خطب ومحاضرات
الأمانة بين الحفظ والضياع
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الأحبة في الله: الأمانة جوهر الدين، وحقيقة الإسلام، وعنوان المؤمن، وصفة الموحد، وضد الخيانة.
وتعريفها عند أهل العلم: حفظ ما يعهد به إليك، وتستأمن عليه، ويطلب منك حفظه ورعايته وحمايته.. هذه هي الأمانة.
والأصل فيها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قوله في توجيه نبوي كريم: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) بل جعلها النبي صلى الله عليه وسلم هي الإيمان، ونفى الإيمان عمن لا أمانة لديه فقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).
فهذه الأمانة وهذا الخلق العظيم اتصف به وبأعلى قدر وبأعظم نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم له من الكماليات البشرية ما ليس عند غيره؛ كل صفة من صفات الكمال فعند الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى نسبة منها، ولكن في الأمانة كان صلى الله عليه وسلم مبرزاً، حتى كان يلقب عند أهل مكة قبل البعثة والرسالة بالأمين، وكان الناس يستودعونه أماناتهم وأموالهم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم من حرصه وحفظه للأمانة لما أمره الله تعالى بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية المباركة، كانت عنده أمانات لبعض أهل مكة ، وخشي صلى الله عليه وسلم أن يسددها للناس بنفسه فتنكشف مسألة خروجه، فيحصل على أذى؛ لأن كفار قريشٍ دبروا مؤامرة خبيثة للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المؤامرة في السر بعد مؤتمر عقدوه وحضره الشيطان، وأشار عليهم بأن يختاروا من كل فخذ من قبيلة قريش شاباً، ثم يُجمعوا بضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف ضربة واحدة فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تستطيع بنو هاشم أن تثأر له، فتقبل الدية.
ولما عزموا على تدبير وتنفيذ هذه المؤامرة كشفها الله، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها، وأمره بالهجرة، فهاجر صلى الله عليه وسلم، لكنه كلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالتأخر في مكة من أجل رد الأمانات إلى أهلها، وبين له الأمانات، الناس عندما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، كل واحد فيهم طلب حقه وأمانته، فـعلي موجود، قال: تعالوا وخذوا حقوقكم، وهذا من باب حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء الأمانة.
وكذلك أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم من بعده، وكذلك التابعون وسلف هذه الأمة وخيارهم ممن سار على نهجهم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتميز الإنسان المؤمن عن غيره من الناس بحرصه على أداء الأمانة، فحفظها -أيها الإخوة- دليل الإيمان وعنوان السعادة، وضياعها دليل النفاق وعنوان الخسارة في الدنيا والآخرة.
نعم. لا خيار لك في أن تكون أميناً أو ألا تكون أميناً، فمقتضى أن تكون مؤمناً أن تكون أميناً؛ لأن الإيمان والأمانة متلازمان، فلا يمكن أن يكون إيمان بدون أمانة، لماذا؟
أهمية الأمانة وعظمتها
للأمانة تعريف واصطلاح عند العلماء، تعريف عام، ويقصد بها: جميع ما استودعك الله عز وجل عليه، وائتمنك عليه وطلب منك حفظه من أمور دينك ودنياك، ومما يتعلق بما بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، سواء كان الناس أقارب أو أباعد، كل هذا أمانة، وأنت مطالب بحفظها.
ولها تعريف خاص وهي: حفظ الودائع -مدلول خاص- أي شخص يضع لديك ودائع فلا بد أن تستأمن عليها ولا تخون، ومن هنا -أيها الإخوة- ندرك مدى عظمتها؛ إنها الدين كله.
فالأمانة هي الإسلام كله، ولهذا لما عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، أشفقن من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
ظلوماً لنفسه إذا لم يحملها، جهولاً بعظمتها وأهميتها، ولذا تجد هذه الحقيقة في القرآن ماثلة في كثير من الناس؛ كثير من البشر يعيش عيشة البهائم، لا يتصور إلا أنه يأكل ويشرب وينام وينكح ويسهر ويسمع ويذهب ويأتي ولا همَّ له غير هذا، وما عرف أنه خلق في الدنيا للابتلاء والامتحان والقيام بهذه الأمانة أو غيرها، والله تعالى يقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا [الكهف:7] فلماذا زينة لها؟ من أجل أن يأكلوا ويشربوا؟ لا. لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] ويقول عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ [ص:27] ويقول جل ثناؤه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] وكثير من الناس مفاهيمه معكوسة ومقلوبة، لا همَّ له في ليله ونهاره إلا كيف يأكل؟ وكم يأكل؟ وماذا يأكل؟ وأين يذهب؟ وأين ينام؟ وماذا يصنع؟ وماذا يشاهد؟ وماذا يقرأ؟
فقط هذا مفهومه، لكن هل فكر أنه مسئول ومؤتمن على كل شيء في هذه الحياة؟
وسوف نتعرض بشيء من التفصيل لمدلولات الأمانة.
