صفة الجنة


الحلقة مفرغة

الحمد لك يا الله جعلت الفردوس لعبادك المؤمنين نُزُلا؛ فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، الحمد لله الذي يسَّرها لنا، ويسَّر الأعمال الصالحة لنا؛ فلم يتخذ السالكون إلى الله سواها شغلاً، وسهل لهم سبلها فلم يسلكوا سواها سبلاً، خلقها قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجدهم، وحفَّها بالمكاره ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأودعها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفوق ذلك: خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا [الكهف:108].

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أدَّخرها لي ولكم إلى يوم المصير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته وفضله ومنِّه وكرمه، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بمنِّه وكرمه ورحمته.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، شرح الله به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً:

قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِهِ     شُؤْماً لظالِمِهِ وللمظلومِ

لمَّا أَطَلَّ محمدٌ زَكَتِ الرُّبا     واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيمِ

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في روضة من رياض الجنة، لو أذن الله -عز وجل- لنا أن ننظر من يحفُّنا في هذا المكان لرأينا الملائكة تحفُّنا، ولرأينا السكينة تتنزل علينا، ولرأينا الرحمة تغشانا، وفوق ذلك كله أن الله -عز وجل- يذكرنا في ملئه الأعلى سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].. أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

فيا عبد الله! طوبى لك يوم جئت إلى هذا البيت في ضيافة الرحمن لتنتفع بذكر قد سمعته ولكن: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

فَأَكْثِرْ ذكرَهُ في الأرضِ دأباً     لِتُذْكَرَ في السماءِ إذا ذُكِرْتَا

ونَادِ إذَا سَجدتَّ لَهُ اعتِرافاً     بِمَا نَاداهُ ذُو النونِ بنُ متَّى

تفِتُّ فؤادَك الأيامُ فتّاً     وتَنْحَتُ جِسمَكَ السَّاعات نَحْتاً

وتدْعُوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ     ألا يَا صَاحِ أنْتَ أرِيدُ أنتا

فلا تقل الصِّبَا فيه مَجَالٌ     وفكِّرْ كَمْ صبيٍّ قد دَفَنْتَا

إذا مَا لَمْ يُفِدْك العلمُ شيئاً     فليتَكَ ثمَّ ليتَك ما عَلِمْتَا

وإنْ ألقَاكَ فهمُكَ في مَغَاوٍ     فليتكَ ثمَّ ليتَكَ ما فَهمْتا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرة أخرى، وأنتقل بكم إلى قول الحق تبارك وتعالى : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [المؤمنون:115-116].

لا إله إلا الله! لم يخلق الناس عبثاً ولم يتركهم سدى؛ بل خلقوا لأمر عظيم وخطب جسيم؛ عرض على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنَه وأشفقْنَ منه، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه ظلماً وجهلاً فانقسم الحاملون له إلى فريقيْن: فريق عطَّل تفكيره، وانساق وراء شهواته وملذاته؛ كل همِّه إرضاء نزواته وإشباع غرائزه؛ بشرٌ في مسلاخ دواب -أجار الله هذه الوجوه أن تكون من هذا الصنف- نظرتهم قاصرة وعلمهم أقصر: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً منَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].

أما الفريق الآخر -وأرجو الله أن أكون وأنتم منهم- آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، جعل خوف الله في قلبه، وجعل خشية الله نصب عينيْه، فأتمر بأمر الله وانتهى عن نهيه وراقبه حق المراقبة، وقال عند سماع أوامره: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

ومن كمال الألوهية لله سبحانه وتعالى أن جعل للناس يوماً آخر إليه فيه يرجعون، ويوفَّون ما اكتسبوه بالقسطاس المستقيم، فيصدرون من أرض المحشر راضين بعدل الله المطلق: أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] بلى. فائزين يُزفون إلى الجنة: فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمرن:107].

وآخرون خاسرون يساقون إلى النار فهم في العذاب محضرون، يبين ذلك قول الله جل وعلا: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107].

أيها الإخوة في الله: والإيمان بيوم الجزاء وباليوم الآخر ركن هام من أركان الإيمان؛ من لم يؤمن به لم يؤمن بالله جل وعلا.

لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن باليوم الآخر.

وعرض الجنة ونعيمها والنار وجحيمها أسلوب ناجح لإصلاح النفوس ولهدايتها ولتهذيبها ولكسر كبريائها أحياناً، ولحبسها أحياناً، فمن الناس من ينفعه الترغيب، ومن الناس من ينفعه الترهيب، ومن الناس من ينتفع بالاثنين معاً، وكل ذلك ورد في كلام الله جل وعلا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تقدم أحدهما مرة، وتأخر أحدهما مرة، واقْترَنَا مرة أخرى، وكل ذلك في كتاب الله جل وعلا.

ومن فضل الله عز وجل أن جلَّى لنا أمر الجنة، ووصف نعيمها، وأكَّد خلودها وكمالها من غير نكد ولا تنغيص ولا نقص، لا حر ولا برد، لا تعب ولا صخب ولا نصب، لا عجز ولا هرم؛ غمسة في الجنة تنسي كل شقاء في هذه الحياة، ثم أظهر -سبحانه- في الجانب الآخر حقيقة النار وعذابها؛ لهيب يتصاعد، وصراخ مفزع، وخوف وحميم وزقوم، وتقريع وتوبيخ وأهوال، وشهيق وزفير؛ غمسة فيها تنسي كل نعيم في هذه الحياة، نسأل الله أن يجير هذه الوجوه.

