلك.
كذلك أسماء الله، فقد سمى الله تعالى نفسه بكثير من الأسماء في كثير من اللغات، وهذه الأسماء كلها كذلك تدل على صفات، وتدل على كمال وجلال، وكلها تقتضي محبته ودعاءه والتوكل عليه، وهي تنقسم إلى أسماء للتعلق والتخلق، وأسماء للتعلق فقط.
فالأسماء التي هي للتعلق والتخلق مثل: الرحمن الرحيم، والعفو الرؤوف، والحليم الكريم، ونحو ذلك.
والأسماء التي هي للتعلق -فقط- مثل: الله، الجبار، المنتقم، ذي الجلال والإكرام، القيوم.
توحيد الله في ربوبيته معناه: الجزم بأنه هو الواحد الأحد الذي خلق هذا العالم، وليس للعالم رب سواه، وهذا التوحيد هو أصل الإيمان؛ لأنه ينبني عليه كل ما بعده، فما بعده كله تابع له، فمن اعتقد تعدد الآلهة أو أن للعالم خالقاً غير الله لا ينفعه أي توحيد آخر بعد هذا.
ولهذا فإن المشركين الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثير منهم يؤمن بتوحيد الربوبية، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك. أنت تملكه وما ملك. وكذلك فإن الله تعالى أثبت عليهم هذا التوحيد في القرآن في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[لقمان:25] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[العنكبوت:63] , فلم يكونوا يخالفون في هذا التوحيد إلا نادراً.
والذين يخالفون في هذا التوحيد أجناس، منهم الدهرية، والطبيعيون الذين نسميهم في زماننا هذا بالشيوعيين، الذين ينكرون وجود إله أصلاً، ويزعمون أن هذه الحياة مادة، وأن طبيعة العالم تفرز الطفرات، وأن الطفرة الكبيرة التي اقتضت الانقسام بين السماء والأرض، واقتضت توزع الكائنات هي منشأ هذا العالم، ومنها تغيرت الأمور وكانت بطبيعتها تتولد وتحتك، والاحتكاك الدائم الذي فيها يقتضي حصول تنوع شديد، وهذا الذي قالوه رد الله عز وجل عليه في كتابه بآية هي أبلغ دليل على هذا، وأبلغ دليل على إنكار تأثير الطبيعة هي قول الله سبحانه وتعالى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4] .
لو كانت الطبيعة مؤثرة فما الفرق بين هذه البقعة في هذا المتر الواحد يخرج فيه أجناس من النبات متفاوتة متباينة الألوان، ومتباينة الطعوم، ومتباينة الرائحة، وقد نبتت في تربة واحدة، وسقيت بماء واحد؟! وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4] طعمها مختلف، فالمكان الواحد تخرج فيه نخلة، وتخرج علقمة، وتخرج وردة، وتخرج ثمرة أخرى مباينة لها، فتجد الشبر الواحد من الأرض فيه ألوان متلونة، فلو كانت الطبيعة هي التي أثرت فيها لجاءت جميعاً على شكل واحد وطعم واحد وفائدة واحدة، فعلم أن هذا بإرادة الله وتقديره، وأنه لا يمكن أن تقع طفرة دون مؤثر؛ لأن كل فعل لا يقبل العقل حصوله دون تأثير ودون مؤثر، وهذا المؤثر لا يمكن أن يكون جاهلاً به؛ إذ لو كان جاهلاً به لاختلطت الأشياء واختل نظامها.
ولا يمكن أن يكون قد خفي عليه، لتمام تناسقه وانسجامه، فعلم بطلان اعتقاد الطبائعيين، علم بطلانه عقلاً بهذه الآية، وعلم بطلانه لما يترتب عليه من فساد العالم كله، فلو كانت الطفرة التي يزعمونها صحيحة فلماذا تأخرت ولم تقع طفرة أخرى في آلاف السنين التي تأتي؟ ومن الذي حدد وقت تلك الطفرة؟
وما هي العوامل التي عملت على وقت تلك الطفرة ولم تعمل على ذلك في زماننا هذا؟
لماذا لا يقع انفجار كبير كما يزعمون في آلاف السنين التي جاءت بعد ذلك؟
إن هذا رد واضح وصريح على هذه الطائفة التي تنكر الإلهية؛ وطائفة الدهرية نسبةً إلى الدهر، وهذه من النسبة الشاذة، ولغة العرب فيها شواذ النسب، مثل الدهريين، ومثل الطبعيين، ومثل الخرفيين، وغيرها من النسب الشاذة.