أمانة العمر
مضى يومك الماضي شهيداً معدلا وأعقبه يوم عليك شهيد |
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فبادر بإحسان وأنت عنيد |
ولا تبق فعل الصالحات إلى غـدٍ فرب غدٍ يأتي وأنت فقيد |
الوقت -أيها الإخوة- أمانة، ما من لحظة تمر عليك إلا وهي جزء منك، وهي شاهدة لك أو عليك، فلا تضع أنفاسك -يا أخي- في غير طاعة الله سبحانه وتعالى، فإنك مؤتمن وستُسأل، قال صلى الله عليه وسلم كما في السنن : (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة) فتثبت أقدام الخلائق يوم القيامة، وتُسمّر في عرصات القيامة، ولا تزول ولا يتحرك أحد، أنت الآن تذهب من هنا أو من هنا، ولكن أين تذهب يوم القيامة؟ أين المفر؟
لا يوجد مفر، الناس كلهم وقوف وأقدامهم مثبتة في العرصات، حتى يجاب على هذه الأسئلة الأربعة، إما إجابة صحيحة فيتحرك إلى الجنة، وإما إجابة خاطئة فيتحرك إلى النار.
أمانة المال وحفظها
وأيضاً: فيم أنفقه؟ المشكلة في المال مشكلة مزدوجة؛ لأنه يوجد سؤال في الاكتساب وسؤال في الإنفاق؛ مسئول عن كل ريال يدخل جيبك، ومسئول عن كل ريال يخرج من جيبك، وإذا بها مشكلة.
الذي يشتري (دش) (بعشرة آلاف) أو (بخمسة عشر ألفاً) ويضعه فوق البيت، ويمد ذراعيه إلى السماء يستمطر ما في القنوات الفضائية من الشر، ثم يدش به على أهله، فالذي سماه (دش) الحقيقة صدق؛ لأنه دش، أنت الآن عندما تتكلم على واحد وتهلكه بالكلام، تقول: والله أعطيته (دش) أي: أهلكته بالكلام، كذلك أنت ركبَّت على بيتك (دش)
فماذا يمطر على أهلك؟ وماذا ينزل عليك وعلى أولادك وزوجتك؟ هل ينزل الخير؟
لا والله. بل يظل الرجل جالساً عند زوجته وبيده (الريموت كنترول) وينتقل من قناة إلى قناة، كلما أغلق شراً دخل في آخر، وكلما انتهى من فيلم دخل في فيلم، وكلما انتهت مسرحية دخل في مسرحية، وكلما انتهت أغنية بحث عن أغنية، ما هذا؟
الله خلقك لهذا؟ عندك إجابة على هذا؟!
الآن أنت خجلان أمام قريبك أو أحد جيرانك، لا تريد أحداً يعلم أن عندك (دشاً) وبعضهم يغشيه داخل البيت ويضعه في السطح ويضع من هنا جداراً ومن هناك جداراً، ويقول: ليس عندي شيئاً، لكنه لا يعمل إلا في السماء، إذا وضعته في الغرفة لا يصلح، وهذا من العوائق التي لا يعصى الله به إلا مجاهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيحين : (كل أمتي معافى -أي: تحت العافية- إلا المجاهرون) من المجاهر؟ الذي يفضح نفسه بهذه الفضيحة، وهذه موجودة فوق البيت؛ فضيحة ظاهرة.
أخي في الله: يا من وقعت في هذه المصيبة، أحضر من الآن جواباً وهيئ للسؤال رداً، واعلم بأن الله تعالى سائلك، يقول الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] ويقول عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث كما في الصحيحين : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته) زوجتك وأولادك أنت الراعي والمسئول عنهم يوم القيامة، فإذا فسد الولد في المستقبل وأصبح خبيثاً شريراً كان عليك إثمه إلى يوم القيامة؛ لأنك أنت الذي أفسدته بيدك، وجلبت له هذه الوسيلة التي تفسده، وإذا فسدت المرأة كذلك، إذا فسدت البنت كذلك.. كلٌ مسئول عن رعيته.
