خطب ومحاضرات
مقدمة في التفسير [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
حاجة الصحابة للبحث في ورود القرآن ودلالته
فقد سبق أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن، فجاء فيه كل ما يحتاج إليه أهل الأرض، وكان حاوياً لكل ذلك، تبياناً له، كما قال الله تعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهو أصل العلوم كلها، وهو يبحث فيه من جهتين، الجهة الأولى: جهة الورود، والجهة الثانية: جهة الدلالة، أما جهة الورود، فمعناها: إثبات أن هذا من كلام الله سبحانه وتعالى، وأما جهة الدلالة فمعناها: فهم مراد الله بكلامه، بعد تحقق أن هذا من كلامه، والصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم سمعوا من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، والمعجزة شاهدة بصدقه؛ فلذلك لم يرتابوا، ولم يشكوا في أي شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا احتاجوا إلى البحث في إسناد، ولا في تعديل، ولا في جرح؛ لأنهم سمعوا بالمباشرة من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، كذلك لم يحتاجوا أيضاً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وهم من أهل اللسان العربي على وجه السليقة، فهم من الناطقين بهذه اللغة؛ فلذلك لا يحتاجون إلى دراسة أن الفاعل مرفوع، ولا إلى دراسة أن المفعول منصوب، ولا أن المضاف إليه مجرور، فهذه أمور تجري على ألسنتهم بالسليقة؛ فلذلك يفهمون الكلام، وينزلونه منازله، ويضعونه في مواضعه، دون حاجة إلى البحث في تفسيره، أو دلالاته؛ لأنه من لغتهم، وقد امتن الله عليهم بذلك، وبين أن هذا من سنته في الأمم، فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ [إبراهيم:4].
حاجة التابعين إلى البحث في ورود القرآن ودلالته
جاء بعد الصحابة التابعون رضوان الله عليهم، فلم تشتد حاجتهم إلى البحث في الجهتين أيضاً، أما جهة الورود، فبسماعهم من الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة جميعاً معدلون بتعديل الله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، ورضوان الله مناف للفسق؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]؛ فكل من رضي الله عنه فقد انتفى عنه الفسق قطعاً؛ لأن الله يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، وإذا انتفى الفسق عنهم وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها؛ فالرجل قابل للعدالة والفسق، فإذا انتفت عنه العدالة، وجب له الفسق، وإذا انتفى عنه الفسق، وجبت له العدالة، والصحابة انتفى عنهم الفسق؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين؛ فوجب لهم ضد الفسق وهو العدالة، فهم جميعاً عدول بتعديل الله تعالى لهم، سواء منهم من كان عدلاً في الشهادة، ومن كان ليس كذلك، كالمحدود، فالمجلود منهم في حد من حدود الله لا يشهد لدى القاضي في الحدود، وفي غيرها من الأمور، لكن ذلك لا يرد روايته، فروايته مقبولة؛ ولهذا قبل المسلمون بالإجماع رواية أبي بكرة رضي الله عنه مع أن عمر جلده في الحد، وكذلك قبلوا رواية قدامة بن مظعون رضي الله عنه، مع أن عمر جلده في الحد، فالجلد في الحد لا ينافي قبول الرواية؛ لأنه حاصل على من رضي الله عنهم، والرضوان يقتضي مغفرة زلاتهم، والرضوان أمر أخروي، والحد أمر دنيوي، فهذه الذنوب لا تقع من الذين رضي الله عنهم إلا مغفورة.
ولكن مع ذلك لا بد أن تُجرى عليهم أحكام الظاهر في الدنيا، فالذين بايعوا تحت الشجرة يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، وقال: ( أنتم خير أهل الأرض )، وقد أخبر الله أنه رضي عنهم، لكن مع ذلك تقام عليهم أحكام الظاهر، فمن زنا منهم، أو سرق، أو قذف؛ يقام عليه الحد في الظاهر، وإن كان ذنبه سبقته المغفرة؛ لأن رضوان الله الأكبر قد حل عليهم، فأحكام الظاهر إنما يعامل بها في الدنيا، وأحكام الباطن هي الراجعة إلى الآخرة، فهم في الآخرة قطعاً لا يدخلون النار، ولا يلجونها، وهم في الدنيا تقام عليهم الأحكام كغيرهم من المكلفين؛ لأنهم مأمورون بأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ومتعبدون بترك المناهي، سواء كانت لفظية أو عملية، فمن فرط منهم في أمر من ذلك، فهو غير معصوم، فيقام عليه أمر الظاهر، فيجلد الحد، ويعاقب، ويقام عليه القصاص إذا قَتَل، وهكذا.
ولم يحتج التابعون كذلك حاجة كبيرة إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم أيضاً ما زالوا يفهمون العربية، وما زالوا من أهلها الناطقين بها على وجه السليقة، ولم تتغير حياتهم كثيراً عن الحياة في العهد النبوي الذي نزل فيه الوحي، وإن كان بعضهم قد بدأ البحث في الدلالة، فـمجاهد بن جبر رضي الله عنه يقول: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاثاً، أُوقفه عند كل كلمة)؛ ولذلك قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (إذا أتاك التفسير عن مجاهد، فاشدد عليه يديك) فهذا هو من الحرص على العلم وطلب زيادته، وإلا فـمجاهد يفهم العربية على السليقة في الأصل، فحرص على زيادة العلم، وليس ذلك مقتضياً لنفيه جميعاً.