كذلك من الذين ينكرون توحيد الربوبية الذين يزعمون أن لهذا العالم خالقين وهما: النور، والظلمة.
وهؤلاء يسمون بالمانوية ، وهم يزعمون أن النور هو إله الخير، وأن الظلمة هي إله الشر، وأنه لا خالق لهذا العالم سوى هذين الإلهين، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وجوابهم العقلي أن يقال: زعمتم أمرين موجودين في هذا العالم مؤثرين فيه، فمن خلقهما؟ هل خلقا أنفسهما أو خلقهما إله ثالث؟
وهنا لا بد أن نصل بهم إلى الدور أو التسلسل، فالدور أن يرجعوا من حيث بدؤوا، فيقال: النور خلقته الظلمة والظلمة خلقها النور. فيأتي الدور المستحيل؛ لأنه يتوقف كل واحد منهما على وجود الآخر فينعدمان ولا يكونان أبداً.
أو نذهب إلى التسلسل، فيقولون: النور والظلمة خلقهما إله ثالث، وذلك الإله الثالث خلقه إله آخر، وهكذا حتى يصلوا إلى حوادث لا أول لها، وهذا يمنعه العقل.
ولذلك يقول أبو الطيب المتنبي :
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
فظلام الليل استفاد منه كثيراً في مغامراته وهروبه، فقال: إن ظلام الليل يخبر أن المانوية تكذب، فليس هو إله الشر؛ لأنه أتى بالخير.
كذلك الذين يزعمون أن هذا الكون إلهه فرعون -مثلاً- من عباده، حيث زعم هو أنه لا إله لهم سواه، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وقد كذب نفسه؛ لأنه حكم على نفسه بجهله بالسماوات وما فوقها بقوله: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ[غافر:36-37] , فكيف تخلقها وأنت تجهلها وتجهل ما فوقها؟ فقد رد على نفسه.
إذاً: فالمخالفون في توحيد الربوبية قلة، والموجود منهم في زماننا هذا هم الشيوعيون وبعض عبدة الأوثان في الديانات الهندية فقط.
أما توحيد الإلهية فمعناه: توحيد الله بالعبادة بحيث لا يعبد إلا هو، ولا يدعى إلا هو، ولا تعلق الحوائج إلا به، ولا يشرع إلا هو، وهذا التوحيد يخطئ فيه أكثر الناس، فلذلك احتاج إلى بيانه أكثر مما سواه.
فمثلاً: في مجال العبادة لا يمكن أن يستحق العبادة إلا الخالق الرازق المدبر الحي القيوم الدائم الذي لا تخفى عليه طرفة عين، ولا يغفل، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فهو وحده المستحق للعبادة، ولا يمكن أن يعبد من سواه أبداً.
ويدخل في العبادة السجود له، ولا يخالفه في ذلك إلا الذين يعبدون الأصنام أو يسجدون لها، وهؤلاء لا يلحدون في توحيد الربوبية؛ لأنهم يزعمون أن هذه الأصنام مملوكات لله، وإنما يتقربون بها إلى الله فقط، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى[الزمر:3] , فهم لا يعبدون هذه الأصنام لأنهم يزعمون أنها خالقة، ولكنهم يعبدونها تقرباً إلى الخالق فقط، فهؤلاء يخالفون في توحيد الألوهية ولا يخالفون في توحيد الربوبية، ومثل هذا الذين يعبدون غير الله ببعض العبادات المخصوصة، فلا يصلون لغير الله ولا يصومون لغير الله، ولكن يذبحون لغير الله، مثل الذبح للأصنام، والذبح للقبور ونحوها، فهذا عبادة لغير الله؛ لأن الذبح عبادة مختصة لله، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ[الأنعام:162-163] .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في صحيفة رسول الله صلى الله عليه سلم التي أعطاه: (لعن الله من ذبح لغير الله).