ذلك كله لماذا يا عباد الله؟

ليسعى المؤمنون إلى الجنة بلهفة وشوق مشرئبين إلى نعيمها ورياضها وقصورها، ذلك كله -أيضاً- لينأى الخلق عن النار بحذر وخوف، كل ذلك: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] كل ذلك: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37].

فيا أيها الإخوة في الله: تلك مقدمة ذكرتها لابد منها.

أما وقفتنا هذه الليلة فوقفة -بإذن ربنا- مع الجانب المشرق ومع الجانب المفرح المشوق، مع الجنة ترغيباً لا ترهيباً، وحفزاً للهمم لتطلب ما عند الله، وتدفع الثمن ولو كان الدماء والأوقات والأموال وكل شيء، فحيهلاً بكم -يا عباد الله- إلى الجنة ورياضها وقصورها ودورها وحورها لنتعرف عليها؛ علَّنا أن نكون من أهلها، ولنعرف من هم أهلها؛ علنا أن نكون متشبهين بهم: إن التشبه بالكرام فلاح.

ونعرف السبل الموصلة إليها فنسلكها لنكون مع الذين أنعم الله عليهم، ففي رياضها نعيش وما راءٍ كمن سمع، وما مخبر كمعاين، أسكننا الله وإياكم فردوسها الأعلى برحمته ومنِّه وكرمه.

الجنة ما الجنة؟

الجنة.. ما الجنة؟!

والفردوس ما الفردوس؟!

لا خطر لها، لا مثيل لها، ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية، في جنة عدن عند مليك مقتدر.

بناها الله تعالى لعباده المتقين أحسن بناء، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه؛ فبناؤها أحسن وأجمل وأتم وأكمل بناء، وكيف لا يكون ذلك وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، وسقفها عرش الرحمن؛ لا إله إلا هو! غرفها مبنية يُرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، من دخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.

أما أشجارها، فما أشجارها؟

ما من شجرة إلا ولها ساق من ذهب، ولها ساق من فضة.

أما ثمارها فألين من الزبد، وأحلى من العسل.

وأما ورقها فلا إله إلا الله! أحسن وأرق من رقائق الحلل.

أما تصفيق الرياح لذوائب أغصان أشجار الجنة، فيستفز من لا يطرب بالطرب.

ظل الشجرة يسير الراكب فيه مائة عام لا يقطعه؛ فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستظل بظلال أشجارها، إنه غفور رحيم.

أما أنهارها فما أنهارها؟

أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.

وفوق ذلك ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، تعلمون -يا عباد الله- أن الطلح له شوك، يقول أحد الأعراب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: { ذُكر في الجنة شجرة ما نعرف منها إلا الأذى -يقصد شوكها- قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29] } نضد هذا الشوك، فأنبت مكان كل شوكة ثمرة ألْيَن من الزبد، وأحلى من العسل، فضلا من الله ومِنَّة.

أما ماؤها -يا عباد الله- فمسكوب، حدائق وأعناب وكواعب أتراب.

أما طعام أهلها فلا إله إلا الله! فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور.

أما آنيتهم فالذهب والفضة في صفاء القوارير، وأَجْمِلْ بتلك الآنية!

فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وفوق ذلك: مَن دخلها يخلد فيها أبداً.

فيها روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان.

قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، يتكئ أهلها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً.

فيها مائة درجة، والناس في الجنة على درجات؛ منهم من يبلغ أعلى الجنة، ومنهم من هو في وسط الجنة، ومنهم من هو في ربض الجنة، لو أن العالمين اجتمعوا في درجة واحدة لوسعتهم.

سعة أبوابها: ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يزاحم على تلك المصاريع.

أما ما للمؤمن فيها: فللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، له أهلون يطوف على بعضهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة.

أما لباس أهلها فلا تَسَل عن لباسهم؛ حرَّم عليهم الحرير والذهب في هذه الحياة وجعل لباسهم هناك من الحرير والذهب، وأنعم بذاك اللباس!

وأما صورتهم فأهلها جميعاً على صورة القمر ليلة البدر؛ فلا إله إلا الله، أي جمال يكون ذاك الجمال!!! حليهم وأساورهم من ذهب وفضة ولؤلؤ وزبرجد وياقوت، من لذة إلى لذة إلى لذة، لا يجوعون ولا يظمئون، ولا ينصبون، ولا يشبعون، ولا يتعبون، وإنما لذَّات فوق لذّات: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ [الواقعة:17-18]. إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:19-20].

أما أسنان أهل الجنة: فأبناء ثلاث وثلاثين في سن الشباب، وما أجمل هذا السن يا عباد الله!

أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ [هود:108] في سعادة أبدية.

أما أمشاطهم فالذهب، وأما رشحهم فالمسك، وأما مجامرهم فالألوَّة، وهو أفضل الطيب وأفضل العود.

وأما أزواجهم فالحور العين، ولنا وقفة مع الحور العين يا عباد الله!

أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم

أما أدنى أهلها فيسير في ملكه وقصوره مسيرة ألفي عام؛ فما بالكم بأعلى أهل الجنة، إذا كان أدناهم كذلك؟ واسمعوا كما في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الحكيم سبحانه وتعالى: رجل يأتي بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول الله عز وجل له: ادخل الجنة. فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول الله عز وجل: ادخل الجنة. فيقول: كيف وقد أخذوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، وأخذوا نعيمهم -يخيل إليه أنها ملأى- فيقول الله عز وجل له: ألا ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ قال: بلى يا رب، وكيف لا أرضى بذلك؟! قال: فإن لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، حتى بلغ الخامسة، فقال هذا العبد: يا رب رضيت رضيت، قال فإن لك ذلك، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت عينك، ولذَّت نفسك، وأنت فيها خالد: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] }.

وفي الحديث الآخر الذي روي في الصحيحين : { أن الله عز وجل بعد أن يقضي بين العباد، يبقى رجل مقبل بوجهه على النار، قد نجا منها، ولكنه لم يدخل الجنة، ولم يقدم إلى باب الجنة، فيقف، فيقول: يا رب! برحمتك اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها، وآذاني وسمَّني، وأحرقني ذكاؤها ولهبها، فيدعو ما شاء الله عز وجل أن يدعو، فيقول الله عز وجل له: هل عسيت إن صرفت وجهك عن النار ألا تسألني غير ذلك؟ ‎‎‎‎قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك، فاصرف وجهي عن النار. فيصرف الله الرحيم الحليم الغفور وجهه عن النار.

فيبقى ما شاء الله أن يبقى ساكتاً ثم يسأل الله مرة أخرى، فيقول: يا رب! برحمتك قدِّمني إلى باب الجنة، فيقول الله: ويلك يا بن آدم ما أغدرك، وما أظلمك! ألم تُعطِ العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك؟ قال: يا رب! برحمتك قدمني إلى باب الجنة. قال: هل عسيت إن أعطيتك ما سألت ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك. فيقدمه الله عز وجل إلى باب الجنة.

فيبقى هناك، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم تنفتح له الجنة، فيرى حورها، ويرى قصورها، ويرى رياضها، ويرى نعيمها، فيقول: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. فيقول الله: ويلك يا بن آدم، ما أغدرك! ما أظلمك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك. قال: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. قال: هل عسيت إن أدخلتك ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسأل غير ذلك، قال الله عز وجل ادخل الجنة -برحمته وكرمه ومَنِّه- فيدخل الجنة فيكفيه هذا.

فيقول الله عز وجل له: تمنَّ يا عبدي فيتمنى، ثم يتمنى، ثم يتمنى، ويذكره الله -عز وجل- رحمة منه وفضلاً بالأماني التي يتمناها حتى تنقطع به الأماني، ثم يقول له: تَمنَّ، قال: لا أريد شيئاً يا رب! قال: فإن لك ما أخذت، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، وأنت فيها خالد: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].

يقول موسى -في الحديث الأول-: فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] فلا إله إلا الله! ما أرحم الله! وما ألطف الله! وما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته، سبحانه وبحمده!

سُبحَانَ مَنْ يَعفُو وَنَهْفُو دَائِماً     ولا يزَل مهما هفا العبد عَفَا

يعطي الذي يخطى ولا يمنعه     جلاله عن العطا لذي الخطا

خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، ثم أنزل إلى الأرض أو جزءاً واحداً من هذه الرحمة؛ فبه يتراحم الخلق كلهم، إنسهم وجِنُّهم وعجماواتهم ودوابهم وبهائمهم؛ فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى التسع والتسعين عنده جل جلاله، فيتطاول إبليس -وهو في الموقف- بعنقه يظن أن رحمة الله سَتَسَعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء؛ ارحمنا برحمتك.

والله! لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييْئسْ من الجنة، ولَعمِلَ للجنة.

ووالله! لو يعلم المؤمن ما أعد الله من العذاب للكافرين لم يأمن النار أبداً حتى يضع أول قدم من أقدامه في الجنة.

إخوتي في الله: هذا أدنى أهل الجنة وأعلاهم.

الجنة.. ما الجنة؟!

والفردوس ما الفردوس؟!

لا خطر لها، لا مثيل لها، ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية، في جنة عدن عند مليك مقتدر.

بناها الله تعالى لعباده المتقين أحسن بناء، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه؛ فبناؤها أحسن وأجمل وأتم وأكمل بناء، وكيف لا يكون ذلك وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، وسقفها عرش الرحمن؛ لا إله إلا هو! غرفها مبنية يُرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، من دخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.

أما أشجارها، فما أشجارها؟

ما من شجرة إلا ولها ساق من ذهب، ولها ساق من فضة.

أما ثمارها فألين من الزبد، وأحلى من العسل.

وأما ورقها فلا إله إلا الله! أحسن وأرق من رقائق الحلل.

أما تصفيق الرياح لذوائب أغصان أشجار الجنة، فيستفز من لا يطرب بالطرب.

ظل الشجرة يسير الراكب فيه مائة عام لا يقطعه؛ فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستظل بظلال أشجارها، إنه غفور رحيم.

أما أنهارها فما أنهارها؟

أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.

وفوق ذلك ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، تعلمون -يا عباد الله- أن الطلح له شوك، يقول أحد الأعراب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: { ذُكر في الجنة شجرة ما نعرف منها إلا الأذى -يقصد شوكها- قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29] } نضد هذا الشوك، فأنبت مكان كل شوكة ثمرة ألْيَن من الزبد، وأحلى من العسل، فضلا من الله ومِنَّة.