وكذلك من التابعين من ليس في الأصل من الناطقين بالعربية، ثم تعلمها، فـعكرمة مولى ابن عباس من أشهر المفسرين من التابعين، وهو من البربر، فهو في الأصل من البربر، نسبه كذلك، وكذلك نافع مولى ابن عمر، فهو في الأصل من فارس، وهكذا عدد كثير من الموالي الذين كان المرجع إليهم في التفسير في عصر التابعين، كـعطاء بن أبي رباح، وهو من الحبشة، وغيره من الذين كانت آباط الإبل تضرب إليهم في طلب العلم.
حاجة أتباع التابعين للبحث في ورود القرآن ودلالته
ثم جاء بعدهم أتباع التابعين، فاشتدت الحاجة في زمانهم إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم لم يدركوا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا أدركوا الصحابة المعدَّلين، وإنما أدركوا التابعين، فيهم عدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الإسناد، في اتصاله، وفي تعديل أهله، وفي صفاته، وما يتعلق بذلك، ومن هنا بدأ اختراع علم الجرح والتعديل، والطبقات، والتاريخ؛ فالاختراع وليد الحاجة، هذه العلوم لم تكن في عصر الصحابة؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، ولم تكن في عصر التابعين؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، لكن عندما جاء أتباع التابعين وجدوا أنفسهم بحاجة إليها؛ فاخترعوها، اخترعوا علم الجرح والتعديل، اخترعوا علم التاريخ، اخترعوا علم الطبقات، وهي علوم خادمة للكتاب والسنة، مكملة لها، وليس فيها ابتداع، ولا تغيير، ولا مخالفة؛ لأنها لم يأت عنها نهي، بل جاءت الظواهر التي تدل عليها وعلى طلبها؛ فما يتعلق بالجرح والتعديل أصله قول الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، وعلم التاريخ أصله قول الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وقوله تعالى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، فهذا أصل علم التاريخ، وكذلك الطبقات، فإن أصلها تمايز الناس في الفضل، فقد قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10]، وكذلك من أصل علم الطبقات قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم )، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فهذا أصل هذه العلوم.
وحاجة التابعين إلى البحث فيها أنتجت لهذه الأمة تراثاً عجيباً، فكان من خصائص هذه الأمة الإسناد، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، والأمم السابقة ليس لها إسناد في شيء، فاليهود ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما لديهم مما أنزل على موسى، والنصارى ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما في أيديهم مما أنزل على عيسى؛ ولذلك فهذه الأمة شرفت بالإسناد، وكان مزية عظيمة لها؛ ولهذا قال أهل الحديث: (الإسناد نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) ويقولون: (كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاتصال الإنسان بالنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسناد هو اتصال روحي، فيكفي أن يكون الإنسان في سلسلة هو أدناها، وأعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فأنا أحدثكم الآن تكرمة لوجوهكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد المتصل؛ ليحصل لكم هذا الشرف، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود، عن يحظيه بن عبد الودود، عن محمد بن محمد سالم، عن حامد بن عمر، عن الفقيه الخطاب، عن القاضي ابن علم أم السباعي، عن شيخ الشيوخ الحسني، عن علي الأجهوري، عن البرهان العلقمي، عن الجلال السيوطي، عن زكريا الأنصاري، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، قال في صحيحه: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: أخبرنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، أن محمد بن إبراهيم التيمي أخبره، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال:( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وبالإسناد السابق إلى البخاري رحمه الله، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، وقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ).
وكذلك احتاج أتباع التابعين إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الواقع تغير، فاختلطت الحضارة العربية بغيرها من الحضارات، وفتحت الأمصار، وبدأت اللغات الأخرى تختلط بالعربية، حتى شاع في اللسان العربي بعض الخطأ؛ ولذلك فإن أتباع التابعين اشتغلوا بتصحيح اللغة، والبحث في النحو، والمفردات اللغوية، وفي التفسير، وفي شرح الحديث، وابتكروا لنا هذه العلوم النافعة التي نحن في أمس الحاجة إليها، وذلك بتوفيق الله وتسديده، ولولا هذه العلوم لم يفهم الناس ما خاطبهم به ربهم جل جلاله؛ فلذلك لا يوجد اليوم على وجه الأرض أحد من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، لا يوجد أحد اليوم من المتكلمين بالعربية إلا وهو يتعلم أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، وهكذا، فهذه أمور أصبحت الآن متلقاة عن طريق النحو، ولم يعد أحد يتقنها بالسليقة والخلقة، وقد كان الناس في بدئها يستنكرونها، حتى قال أحد الشعراء:
ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكراً يكون لها معنىً يخالف ما قاسوا وما ذرعوا
قالوا لحنت فذاك الحرف منتصب وذاك منخفض وذاك مرتفع
وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع
فقلت واحدة فيها جوابكم والحق حيث يقال الحق يتبع
ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا ما تفقهون وما لم تفقهوا فدعوا
حتى أعود إلى قومي الذين غذوا بما غذيت به والرأي رأي مجتمع
وإني غذيت بأرض لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع
لا يطأ الكلب والخنزير تربتها لكن بها الرئم والرئبال والضبع