الآن الراعي الذي يرعى الغنم لا يضيع الغنم بل يحفظها، ما رأيك براعٍ يدخل الذئب إلى غنمه؟ هذا راع أم مضيع للغنم؟ هذا مضيع للغنم، فكذلك أنت ما أتيت بذئبٍ واحد، بل وضعت على رأسك مائة ذئب، كل ذئب ينهش من زوجتك وأولادك وابنتك وعرضك، حتى تيبس عيونهم، وبعضهم لا ينام إلا وقد يبست عينه ولا يستطيع أن يغمضها، فإذا غمضت عينه اشتغل (الدش) من داخل عينه؛ تراه نائماً و(الدش) شغال؛ لأن الصور انطبعت في ذهنه وعينه.
فحياته كلها (دش)! وفي النوم واليقظة (دش)! ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).
لأنه خلق المؤمن؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له) .
للأمانة تعريف واصطلاح عند العلماء، تعريف عام، ويقصد بها: جميع ما استودعك الله عز وجل عليه، وائتمنك عليه وطلب منك حفظه من أمور دينك ودنياك، ومما يتعلق بما بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، سواء كان الناس أقارب أو أباعد، كل هذا أمانة، وأنت مطالب بحفظها.
ولها تعريف خاص وهي: حفظ الودائع -مدلول خاص- أي شخص يضع لديك ودائع فلا بد أن تستأمن عليها ولا تخون، ومن هنا -أيها الإخوة- ندرك مدى عظمتها؛ إنها الدين كله.
فالأمانة هي الإسلام كله، ولهذا لما عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، أشفقن من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
ظلوماً لنفسه إذا لم يحملها، جهولاً بعظمتها وأهميتها، ولذا تجد هذه الحقيقة في القرآن ماثلة في كثير من الناس؛ كثير من البشر يعيش عيشة البهائم، لا يتصور إلا أنه يأكل ويشرب وينام وينكح ويسهر ويسمع ويذهب ويأتي ولا همَّ له غير هذا، وما عرف أنه خلق في الدنيا للابتلاء والامتحان والقيام بهذه الأمانة أو غيرها، والله تعالى يقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا [الكهف:7] فلماذا زينة لها؟ من أجل أن يأكلوا ويشربوا؟ لا. لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] ويقول عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ [ص:27] ويقول جل ثناؤه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] وكثير من الناس مفاهيمه معكوسة ومقلوبة، لا همَّ له في ليله ونهاره إلا كيف يأكل؟ وكم يأكل؟ وماذا يأكل؟ وأين يذهب؟ وأين ينام؟ وماذا يصنع؟ وماذا يشاهد؟ وماذا يقرأ؟
فقط هذا مفهومه، لكن هل فكر أنه مسئول ومؤتمن على كل شيء في هذه الحياة؟
وسوف نتعرض بشيء من التفصيل لمدلولات الأمانة.
الوقت والعمر جعله الله وعاءً لك لتملأه بالإيمان والعمل الصالح، أم بالنفاق والعمل السيئ؟ هذا أمانة؛ لأنه ساعات محدودة، وأنفاس معدودة، يوم يذهب ولا يعود. أنت -أيها الإنسان- مجموعة أيام وشهور وسنين، كل يوم يمر لا يرجع عليك بنفسه، بل يرجع في يوم آخر، اليوم مثلاً (14/6) لن يعود هذا اليوم إلا يوم (14/7) بعد شهر، و(14/6) يعود ولكن عام (1419م) بعد سنة، لكن هذا اليوم انتهى وذهب وودعته بما عملت فيه، إن خيراً وجدته وإن شراً وجدته: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
مضى يومك الماضي شهيداً معدلا وأعقبه يوم عليك شهيد |
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فبادر بإحسان وأنت عنيد |
ولا تبق فعل الصالحات إلى غـدٍ فرب غدٍ يأتي وأنت فقيد |
الوقت -أيها الإخوة- أمانة، ما من لحظة تمر عليك إلا وهي جزء منك، وهي شاهدة لك أو عليك، فلا تضع أنفاسك -يا أخي- في غير طاعة الله سبحانه وتعالى، فإنك مؤتمن وستُسأل، قال صلى الله عليه وسلم كما في السنن : (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة) فتثبت أقدام الخلائق يوم القيامة، وتُسمّر في عرصات القيامة، ولا تزول ولا يتحرك أحد، أنت الآن تذهب من هنا أو من هنا، ولكن أين تذهب يوم القيامة؟ أين المفر؟
لا يوجد مفر، الناس كلهم وقوف وأقدامهم مثبتة في العرصات، حتى يجاب على هذه الأسئلة الأربعة، إما إجابة صحيحة فيتحرك إلى الجنة، وإما إجابة خاطئة فيتحرك إلى النار.
(لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به) فقل لي بربك يا من تخون الأمانة وتسرق وتغش وتكذب.. كيف تواجه ربك؟! وبم تجيب ربك إذا سألك من أين هذا المال؟
وأيضاً: فيم أنفقه؟ المشكلة في المال مشكلة مزدوجة؛ لأنه يوجد سؤال في الاكتساب وسؤال في الإنفاق؛ مسئول عن كل ريال يدخل جيبك، ومسئول عن كل ريال يخرج من جيبك، وإذا بها مشكلة.
الذي يشتري (دش) (بعشرة آلاف) أو (بخمسة عشر ألفاً) ويضعه فوق البيت، ويمد ذراعيه إلى السماء يستمطر ما في القنوات الفضائية من الشر، ثم يدش به على أهله، فالذي سماه (دش) الحقيقة صدق؛ لأنه دش، أنت الآن عندما تتكلم على واحد وتهلكه بالكلام، تقول: والله أعطيته (دش) أي: أهلكته بالكلام، كذلك أنت ركبَّت على بيتك (دش)
فماذا يمطر على أهلك؟ وماذا ينزل عليك وعلى أولادك وزوجتك؟ هل ينزل الخير؟
لا والله. بل يظل الرجل جالساً عند زوجته وبيده (الريموت كنترول) وينتقل من قناة إلى قناة، كلما أغلق شراً دخل في آخر، وكلما انتهى من فيلم دخل في فيلم، وكلما انتهت مسرحية دخل في مسرحية، وكلما انتهت أغنية بحث عن أغنية، ما هذا؟
الله خلقك لهذا؟ عندك إجابة على هذا؟!
الآن أنت خجلان أمام قريبك أو أحد جيرانك، لا تريد أحداً يعلم أن عندك (دشاً) وبعضهم يغشيه داخل البيت ويضعه في السطح ويضع من هنا جداراً ومن هناك جداراً، ويقول: ليس عندي شيئاً، لكنه لا يعمل إلا في السماء، إذا وضعته في الغرفة لا يصلح، وهذا من العوائق التي لا يعصى الله به إلا مجاهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيحين : (كل أمتي معافى -أي: تحت العافية- إلا المجاهرون) من المجاهر؟ الذي يفضح نفسه بهذه الفضيحة، وهذه موجودة فوق البيت؛ فضيحة ظاهرة.
أخي في الله: يا من وقعت في هذه المصيبة، أحضر من الآن جواباً وهيئ للسؤال رداً، واعلم بأن الله تعالى سائلك، يقول الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] ويقول عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث كما في الصحيحين : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته) زوجتك وأولادك أنت الراعي والمسئول عنهم يوم القيامة، فإذا فسد الولد في المستقبل وأصبح خبيثاً شريراً كان عليك إثمه إلى يوم القيامة؛ لأنك أنت الذي أفسدته بيدك، وجلبت له هذه الوسيلة التي تفسده، وإذا فسدت المرأة كذلك، إذا فسدت البنت كذلك.. كلٌ مسئول عن رعيته.
الآن الراعي الذي يرعى الغنم لا يضيع الغنم بل يحفظها، ما رأيك براعٍ يدخل الذئب إلى غنمه؟ هذا راع أم مضيع للغنم؟ هذا مضيع للغنم، فكذلك أنت ما أتيت بذئبٍ واحد، بل وضعت على رأسك مائة ذئب، كل ذئب ينهش من زوجتك وأولادك وابنتك وعرضك، حتى تيبس عيونهم، وبعضهم لا ينام إلا وقد يبست عينه ولا يستطيع أن يغمضها، فإذا غمضت عينه اشتغل (الدش) من داخل عينه؛ تراه نائماً و(الدش) شغال؛ لأن الصور انطبعت في ذهنه وعينه.
فحياته كلها (دش)! وفي النوم واليقظة (دش)! ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).
