عنوان الفتوى : مسألة الاحتفال بالمولد النبوي والرد على زعم تشددنا في الفتوى
إن النقد أسفله هدفه الإصلاح وليس المشاحنة الفارغة: فصبرا: إن الفهم الذي تفهمون به الإسلام في موقعكم هو فهم يجعل من المسلم منغلقا ومنعزلا وبعيدا عن الواقع وقد يصل إلى درجة إلغاء مفهوم : "و في ذلك فليتنافس المتنافسون" لأن فتاويكم تجعل من الإنسان لا ينتج ولا ينفع غيره. مثال: عندنا في بلدنا، أغلب المواطنين تحتفل بالمولد النبوي، أنتم تحرمون هذا الاحتفال، لو أن أحدنا سمع كلامكم لأصبح منعزلا باعتبار أن الناس سترفضه. لكن الحمد لله أنني وقعت على كلام لمجموعة من شيوخنا التي تحلله و تقول بأن حجتكم في التحريم كلام مردود و هكذا خففت على نفسي قليلا من الانعزال في هذه الجزئية على الأقل. وبين قوسين أنتم تصدون عن خير كبير بتحريمكم الاحتفال، ففي المولد يجتمع الناس في المسجد في حلقات للذكر و الصلاة على النبي و تعليم و تذكير الأطفال بنبيهم صلى الله عليه و سلم وتبادل الأكل بين الجيران و التزاور بينهم... فالمقصود، أني أتوسل إليكم بالله العلي الكبير و بحبكم لله و الرسول صلى الله عليه وسلم أن تختاروا في أي مسألة أسهل الآراء في أي مذهب كان، المهم أن تختاروا الأسهل، بالله الرحمن، مثال في مسألة الاحتفال، الأسهل هو الرأي القائل بالتحليل لأن هذا ما ألفته الناس و اجتمعت فيه على الخير! أريد أن يكون المبدأ في موقعكم هو التسهيل: اختيار أسهل الآراء من أي مذهب كان و ليس المبدأ هو الالتزام بمذهب معين، ثم أي مذهب؟ أعسر مذهب وجد! هذا هو التحجر بعينه! و التحجر يولد الموت و الانغلاق، و لعل صاحب المذهب لو كان حاضرا اليوم لعدل عن رأيه. أرجوكم لا تصدروا آراء غبية. و إن أغلب الفتاوى التي أراها في موقعكم هي في الغالب أعسر رأي وجد و لا حول و لا قوة إلا بالله! و أذكر قصة حديثة، أن إماما في بلدي اتبع منهجكم في التحريم و خرجت فتوى له على الفايسبوك في يوم عيد وطني بتحريم الاحتفال به ، فترى أن أغلب الناس انهالت عليه بالسب وو و الصالح فيهم يرد عليه مستهزأ: "حتى الكرسي الذي تجلس عليه ونظارتك و ملابسك التي تلبسها هي بدعة" و يقولون :"الحمد لله أن الشعب ذكي لرفض مثل هؤلاء". فالناس سترفض كل من سيتشدد عليها. ثم، أستطيع أن أقول لكم بأن أغلب عامة الناس لا تطبق إلا حوالي ثلاثين بالمائة من الذي يوجد في الإسلام حسب توقعي. فكيف تريد من فئات الناس التي ذكرتها أن تقبل بآراءكم المتشددة؟ فالمقصود: يسروا! و في الأخير سأختم بمثال وهو الوحيد الذي أشك في صحته (لأني متأكد من صحة الباقي): سب الدين منتشر و أغلب الناس تجهل حكمه و لا تعي أنه كفر، فكيف تكفرها و إيمانها ضعيف أصلا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر للأخ السائل تواصله ومناصحته، وإن كنا نختلف معه في توصيف الواقع والحكم عليه. ودعوى أن موقعنا يجعل المسلم منغلقا أو منعزلا أو بعيدا عن الواقع وعن التنافس في الخير ونفع الناس ـ دعوى تحتاج إلى برهان. وأما نحن فنعتقد خلاف ذلك، والشاهد عليه: ضخامة عدد الأسئلة التي نستقبلها من كافة دول العالم، باللغة العربية وغيرها من اللغات، وما يصلنا من بريد القراء ... ولسنا نقول ذلك مدحا وإنما نقوله لبيان الواقع، وأنه ثمرة من ثمرات منهجية الفتوى في الموقع، حيث الوسطية والتنوع والانفتاح وعدم الالتزام بمذهب معين، بل السير مع الأدلة، والاجتهاد في تحقيق مقاصد الشريعة، والأخذ بالرخص في محلها بضوابطها الشرعية، ومراعاة حال السائل.
وأما ما نسبت إلينا من الصد عن سبيل الله بسبب النهي عن احتفال لم يأمر به الشرع، ولم يفعله أحد ممن أمِرنا بالاقتداء بهم، من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان من أئمة هذا الدين في القرون الأولى المفضلة كالأئمة الأربعة وغيرهم. فنقول: هل كان هؤلاء يصدون عن الخير، أو يغفلون عنه، ويزهدون فيه، وهل كانوا يقصرون في حلق الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتعليم وتذكير الأطفال بنبيهم صلى الله عليه وسلم ؟! أم إن هذه الفضائل والشعائر لها طرق شرعية كثيرة كانوا يؤدونها من خلالها، ونحن لهم تبع، وعلى طريقتهم نسير، وبهديهم نقتدي.