أما ماؤها -يا عباد الله- فمسكوب، حدائق وأعناب وكواعب أتراب.

أما طعام أهلها فلا إله إلا الله! فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور.

أما آنيتهم فالذهب والفضة في صفاء القوارير، وأَجْمِلْ بتلك الآنية!

فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وفوق ذلك: مَن دخلها يخلد فيها أبداً.

فيها روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان.

قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، يتكئ أهلها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً.

فيها مائة درجة، والناس في الجنة على درجات؛ منهم من يبلغ أعلى الجنة، ومنهم من هو في وسط الجنة، ومنهم من هو في ربض الجنة، لو أن العالمين اجتمعوا في درجة واحدة لوسعتهم.

سعة أبوابها: ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يزاحم على تلك المصاريع.

أما ما للمؤمن فيها: فللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، له أهلون يطوف على بعضهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة.

أما لباس أهلها فلا تَسَل عن لباسهم؛ حرَّم عليهم الحرير والذهب في هذه الحياة وجعل لباسهم هناك من الحرير والذهب، وأنعم بذاك اللباس!

وأما صورتهم فأهلها جميعاً على صورة القمر ليلة البدر؛ فلا إله إلا الله، أي جمال يكون ذاك الجمال!!! حليهم وأساورهم من ذهب وفضة ولؤلؤ وزبرجد وياقوت، من لذة إلى لذة إلى لذة، لا يجوعون ولا يظمئون، ولا ينصبون، ولا يشبعون، ولا يتعبون، وإنما لذَّات فوق لذّات: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ [الواقعة:17-18]. إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:19-20].

أما أسنان أهل الجنة: فأبناء ثلاث وثلاثين في سن الشباب، وما أجمل هذا السن يا عباد الله!

أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ [هود:108] في سعادة أبدية.

أما أمشاطهم فالذهب، وأما رشحهم فالمسك، وأما مجامرهم فالألوَّة، وهو أفضل الطيب وأفضل العود.

وأما أزواجهم فالحور العين، ولنا وقفة مع الحور العين يا عباد الله!

أما أدنى أهلها فيسير في ملكه وقصوره مسيرة ألفي عام؛ فما بالكم بأعلى أهل الجنة، إذا كان أدناهم كذلك؟ واسمعوا كما في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الحكيم سبحانه وتعالى: رجل يأتي بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول الله عز وجل له: ادخل الجنة. فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول الله عز وجل: ادخل الجنة. فيقول: كيف وقد أخذوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، وأخذوا نعيمهم -يخيل إليه أنها ملأى- فيقول الله عز وجل له: ألا ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ قال: بلى يا رب، وكيف لا أرضى بذلك؟! قال: فإن لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، حتى بلغ الخامسة، فقال هذا العبد: يا رب رضيت رضيت، قال فإن لك ذلك، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت عينك، ولذَّت نفسك، وأنت فيها خالد: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] }.

وفي الحديث الآخر الذي روي في الصحيحين : { أن الله عز وجل بعد أن يقضي بين العباد، يبقى رجل مقبل بوجهه على النار، قد نجا منها، ولكنه لم يدخل الجنة، ولم يقدم إلى باب الجنة، فيقف، فيقول: يا رب! برحمتك اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها، وآذاني وسمَّني، وأحرقني ذكاؤها ولهبها، فيدعو ما شاء الله عز وجل أن يدعو، فيقول الله عز وجل له: هل عسيت إن صرفت وجهك عن النار ألا تسألني غير ذلك؟ ‎‎‎‎قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك، فاصرف وجهي عن النار. فيصرف الله الرحيم الحليم الغفور وجهه عن النار.

فيبقى ما شاء الله أن يبقى ساكتاً ثم يسأل الله مرة أخرى، فيقول: يا رب! برحمتك قدِّمني إلى باب الجنة، فيقول الله: ويلك يا بن آدم ما أغدرك، وما أظلمك! ألم تُعطِ العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك؟ قال: يا رب! برحمتك قدمني إلى باب الجنة. قال: هل عسيت إن أعطيتك ما سألت ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك. فيقدمه الله عز وجل إلى باب الجنة.

فيبقى هناك، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم تنفتح له الجنة، فيرى حورها، ويرى قصورها، ويرى رياضها، ويرى نعيمها، فيقول: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. فيقول الله: ويلك يا بن آدم، ما أغدرك! ما أظلمك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك. قال: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. قال: هل عسيت إن أدخلتك ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسأل غير ذلك، قال الله عز وجل ادخل الجنة -برحمته وكرمه ومَنِّه- فيدخل الجنة فيكفيه هذا.

فيقول الله عز وجل له: تمنَّ يا عبدي فيتمنى، ثم يتمنى، ثم يتمنى، ويذكره الله -عز وجل- رحمة منه وفضلاً بالأماني التي يتمناها حتى تنقطع به الأماني، ثم يقول له: تَمنَّ، قال: لا أريد شيئاً يا رب! قال: فإن لك ما أخذت، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، وأنت فيها خالد: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].

يقول موسى -في الحديث الأول-: فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] فلا إله إلا الله! ما أرحم الله! وما ألطف الله! وما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته، سبحانه وبحمده!