وكذلك احتاجوا في فهم كلام الله سبحانه وتعالى إلى المفردات اللغوية؛ فوضعوا لنا المعاجم التي نحن بأمس الحاجة إليها، فلولا هذه المعاجم لما عرف أحد منكم اليوم معنى "القسورة"، ولا عرف معنى "الأَبِّ"، ولا عرف غير ذلك من المفردات التي لم تعد مستعملة في لسان الناس؛ فكان عصر أتباع التابعين عصر تفنن هذه العلوم، واستخراجها من الكتاب، والكتاب أصلها جميعاً، فكل علم أنتجته هذه الأمة هو خادم لكتاب الله سبحانه وتعالى، فجميع العلوم مهمتها خدمة القرآن، والمشتغل بها بهذه النية يثاب هذا الثواب العظيم، فيكون من المتعلمين للقرآن، وقد حدثتكم بحديث عثمان بن عفان الذي أخرجه البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فكل مشتغل بعلم من هذه العلوم الخادمة لكتاب الله هو من المتعلمين لكتاب الله تعالى، والخادمين له، ولو كان ذلك بتفاوت عظيم الدرجات، فقد أخرج البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يقرأ القرآن، ولا يتعتع فيه، وهو عليه غير شاق - مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه، وهو عليه شاق- ممن يؤتى أجره مرتين )؛ فلذلك لا يمكن أن يتعلم أحد من القرآن ولو حرفاً واحداً إلا أثيب عليه ثواباً عظيماً، وإلا كان من الفائزين، فكل معتمد عليه، ومستند إليه، فهو ممسك بحبل الله المتين؛ ولذلك في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في القرآن): ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )،فهذا الكتاب هو حبل الله المتين، فالحرف الواحد منه يثاب عليه الإنسان عشر حسنات: ( ولا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، والذي عجز عن تعلمه، عن تعلم هذه العلوم المتشعبة، فساعد متعلماً، يكتب له ثوابه، والذي عجز عن المساعدة، فأحب ذلك، يكتب له الثواب أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب قوماً حشر معهم )، ( ولما سأل الأعرابي قال له: الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت )، فمجرد محبة الإنسان للعالمين والمتعلمين توصله إلى منزلتهم، وهي منزلة سامقة عالية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )، وكذلك قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع )، فمجرد خروج الإنسان من بيته، وجلوسه في مسجد يستمع إلى علم، تضع له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع، الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يضعون له أجنحتهم رضاً بما يصنع، فهذا الخير الجزيل، والثواب العظيم يرتبه الله سبحانه وتعالى على خدمة كتابه، والتعلق به، والسعي لتعلمه، والعمل به.
فقد سبق أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن، فجاء فيه كل ما يحتاج إليه أهل الأرض، وكان حاوياً لكل ذلك، تبياناً له، كما قال الله تعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهو أصل العلوم كلها، وهو يبحث فيه من جهتين، الجهة الأولى: جهة الورود، والجهة الثانية: جهة الدلالة، أما جهة الورود، فمعناها: إثبات أن هذا من كلام الله سبحانه وتعالى، وأما جهة الدلالة فمعناها: فهم مراد الله بكلامه، بعد تحقق أن هذا من كلامه، والصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم سمعوا من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، والمعجزة شاهدة بصدقه؛ فلذلك لم يرتابوا، ولم يشكوا في أي شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا احتاجوا إلى البحث في إسناد، ولا في تعديل، ولا في جرح؛ لأنهم سمعوا بالمباشرة من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، كذلك لم يحتاجوا أيضاً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وهم من أهل اللسان العربي على وجه السليقة، فهم من الناطقين بهذه اللغة؛ فلذلك لا يحتاجون إلى دراسة أن الفاعل مرفوع، ولا إلى دراسة أن المفعول منصوب، ولا أن المضاف إليه مجرور، فهذه أمور تجري على ألسنتهم بالسليقة؛ فلذلك يفهمون الكلام، وينزلونه منازله، ويضعونه في مواضعه، دون حاجة إلى البحث في تفسيره، أو دلالاته؛ لأنه من لغتهم، وقد امتن الله عليهم بذلك، وبين أن هذا من سنته في الأمم، فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ [إبراهيم:4].
جاء بعد الصحابة التابعون رضوان الله عليهم، فلم تشتد حاجتهم إلى البحث في الجهتين أيضاً، أما جهة الورود، فبسماعهم من الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة جميعاً معدلون بتعديل الله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، ورضوان الله مناف للفسق؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]؛ فكل من رضي الله عنه فقد انتفى عنه الفسق قطعاً؛ لأن الله يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، وإذا انتفى الفسق عنهم وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها؛ فالرجل قابل للعدالة والفسق، فإذا انتفت عنه العدالة، وجب له الفسق، وإذا انتفى عنه الفسق، وجبت له العدالة، والصحابة انتفى عنهم الفسق؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين؛ فوجب لهم ضد الفسق وهو العدالة، فهم جميعاً عدول بتعديل الله تعالى لهم، سواء منهم من كان عدلاً في الشهادة، ومن كان ليس كذلك، كالمحدود، فالمجلود منهم في حد من حدود الله لا يشهد لدى القاضي في الحدود، وفي غيرها من الأمور، لكن ذلك لا يرد روايته، فروايته مقبولة؛ ولهذا قبل المسلمون بالإجماع رواية أبي بكرة رضي الله عنه مع أن عمر جلده في الحد، وكذلك قبلوا رواية قدامة بن مظعون رضي الله عنه، مع أن عمر جلده في الحد، فالجلد في الحد لا ينافي قبول الرواية؛ لأنه حاصل على من رضي الله عنهم، والرضوان يقتضي مغفرة زلاتهم، والرضوان أمر أخروي، والحد أمر دنيوي، فهذه الذنوب لا تقع من الذين رضي الله عنهم إلا مغفورة.
