تفسير سورة الأنبياء (12)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:78-82].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا عز وجل: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنبياء:78]، أي: اذكر يا رسولنا! لهؤلاء المشركين المكذبين الذين لم يعترفوا بنبوتك ورسالتك وقص عليهم هذه القصص، وهم يسمعونه ولا يقولون: محمد رسول الله، وهذا عجب، ولو لم يكن رسولاً لله لما أتى بهذه الأنباء والأخبار والأحداث التاريخية، وهو قد عاش بينهم أربعين سنة لا يعرف شيئاً، ولكن الشياطين تعبث بقلوب الناس، وتستهزئ بهم، وتتركهم كالبهائم، وإلا من يسمع هذه الآيات يشهد أن محمداً رسول الله.

وقوله: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنبياء:78] هذان نبيان رسولان من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وداود الأب، وسليمان الابن، وداود تولى الحكم قبل ولده سليمان، ولما مات داود تولى الحكم ولده سليمان، وكانت دولة سليمان من الشرق إلى الغرب، فهو أحد ثلاثة ملكوا الأرض من الشرق إلى الغرب، وقد ملكها بالجهاد والعمل.

وقوله تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنبياء:78] أي: واذكر إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78]. والحرث يصلح لما يحرث من الزروع، أو من الكرم، أو غيره من الأشجار.

حادثة الحرث التي حكم فيها داود وسليمان

قال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء:78]. والحادثة كما تعلمون وزادني الله وإياكم علماً: أن داود كان قاضياً وحاكماً، وكان هناك رجلان أحدهما له ماشية غنم، والآخر له زرع، فتركها في الليل، فنفشت في زرع أو حوض ذلك الرجل، فذهب إلى المحكمة؛ ليقضي القاضي بينهما، فداود عليه السلام اجتهد وحكم بأن هذه الغنم التي أكلت هذا الزرع -وهي تعادله- قيمة للذي أكل زرعه، والذي أكلت الماشية زرع غيره يعود خائباً؛ فقد رأى داود أن قيمة الزرع لما تقدر تساوي قيمة الغنم، ومن هنا حكم أنه مادامت هذه الغنم فشت في الليل ونفشت فهي لصاحب الزرع، ولو كانت في النهار فليس لهما الحق فيها؛ لأن المفروض أن صاحب الماشية يرعاها في النهار، ويرعها في الليل ولا يهملها، ولكن لو أكلت زرع إنسان في النهار فإن صاحبها لا يؤاخذ بذلك؛ لأن على صاحب الزرع أن يحميه، وأن يحرسه، وأن يقف دائماً عليه، ولكن الليل للاستراحة والنوم، فهو يكون فيه نائماً، وهذا يترك غنمه تدخل في الليل الحديقة وتأكل الزرع، فمن هنا حكم داود بأن لصاحب الزرع الماشية التي أكلت زرعه. وخرج الخصمان، وإذا بسليمان عند باب المحكمة ولم يكن قد نبئ بعد، فسألهما: كيف حكم داود؟ فقال أحدهما: حكم بأن الماشية -أي: الغنم- التي أكلت زرع فلان وحرثه هي لمن أكلت زرعه وحرثه، وصاحب الماشية قد خسرها؛ مقابل أنه لم يمنع ماشيته بالليل؛ لأن الليل كما قلنا: للاستراحة والنوم، فصاحب الزرع ليس مسئولاً بأن يحرسه ليلاً، وأما لو أكلت نهاراً فلا شيء عليه؛ لأنه مطالب بحراسة زرعه والوقوف عليه، ولكنه ليس مسئولاً في الليل، وليس مسئولاً أن يجوب الصحراء من أجل الزرع، بل ينام كما علمتم، حكم داود عليه السلام بأن الغنم -أي: الماشية- التي نفشت في الزرع ليلاً لصاحب الزرع.

فقال لهما سليمان عليه السلام: تعالا، ثم سأل داود: يا داود! بم حكمت؟ فقال: حكمت بكذا وكذا، قال: لا، الحكم هو: أن صاحب الماشية يأخذ بهذا الزرع، وينميه ويعيده كما كان، والغنم لصاحب الزرع، يستغل لبنها وصوفها أولادها، حتى تعود المزرعة كما كانت. وهذا يتطلب سنة.