سُبحَانَ مَنْ يَعفُو وَنَهْفُو دَائِماً     ولا يزَل مهما هفا العبد عَفَا

يعطي الذي يخطى ولا يمنعه     جلاله عن العطا لذي الخطا

خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، ثم أنزل إلى الأرض أو جزءاً واحداً من هذه الرحمة؛ فبه يتراحم الخلق كلهم، إنسهم وجِنُّهم وعجماواتهم ودوابهم وبهائمهم؛ فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى التسع والتسعين عنده جل جلاله، فيتطاول إبليس -وهو في الموقف- بعنقه يظن أن رحمة الله سَتَسَعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء؛ ارحمنا برحمتك.

والله! لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييْئسْ من الجنة، ولَعمِلَ للجنة.

ووالله! لو يعلم المؤمن ما أعد الله من العذاب للكافرين لم يأمن النار أبداً حتى يضع أول قدم من أقدامه في الجنة.

إخوتي في الله: هذا أدنى أهل الجنة وأعلاهم.

كأني بكم تقولون: ما أزواجهم؟

وأقول لكم: لا إله إلا الله! ماذا يصف الواصفون في أزواج أهل الجنة، إنهن الحور، وما الحور يا عباد الله؟

كواعب أتراب، لهن خدود كالورد والتفاح، ونهود كالرمان، وثغور كاللؤلؤ المنظوم، فيا له من نعيم، وأي نعيم لمن فاز بحوريات أهل الجنة! قدْ رقَّ خصر الواحدة منهن، وحاجبها وأنفها، وطال قوامها وعنقها وشعرها، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت زوجها، فقل ما تشاء في تقابل الشمس والقمر! إن حادثت فما ظنك بمحادثة المحبين! وإن ضمها فما ظنك بتعانق الغصنين!

يرى وجهه في صحن خدِّها، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها وعظمها وجلدها وعصبها وحُللها، لو طلعت على أهل الدنيا لملأت ما بين السماوات والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً.

لو طلعت لقالوا: لا إله إلا الله! وسبحان الله والحمد لله والله أكبر!

لو طلعت لتزخرف لها ما بين السماوات والأرض، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن مَن على ظهر الأرض بالله الحي القيوم.

نصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد على طول الدهور والأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، لا يُمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها؛ فهن قاصرات الطرف، لا تطمح لأحد سوى زوجها، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته؛ فهي معه وهو معها في غاية الأمان، لم يطمثها قبله إنس ولا جان.

كلما نظرت إليه ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً.

هن الخيرات الحسان، هن العُرُب المتحببات إلى الأزواج.

ما ظنُّكم -يا أيها الإخوة في الله- بامرأة إذا ضحكت أضاءت الجنة كلها من ضحكها، إذا حاضرت زوجها فيا لذة المحاضرة! ويا لذة الكلام! وإن خاطرتْه فيا لذة المخاطرة والمعانقة! وإن كلمته فيا لذة الأسماع! فحديثها السحر الحلال.

إن طال لم يملل وإن هي حدثت     ودَّ المُحَدِّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ

سبحان من صورها! سبحان من عدلها! سبحان من أنشأها! سبحان من جعلها للمؤمنين الصادقين! سبحان من جمعني وإياكم في روضة من رياض الجنة، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في روضة من رياض الجنة عنده.

غناء الجنة

إن غنَّت هذه الحورية فيا لذة الأسماع! ليس كغنائنا؛ فُحش وخنا ومجون وتحلل، وبعضنا -يوم انتكست بصيرته- يأخذ هذا الغناء ليدخله إلى بيته، ليفسد بيته، ولينشر الفحش في بيته، وليخرج ملائكة الرحمن من بيته، وليدعو إلى الرذيلة في بيته، وينسى أن هناك غناء قد يحرمه إن لم يتُب إلى الله جل وعلا.

إن غنَّت الحورية فيا لذة الأسماع والأبصار! وإن قبَّلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن آنست فيا لذة الأُنس بسماع الغناء والكلام والمحاضرة، هؤلاء حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً.

لكن هناك حوراً من نساء أهل الدنيا صمن، وصلَّين، ووحدن وتصدقن، وقمن بالتكاليف كلها يكنَّ في الجنة أفضل من حوريات أهل الجنة، فضلاً من الله ونعمة لنساء أهل الدنيا، فطوبى لامرأة غضت بصرها عن محارم الله، وطوبى لامرأة اتجهت إلى الله لتكون أفضل من حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاء.

وأقف معكم ومع ابن الجوزيعليه رحمة الله في -رياض السامعين- وهو يصف مشهداً من مشاهد نعيم أهل الجنة، حتى إنه ليتخايل ذلك النعيم، ويقول: والله إني لأتخيل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وخلودهم فيها بلا تنكيد ولا تعب ولا نصب ولا صخب، يقول : فأكاد أطيش ويكاد طبعي يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ضمِنه لنا.