ولكن مع ذلك لا بد أن تُجرى عليهم أحكام الظاهر في الدنيا، فالذين بايعوا تحت الشجرة يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، وقال: ( أنتم خير أهل الأرض )، وقد أخبر الله أنه رضي عنهم، لكن مع ذلك تقام عليهم أحكام الظاهر، فمن زنا منهم، أو سرق، أو قذف؛ يقام عليه الحد في الظاهر، وإن كان ذنبه سبقته المغفرة؛ لأن رضوان الله الأكبر قد حل عليهم، فأحكام الظاهر إنما يعامل بها في الدنيا، وأحكام الباطن هي الراجعة إلى الآخرة، فهم في الآخرة قطعاً لا يدخلون النار، ولا يلجونها، وهم في الدنيا تقام عليهم الأحكام كغيرهم من المكلفين؛ لأنهم مأمورون بأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ومتعبدون بترك المناهي، سواء كانت لفظية أو عملية، فمن فرط منهم في أمر من ذلك، فهو غير معصوم، فيقام عليه أمر الظاهر، فيجلد الحد، ويعاقب، ويقام عليه القصاص إذا قَتَل، وهكذا.
ولم يحتج التابعون كذلك حاجة كبيرة إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم أيضاً ما زالوا يفهمون العربية، وما زالوا من أهلها الناطقين بها على وجه السليقة، ولم تتغير حياتهم كثيراً عن الحياة في العهد النبوي الذي نزل فيه الوحي، وإن كان بعضهم قد بدأ البحث في الدلالة، فـمجاهد بن جبر رضي الله عنه يقول: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاثاً، أُوقفه عند كل كلمة)؛ ولذلك قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (إذا أتاك التفسير عن مجاهد، فاشدد عليه يديك) فهذا هو من الحرص على العلم وطلب زيادته، وإلا فـمجاهد يفهم العربية على السليقة في الأصل، فحرص على زيادة العلم، وليس ذلك مقتضياً لنفيه جميعاً.
وكذلك من التابعين من ليس في الأصل من الناطقين بالعربية، ثم تعلمها، فـعكرمة مولى ابن عباس من أشهر المفسرين من التابعين، وهو من البربر، فهو في الأصل من البربر، نسبه كذلك، وكذلك نافع مولى ابن عمر، فهو في الأصل من فارس، وهكذا عدد كثير من الموالي الذين كان المرجع إليهم في التفسير في عصر التابعين، كـعطاء بن أبي رباح، وهو من الحبشة، وغيره من الذين كانت آباط الإبل تضرب إليهم في طلب العلم.
ثم جاء بعدهم أتباع التابعين، فاشتدت الحاجة في زمانهم إلى البحث في الجهتين معاً، أما جهة الورود؛ فلأنهم لم يدركوا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا أدركوا الصحابة المعدَّلين، وإنما أدركوا التابعين، فيهم عدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الإسناد، في اتصاله، وفي تعديل أهله، وفي صفاته، وما يتعلق بذلك، ومن هنا بدأ اختراع علم الجرح والتعديل، والطبقات، والتاريخ؛ فالاختراع وليد الحاجة، هذه العلوم لم تكن في عصر الصحابة؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، ولم تكن في عصر التابعين؛ لأنه لم يكونوا يحتاجون إليها، لكن عندما جاء أتباع التابعين وجدوا أنفسهم بحاجة إليها؛ فاخترعوها، اخترعوا علم الجرح والتعديل، اخترعوا علم التاريخ، اخترعوا علم الطبقات، وهي علوم خادمة للكتاب والسنة، مكملة لها، وليس فيها ابتداع، ولا تغيير، ولا مخالفة؛ لأنها لم يأت عنها نهي، بل جاءت الظواهر التي تدل عليها وعلى طلبها؛ فما يتعلق بالجرح والتعديل أصله قول الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، وعلم التاريخ أصله قول الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وقوله تعالى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، فهذا أصل علم التاريخ، وكذلك الطبقات، فإن أصلها تمايز الناس في الفضل، فقد قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10]، وكذلك من أصل علم الطبقات قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم )، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فهذا أصل هذه العلوم.
وحاجة التابعين إلى البحث فيها أنتجت لهذه الأمة تراثاً عجيباً، فكان من خصائص هذه الأمة الإسناد، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، والأمم السابقة ليس لها إسناد في شيء، فاليهود ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما لديهم مما أنزل على موسى، والنصارى ليس لديهم إسناد يثبتون به أن حرفاً واحداً مما في أيديهم مما أنزل على عيسى؛ ولذلك فهذه الأمة شرفت بالإسناد، وكان مزية عظيمة لها؛ ولهذا قال أهل الحديث: (الإسناد نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) ويقولون: (كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاتصال الإنسان بالنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسناد هو اتصال روحي، فيكفي أن يكون الإنسان في سلسلة هو أدناها، وأعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فأنا أحدثكم الآن تكرمة لوجوهكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد المتصل؛ ليحصل لكم هذا الشرف، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود، عن يحظيه بن عبد الودود، عن محمد بن محمد سالم، عن حامد بن عمر، عن الفقيه الخطاب، عن القاضي ابن علم أم السباعي، عن شيخ الشيوخ الحسني، عن علي الأجهوري، عن البرهان العلقمي، عن الجلال السيوطي، عن زكريا الأنصاري، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، قال في صحيحه: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: أخبرنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، أن محمد بن إبراهيم التيمي أخبره، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال:( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وبالإسناد السابق إلى البخاري رحمه الله، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، وقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ).