وأما ما وقفت عليه من كلام لمجموعة من شيوخكم تجيز هذا الاحتفال وتقول بأن حجتنا في التحريم كلام مردود !!
فبيننا وبينهم سنة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه الكرام من بعده، فإن كانوا يقيمون مثل هذا الاحتفال السنوي فإقامته حق ورشد، وإلا فلو كان خيرا لسبقونا إليه. ومما يدل دلالة واضحة على عدم احتفالهم أنهم لم يهتموا أصلا بتحرير يوم المولد، بل ولا حتى شهره، فقد اختلفوا في ذلك اختلافا شديدا، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 130441. وراجع ما سبق أن أجبناك به في الفتوى رقم: 162611. وللتفصيل في مسألة الاحتفال بالمولد راجع الفتويين: 151445، 137747.
وأما مسألة الالتزام بالأيسر، سواء في الفتوى أو في العمل، فهذا ليس له وجه مقبول إذا أمكن الترجيح بين الأقوال بحيث يستبين مراد الشارع. بخلاف ما إذا اشتبه الأمر وعجز المكلف عن الترجيح أو اختلفت عليه أقوال العلماء ولم يستطع تمييز الراجح، فالأخذ بالأيسر عندئذ له وجه مقبول. وراجع في ذلك الفتويين: 169801، 170931 . وعلى أية حال فالأحكام الشرعية لا تؤخذ بالهوى ولا التشهي، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 118257. وراجع في مسألة الأخذ بالأيسر الفتوى رقم: 132994. وراجع للتذكرة ما أجبناك به من قبل في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 173975، 165239، 174971، 175173.
وأما مسألة إنكار الناس أو استهزائهم بما لم يعرفوه، ورفضهم لما لم يألفوه، فهذا وإن كان واقعا في كثير من الأحيان، إلا إنه ليس عيبا في القول نفسه، وإنما العيب في أفهام الناس وعدم قبولهم للحق، وإلا فهذا شأن الرسل أنفسهم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، كما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30] وقد قال ورقة بن نوفل رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي: يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي. رواه البخاري ومسلم. فرفض الناس وإعراضهم ليس دليلا على وجود الخطأ أو الباطل. والفاصل في هذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، وصححه الترمذي والألباني.
وأما جواب هؤلاء المشايخ بقولهم: (حتى الكرسي الذي تجلس عليه ونظارتك وملابسك التي تلبسها هي بدعة) فهذا كلام من لديه لبس أو يقصد تلبيسا، فلا يفرق بين العادة والعبادة، وبين ما يفعل على وجه التقرب إلى الله تعالى، وبين ما يفعل لأمر أو شأن من شئون الدنيا، وراجع لمعرفة الفرق بينهما الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 39640، 127965، 26489.
وأما قول السائل: (أرجوكم لا تصدروا آراء غبية. وإن أغلب الفتاوى التي أراها في موقعكم هي في الغالب أعسر رأي وجد) !! فهذا مما نسأل الله تعالى أن يغفره له. فليس من المقبول أن نصف ما لا نفهمه أو لا نقبله من الآراء في الأمور العادية بأنه غباء !! فكيف إذا كان ذلك في باب الفتوى التي هي توقيع عن رب العالمين ؟! ولو استرجع السائل أجوبتنا لأسئلته السابقة لوجد فيها مباحات كثيرة، كما في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 165305، 156727، 151395، 156177. ولكن من شأن السائل ـ غفر الله له ـ أنه في بعض الأحيان إذا أفتِي بالجواز يعيد السؤال مرة أخرى وكأنه لا يريد التخفيف عن نفسه، كما في الفتوى رقم: 165227. وهذا شأن المصاب بالوسوسة، وقد تتبعنا الأسئلة التي وردتنا سابقا من الأخ السائل فوجدنا فيها ما يدل على أنه مصاب بالوسوسة، كما في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 150307، 151399، 149563، 148753، 149743، 149725. وقد طالت هذه الوسوسة مسائل العقيدة وثبوت الكمال لله تعالى في قضائه وقدره وحكمته في خلقه، كما في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 166567، 160311، 156381، 156297.
ولذلك نوصي السائل الكريم بالتهوين على نفسه، وعدم التعمق في المسائل الجدلية، والبعد عن الشبهات ما أمكن. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى.
وأما سؤالك عن سب الدين ممن يجهل حكمه ولا يعي أنه كفر، وكيف نحكم بكفره وإيمانه ضعيف أصلا؟
فجوابه: أن إيمان من يسب الدين ليس ضعيفا، بل منقوض وباطل، وغير مقبول شرعا، فلا يصح وصف من فقد أصل تعظيم الدين من قلبه بسبِّه إياه، بأن إيمانه ضعيف، إلا كما يصح وصف المشركين بذلك، كما في قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] وقد سبق لنا في الفتويين: 133، 48551 بيان إجماع أهل العلم على أن سب الدين كفر بالله عز وجل، فإذا وقع من مسلم فقد ارتد عن الإسلام والعياذ بالله. فمن سب الدين وجب عليه أن يراجع دينه مرة أخرى بتوبة صادقة. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 137051.
والله أعلم.