وقد ذكر تعالى هذا هنا، فقال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنبياء:78]، أي: اذكرهما إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء:78]. فالله شاهد وحاضر وعالم، والحكم صدر بين يديه.

وهذا الحكم الذي شهده هو: أن رجلاً شكا إلى داود أن فلاناً الذي أطلق ماشيته في الليل، فأكلت زرعه، فحكم داود بأن تكون الماشية لصاحب الزرع؛ مقابل ما نفذ وفسد من زرعه، وصاحب الماشية يحرم منها، فحكم بأن الزرع مقابل الغنم؛ لأنه ترك غنمه في الليل تأكل، فحكم لصاحب الزرع أن يأخذ هذه الغنم؛ مقابل ما خسر في مزرعته.

قال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء:78]. والحادثة كما تعلمون وزادني الله وإياكم علماً: أن داود كان قاضياً وحاكماً، وكان هناك رجلان أحدهما له ماشية غنم، والآخر له زرع، فتركها في الليل، فنفشت في زرع أو حوض ذلك الرجل، فذهب إلى المحكمة؛ ليقضي القاضي بينهما، فداود عليه السلام اجتهد وحكم بأن هذه الغنم التي أكلت هذا الزرع -وهي تعادله- قيمة للذي أكل زرعه، والذي أكلت الماشية زرع غيره يعود خائباً؛ فقد رأى داود أن قيمة الزرع لما تقدر تساوي قيمة الغنم، ومن هنا حكم أنه مادامت هذه الغنم فشت في الليل ونفشت فهي لصاحب الزرع، ولو كانت في النهار فليس لهما الحق فيها؛ لأن المفروض أن صاحب الماشية يرعاها في النهار، ويرعها في الليل ولا يهملها، ولكن لو أكلت زرع إنسان في النهار فإن صاحبها لا يؤاخذ بذلك؛ لأن على صاحب الزرع أن يحميه، وأن يحرسه، وأن يقف دائماً عليه، ولكن الليل للاستراحة والنوم، فهو يكون فيه نائماً، وهذا يترك غنمه تدخل في الليل الحديقة وتأكل الزرع، فمن هنا حكم داود بأن لصاحب الزرع الماشية التي أكلت زرعه. وخرج الخصمان، وإذا بسليمان عند باب المحكمة ولم يكن قد نبئ بعد، فسألهما: كيف حكم داود؟ فقال أحدهما: حكم بأن الماشية -أي: الغنم- التي أكلت زرع فلان وحرثه هي لمن أكلت زرعه وحرثه، وصاحب الماشية قد خسرها؛ مقابل أنه لم يمنع ماشيته بالليل؛ لأن الليل كما قلنا: للاستراحة والنوم، فصاحب الزرع ليس مسئولاً بأن يحرسه ليلاً، وأما لو أكلت نهاراً فلا شيء عليه؛ لأنه مطالب بحراسة زرعه والوقوف عليه، ولكنه ليس مسئولاً في الليل، وليس مسئولاً أن يجوب الصحراء من أجل الزرع، بل ينام كما علمتم، حكم داود عليه السلام بأن الغنم -أي: الماشية- التي نفشت في الزرع ليلاً لصاحب الزرع.

فقال لهما سليمان عليه السلام: تعالا، ثم سأل داود: يا داود! بم حكمت؟ فقال: حكمت بكذا وكذا، قال: لا، الحكم هو: أن صاحب الماشية يأخذ بهذا الزرع، وينميه ويعيده كما كان، والغنم لصاحب الزرع، يستغل لبنها وصوفها أولادها، حتى تعود المزرعة كما كانت. وهذا يتطلب سنة.

وقد ذكر تعالى هذا هنا، فقال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنبياء:78]، أي: اذكرهما إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء:78]. فالله شاهد وحاضر وعالم، والحكم صدر بين يديه.