عمرك أمانة، وهذا العمر هو الفترة الواقعة بين سن التكليف إلى ساعة النزع والموت ومفارقة الحياة، كلها أمانة عندك، وتقوم خلالها ويطلب منك فيها أن تؤدي الأمانة في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: فيما بينك وبين الله، فالله سبحانه وتعالى ائتمنك، وجعل عندك أمانة وطلب منك أن تحفظها، وقال: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] فيلزمك بناءً على أن الله عهد إليك بهذه الأمانة أن تؤديها وإلا أصبحت خائناً.
ما هي الأمانة التي بينك وبين الله؟
كثيرة ولكن سنخصص الضخمة الكبيرة المشهورة:
أمانة العقيدة والتوحيد
العقل: هو آلة يميز الإنسان به بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام، ولهذا هو مناط التكليف؛ إذا رفع العقل رفع التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق).
ثم أقام الحجة بعد الفطرة والعقل بالرسالات فبعث الرسل وأنزل عليهم الكتب لإقامة الحجة؛ لأن الحجة لا تقوم فقط بالفطرة أو بالعقل؛ لأن الفطرة أرضية، والعقل موجه، لكن ماذا يصنع الإنسان؟ كيف يعبد الله؟ هل يعبد الله بعقله؟ هل يعرف ما يحبه وما يبغضه الله بعقله؟ لا. لا بد من الرسل، ولهذا يقول الله عز وجل: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] فلقيام الحجة على الناس أرسل الله الرسل، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] أي: لا تقوم الحجة على الخلق إلا ببعثة الأنبياء وببلاغ الدين، ولذا يسأل الله سبحانه وتعالى، وتسأل الملائكة الناس يوم القيامة إذا دخلوا النار: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك:8-9] أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى [الزمر:71] فقيام الحجة لا يكون إلا ببعثة الرسل.
بعث الله إليك الرسل، وبلغك الدين، وعرفت أنه مطلوب منك أن تكون موحداً، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الكلمة اسمها: كلمة الإخلاص، وهي الركن الأول من أركان الدين، وهي أساس الإسلام، ومفتاح الدخول في الدين، والتي يودع الإنسان الدنيا بها إذا مات، ومفتاح الجنة، وأول واجب، هذه الكلمة هي: لا إله إلا الله، هي ميثاق وعهد بينك وبين الله، ولهذا أي شخص يدخل في الإسلام ماذا يطلب منه قبل كل شيء؟
يطلب منه أن يقول: لا إله إلا الله، ولو صلَّى قبل أن يقول: لا إله إلا الله فما حكم صلاته؟
غير صحيحة، ولو حج قبل أن يقول: لا إله إلا الله، فحجه مردود باطل، ولو أخرج الزكاة لا تقبل، ولو ذهب يجاهد في سبيل الله وقتل قبل أن يقول: لا إله إلا الله لا ينفع مهما عملت، أول شيء وقع العقد بينك وبين الله، وما هو هذا العقد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هذا هو الميثاق، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [الرعد:19-20] هذا عهد الله وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20] هذا العهد يوم أن دخلت في الدين قلت: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله؛ فلا أدع ولا أخاف، ولا أذبح إلا لله، ولا أتوكل، ولا أخشى، ولا أنذر، ولا أستعين، ولا أصلي، ولا أزكي، ولا أي شيء من أنواع العبادة إلا لله، لماذا؟ لأني قلت: لا إله إلا الله.
وهذه الكلمة ليست سهلة؛ هذه الكلمة كان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون مدلولها، ولهذا لا يقولونها إلا صادقين.
حتى أبو طالب عند الموت، كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يقول هذه الكلمة؛ لتكون حجة للرسول في أن يشفع له عند الله، لما قدمه من حماية للدين؛ هذا الرجل أبو طالب قدم حماية عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان يقول عليه الصلاة والسلام: (ما زلت في عز ومنعة حتى مات
لما مات أبو طالب في (السنة العاشرة) للبعثة سمَّي هذا العام: عام الحزن؛ لأنه مات فيه أبو طالب وماتت فيه خديجة ، وانكشف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، واستطاع الكفار النيل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن هناك أبو طالب، فلما جاءته وفاته أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على خدمته للدين، لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً؛ لأنه مشرك -أي: ما وقع العقد والعهد مع الله- قال: (يا عم قل: لا إله إلا الله) الآن لا صلاة ولا صيام ولا أي شيء ستموت الآن: (قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، فنظر إلى الجلساء وقرناء السوء؛ أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وهم جلوس عنده، قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ يعرفون أن معنى الكلمة هذه -لا إله إلا الله- رفض لملة عبد المطلب؛ ملة الشرك والآلهة المعبودة من غير الله، فالرجل قال: بل على ملة عبد المطلب ومات عليها! فقال صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) ولما أراد أن يستغفر له منعه الله أن يستغفر له وقال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].
فنهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه؛ لأنه مات مشركاً، إذ لا تنفعه شفاعة الشافعين، وقد نفعته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن خفف عليه في العذاب؛ ووضع في ضحضاح من نار، والضحضاح: هو الماء الذي يغطي الكعبين، إذا دخلت في زرع أو طريق أو شيء وهو يغطي إلى كعب رجلك هذا يسمى ضحضاحاً أي: راكداً، وأبو طالب يعيش في ضحضاح من نار، تخيلوا شخصاً يعيش وكعبيه في النار! كيف يكون وضعه وهو أقل الناس عذاباً في النار؟ ويرى هو في نفسه أنه لا أحد أشد عذاباً في النار منه، وهو أخف أهل النار والعياذ بالله!
فعقيدة التوحيد -يا أخي في الله- أمانة استأمنك الله عليها في ألا توحد إلا الله توحيداً بأقسامه الثلاثة:
التوحيد الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله، وسميت الربوبية؛ لأنها أعمال الرب سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد، وهي: الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والنفع والضر؛ هذه كلها لله، فلا بد أن توحده، وهذا لا يكفي، إذ لا بد من توحيد الألوهية؛ لأن التوحيد هذا وحَّده به المشركون، ويوحِّده به الآن كثير من الناس، ويظن بعض الناس أن هذا هو التوحيد، فبعض المشركين والقبوريين الآن الذين يدعون الأولياء ويذهبون إلى القبور وينذرون ويذبحون إذا قلت لهم: يا جماعة! هذا شرك لا يجوز، قالوا: لا. نحن موحدون، نحن نعتقد أن الله هو المعطي، المحيي، المانع، الضار، قلنا: هذا توحيد الربوبية وقد أقر به حتى الكفار، قال الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] .. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فهم يعترفون أن الله هو الخالق لهم، لكن توحيد الألوهية هو الذي سقطوا فيه وقامت من أجله الخصومات بين الأمم والرسل، وشرعت من أجله ألوية الجهاد، والذي ميز الله به بين الحق والباطل.
التوحيد الثاني توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بفعل العبد؛ أنت وحدت الله بفعل الرب وقلت: إنه الخالق، وهو الرازق والمحيي، هذا ليس لك فيه فضل أنت؛ لأنه فعل الله، اعترفت أم لم تعترف، ولكن يلزمك أن تعترف به، لكن المهم فعلك أنت، ما هو فعلك؟ العبادة، وحِّد الله بعبادتك أنت، فلا تدع، ولا تذبح، ولا تنذر، ولا تستعن، ولا تخش إلا الله، هذا معنى توحيد الألوهية: وهي صرف جميع أنواع العبادة لله وحده.
التوحيد الثالث توحيد الأسماء والصفات: وهو أن توحد الله بإثبات جميع الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، وإنما نؤمن بأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، يقول الله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] هذا إثبات للصفة، وننفي التأويل والتمثيل يقول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهو سميع لكن سمعاً يليق بجلاله، وهذه هي عقيدة الأمة الصافية وعقيدة السلف، أما الذين دخلوا في علم الكلام والتأويل والنفي والإثبات ضاعوا -والعياذ بالله- لكنك عندما تأخذها كما جاءت، وكما أقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها سلف هذه الأمة تجدها أسهل من الماء، لماذا؟ لأنها عقيدة صافية؛ هذا التوحيد هو أمانة بينك وبين الله، فلا بد أن تكون موحداً، وأن تبرأ إلى الله مما يناقض التوحيد وهو الشرك.
والشرك أقسام: أكبر وأصغر وخفي؛ شرك الدعوة والطاعة والإرادة والمحبة، الشرك: صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ مثل تصديق الكهنة، والذهاب إلى السحرة، والاعتقاد في النجوم.. كل هذه الأمور من الشرك الذي يخرج العبد من الملة ويحرمه التوحيد، وهو مخلد في النار، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] .. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] .. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:116].
فالشرك عظيم لا يغفره الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] ولو صلى وصام وحج كل عام وتصدق بكل أموال الدنيا وهو مشرك، لا ينفع؛ لأن الله تعالى يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] أهم شيء في دين الله التوحيد الأساس، ثم بعد ذلك تأتي ببقية أعمال الإسلام، فهو أول أمانة بينك وبين الله.