انظروا إليه وهو يصف هذا المشهد، يقول: يا أيها الإخوة! بينما رجل من أهل الجنة يتنعم فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ببرق يضيء في الجنة، وهو مع حورية من حوريات أهل الجنة يتنعم معها، قال: فيرفع رأسه فإذا هو بحورية أجمل من التي بين يديه، وإذا بها تقول: يا ولي الله! أما لنا فيك دولة؟ أما لنا فيك نصيب؟

تعرض خدماتها عليه، تعرض نفسها عليه، فيقول: بالله من أنت؟

قالت: أنا ممن قال الله فيهن: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وكل ما في الجنة مُذلل لأهل الجنة، فيطير بسريره إليها، فيأتي وإذا هي تضْعُفُ بسبعين ألف جزء من النور عن التي كانت بين يديه هناك، فيتعجب ويقول: لم؟!

قالت: لأنني صليت وصمت وعبدت الله، أنا من نساء أهل الدنيا، لم أتزوج في الدنيا؛ فأنا أعرض نفسي عليك.

قال: أو أنت لي؟!

قالت: نعم. جزاء من الله لك، وجزاء من الله لي.

قال: فيعتنقها أربعين عاماً لا تمله ولا يملها، تقف بين يديْه، وفي رجليْها خلاخل من ياقوت، إذا مشت سمع من خلاخلها صفير صوت كل طير في الجنة.

فلا إله إلا الله! أي نعيم هذا النعيم؟!

وهو يعتنقها ينظر ليدها اليمنى فإذا هو مكتوب عليها: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74]. يقول: مكتوب بالنور على اليمنى الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74] وعلى اليسرى: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] أما كفُّها فألْيَن من المخ، يُشم من رائحة كفها رائحة كل طيب في الجنة، وهي تمشي بين يديه، ثم يتمنى أن يمشين مشيات ومشيات؛ لأن كل مشية للحورية لها لذة ونعيم من نوع خاص، قال: فيتمنى أن تمشي، فيقول لها: اشتقت إلى مشيتك، فيكون معها سبعون ألف وصيفة -كما يقول ابن الجوزي في رياض السامعين - قال: فيمشون معها بسبعين ألف مشية فيضع الله لهم روضة من الكافور وروضة أخرى من الزعفران، فيمشين بسبعين ألف مشية في هذه الروضة ويرجعن بسبعين ألف مشية في الروضة الأخرى، لو قضى الله الموت عليه طرباً من مشيتهن لمات، ولكن خلود في الجنة ولا موت، لو تَفَلَتْ في بحار الدنيا لأصبحت بحار الدنيا كلها عذبة من تفال هذه الحورية.

ثم يشتاق بعد ذلك إلى البخور، وكل ما في الجنة رائحة طيبة، قال: فيأتين بمجامر من در فيها بخور من غير نار، فيمشين به تمشي رائحته في الجنة مسيرة مائة عام.

ثم يشتهي الغناء يا من صان سمعه عن الغناء! يا من نزَّه بيته وأهله وأذنه التي أنعم الله به عليه عن الغناء! يشتهي إلى الغناء فماذا يكون الأمر؟ كيف يكون الأمر يوم يشتهي الغناء يا أيها الإخوة؟ يقول: فيجتمعن قسمين من النساء المؤمنات اللائي كن في الدنيا قسم، وقسم آخر من نساء وحوريات أهل الجنة اللائي أنشأهن الله عز وجل في الجنة إنشاء.

فاسمع إلى كلمات هؤلاء واسمع إلى كلمات هؤلاء، أما أهل الجنة اللائي أُنشئن في الجنة فيقلن:

نحنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتْنَ     نحنُ الرَّاضِياتُ فَلا يسخطن

نحن المقيماتُ فلا يظعنَّ     نحنُ النَّاعماتُ فلا يبأسنَ

نحنُ الحورُ الحِسَان، أزواجُ قومٍ كِرَامٍ طوبى لمن كان لنا وكنا له

فيرد نساء أهل الدنيا وحوريات أهل الجنة منهن:

نحنُ المُصَلِّياتُ وما صّلَّيْتُنَّ     نحنُ الصَّائِماتُ وَمَا صُمْتُنَّ

نحنُ المُتصدقاتُ ومَا تَصَدَقْتنَّ     نحنُ العَابِدَاتُ ومَا عَبَدْتُّنَّ

تقول عائشة رضي الله عنها: فغلبنهن.

يا من سمع هذه الكلمات! لا فحش ولا خنا، لا فجور ولا تحلل، وليس كهذا الغناء، وإنما خلود بلا موت، إقامة بلا ظعن، نعيم بلا بأس، صلاة وصدقة وصيام، وكل يفخر بهذا النعيم.

أما موسيقاهن يا من نزَّه نفسه عن الموسيقى في هذه الحياة! يرسل الله ريحه فتهز ذوائب أغصان أشجار الجنة فتحدث صوتاً يشبه صفير كل صوت طير في الجنة؛ فلا تسل عن ذاك النعيم، وهن يغنين بأصواتهن الرخيمات اللذيذات، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً بهذا الغناء لماتوا، ولكن خلود بلا موت.

قال ابن عباس ويرسل ربنا     ريحاً تهز ذوائب الأغصان

فتثير أصواتاً تلذ لمسمع      الإنسان كالنغمات بالأوزان

يا لذة الأسماع لا تتعوضي     بلذاذة الأوتار والعيدان

خابت أذن تركت ذاك النعيم، وتلذَّذت بالأوتار والعيدان المحرمة: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] هذا مشهد من مشاهد أهل الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.