كذلك من العبادات النذر، فكثير من الناس لا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا لله، ولكنه ينذر لغير الله. والنذر عبادة؛ لقول الله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29] , ولقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً[الإنسان:7] , فمن نذر لغير الله فقد أشرك؛ لأن النذر عبادة مختصة لا تحل إلا لله، فهي مثل الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك.
ومن هنا احتيج إلى بيان معنى النذر الذي يجهله كثير من الناس، فالنذر معناه: إيجاب ما ندب تقرباً لله تعالى وشكراً له أن يتقرب الإنسان إلى الله بأن يلزم نفسه بطاعة مندوبة، فما ليس مندوباً من المباحات لا يمكن أن يكون نذراً، كمن نذر أن يشرب كأساً من الشاي، أو أن يشرب كأساً من الماء، فهذا لا يسمى نذراً؛ لأنه مباح وليس عبادة.
ومن نذر واجباً فقد كان واجباً قبل هذا ولم يستفد من النذر شيئاً، ومن نذر مندوباً فقد تأكد حكمه وازداد أجره بسبب نذره، ولكن هذا النذر ينبغي أن لا يكون مشروطاً، وأن لا يكون مكرراً، فالنذر المشروط هو الذي يقول صاحبه: إن نجحت في الامتحان فسأصلي ركعتين شكراً لله. وينذر بذلك، أو: أتصدق بكذا. أو: أحج. أو: أصوم. أو نحو ذلك، فهذا النذر المشروط أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يرد من قدر الله شيئاً، وإنما ينتزع الله به من يد البخيل), فالذي يفعله بخيل في تعامله مع الله، حيث يشرط على رب العالمين، فجعل نفسه بخيلاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولذلك لا يصدر من أهل الإيمان الكامل.
والنذر المكرر قد يوقع الشخص في حرج، كمن نذر أن يصوم يوم الإثنين دائماً، أو يوم الخميس دائماً، فربما أتاه ذلك اليوم وهو عاجز عن صيامه، أو مشغول بأمر لا يستطيع التخلص منه، فلذلك كره هذا النذر المكرر، وإنما يطلب النذر إذا أقبل الشخص على عبادة مندوبة، فأراد أداءها وتيسرت له أسبابها، فينذرها ليكون ذلك زيادة في الأجر، كمن يجلس في مصلاه وينتظر صلاة المغرب، ويعلم أنه ليس لديه شغل سيقيمه من هذا المسجد.
وقبل النذر قد كان الفعل مندوباً فصار واجباً يثاب عليه ثواب الواجب.
كذلك من العبادات التي يشرك فيها الناس الحلف، فالحلف عبادة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وكان الناس يحلفون بآبائهم في الجاهلية، فسمع رسول الله صلى عليه وسلم عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فدعاه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم! من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت), وكانوا يحلفون بأصنامهم في الجاهلية، فدأب بعض الناس على ذلك في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله), فالحلف بغير الله عبادة لمن حلف به.
كذلك الشرك في التشريع فهو شرك في الإلهية، فالله وحده هو الذي يشرع لعباده ما شاء، وسبب ذلك أنه وحده العالم بحياتهم ومماتهم ومصالحهم الدنيوية والأخروية، ولا يعلم أحد منهم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، ولا ما يكسب غداً، ولا يمكن أن يطلع على مصالحه هو، بل تخفى عنه، ولذلك نرى كثيراً من الناس يجتهد في أمر فيه له مضرة، يجتهد أن يسافر سفراً هو فيه على موعد مع ملك الموت، ويتحرك حركة معينة فينكسر منه عضو بسبب تلك الحركة، ويخرج لحاجة غير مهمة فيصادفه قدر من قدر الله يصيبه بمصيبة عظيمة، كل هذا يدل على أن الإنسان جاهل بمصالحه، ومن كان جاهلاً بالمصالح والمفاسد لا يمكن أن يشرع شيئاً؛ لأن التشريع أصله على معرفة المصالح والمفاسد، ولذلك قال الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14] , فالذي هو اللطيف الخبير بالناس هو الذي يستطيع أن يشرع لهم ويعرف مصلحتهم.
