وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقَائِقَ مَقَالَاتِ الْعِبَادِ، وَمَقَالَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ، يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَاكَ هُوَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمُكَاشِفُونَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْحَقَائِقَ بِنُورِ إلَهِيٍّ.
فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ كَثِيرًا مَا يُحِيلُ فِي كُتُبِهِ عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الْإِلَهِيِّ، وَعَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُوجَدُ لِلصُّوفِيَّةِ وَالْعِبَادِ بِرِيَاضَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَكَشْفِهَا لَهُمْ حَتَّى يَزِنُوا بِذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِذَكَائِهِ وَصِدْقِ طَلَبِهِ مَا فِي طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَآتَاهُ اللَّهُ إيمَانًا مُجْمَلًا - كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ -، وَصَارَ يَتَشَوَّفُ إلَى تَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ، فَيَجِدُ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ وَالصُّوفِيَّةِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ، وَأَوْلَى بِالتَّحْقِيقِ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين، وَالْأَمْرُ كَمَا وَجَدَهُ، لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ الَّذِي عِنْدَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى نَالُوا مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْعِبَادِيَّةِ مَا لَمْ يَنَلْهُ أُولَئِكَ.
فَصَارَ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَفْصِيلَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الطَّرِيقِة، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا؛ لِانْسِدَادِ الطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ السُّنِّيَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِهَا وَمِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا عَنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين، حَتَّى حَالُوا بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ.
وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرَ الذَّمِّ لِهَذِهِ الْحَوَائِلِ وَلِطَرِيقَةِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا ذَاكَ لِعِلْمِهِ الَّذِي سَلَكَهُ، وَاَلَّذِي حُجِبَ بِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ لِلرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَقَائِدُ فَلْسَفِيَّةٌ وَكَلَامِيَّةٌ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ: (( الْعِلْمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الْجَهْلُ ) )، وَكَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ ) ).
وَلِهَذَا صَارَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَرَى فَضِيلَتَهُ وَدِيَانَتَهُ يَدْفَعُونَ وُجُودَ هَذِهِ الْكُتُبِ عَنْهُ، حَتَّى كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - فِيمَا عَلَّقَهُ عَنْهُ - يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ"بِدَايَةُ الْهِدَايَةِ"مِنْ تَصْنِيفِهِ، وَيَقُولُ: إنَّمَا هُوَ تَقَوُّلٌ عَلَيْهِ.
مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ [أي: كتب أبي حامد المذمومة] مَقْبُولُهَا أَضْعَافُ مَرْدُودِهَا، وَالْمَرْدُودُ مِنْهَا أُمُورٌ مُجْمَلَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا عَقَائِدُ وَلَا أُصُولُ الدِّينِ.