عنوان الفتوى : الأخذ بالأيسر مشروط بألا يكون حراما
ما صحة الحديث: (ما خيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما)؟ وإذا كان الحديث صحيحا ما هو تفسيره هل يصح أن أحد الأمرين الذي اخترت يكون حكمه في الشرع مكروه أو محرم، ولكنه هو الأيسر مثلاً كما ورد في أحد فتاواكم عن الاختلاف بين الأئمة في حكم التقاط الصور مع الأهل أو الأصدقاء والاحتفاظ بها للذكرى هل اختيار الحكم الأيسر والقريب من رغبتي يكون صحيحا طبقا للحديث؟ وجزاكم الله خيراً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاللفظ الصحيح للرواية التي ذكرها السائل كما في الصحيحين وغيرهما، عن عائشة قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه.
ولا بد أن يُفهم أول كلامها رضي الله عنها في ضوء آخره والعكس، ولا يصح بتر الكلام وفصل ما تلاحم من جمله، ففي قولها: "ما لم يكن إثما ..." بيان أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للأيسر مشروط ببعده عن الإثم.
قال ابن حجر: أي ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم، فإنه حينئذ يختار الأشد. انتهى.
وهذا يشمل المكروه أيضا، لأنه قريب من الإثم، ولذلك قال النووي: فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها. اهـ.
ومعنى ذلك أن هذا الاختيار المذكور في أثر عائشة إنما يقع غالبا في أمور الدنيا من المعاش والمعاملات ونحو ذلك مما يخرج عن دائرة العبادة.
قال ابن بطال في شرح البخاري: يحتمل أن يكون هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يخير رسوله بين أمرين عليه في أحدهما إثم، فمعنى هذا الحديث ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بين أن يختار لهم أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد، إلا اختار لهم أيسر الأمرين، ما لم يكن عليهم في الأيسر إثم؛ لأن العباد غير معصومين من ارتكاب الإثم. انتهى.
وقد سبق لنا زيادة إيضاح عن ذلك في الفتوى رقم: 128029.
وهذا هو اللائق بمقام النبوة، التي هي محل القدوة والأسوة الحسنة، فإنها المثال البشري الكامل للعبودية، وهذا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور العبادة وحقوق الله تعالى يضرب المثل الأعلى في التمسك بالأفضل وتحرى الأحسن، كما قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. {الزمر:55}.
قال السعدي: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) مما أمركم من الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه وخشيته وخوفه ورجائه، والنصح لعباده، ومحبة الخير لهم، وترك ما يضاد ذلك. ومن الأعمال الظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقة، وأنواع الإحسان، ونحو ذلك، مما أمر اللّه به، وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم. انتهى.
وهذا معلوم ظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فتقول له السيدة عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا. متفق عليه.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: الحديث يدل على مشروعية إجهاد النفس في العبادة من الصلاة وغيرها ما لم يؤده ذلك إلى الملال، وكانت حاله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الأحوال. انتهى.
وقال ابن بطال في شرح البخاري: قال المهلب: فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبدا شكورا" فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا ؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله في النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأسوة. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الاجتهاد في العبادة والخشية من ربه. اهـ.
والمقصود أن هذا الأثر يدل على خلاف ما يريده السائل الكريم، فإن فيه دلالة ظاهرة على أن الأمر لو دار بين الإثم وعدمه، أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم كان لما يبعده عن الإثم، وهذا هو مقتضى ورع المتقين فضلا عن النبيين.
أما في الأمور المباحة المستوية الطرفين فيستحب للمسلم أن يخفف على نفسه باختيار الأيسر.
وأما مسألة اختيار الأيسر من أقوال أهل العلم عند اختلافهم، فهذا لا يصح؛ فإن الأحكام الشرعية لا تؤخذ بالهوى ولا بالتشهي، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 118257.
وعلى المسلم إن كان له قدرة على النظر في الأدلة أن يأخذ من أقوالهم ما كان أظهر وأرجح دليلا، ولا يتتبع الرخص ولا يرجح بالتشهي. وإن كان عاميا -أي غير متخصص في علوم الشريعة، ولا له نظر في الأدلة- فعليه أن يستفتي أهل العلم والورع من غير ترخص، ثم ينبغي التنبه إلى أن الأخذ بالأحوط عند اختلاف العلماء أولى.
ويمكنك مراجعة ذلك في الفتويين: 6787، 1839.
والله أعلم.