فإذا شرع شيئاً فأباح أو حرم أو أوجب فذلك لمصلحة بني آدم لا لمصلحته هو، فلا يصل إليه نفع ولا ضرر من ذلك، ولهذا قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ[الحج:36-37] , فهذه الأنعام لا ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولا يمكن أن يصل إليه نفع منها، ولا أن يوصل إليه المخلوق نفعاً ولا ضرراً، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فالتشريع من اختصاصات رب العالمين لا يمكن أن ينازعه فيها أحد، فمن شرع فقد أشرك، ولهذا قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21] , فكل من سن قانوناً أو وضع تشريعاً مما لم يأت به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أشرك مع الله عز وجل من شرع لهم.
ومن هنا فإن اليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين، يشركون أحبارهم ورهبانهم في الإلهية؛ لأنهم يحلون لهم الحرام فيستبيحونه، ويحرمون عليهم الحلال فيتركونه، وهذا مقتض لعبادتهم، ولهذا قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً[التوبة:31] , وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله أنه قال: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله! قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتستحلوه؟ قال : بلى. قال: ألم يحرموا عليكم الحلال فتتركوه؟ قال: بلى. قال: فقد عبدتموهم), وهذه عبادته، ولهذا جعل الله تعالى القوانين ديانة، فيسمى القانون ديناً، كما في قوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] , معناه: في قانون الملك إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[يوسف:76] ، فكل قانون غير شرع الله فهو دين أراد به صاحبه نسخ دين الإسلام وتغييره، فهو إشراك بالله العظيم عز وجل .
كذلك من الإشراك في الإلهية الإشراك في محبة الله عز وجل ومسألته، فإن الله وحده هو الصمد الكريم الغني الحميد الذي يستحق أن ترفع إليه الحوائج كلها، وأن ترفع إليه الأيدي في كل المطالب، فمن تعلق قلبه بمخلوق فأصبح يعلق به حوائجه ويخافه ويطمع فيه ويسأله فقد أشرك هذا الشرك، فدعوة غير الله مثل الاستغاثة بمخلوق أو مسألته أمراً لا يقدر عليه شرك بالله، كمن سأل مخلوقاً أن ينزل المطر، أو أن يكفر عنه ذنبه، أو أن يدخله الجنة، أو أن يجيب عنه الملكين، أو أن ينور له قبره، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، أو أن يرزقه ولداً أو مالاً أو نحو ذلك، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، فالخلق والرزق من عند الله وحده.
ومن هنا فإن دعوة المخلوق شرك بالله، ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14] , وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ[الفرقان:68] , وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً[الإسراء:57] .
فكثير من الناس يدعون من هم يخافون ويرغبون فيما عند الله عز وجل، يدعون أولياء الله وأنبياءه وملائكته من دون الله، وهؤلاء كلهم يخافون من الله ويرغبون فيما عنده، وكلهم سيقولون يوم القيامة: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي. كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن كل نبي يقول يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ[الإسراء:57] ، فكلهم يسعى ليقرب نفسه إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) يتنافسون في القرب إليه بالأعمال الصالحات، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ[الإسراء:57] .
ومن هنا فإن هذا النوع من الشرك فيه أيضاً إذلال للنفس؛ لأن الإنسان إذا أصبح يدعو غير الله فقد عبد نفسه لمخلوق، والله تعالى يقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[الزمر:29] .
ومن هنا فإن الطمع في المخلوق وسؤاله والاستغاثة به تنقسم هذه الحال إلى قسمين:
القسم الأول: شرك بالله وكفر به، وهو مسألة المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك بالله وكفر به.
القسم الثاني: مسألة المخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، فهذه تنقسم إلى قسمين: محرم ومباح.