وكذلك احتاج أتباع التابعين إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الواقع تغير، فاختلطت الحضارة العربية بغيرها من الحضارات، وفتحت الأمصار، وبدأت اللغات الأخرى تختلط بالعربية، حتى شاع في اللسان العربي بعض الخطأ؛ ولذلك فإن أتباع التابعين اشتغلوا بتصحيح اللغة، والبحث في النحو، والمفردات اللغوية، وفي التفسير، وفي شرح الحديث، وابتكروا لنا هذه العلوم النافعة التي نحن في أمس الحاجة إليها، وذلك بتوفيق الله وتسديده، ولولا هذه العلوم لم يفهم الناس ما خاطبهم به ربهم جل جلاله؛ فلذلك لا يوجد اليوم على وجه الأرض أحد من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، لا يوجد أحد اليوم من المتكلمين بالعربية إلا وهو يتعلم أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، وهكذا، فهذه أمور أصبحت الآن متلقاة عن طريق النحو، ولم يعد أحد يتقنها بالسليقة والخلقة، وقد كان الناس في بدئها يستنكرونها، حتى قال أحد الشعراء:
ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكراً يكون لها معنىً يخالف ما قاسوا وما ذرعوا
قالوا لحنت فذاك الحرف منتصب وذاك منخفض وذاك مرتفع
وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع
فقلت واحدة فيها جوابكم والحق حيث يقال الحق يتبع
ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا ما تفقهون وما لم تفقهوا فدعوا
حتى أعود إلى قومي الذين غذوا بما غذيت به والرأي رأي مجتمع
وإني غذيت بأرض لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع
لا يطأ الكلب والخنزير تربتها لكن بها الرئم والرئبال والضبع
وكذلك احتاجوا في فهم كلام الله سبحانه وتعالى إلى المفردات اللغوية؛ فوضعوا لنا المعاجم التي نحن بأمس الحاجة إليها، فلولا هذه المعاجم لما عرف أحد منكم اليوم معنى "القسورة"، ولا عرف معنى "الأَبِّ"، ولا عرف غير ذلك من المفردات التي لم تعد مستعملة في لسان الناس؛ فكان عصر أتباع التابعين عصر تفنن هذه العلوم، واستخراجها من الكتاب، والكتاب أصلها جميعاً، فكل علم أنتجته هذه الأمة هو خادم لكتاب الله سبحانه وتعالى، فجميع العلوم مهمتها خدمة القرآن، والمشتغل بها بهذه النية يثاب هذا الثواب العظيم، فيكون من المتعلمين للقرآن، وقد حدثتكم بحديث عثمان بن عفان الذي أخرجه البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فكل مشتغل بعلم من هذه العلوم الخادمة لكتاب الله هو من المتعلمين لكتاب الله تعالى، والخادمين له، ولو كان ذلك بتفاوت عظيم الدرجات، فقد أخرج البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يقرأ القرآن، ولا يتعتع فيه، وهو عليه غير شاق - مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه، وهو عليه شاق- ممن يؤتى أجره مرتين )؛ فلذلك لا يمكن أن يتعلم أحد من القرآن ولو حرفاً واحداً إلا أثيب عليه ثواباً عظيماً، وإلا كان من الفائزين، فكل معتمد عليه، ومستند إليه، فهو ممسك بحبل الله المتين؛ ولذلك في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في القرآن): ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )،فهذا الكتاب هو حبل الله المتين، فالحرف الواحد منه يثاب عليه الإنسان عشر حسنات: ( ولا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، والذي عجز عن تعلمه، عن تعلم هذه العلوم المتشعبة، فساعد متعلماً، يكتب له ثوابه، والذي عجز عن المساعدة، فأحب ذلك، يكتب له الثواب أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب قوماً حشر معهم )، ( ولما سأل الأعرابي قال له: الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت )، فمجرد محبة الإنسان للعالمين والمتعلمين توصله إلى منزلتهم، وهي منزلة سامقة عالية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )، وكذلك قال: ( إن العالم ليستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع )، فمجرد خروج الإنسان من بيته، وجلوسه في مسجد يستمع إلى علم، تضع له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع، الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يضعون له أجنحتهم رضاً بما يصنع، فهذا الخير الجزيل، والثواب العظيم يرتبه الله سبحانه وتعالى على خدمة كتابه، والتعلق به، والسعي لتعلمه، والعمل به.
في عصر أتباع التابعين بدأت العلوم تنفصل، فبدأ التأليف في علوم المقاصد، وفي علوم الوسائل، فبدأ تدوين السنة، وهي أول علم انفصل عن القرآن، أول علم قام بنفسه واستقل هو علم السنة، وكان ذلك بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقد كتب إلى ولاة الأمصار: (أن انظروا إلى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوها؛ فإني أخاف أن يموت العلماء، فتندرس السنة) فانتدب لذلك عدد من الأئمة من التابعين، منهم: أبو بكر بن عمرو بن حزم، ومنهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وغيرهم، فدونوا السنن وكتبوها، لكنهم في ذلك الوقت لم يصنفوها على الأبواب، حتى جاء أتباع التابعين، فكانت بداية التصنيف فيها على الأبواب، ومن أوائل الذين كتبوا فيها عبد الملك بن جريج بمكة، ومالك بالمدينة، وعبد الملك بن صبيح بالبصرة، وهشيم الواسطي بواسط؛ فأولئك الذين دونوا السنن، وكتبوا عدداً من المؤلفات، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلا موطأ مالك، فهو أقدم كتاب لدى المسلمين بعد كتاب الله، وعندما ألفه مالك قيل له: كثرت الموطآت، وأنت لا تزال تنقص موطأك، فقال: (ما كان لله فسيبقى)؛ فبقي الموطأ، وقد رواه عن مالك تسعمائة نفس، ووصل إلينا منه بالإسناد الآن ست وعشرون رواية، ستة وعشرون موطأً وصلت إلينا بالأسانيد إلى مالك رحمه الله.