وهذا الحكم الذي شهده هو: أن رجلاً شكا إلى داود أن فلاناً الذي أطلق ماشيته في الليل، فأكلت زرعه، فحكم داود بأن تكون الماشية لصاحب الزرع؛ مقابل ما نفذ وفسد من زرعه، وصاحب الماشية يحرم منها، فحكم بأن الزرع مقابل الغنم؛ لأنه ترك غنمه في الليل تأكل، فحكم لصاحب الزرع أن يأخذ هذه الغنم؛ مقابل ما خسر في مزرعته.

لما خرج الخصمان من عند داود كان سليمان عند الباب فسألهما: كيف حكم داود؟ فقالا: كذا كذا، فقال: هذا ليس بعدل، فدخل على والده في المحكمة، وقال: العدل في هذه القضية أن صاحب الغنم يعطيها لصاحب الزرع يستفيد منها اللبن والحليب والصوف والأولاد سنة، وصاحب الغنم ينمي الزرع ويسقيه وينميه حتى يكون كما كان. قال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]، أي: ففهمنا هذه القضية وهذا الحكم العادل سليمان بتوفيق من الله عز وجل، أو بإلقائه في روعه وفهمه. والعجيب أن داود ما نفر من القضية، ولم يقل لسليمان: اسكت، أو ما شأنك أنت، أو أنت ما زلت طفلاً، بل رضي بالقضاء العادل، وفرح به وسلم.

وقوله تعالى: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، أي: كلاً من الرجلين، أي: الحاكمين، وهما داود وسليمان، فقد أعطاهما الله العلم والحكم والنبوة، فكلاهما نبي ورسول، وآتاهما أيضاً العلم الشرعي؛ ليقضيا به، ويحكمان بين الناس عندما يتحاكمون إليهما. هذه منة الله عز وجل الأولى عليهما.

إذاً: فقوله تعالى في الآية: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنبياء:78]، أي: اذكر يا رسولنا! حادثة داود وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء:78]. ويقال: نفشت الماشية في الليل، وأهملت في النهار. وكما قدمنا أن في النهار على صاحب الزرع أن يحمي زرعه؛ لأنه ليس نائماً. وأما النفش أي: أكلها بالليل فإن الليل وقت استراحة ونوم، فلا يبيت يقظان من أجل مزرعته، وصاحب الغنم لا يبيت سهران أو يقظان، فعلى صاحب الماشية أن يربط ماشيته في مكان من الأرض، أو في حظيرة من الحظائر، أو في بيته.

وأما الحكمان فقد نسخ الثاني الأول، فنسخ حكم سليمان حكم داود قبله. ثم قال الله عز وجل ممتناً عليهما: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]. حتى لا يخطر ببالك نقص داود، فداود نبي الله ورسوله، فإن حكم ولده بخلاف حكمه فهذا لا يمس كرامته، ولا يمسه بسوء أبداً؛ لأنه عبد الله ورسوله، وحكمه في الظاهر عادل، فقد أعطى صاحب الحرث الغنم، وهذا عدل. ولكن سليمان فقه وعلم أفضل من هذا، فقال لصاحب الزرع: خذ الغنم فاستغلها وانتفع بها سنة، وأنت يا صاحب الغنم! أحيي هذه المزرعة بالماء والسقي حتى تعود كما كانت، فقال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، أي: كلاً من الرجلين من الحاكمين، وهما داود وسليمان، فقد أعطيناهما العلم والحكمة. ‏

تسخير الله لداود الجبال والطير يسبحن معه

قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]. وهذه منة أخرى، وعطية إلهية أخرى غير الأولى، وهي: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]. وسليمان عليه السلام أعطاه الله سفينة أو طيارة، وهي سرير يصنعه له رجاله ويجلس عليه، فتأتي الريح العاصفة القوية فترفعه حتى تضعه في المكان الذي يريد، فإذا أراد أن يعود إلى بلده بعد أن انتهى من الغزو والفتح تأتي الريح أيضاً في المساء فترفعه إلى الشام في القدس.