فالمحرم مسألة المخلوق لغير عذر، فلا تحل المسألة إلا لمن أحلها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة، أما المسألة من غير عذر من هذه الأعذار فلا تحل أصلاً.
ومسألة المخلوق أمراً يقدر عليه ولا يكلفه كأن تسأله أن يناولك عصاً أو نعلاً، أو أن يفتح الباب، أو نحو هذا من الأمور السهلة، فهذه مباحة، لكنها قد تصل إلى حد الكراهة، كما إذا لم تكن المسألة احتراماً فتأمر كبيراً بأن يقوم ويأتيك بشيء ونحو ذلك، وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه على أن لا يسألوا أحداً شيئاً، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يسأل أحداً، فإذا وقعت عصاه وهو على راحلته لم يأمر أحداً أن يناوله عصاه وهو خليفة رسول الله، بل ينزل عن راحلته حتى يأخذ عصاه بيده، وهذا هو تمام الإيمان بالله والتوكل عليه، أن يكون الإنسان حراً من الأغيار، لا يسأل أحداً شيئاً بالكلية، مستغنياً بالله عمن سواه.
أما الذين يشركون بالله في المسألة فأنواع:
فمنهم: من يشرك معه الجن، وهؤلاء هم أضعف الناس حيلة وأدناهم عقلاً، وفيهم أنزل الله تعالى سورة الجن، وفيها يقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً[الجن:6] , هؤلاء زادوهم مشقة وتعباً وعنتاً، ولم يستفيدوا منهم شيئاً.
ومنهم الذين يدعون الجمادات كالأشجار والأحجار ونحو ذلك، وهؤلاء جعلوا أنفسهم في أخس مكان، حيث جعلوا هذه الجمادات خيراً منهم، كقوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الحجارة من دون الله ويدعونها في قضاء حوائجهم، وكذلك أصنام عمرو بن لحي التي هي أصنام قوم نوح الخمسة المذكورة في القرآن: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر فهذه الخمسة هي أصنام قوم نوح، وقد أخذها عمرو بن لحي فأخرجها للعرب في جزيرتهم فعبدوها في عصر الجاهلية.
وكذلك دون هؤلاء الذين يستغيثون بأولياء الله وأنبيائه والصالحين من عباده، فهؤلاء يستغيثون بهؤلاء العباد الذين هم مشغولون في التقرب إلى الله وعبادته، ولا يضر ذلك أولئك الذين عبدوا من دون الله، فلا ينقص هذا من قدرهم، فعيسى بن مريم عليه السلام عبده النصارى من دون الله، وهو سيتخلص من شفاعة يوم القيامة بذلك، فعندما يأتيه الناس يسألونه الشفاعة إلى الله يفكر في ذنب قد اقترفه فلا يجد شيئاً فيقول: قد عبدت من دون الله. ولا يضره ذلك شيئاً، فالذين عبدوه خالفوا أمره، وما أمرهم إلا بالحق، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنه: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:116-118] , وقد صدقه الله تعالى في ذلك فقال: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ[المائدة:119] ، فهؤلاء الأولياء والصالحون الأنبياء لا يضرهم شيئاً أن يستغاث بهم من دون الله، لكن هذا يضر الذين فعلوا.
ومن هنا فإن كثيراً من الناس يغلط، فإذا رأى شخصاً أو سمع شخصاً يدعى من دون الله عادى ذلك الشخص وتجرأ عليه وتهجم عليه، وجعله طاغوتاً من الطواغيت، والواقع خلاف ذلك، فقد يكون هذا ولياً من أولياء الله أو عالماً أو رجلاً صالحاً ولم يأمر الناس أن يتوسلوا به ولا أن يدعوه، فلذلك لا يكون ذنب دعوته في ذنوبه هو، وإنما هو في ذنوب الذين دعوهم من دون الله، فإن علم بذلك وأقرهم عليه فهذا أمر آخر، فيكون إقراره من ذنبه هو.
أما التوحيد الثالث فهو توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته، فإن الله سبحانه وتعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103] , ولا يمكن أن يشبه شيئاً ولا أن يشبهه شيء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] , فلا يمكن أن يعرف بالعيان ولا بالمثال، فلم يبق إلا معرفته بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستدلال عليه بمخلوقاته، وفي هذا يقول العلامة محمد بن فال المتالي رحمه الله تعالى:
وطرق المعرفة الكبار عيان أو مثال أو آثار
فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار
والثاني أيضاً منعه في النقل لأنه ليس له من مثل
لم يبق بعد ذا سوى آثار صنعته في العالم السيار
فهذا الدليل الباقي على معرفته، فالله سبحانه وتعالى أثنى على نفسه بكثير من الصفات، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك بكثير منها، ولا أحد أعلم بالله من الله، وبعد ذلك لا أحد أعلم به من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا), فإذا أخبر عن نفسه بصفة وجب الإيمان بذلك وتصديقه ومعرفة أن تلك الصفة واجبة لله، وإذا أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بشيء وجب الإيمان بذلك، وتصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ذلك.
ومع هذا يجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يكون لصفات الله أي مثال في عالم الحوادث، فشتان بين الخالق والمخلوق، لكن لا يخفى علينا أيضاً أن الأسماء قد تشترك، فقد تكون الصفة التي يتصف بها الله عز وجل يستمي بها المخلوق، فيتسمى بهذه الصفة المخلوق، لكن لا علاقة بين الصفتين إلا في الاسم فقط، فعلم الله يطلق عليه لفظة العلم، وعلم المخلوق يطلق عليه لفظة العلم، لكن شتان بين العلمين، فعلم المخلوق قال الله تعالى عنه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[الإسراء:85] , والله هو علام الغيوب: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59] .
كذلك وجه الله يطلق عليه هذا اللفظ (الوجه)، ووجه المخلوق يطلق عليه (وجه)، لكن شتان بين الأمرين، شتان بين الخالق والمخلوق، ومثل ذلك ما نسميه ذاتاً، فنحن نقول: ذات الله، وذات المخلوق. لكن شتان بين الأمرين، فنحن لا نعرف من الذوات إلا ذوات المخلوقين، وذات الله عز وجل هي نفس الله التي سماها في القرآن (نفساً) في قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ[المائدة:116] , وفي قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران:28] ، في آيتين من سورة آل عمران، وغير ذلك من لفظ النفس في القرآن.
فإن لفظ الذات لم يرد فيه، وليست في اللغة بهذا المعنى، ولكنها مصطلح للمتكلمين، فنحن ننطق بها على هذا المصطلح، ولا ننطق بها إلزاماً لأن تكون من ألفاظ الاعتقاد الواردة في الكتاب أو السنة فليست كذلك.
وهذه النفس مخالفة لنفس المخلوق، وإنما تشترك معها في الاسم فقط، فنحن لا نعرف من الأنفس إلا نفس المخلوق، ولا يمكن أن نقيس عليها نفس الخالق أبداً، وشتان بينهما.
ومن هنا لزم أن نطرد هذا التفريق في كل الأمور، فلله نفس تخالف أنفس المخلوقين، فلا أحد يزعم أن ذات الله مثل ذوات المخلوقين أبداً، لكن كذلك لله صفات تنافي صفات المخلوقين، وإذا كان كذلك فلا فرق بين الكلام في النفس والكلام في الصفات، فالقول في الصفات كالقول في الذات مطلقاً، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، فلا يرى ضرراً في إطلاق الذات على الله كما تطلق على ذات المخلوق مع الفرق الشاسع بينهما، لكن إذا جاء إلى الصفات تأثر من إطلاق بعض الصفات على الله؛ لأنه يفهمها على منوال صفات المخلوقين، وهذا غلط، فلماذا تميز بين الذات والصفات؟
فالقول في الذات كالقول في الصفات، وبعد هذا فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضه، فما الفرق بين العلم واليد والعين ونحوها؟ فكلها صفات أثبتها الله لنفسه لا يمكن أن تكون مشابهةً لصفات المخلوقين، وكلها تدل على التمام والكمال، وكلها تقتضي محبته وتمام الإيمان به والتوكل عليه، وليس شيء منها يقتضي نقصاً فيه ولا عجزاً ولا تشبهاً بالمخلوق أبداً، واشتراكها في الاسم مع صفات المخلوق لا يقتضي نقصاً لها، فالمخلوق قد يشترك مع المخلوق بالاسم وشتان بينهما، فللإنسان عين وللفيل عين، لكن شتان بين عين الفيل وعين الإنسان، وقد قال ابن عباس : (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فالجنة فيها اللبن والدنيا فيها اللبن، فهل هذا اللبن مثل اللبن الذي في الجنة؟ شتان بينهما.
والجنة فيها خمر والدنيا فيها خمر، لكن شتان بين خمر الجنة وخمر الدنيا، والجنة فيها ماء والدنيا فيها ماء، لكن شتان بين الماء الذي في الدنيا والماء الذي في الجنة.
كذلك مثال آخر، فأقرب شيء إلى الإنسان نفسه التي بين جنبيه، وهو يعلم أن له روحاً يؤمن بها، وأنها تصعد وتعرج وتنزل وتذهب وتستقر، وترضى وتغضب، ومع ذلك لا ينكر شيئاً من هذه الصفات؛ لأنه يحس بها في داخله ولا يمكن أن يصورها بوجه من الوجوه، ولا يدرك لها حقيقة، وكثير من الناس اليوم يقولون: نحن نطبق المنهاج التجريبي على كل شيء. فينكرون الإيمان بالله؛ لأنهم يقولون: الحقائق كلها أصبحت علمية تجريبية. لكن يقال لهم: ألا تؤمنون أن لكم أرواحاً وعقولاً؟
فإذا قالوا: ليس لنا أرواح وعقول قلنا: أنتم إذاً أحجار أو أشجار فلا نتكلم معكم. وإذا قالوا: لنا أرواح وعقول فنقول: صفوها لنا! فما صفة عقلك أنت وما صفة روحك؟
فإذا شهد على ذلك وسلم وقال: أنا أؤمن بأن لي روحاً وعقلاً لكن لا أستطيع وصفها نقول: كيف تنكر هذا عن رب العالمين وتقر به لمخلوق ضعيف؟
فآمن بالله، واعلم أنك عاجز عن معرفته، فكما عجزت عن معرفة روحك التي هي أقرب شيء إليك فأنت معذور إذا عجزت عن معرفة الله عز وجل.
ومن هنا فإن صفات الله عز وجل التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده التي وصف بها نفسه في القرآن ووصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الصفات الإيجابية.
القسم الثاني: الصفات السلبية.
فالصفات الإيجابية جاءت على وجه التفصيل، والصفات السلبية جاءت على وجه الإجمال، فالصفات السلبية مثل قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[الإخلاص:3-4] , وهي نافية للنقص عنه، والصفات الإيجابية مثل العلم، والحياة، والقدرة، وغيرها من الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن نفصله تفصيلاً آخر فنقول: تنقسم إلى:
صفات ذاتية.
وصفات فعلية.
فالصفات الذاتية مثل الوجود الذي يمكن أن نقول فيه: (الحق) بدل الموجود، ومثل الأولية التي يقول فيها المتكلمون: (القدم)، ومثل البقاء والدوام، ومثل الغنى ونحو ذلك، فهذه صفات ذات، ومنها أيضاً الوجه، والعين، واليدان، والساق، والقدم، فهذه صفات ذاتية.
أما الصفات الفعلية فهي تنقسم إلى قسمين:
صفات اختيارية، وصفات دائمة.
فالصفات الاختيارية هي مثل الكلام بمعنى التكلم، والنزول، وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء، وغير ذلك من الأفعال كالغضب والرضا والرحمة والمحبة والسخط ونحوها، فهذه صفات اختيارية.
والصفات الدائمة من الصفات الفعلية كصفة الاستواء؛ فإنه قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5] , بصيغة الماضي، فليس ذلك مثل غيره من الأفعال التي تكون بصيغة المضارع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا).
فهذه الصفات يجب الإيمان بها، والإيمان بها يقتضي الإيمان بكمال الله عز وجل وجلاله وجماله وتمام التعلق به ومحبته، وكذلك يقتضي التوكل عليه وحده وعدم منازعته في شيء من أمره، فهو الذي يقول: (الكبرياء ردائي، ومن نازعني ردائي قصمته), ( قصمته ) ومعناه: أهلكته وقطعت دابره. فهذه الصفات يجب الإيمان بها بالإجمال، ولا يجب التفصيل، ولهذا لم يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الناس، وكثير منها إنما جاء في أحاديث آحاد، كثير من صفات الله جاءت في أحاديث يرويها آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمها لكل الناس، فلا يجب أن نمتحن الناس عموماً بصفات الله، بل لا يجب على كل الناس أن يتعلموا ذلك.
كذلك أسماء الله، فقد سمى الله تعالى نفسه بكثير من الأسماء في كثير من اللغات، وهذه الأسماء كلها كذلك تدل على صفات، وتدل على كمال وجلال، وكلها تقتضي محبته ودعاءه والتوكل عليه، وهي تنقسم إلى أسماء للتعلق والتخلق، وأسماء للتعلق فقط.
فالأسماء التي هي للتعلق والتخلق مثل: الرحمن الرحيم، والعفو الرؤوف، والحليم الكريم، ونحو ذلك.
والأسماء التي هي للتعلق -فقط- مثل: الله، الجبار، المنتقم، ذي الجلال والإكرام، القيوم.
الركن الثاني من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة.
إن لله تعالى جنوداً لا نعلمها: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ[المدثر:31] , وهذه الجنود منها جند الملائكة، وهم من أكثر جنود الله تعالى عدداً ومن أقواهم، وقد خلقوا من نور، وهم عباد مكرمون: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6] , يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20] , وهؤلاء منهم المقربون -وهم أفضلهم- كجبريل روح القدس الأمين عليه السلام، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، وملك الموت، فهؤلاء من الملائكة المقربين، ومنهم حملة العرش الذين شرفهم الله تعالى بحمل عرشه عز وجل، وهم أربعة في الدنيا وثمانية يوم القيامة: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17] .
وهؤلاء الملائكة يجب الإيمان بوجودهم، وبكونهم معصومين من المعصية، وبأنهم: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20] , والإيمان بهم مؤثر في الإنسان؛ لأنه مطالب بأن يحاكيهم ويضاهيهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟!).
وكذلك في الصوم، فإن الإنسان يصوم ليباهي الملائكة، وكذلك في الحج، فإن الناس يقفون بعرفة لمباهاة الملائكة، فالإيمان بهم مقتض من الإنسان المبالغة في التعبد لله واجتناب معاصيه؛ لأن الإنسان الذي يعلم أن لله عباداً آخرين يطيعونه غاية الطاعة وهو يريد الانتساب إلى الله ويريد أن يكون عبداً لله فسيحاول أن ينافس هؤلاء في طاعة الله، ويحاول أن يبتعد عن المعصية، فكلما زينت له نفسه أو شيطانه الوقوع في المعصية تذكر أن لله عباداً آخرين في حضرته لا يعصون أمراً ولا يخالفونه، ولا يقعون في أية معصية، فكف عن ذلك، ومن هنا كان المثال في هذا الباب مهماً جداً، حيث قال الله تعالى بعد سرده لأسماء ثمانية عشر من الأنبياء عليهم السلام في سورة الأنعام قال بعده: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89] .
والمقصود بقوله: (هؤلاء) الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، وقوله تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ[الأنعام:89-90] , هؤلاء هم الذين هداهم الله عز وجل وجعلهم قدوة للناس، بين سبحانه وتعالى أن معصية الآخرين له لا تقتضي نقصاً في طاعته، فله جنود آخرون يطيعونه ولا يعصون له أمراً.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4839 استماع |
بشائر النصر | 4291 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4062 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4003 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3948 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3932 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3898 استماع |