وبعد ذلك بدأ الاهتمام بتفسير القرآن، وألف فيه عدد من الطبقات المختلفة، ومن أقدم من ألف فيه يزيد بن هارون رحمه الله، وتفسيره له لم يصل إلينا، ولكنه كان من التفسير بالأثر؛ أي: بالآثار التي يرويها عن التابعين، فما يفسر به التابعون القرآن يرويه عنهم، وما فسر به الصحابة قبلهم، وما كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع ذلك، ولا يلتزم تفسير كل كلمة، ولا تفسير كل آية، فالتفسير بالأثر لا يمكن فيه التزام كل كلمة أو آية؛ لأن المرجع فيه إلى الرواية والحفظ.
وظهر في ذلك الوقت مدرستان في التفسير:
إحداهما: مدرسة الأثر، والأخرى تسمى: مدرسة الرأي.
مدرسة التفسير بالأثر
أما مدرسة الأثر، فالمقصود بها: المدرسة التي يعتمد أهلها على الرواية عن التابعين والصحابة، ومن خصائصها: أنها لا تتبع كلمات القرآن، ولا آياته، وإنما تتبع النقول، فيعَنون مثلاً لتفسير سورة البقرة، فيذكر ما فيها من الأحاديث المرفوعة، وما فيها من الآثار الموقوفة على الصحابة، وما فيها من الآثار المقطوعة عن التابعين، وهكذا في سورة آل عمران، وهكذا إلى نهاية القرآن، والسورة التي لا يوجد فيها مروي تُتجاوز، فلا يذكر فيها شيء، وهذه المدرسة اشتهر فيها من التابعين أصحاب ابن عباس؛ كـسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وطاوس بن كيسان، فهم من أوائل مدرسة التفسير بالأثر.
مدرسة التفسير بالرأي
وكذلك المدرسة الثانية، وهي التي تسمى "مدرسة التفسير بالرأي" فمعنى ذلك: أن أصحابها يعتمدون على علومهم، فيفسرون كل كلمة، وكل آية، وكل سورة، ولا يتجاوزون شيئاً من القرآن، ويذكرون لنا استنباطاتهم، وما هداهم الله إليه من الفهم في كتابه، وهذا أمر أحال إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل أحال الله إليه في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فبين الله أن من هذه الأمة مَن يستنبطون الأحكام من القرآن، فأحال إلى علمه، وإحالة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هي ما أخرجه البخاري في الصحيح، من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه، قال: قلنا لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل عندكم شيء تقرءونه غير كتاب الله؟ فقال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة ما عندنا شيء نقرؤه غير كتاب الله، إلا فهماً آتاه الله رجلاً في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة) فأخرج صحيفة من قراب سيفه، فإذا فيها: (العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والمدينة حرم ما بين عائر إلى كذا...) كذا، أو: (إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن انتسب إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) وهذا الكتاب رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، وأصحاب السنن، وأحمد في المسند، وغيرهم من أهل الحديث، وفيه زيادات كثيرة، فقد أخرج النسائي فيه زيادة: (والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم)، وفي صحيح مسلم: زيادة لعن من ذبح لغير الله، ففيه كثير من الزيادات في هذا الكتاب الذي أخرجه علي من قراب سيفه، ومحل الاستشهاد فيه: أن علياً قال: (إلا فهماً آتاه الله رجلاً في كتابه)؛ فبين أن ذلك مما يحال إليه، أنه مما أحال إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المدرسة - وهي مدرسة التفسير بالرأي أقصد- لا تخلو أيضاً من أثر، فأهلها يعتمدون الآثار، ثم يزيدون بما فتح الله به عليهم من الفهم، كما أن مدرسة التفسير بالأثر لا تخلو أيضاً من رأي؛ لأن أكثر الآثار التي فيها هي موقوفة على الصحابة، أو مقطوعة عن التابعين وهي من رأيهم؛ فإذاً يجتمع الأثر والرأي؛ ولهذا فالذين يذمون الرأي مطلقاً يقعون في خطأ؛ لأن الأثر أيضاً كثير منه رأي، ما كان من موقوفات الصحابة، أو مقطوعات التابعين هو من الرأي؛ فلذلك لا يذم الأثر ولا الرأي، بل يؤخذ بالجميع، فما كان من الأثر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحاسم القاطع للنزاع، وما كان موقوفاً على من دونه، أو مقطوعاً، فهو آراء رجال، يؤخذ منها ويرد، وما شهد له الأدلة منه أخذ به أيضاً؛ لأن بعضها قد تتواتر القرائن حوله، حتى يصل إلى درجة القطع، فكثير من الآثار يقطع به؛ لأنه توافرت القرائن الدالة عليه، والنصوص التي تشهد له؛ حتى أصبح مقطوعاً به، وإلا فالأصل أن هذا القرآن لم ينزل لجيل واحد؛ فلا يمكن أن ينحصر فهمه في الصحب أو