أمانة الصلاة
ويسبقها -أيضاً- الاستعداد لها بالوضوء والطهارة، فهما أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، من يعرف أنك جنب أو غير جنب؟ لا أحد في الدنيا يعرف أنك على جنابة إلا الله! ولذا فهي أمانة، والوضوء الآن، من يدري أنك متوضئ ودخلت تصلي وأنت على وضوء أو على غير وضوء؟
لا أحد يعلم إلا أنت، إذ بإمكانك أن تقول: أنا متوضئ والناس لا يدرون، من يستطيع أن يقول لك: لا. أنت غير متوضئ؟ سوف تقول له: ما أدراك؟ أنا أدرى بنفسي؛ أمانة بينك وبين الله! ولهذا فهي خيانة عظيمة أن تأتي تصلي وأنت غير متوضئ، كما نسمع من بعض الطلاب في المدارس أنهم يصلون الظهر وهم على غير وضوء، لماذا؟ من أجل المدير والمدرسين، هؤلاء خانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم، فصلاتهم هذه ليست لله، بل هي شرك؛ لأنهم صلوا لغير الله، صلوا للمدرس أو للمدير والعياذ بالله!
الصلاة هي حبل بينك وبين الله، ولهذا سميت صلاة، أي: صلة، وعلى قدر تمسكك بهذا الحبل يحسب دينك وأمانتك، وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، فاسأل نفسك عن منزلة الصلاة في قلبك، إن كانت الصلاة لها موضع وحب وإشراقة وفرحة في قلبك، بحيث إذا جاءت الصلاة قمت فرحاً مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ويقول في ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) قلبه في المسجد متعلق، جسمه في (الدكان) وحين سمع الأذان مباشرة جاء يصلي، ويقول في حديث في صحيح مسلم : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم .
تنتظر الصلاة بعد الصلاة؛ تصلي المغرب وأنت تنتظر العشاء، وتصلي العشاء وأنت تنتظر الفجر، وتصلي الفجر وأنت تنتظر الظهر، وتصلي الظهر وأنت تنتظر العصر، رباط مع الله! هذا هو المؤمن، وهذا هو صاحب الأمانة، لكن ذلك المضيع المفلس الخاسر الذي لا خير فيه، فالصلاة آخر شيء في اهتماماته، إن أتت صلَّى، وإن ذهبت ترك.
هذا مضيع للأمانة التي بينه وبين الله، ولهذا من حفظ الصلاة حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وآخر ما يفقد العبد من دينه الصلاة! آخر باب يخرج منه الإنسان الصلاة! وآخر موقع يخسره في الدين الصلاة! ولهذا جاء من حديث جابر في صحيح مسلم : (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، وفي سنن أبي داود ومسند أحمد حديث بريدة بن الحصيب : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) هذه هي الصلاة، ولن نزيد على هذا حتى لا يفوتنا الوقت.
أمانة الزكاة
لو أن شخصاً دعاك وقال: تعال. أنا أعطيك مليون ريال، لكن أريد في كل سنة أن تخرج لي من هذا المليون خمسة وعشرين ألفاً، ماذا تقول له؟ تقول: جزاك الله خيراً، ولو تريد أن أخرج لك نصفه فسوف أخرجه، وهو صاحب الفضل، فسبحان الله! الله يعطيك هذا المليون ويطلب منك (2.5 %) ولا تخرجها؟!
وقد يقول شخص من الناس: هذا المال مالي. كلا. ليس مالك، من أين أتيت به حين جئت من بطن أمك؟ هل كان معك مال؟
كلا. خُلِقت ضعيفاً والله أعطاك المال، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8] فما الذي غرك؟
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] المال مال الله، ليس لديك أنت شيء.
يوجد أناس مثلك وعشرة أمثالك، بل آلاف من الناس أقوى منك جسماً وليس عندهم مال، وأكبر منك عقلاً وليس عندهم مال، وأكثر منك تفكيراً وليس عندهم مال، والله أعطاك المال، لماذا؟
ابتلاء، وليس محبة؛ بعض الناس يعطيه الله المال ابتلاء، الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، ولهذا اعتبرها سليمان عليه السلام بلاء عندما قال: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].