وقال تعالى هنا: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]. ومن منن الله على سليمان عليه السلام وإفضاله أنه سخر له الريح كما قلت لكم، فكان يركبها إذا أراد المنطقة الفلانية للغزو والفتح، أو يركب السفينة فتطير في الهواء بالعاصفة الريحية، ثم إذا قضى حاجته من الجهاد في سبيل الله وأراد حينئذ أن يعود تأتي الريح في المساء، وتحمل السفينة إلى منزله في فلسطين أو في الشام.

وأما التسبيح فإنه كان إذا سبح داود يسبح معه الطير والجبال، فإذا قال: سبحان الله سبح معه الطير والجبال، كما قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79] يسبحن كذلك. والطير اسم جنس لكل ما طار، سواء كان حماماً أو عقبان، فكل ما يطير فهو طير. ولا يقوى ويقدر أحد على جعله يطير إلا الله.

فكان إذا ترنم داود وسبح تسبح الجبال حوله الطير فوقه كذلك، وهذه آية من آيات الله لأوليائه، كما قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]، أي: سخرناها تسبح مع داود. وَكُنَّا [الأنبياء:79]، أي: رب العزة والجلال والكمال فَاعِلِينَ [الأنبياء:79]. وهذا من فعل الله تعالى. ولو تجتمع البشرية لم يستطيعوا أن يأتوا بالريح لتحمل سفينة؛ فهذا ليس من شأنهم، ولكن الله تفضل وأنعم على عبده داود بهذا.

قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]. وهذه منة أخرى، وعطية إلهية أخرى غير الأولى، وهي: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]. وسليمان عليه السلام أعطاه الله سفينة أو طيارة، وهي سرير يصنعه له رجاله ويجلس عليه، فتأتي الريح العاصفة القوية فترفعه حتى تضعه في المكان الذي يريد، فإذا أراد أن يعود إلى بلده بعد أن انتهى من الغزو والفتح تأتي الريح أيضاً في المساء فترفعه إلى الشام في القدس.

وقال تعالى هنا: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]. ومن منن الله على سليمان عليه السلام وإفضاله أنه سخر له الريح كما قلت لكم، فكان يركبها إذا أراد المنطقة الفلانية للغزو والفتح، أو يركب السفينة فتطير في الهواء بالعاصفة الريحية، ثم إذا قضى حاجته من الجهاد في سبيل الله وأراد حينئذ أن يعود تأتي الريح في المساء، وتحمل السفينة إلى منزله في فلسطين أو في الشام.

وأما التسبيح فإنه كان إذا سبح داود يسبح معه الطير والجبال، فإذا قال: سبحان الله سبح معه الطير والجبال، كما قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79] يسبحن كذلك. والطير اسم جنس لكل ما طار، سواء كان حماماً أو عقبان، فكل ما يطير فهو طير. ولا يقوى ويقدر أحد على جعله يطير إلا الله.

فكان إذا ترنم داود وسبح تسبح الجبال حوله الطير فوقه كذلك، وهذه آية من آيات الله لأوليائه، كما قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]، أي: سخرناها تسبح مع داود. وَكُنَّا [الأنبياء:79]، أي: رب العزة والجلال والكمال فَاعِلِينَ [الأنبياء:79]. وهذا من فعل الله تعالى. ولو تجتمع البشرية لم يستطيعوا أن يأتوا بالريح لتحمل سفينة؛ فهذا ليس من شأنهم، ولكن الله تفضل وأنعم على عبده داود بهذا.

قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ [الأنبياء:80]. وفي قراءة: لنحصنكم مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]. فهنا يقول تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ [الأنبياء:80] أي: وعلمنا داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ [الأنبياء:80]. واللبوس هو ما يلبس كاللباس، والدروع الحربية تلبس. ولم يكن قبل داود أحد صنع الدروع للحرب، وإنما كانوا يعملون قطعة من الحديد في صدورهم؛ حتى ما يصل إليهم السيف أو الرمح، ولكن داود علم صناعتها من الحديد، وكان يساعده أيضاً الجن، فكان يصنع الدروع الحربية. وهذه المنة من منن الله عليه وعلى عباده، فقد قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80]، أي: لتحفظكم من السهام والنبال أو السيوف.

وقد ذكرنا مرة: أن لقمان عليه السلام مر بداود وهو يصنع الدرع، فسأله عنه فسكت ولم يجبه، ثم مازال كذلك، حتى قام داود يدخل الدرع في جسمه؛ ليرى طوله وقصره وغير ذلك، فلما رأى لقمان لبس داود للدرع قال: الصمت حكمة وقليل فاعلوه، يعني: لو سكت ولم أسأل لكان بلغني الخبر وأنا أشاهد، ولكنه لما سأل لم يجبه داود، ثم لما فرغ أدخله في جسمه؛ ليقيسه طولاً وعرضاً، فقال لقمان الحكيم هذه الحكمة، فقد قال: الصمت حكمة وقليل فاعلوه، أي: لو سكت وما سأل لكان بلغه ذلك وعلمه، لما قال: نعم اللباس لبوس الحرب، ففهمها لقمان ، وقال هذه الحكمة الباقية إلى اليوم، وهي: الصمت حكمة وقليل فاعلوه.

وقوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ [الأنبياء:80]

أي: علمنا عبدنا داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء:80]. ألا وهي الدروع الحربية من الحديد والنحاس؛ من أجل لِتُحْصِنَكُمْ [الأنبياء:80] وتحفظكم مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80] في الحرب؛ لأن الحرب فيها الرماح والسيوف. فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]؟ والاستفهام هنا للوجوب. فاشكروا نعمة الله عليكم، فقولوا: الحمد لله. فالاستفهام هنا للوجوب والأمر في قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]؟ أي: اشكروا نعم الله عليكم.

قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ [الأنبياء:81]. لما بين تعالى نعمه على داود بين نعمه على عبده سليمان عليهما السلام، فقال: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81]. وقد قدمت وقلت لكم: أن سليمان كان يغزو ويفتح حتى ملك الأرض. والذين ملكوا الأرض ثلاثة: ذو القرنين وسليمان وبختنصر .

فكان سليمان لما يريد أن يغزو يركب هذه السفينة الصناعية التي هي كالسرير الكبير الواسع وتأتي الريح العاصفة فتدفعه، فيرتفع، ثم تواصل دفعه حتى يصل إلى الأرض التي يريد أن ينزل بها، وكانت هذه الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ [سبأ:12]، أي: تمشي مسيرة شهر، وَرَوَاحُهَا [سبأ:12]، أي: وعودتها إلى بلده ومنزله شهراً كاملاً، كما قال تعالى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12]. وقال هنا: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ [الأنبياء:81]. فإذا قال: قفي تقف، وإذا قال: سيري تسير. فلنقل: آمنا بالله ولقائه.

ونحن الآن عندنا الصواريخ والدبابات والقذائف والطائرات، فلنشكر الله عز وجل، والله يقول: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]؟ فقولوا: الحمد لله، ومن قال: الحمد لله فقد شكر.

وقال تعالى هنا: وَلِسُلَيْمَانَ [الأنبياء:81]، أي: سخرنا له الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81] عند عودته. وقال قبل ذلك: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا [الأنبياء:79]. ثم قال هنا: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81]. والله هو هذا الذي يتكلم بهذا الكلام. فهو الذي قال: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81]، أي: أرض القدس والشام، تذهب به وتعود به.

ثم قال تعالى: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81]. فلا يخفى على الله شيء لا في الأرض ولا في السماء، وكل هذه الإنعامات والإفضالات وهذا الإحسان من الله عز وجل، فهو واهب ذلك، ولذلك فهو عالم به، كما قال تعالى: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81].




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة المؤمنون (7) 3888 استماع
تفسير سورة المؤمنون (10) 3737 استماع
تفسير سورة الحج (11) 3652 استماع
تفسير سورة النور (12) 3643 استماع
تفسير سورة الأنبياء (9) 3500 استماع
تفسير سورة الأنبياء (5) 3490 استماع
تفسير سورة الأنبياء (14) 3487 استماع
تفسير سورة الأنبياء (15) 3409 استماع
تفسير سورة المؤمنون (6) 3337 استماع
تفسير سورة الحج (17) 3189 استماع