التابعين، بل أهل كل عصر يفهمون منه ما رزقهم الله به، أهل كل عصر يفهمون منه ما رزقهم الله به؛ وبهذا لا يستغنى بتفسير عصر من العصور عما بعده من العصور، أهل كل زمان يحتاجون إلى تفسير للقرآن، فيه ما يمن الله به عليهم، وما يفتح به لعلمائهم من الفهم في كتاب الله؛ وذلك أن أساليب القرآن متفاوتة، فمن أساليبه ما يكون واضح الدلالة، ومن أساليبه ما يكون فيه خفاء، ومن أساليبه ما يكون مجملاً، ومنها ما يكون مشكلاً، ومنها ما يكون متشابهاً ثم يزول عنه التشابه بالتدريج؛ فإن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن جميعاً بالإحكام، فقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1]، والمقصود بالإحكام: الإتقان، الإحكام العام، معناه: الإتقان، أنه متقن ليس فيه تفاوت ولا تكذيب ولا خلل؛ فلا يمكن أن يجد فيه الإنسان أي خطأ، ثم وصفه جميعاً بالتشابه، فقال: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]، ومعنى هذا التشابه العام: أن بعضه يفسر بعضاً، ويصدقه، فما طوي في مكان ينشر في مكان آخر، فإذا أردت القطع بأي أمر من الأمور ولم تجده في آية واحدة، فاجمع نظائرها؛ فسيحصل لك القطع، مثلاً: لو سألك الإنسان عن الدليل القاطع على وجوب الصلاة من القرآن، فإنك لو قلت له: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، لقال لك: هذا أمر محتمل لأن يكون للندب، ولأن يكون للإباحة، ولأن يكون للوجوب، والصلاة تشمل النفل والفرض، وهي شاملة للخمس وغيرها، والأمر أيضاً خطاب للأمة، وفيها المكلفون وغير المكلفين؛ فلا يحصل القطع به، لكن إذا جمعت القرائن، فقلت مثلاً: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ثم قلت: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وذكرت آيات ذم التاركين للصلاة، وآيات المدح للمصلين، ونحوها، سيحصل القطع بجميع ذلك، بحيث لا يمتري الإنسان ولا يشك، وكذلك في الصدقة، والزكاة، والجهاد، وغير ذلك من أمور الإسلام، فإن القرآن يطوي بعضها في مكان، وينشره في مكان، وبجمع ذلك يزول الإشكال بالكلية؛ ولهذا يحمل المتشابه على المحكم، كلما جاء خفاء في آية عددناها من المتشابه، فنحملها على المحكم، فنجد بيانها، سواء كان ذلك في قراءة واحدة، أو كان في قراءات مختلفة.
فالقراءات أيضاً يفسر بعضها بعضاً ويبينه، فأنت إذا قرأت بقراءة نافع قول الله تعالى: (قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين)، سيتشكل ذلك الإمام، فيقول: كيف آخذ من كلِّ زوجين اثنين، والزوجان اثنان فقط؟! لكن جواب ذلك: هو بالقراءة السبعية الأخرى: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:40]، فالآية تفسير للأخرى، وهكذا إذا قرأ القارئ مثلاً بقراءة حمزة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً) فسيستشكل الإنسان: كيف يقسم بالأرحام؟! فالجواب: هو بالقراءة السبعية الأخرى: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وكذلك إذا قرأ القارئ بقراءة ابن كثير: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتمُ إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكمُ وأيديكمُ إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجِلكمُ إلى الكعبين)، (وأرجلِكم) بالجر، يستشكل ذلك فيقول: هل يمسح على الرجلين؟ والجواب: هو القراءة السبعية الأخرى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] بالنصب؛ فيزول الإشكال؛ فإذاً يصدق بعض القرآن بعضاً ويفسره؛ وبذلك يزول الخفاء مطلقاً، فما على الإنسان إلا زيادة العلم فيه، إذا أراد الفهم، فليزد في العلم، وكلما ازداد في العلم فيه، كلما ازداد فهماً عن الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، (وما يعقلها إلا العالمون)، فهم الذين يدركونها.
أما مدرسة الأثر، فالمقصود بها: المدرسة التي يعتمد أهلها على الرواية عن التابعين والصحابة، ومن خصائصها: أنها لا تتبع كلمات القرآن، ولا آياته، وإنما تتبع النقول، فيعَنون مثلاً لتفسير سورة البقرة، فيذكر ما فيها من الأحاديث المرفوعة، وما فيها من الآثار الموقوفة على الصحابة، وما فيها من الآثار المقطوعة عن التابعين، وهكذا في سورة آل عمران، وهكذا إلى نهاية القرآن، والسورة التي لا يوجد فيها مروي تُتجاوز، فلا يذكر فيها شيء، وهذه المدرسة اشتهر فيها من التابعين أصحاب ابن عباس؛ كـسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وطاوس بن كيسان، فهم من أوائل مدرسة التفسير بالأثر.