فالمال لا يأتي بقوة الذكاء والجسم، فأنت الآن ترى -مثلاً- صاحب العمارة عند موقف (الإسمنت) يشتري شاحنة (إسمنت) ويأتي بها وفيها أربعة أو ثلاثة عمال ينزلونها، ينزلون الكيس مثلاً (بنصف ريال) كأنه آلة أو (ماكينة) ينزل (الإسمنت) في نصف ساعة ويمشي، فلو أعطيت صاحب العمارة هذا (مائة ألف) وقلت له: أنزل (الإسمنت) هذه الشاحنة، ينزلها؟!
أعطه مليوناً، ينزلها؟!
ما يستطيع ينزلها؛ لأن ظهره سينكسر، ماذا يفعل بالمليون وقد انكسر ظهره؟! قد يتشجع ويقول: والله مليون آخذه، ويستعد ويأتي ويعصب رأسه، وينزل كيساً وكيسين وثلاثة وأربعة.. عشرة.. انكسر ظهره، ويقول: والله لا أقدر لو يعطوني الدنيا كلها. وذاك نزلها (بنصف ريال).
نعم. فهل المال يأتي بالقوة؟ لو كان يأتي بالقوة لكان الحمال هو صاحب المال، هل المال بالذكاء؟ أبداً.
تذكر كتب العلم: أن رجلاً حكيماً ذكياً عالماً لكنه مبتلى بالفقر، كان يعيش وما عنده حذاء، واستطاع خلال فترة أن يعمل أعمالاً بسيطة حتى جمع له درهمين، وهبط إلى السوق لشراء نعل، وبينما هو يمشي إذا برجل يلحقه ومعه أربعون حماراً، وتراه يحدها ويردها ويسوقها فسأله: إلى أين يا أخي؟! قال: أبيع الحمير هذه في السوق، الحمير كانت هي وسائل النقل الرئيسية، مثل السيارات الآن، قال: وهذه كلها لك؟ -فالذي عنده حمار في تلك الأيام مثل الذي عنده سيارة هذه الأيام- قال: نعم. قال: طيب. اركب على واحد منها، قال: عندي مشكلة، قال: ما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين؛ لأنه إذا ركب يعدها وينسى الذي تحته، فيعد الذي أمامه، فتنقص وتصير تسعة وثلاثين فإذا نزل من عليها عدها وإذا هي أربعين، قال: فأنا أمشي وتصير زيادة وإذا ركبت تنقص، فتعجب هذا وقال: سبحان الله! أنا بعقلي وعلمي وحكمتي، لا أملك نعلاً في رجلي، وهذا مغفل لا يعرف كيف يعد حميره وعنده أربعين حماراً، فهل الرزق يأتي بالذكاء؟ لا.
فالله أعطاك المال، فالمال مال الله، لا تقل مالي، ولهذا يقول الله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] المال لله أصلاً؛ أعطاك (مائة ريال) وأوجب عليك (2.5 %) وجعل هذا أمانة بينك وبينه؛ شيء سري لا يعلم به أحد، ولا يعلم أحد أنك أخرجت الزكاة أم منعتها إلا الله، فلا تبخل بها، ولا تخن أمانتك، فإن عدم إخراج الزكاة مصيبة من المصائب، وهو سمة من سمات النفاق وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:75-77].
أمانة الصيام
فالصيام أمانة، ولهذا جاء في الحديث: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) قال أهل العلم: كيف أن الصوم لله؟!
طيب.. الزكاة والحج أليس لله؟ قالوا: كل العمل لله، لكن الصيام لله؛ لأنه لا يمكن أن يشعر أحد أو يعلم بأنك صائم إلا الله، فهو عمل خاص بينك وبين الله.
أمانة الحج
بر الوالدين أمانة، وصلة الأرحام أمانة، والإحسان إلى الجيران أمانة، والدعوة إلى الله أمانة، وتعليم العلم للناس أمانة، ومن يعلم العلم إذا لم يعلمه العلماء؟! من يدعو إلى الله إذا لم يدع المسلمون؟! هل اليهود يدعون إلى الدين؟ لا توجد رسل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل ورث هذه الدعوة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] وقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فالدعوة إلى الله أمانة، وستسأل عن هذا الدين: حفظت أم ضيعت؟ دعوت أم لم تدع؟
كل هذه -أيها الإخوة- هي الأمانات التي بينك وبين الله، فيم يتعلق بالعلاقة التي بينك وبينه، وهذا هو الشق الأول.
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
كيف تنال محبة الله؟ | 2926 استماع |
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2925 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2803 استماع |
أمن وإيمان | 2674 استماع |
حال الناس في القبور | 2674 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2602 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2570 استماع |
النهر الجاري | 2474 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2465 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2397 استماع |