رجال تنافسوا علىالحور

لهذا كله بادر المبادرون، وتنافس المتنافسون يوم سمعوا بما سمعوا من هذا الوصف، ماذا كان منهم يا عباد الله؟

أحدهم قال: لأشترين حورية من الحور العين بثلاثين ختمة للقرآن لا أنام حتى أختم هذه الثلاثين ختمة، ويختم تسعاً وعشرين فيغلبه النوم، فينام فيرى حورية من حوريات أهل الجنة تأتي فتركله برجلها، وتقول:

أتخطُبُ مثْلِي وعنِّي تَنَامُ     ونومُ المُحبِّينَ عنِّي حَرَام

لأنا خُلِقْنَا لكلِّ امرئٍ     كَثيرِ الصلاةِ كثيرِ القِيام

فقام بعدها، وأكمل ذلك واجتهد، وقال: برحمة الله لأجتهدن إلى أن أنال هذه الحورية.

وأبو سليمان الداراني -عليه رحمة الله- ينام ليلة من الليالي، وهو عابد زاهد عبَد الله، وأخلص لله، وصدق مع الله، يمني نفسه بما في الجنة من نعيم، فيقول في ليلة من الليالي نائماً -والنفس أحياناً تحدث بما ترغب وبما تريد وبما تحب- قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن حورية جاءتني، وقالت: ما هكذا يفعل الصالحون يا أبا سليمان ؟! أتنام وأنا أربى لك في الخدور من خمسمائة عام؟!

لا إله إلا الله! فما نام بعدها إلا قليلاً؛ جد وطلب ليلحق بها.

وأبو سليمان كانت له رحلة الحج المعروفة، والتي ذكرها صاحب حادي الأرواح -عليه رحمة الله- يقول: رافقه شاب عراقي في طريقه إلى الحج، قال: فما رأيت هذا الشاب إلا باكياً أو تالياً أو مصلياً؛ نركب فيتلو القرآن، ننزل فنصلي فيصلي، ويذكر الله، لا يتكلم بكلام إلا بذكر الله أو بالصلاة والقيام، قال: فقلت: لا أسأله ولا أشغله، وعندما رجعنا من رحلة الحج، ووصلنا إلى بلاد العراق . قال: قلت له: أيها الشاب أسألك بالله؛ ما الذي هيَّجك على العبادة لا تفتر عنها؟

قال: يا أبا سليمان ! أما إن سألتني؛ فإني رأيت -فيما يرى النائم- حورية في قصر من ذهب، وقصر من فضة، له شرفتان من زبرجد وياقوت، وبينهما هذه الحورية مرخية شعرها لم أرَ جمالاً كذاك الجمال، وهي تقول لي: جِدّ إلى الله في طلبي؛ فإني أربى لك في الخدور من خمسمائة عام، فوالله برحمة الله! وأقسم على الله برحمته! لأجتهدنَّ حتى أصلها أو أهلك دونها. والله! لا أرتاح حتى أبلغ تلك المنزلة.

هيَّجهم ذكر الجنة إلى الجنة، طيَّرت الجنة نوم العابدين من جفونهم، فتركوا الفراش، واتجهوا إلى الله في أسحارهم وفي لياليهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16] يبيتون لربهم سجداً وقياماً.

يأتي أحدهم، فيفرش فراشه، ثم يضع يده عليه، ويقول: والله! إنك لَلَيِّنٌ، لكن فراش الجنة ألْيَن، فيقوم ليله كله لا ينام.

هكذا -يا عباد الله- جَدُّوا إلى الله؛ لأنهم علموا ما عند الله.

إن غنَّت هذه الحورية فيا لذة الأسماع! ليس كغنائنا؛ فُحش وخنا ومجون وتحلل، وبعضنا -يوم انتكست بصيرته- يأخذ هذا الغناء ليدخله إلى بيته، ليفسد بيته، ولينشر الفحش في بيته، وليخرج ملائكة الرحمن من بيته، وليدعو إلى الرذيلة في بيته، وينسى أن هناك غناء قد يحرمه إن لم يتُب إلى الله جل وعلا.

إن غنَّت الحورية فيا لذة الأسماع والأبصار! وإن قبَّلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن آنست فيا لذة الأُنس بسماع الغناء والكلام والمحاضرة، هؤلاء حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً.

لكن هناك حوراً من نساء أهل الدنيا صمن، وصلَّين، ووحدن وتصدقن، وقمن بالتكاليف كلها يكنَّ في الجنة أفضل من حوريات أهل الجنة، فضلاً من الله ونعمة لنساء أهل الدنيا، فطوبى لامرأة غضت بصرها عن محارم الله، وطوبى لامرأة اتجهت إلى الله لتكون أفضل من حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاء.

وأقف معكم ومع ابن الجوزيعليه رحمة الله في -رياض السامعين- وهو يصف مشهداً من مشاهد نعيم أهل الجنة، حتى إنه ليتخايل ذلك النعيم، ويقول: والله إني لأتخيل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وخلودهم فيها بلا تنكيد ولا تعب ولا نصب ولا صخب، يقول : فأكاد أطيش ويكاد طبعي يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ضمِنه لنا.