وكذلك المدرسة الثانية، وهي التي تسمى "مدرسة التفسير بالرأي" فمعنى ذلك: أن أصحابها يعتمدون على علومهم، فيفسرون كل كلمة، وكل آية، وكل سورة، ولا يتجاوزون شيئاً من القرآن، ويذكرون لنا استنباطاتهم، وما هداهم الله إليه من الفهم في كتابه، وهذا أمر أحال إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل أحال الله إليه في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فبين الله أن من هذه الأمة مَن يستنبطون الأحكام من القرآن، فأحال إلى علمه، وإحالة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هي ما أخرجه البخاري في الصحيح، من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه، قال: قلنا لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل عندكم شيء تقرءونه غير كتاب الله؟ فقال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة ما عندنا شيء نقرؤه غير كتاب الله، إلا فهماً آتاه الله رجلاً في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة) فأخرج صحيفة من قراب سيفه، فإذا فيها: (العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والمدينة حرم ما بين عائر إلى كذا...) كذا، أو: (إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن انتسب إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) وهذا الكتاب رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، وأصحاب السنن، وأحمد في المسند، وغيرهم من أهل الحديث، وفيه زيادات كثيرة، فقد أخرج النسائي فيه زيادة: (والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم)، وفي صحيح مسلم: زيادة لعن من ذبح لغير الله، ففيه كثير من الزيادات في هذا الكتاب الذي أخرجه علي من قراب سيفه، ومحل الاستشهاد فيه: أن علياً قال: (إلا فهماً آتاه الله رجلاً في كتابه)؛ فبين أن ذلك مما يحال إليه، أنه مما أحال إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المدرسة - وهي مدرسة التفسير بالرأي أقصد- لا تخلو أيضاً من أثر، فأهلها يعتمدون الآثار، ثم يزيدون بما فتح الله به عليهم من الفهم، كما أن مدرسة التفسير بالأثر لا تخلو أيضاً من رأي؛ لأن أكثر الآثار التي فيها هي موقوفة على الصحابة، أو مقطوعة عن التابعين وهي من رأيهم؛ فإذاً يجتمع الأثر والرأي؛ ولهذا فالذين يذمون الرأي مطلقاً يقعون في خطأ؛ لأن الأثر أيضاً كثير منه رأي، ما كان من موقوفات الصحابة، أو مقطوعات التابعين هو من الرأي؛ فلذلك لا يذم الأثر ولا الرأي، بل يؤخذ بالجميع، فما كان من الأثر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحاسم القاطع للنزاع، وما كان موقوفاً على من دونه، أو مقطوعاً، فهو آراء رجال، يؤخذ منها ويرد، وما شهد له الأدلة منه أخذ به أيضاً؛ لأن بعضها قد تتواتر القرائن حوله، حتى يصل إلى درجة القطع، فكثير من الآثار يقطع به؛ لأنه توافرت القرائن الدالة عليه، والنصوص التي تشهد له؛ حتى أصبح مقطوعاً به، وإلا فالأصل أن هذا القرآن لم ينزل لجيل واحد؛ فلا يمكن أن ينحصر فهمه في الصحب أو التابعين، بل أهل كل عصر يفهمون منه ما رزقهم الله به، أهل كل عصر يفهمون منه ما رزقهم الله به؛ وبهذا لا يستغنى بتفسير عصر من العصور عما بعده من العصور، أهل كل زمان يحتاجون إلى تفسير للقرآن، فيه ما يمن الله به عليهم، وما يفتح به لعلمائهم من الفهم في كتاب الله؛ وذلك أن أساليب القرآن متفاوتة، فمن أساليبه ما يكون واضح الدلالة، ومن أساليبه ما يكون فيه خفاء، ومن أساليبه ما يكون مجملاً، ومنها ما يكون مشكلاً، ومنها ما يكون متشابهاً ثم يزول عنه التشابه بالتدريج؛ فإن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن جميعاً بالإحكام، فقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1]، والمقصود بالإحكام: الإتقان، الإحكام العام، معناه: الإتقان، أنه متقن ليس فيه تفاوت ولا تكذيب ولا خلل؛ فلا يمكن أن يجد فيه الإنسان أي خطأ، ثم وصفه جميعاً بالتشابه، فقال: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]، ومعنى هذا التشابه العام: أن بعضه يفسر بعضاً، ويصدقه، فما طوي في مكان ينشر في مكان آخر، فإذا أردت القطع بأي أمر من الأمور ولم تجده في آية واحدة، فاجمع نظائرها؛ فسيحصل لك القطع، مثلاً: لو سألك الإنسان عن الدليل القاطع على وجوب الصلاة من القرآن، فإنك لو قلت له: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، لقال لك: هذا أمر محتمل لأن يكون للندب، ولأن يكون للإباحة، ولأن يكون للوجوب، والصلاة تشمل النفل والفرض، وهي شاملة للخمس وغيرها، والأمر أيضاً خطاب للأمة، وفيها المكلفون وغير المكلفين؛ فلا يحصل القطع به، لكن إذا جمعت القرائن، فقلت مثلاً: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ثم قلت: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وذكرت آيات ذم التاركين للصلاة، وآيات المدح للمصلين، ونحوها، سيحصل القطع بجميع ذلك، بحيث لا يمتري الإنسان ولا يشك، وكذلك في الصدقة، والزكاة، والجهاد، وغير ذلك من أمور الإسلام، فإن القرآن يطوي بعضها في مكان، وينشره في مكان، وبجمع ذلك يزول الإشكال بالكلية؛ ولهذا يحمل المتشابه على المحكم، كلما جاء خفاء في آية عددناها من المتشابه، فنحملها على المحكم، فنجد بيانها، سواء كان ذلك في قراءة واحدة، أو كان في قراءات مختلفة.
فالقراءات أيضاً يفسر بعضها بعضاً ويبينه، فأنت إذا قرأت بقراءة نافع قول الله تعالى: (قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين)، سيتشكل ذلك الإمام، فيقول: كيف آخذ من كلِّ زوجين اثنين، والزوجان اثنان فقط؟! لكن جواب ذلك: هو بالقراءة السبعية الأخرى: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:40]، فالآية تفسير للأخرى، وهكذا إذا قرأ القارئ مثلاً بقراءة حمزة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً) فسيستشكل الإنسان: كيف يقسم بالأرحام؟! فالجواب: هو بالقراءة السبعية الأخرى: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وكذلك إذا قرأ القارئ بقراءة ابن كثير: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتمُ إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكمُ وأيديكمُ إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجِلكمُ إلى الكعبين)، (وأرجلِكم) بالجر، يستشكل ذلك فيقول: هل يمسح على الرجلين؟ والجواب: هو القراءة السبعية الأخرى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] بالنصب؛ فيزول الإشكال؛ فإذاً يصدق بعض القرآن بعضاً ويفسره؛ وبذلك يزول الخفاء مطلقاً، فما على الإنسان إلا زيادة العلم فيه، إذا أراد الفهم، فليزد في العلم، وكلما ازداد في العلم فيه، كلما ازداد فهماً عن الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، (وما يعقلها إلا العالمون)، فهم الذين يدركونها.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4132 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4060 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3907 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |