-وفي هذا وما مضى ردّ أيضا على من جعل الإيمان مجرّد تصديق القلب من الماتريدية و الأشاعرة.
وذلك أنّ إبليس وفرعون وأهل الكتاب الذين حكينا عنهم كانوا مُقرّين بالله تعالى ومع ذلك كفّرهم الله تعالى.
ومن هنا نعلم أنّ التّصديق لا يطلق على المعنى المجرد عن اللفظ، ولذا لم يجعل الله أحدا مصدّقا للرسل بمجرّد العلم والتصديق الذي في قلوبهم، ولكن حتى يصدّقوهم بألسنتهم وأفعالهم.
ولا يوجد في كلام العرب أن يقال فلان صدّق فلانا أو كذّبه إذا كان يعلم بقلبه أنّه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك.
* أمّا ما ذهب إليه مرجئة الفقهاء القائلون أنّ الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان فالجواب عنه من ناحيتين:
الأولى: بما مضى بأنّ هذا متناقض حيث أخرجوا أعمال الجوارح عن مسمّى الإيمان وجعلوا التصديق القلبي وهو عمل، والإقرار باللسان وهو عمل أيضا من مسمّى الإيمان، و على هذا قال [1] شيخ الإسلام: إنّهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، و إن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول الجوارح أيضا فإنّها لازمة لهم. إنتهى.
الثانية: أنّ الأدّلة على أنّ الأعمال من الإيمان مستفيضة.
فالقلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سترى ذلك على البدن بالضرورة لا يمكن أن يتخلف البدن عمّا يريده القلب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"... أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ". فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث: الإيمان قول وعمل، قول الباطن والظاهر وعمل الباطن والظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن، صلح الظاهر، وإذا فسد فسد.
وبتقدير أن يكون في لغة العرب أنّ الإيمان هو التصديق، فإن الله بيّن أنّه لا يكتفي بتصديق القلب واللسان معا- فضلا عن تصديق القلب وحده - بل لا بدّ أن يعمل بموجب هذا التصديق.
ومن تأمل القرآن فإنّ الله لم يثبت مدحًا إلاّ على إيمان معه عمل، لا إيمان خالٍ من العمل، فإذا عُرِف أن الذمّ والعقاب واقع في ترك العمل، فكيف بعد ذلك كلّه يُجعل الإيمان اعتقادًا وقولاً دون عمل الجوارح؟. ولهذا نجد في القرآن أنّ الله تعالى يعطف على الإيمان الأعمالَ الصالحةَ، أو التقوى، أو الصبر للحاجة إلى ذكر المعطوف لئلاَّ يَظُنَّ الظّانُّ أنّ الإيمان يُكتَفَى فيه بما في القلب. وبهذا كلّه نعرف أنّ الإيمان له ركنان:
(1) - كتابه الإيمان {183}