انظروا إليه وهو يصف هذا المشهد، يقول: يا أيها الإخوة! بينما رجل من أهل الجنة يتنعم فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ببرق يضيء في الجنة، وهو مع حورية من حوريات أهل الجنة يتنعم معها، قال: فيرفع رأسه فإذا هو بحورية أجمل من التي بين يديه، وإذا بها تقول: يا ولي الله! أما لنا فيك دولة؟ أما لنا فيك نصيب؟

تعرض خدماتها عليه، تعرض نفسها عليه، فيقول: بالله من أنت؟

قالت: أنا ممن قال الله فيهن: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وكل ما في الجنة مُذلل لأهل الجنة، فيطير بسريره إليها، فيأتي وإذا هي تضْعُفُ بسبعين ألف جزء من النور عن التي كانت بين يديه هناك، فيتعجب ويقول: لم؟!

قالت: لأنني صليت وصمت وعبدت الله، أنا من نساء أهل الدنيا، لم أتزوج في الدنيا؛ فأنا أعرض نفسي عليك.

قال: أو أنت لي؟!

قالت: نعم. جزاء من الله لك، وجزاء من الله لي.

قال: فيعتنقها أربعين عاماً لا تمله ولا يملها، تقف بين يديْه، وفي رجليْها خلاخل من ياقوت، إذا مشت سمع من خلاخلها صفير صوت كل طير في الجنة.

فلا إله إلا الله! أي نعيم هذا النعيم؟!

وهو يعتنقها ينظر ليدها اليمنى فإذا هو مكتوب عليها: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74]. يقول: مكتوب بالنور على اليمنى الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74] وعلى اليسرى: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] أما كفُّها فألْيَن من المخ، يُشم من رائحة كفها رائحة كل طيب في الجنة، وهي تمشي بين يديه، ثم يتمنى أن يمشين مشيات ومشيات؛ لأن كل مشية للحورية لها لذة ونعيم من نوع خاص، قال: فيتمنى أن تمشي، فيقول لها: اشتقت إلى مشيتك، فيكون معها سبعون ألف وصيفة -كما يقول ابن الجوزي في رياض السامعين - قال: فيمشون معها بسبعين ألف مشية فيضع الله لهم روضة من الكافور وروضة أخرى من الزعفران، فيمشين بسبعين ألف مشية في هذه الروضة ويرجعن بسبعين ألف مشية في الروضة الأخرى، لو قضى الله الموت عليه طرباً من مشيتهن لمات، ولكن خلود في الجنة ولا موت، لو تَفَلَتْ في بحار الدنيا لأصبحت بحار الدنيا كلها عذبة من تفال هذه الحورية.

ثم يشتاق بعد ذلك إلى البخور، وكل ما في الجنة رائحة طيبة، قال: فيأتين بمجامر من در فيها بخور من غير نار، فيمشين به تمشي رائحته في الجنة مسيرة مائة عام.

ثم يشتهي الغناء يا من صان سمعه عن الغناء! يا من نزَّه بيته وأهله وأذنه التي أنعم الله به عليه عن الغناء! يشتهي إلى الغناء فماذا يكون الأمر؟ كيف يكون الأمر يوم يشتهي الغناء يا أيها الإخوة؟ يقول: فيجتمعن قسمين من النساء المؤمنات اللائي كن في الدنيا قسم، وقسم آخر من نساء وحوريات أهل الجنة اللائي أنشأهن الله عز وجل في الجنة إنشاء.

فاسمع إلى كلمات هؤلاء واسمع إلى كلمات هؤلاء، أما أهل الجنة اللائي أُنشئن في الجنة فيقلن:

نحنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتْنَ     نحنُ الرَّاضِياتُ فَلا يسخطن

نحن المقيماتُ فلا يظعنَّ     نحنُ النَّاعماتُ فلا يبأسنَ

نحنُ الحورُ الحِسَان، أزواجُ قومٍ كِرَامٍ طوبى لمن كان لنا وكنا له

فيرد نساء أهل الدنيا وحوريات أهل الجنة منهن:

نحنُ المُصَلِّياتُ وما صّلَّيْتُنَّ     نحنُ الصَّائِماتُ وَمَا صُمْتُنَّ

نحنُ المُتصدقاتُ ومَا تَصَدَقْتنَّ     نحنُ العَابِدَاتُ ومَا عَبَدْتُّنَّ

تقول عائشة رضي الله عنها: فغلبنهن.

يا من سمع هذه الكلمات! لا فحش ولا خنا، لا فجور ولا تحلل، وليس كهذا الغناء، وإنما خلود بلا موت، إقامة بلا ظعن، نعيم بلا بأس، صلاة وصدقة وصيام، وكل يفخر بهذا النعيم.

أما موسيقاهن يا من نزَّه نفسه عن الموسيقى في هذه الحياة! يرسل الله ريحه فتهز ذوائب أغصان أشجار الجنة فتحدث صوتاً يشبه صفير كل صوت طير في الجنة؛ فلا تسل عن ذاك النعيم، وهن يغنين بأصواتهن الرخيمات اللذيذات، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً بهذا الغناء لماتوا، ولكن خلود بلا موت.

قال ابن عباس ويرسل ربنا     ريحاً تهز ذوائب الأغصان

فتثير أصواتاً تلذ لمسمع      الإنسان كالنغمات بالأوزان

يا لذة الأسماع لا تتعوضي     بلذاذة الأوتار والعيدان

خابت أذن تركت ذاك النعيم، وتلذَّذت بالأوتار والعيدان المحرمة: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] هذا مشهد من مشاهد أهل الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.