عنوان الفتوى : لا تعارض بين قطعي الوحي وقطعي العقل
أنا شاب غير متدين ولكن أحب التفكر ووجدت الرغبة في الالتزام وحفظت 7 أجزاء من القرآن، ولكن أنقذوني أخاف أن أصل إلى الإلحاد، اشرحوا لي لماذا نظرة الدين للكون والحياة مختلفة عن نظرة العلم، فالقرآن يصور الكون كأنه أرض وسماء وبينها الشمس والقمر والنجوم ـ كغرفة أرضها هي الأرض وسقفها السماء ـ ومع الاكتشافات الحديثة رأينا أن الأرض ما هي إلا كذرة غبار بالنسبة للكون، ولكن التصوير القرآني للأرض وكأنها نصف الكون، فمثلا: جنة عرضها كعرض السماء والأرض، ولكن زيادة حجم الأرض للسماء لا يؤثر على الحجم الكلي شيئا، فهنا وإن لم يكن هناك خطأ علمي بمعنى الخطإ ولكن من ناحية بلاغية أنا غير قادر أن أتقبلها وكأني أقول ـ حجم بيتي كحجم بيت سعيد وجحر النملة ـ وكذلك حركة الشمس ودوران الأرض وحديث الرسول حول سجود الشمس تحت العرش وغيرها الكثير، مثل نظرية داروين وإثباتاتها العلمية وإيمان الكثير من سكان الأرض بها، قرأت الكثير والكثير من رد الشبهات ولا أستطيع أن أقتنع، تدمرت حياتي، اللهم اغفر لي اللهم اغفر لي اللهم اغفر لي اللهم لا تؤاخذني بما أجد من الوسوسة اللهم تب علي ولا تؤاخذني بهذا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما ما ذكره السائل عن تصوير القرآن للكون فمغالطة واضحة، ويكفيك أن تعلم أن أهل العلم منذ قرون عديدة قد نصوا على خلاف هذا الدعوى الخاطئة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفي سنة 728هـ: اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل، وهي في الماء المحيط بأكثرها إذ اليابس السدس وزيادة بقليل والماء أيضاً مقبب من كل جانب للأرض، وإذا كانت سماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كروية، وكذا الباقي، والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة، والجملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع، فإن لفظ ـ الفلك ـ يدل على الاستدارة، ومنه قوله تعالى: وكل في فلك يسبحون، قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل، ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار، وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك. انتهى.
وقال أيضاً: دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على مثل ما عليه أهل المعرفة من أهل الحساب من أن الأفلاك مستديرة لا مسطحة. انتهى.
وقال أيضاً: ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وقال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وقال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ.
والتكوير هو التدوير، ومنه قيل: كار العمامة وكورها، إذا أدارها، ومنه قيل للكرة: كرة، وهي الجسم المستدير، ولهذا يقال للأفلاك: كروية الشكل، ومنه الحديث: إن الشمس والقمر يكوران يوم القيامة كأنهما ثوران في نار جهنم، وقال تعالى: الشمس والقمر بحسبان. مثل حسبان الرحى، وقال: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما، فإنه يتفاوت، لأن زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ليس بعضه مخالفاً لبعض. انتهى.
فهذه نصوص واضحة لواحد من علماء الإسلام مضى على موته الآن ما يربو على سبعمائة عام يبين فهمه للقرآن والعلوم الكونية، وينص على كروية الأرض وجميع الأفلاك، وينص على مقارنة حجم الأرض بالنسبة إلى ما فوقها من الأفلاك، وأنه كحلقة في فلاة، وهو يوافق ما ذكره السائل في مقارنة حجم الأرض بالنسبة للسماء، وهذا لا يُشكل على الآية المذكورة في تشبيه سعة الجنة بعرض السماء والأرض، لأن القرآن لم ينزل لفئة محدودة من البشر في وقت معين، كعلماء الفلك في عصرنا هذا، ولكنه نزل ليكون هداية للناس كافة على اختلاف طبقاتهم ومؤهلاتهم في كل عصر وحين، وليس هناك من شك أن لغة العرب التي نزل بها القرآن لها أساليبها في التعبير، ومثل هذا الأسلوب في الجمع بين السماء والأرض للدلالة على السعة أمر معروف عندهم، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: ذكر السماوات والأرض على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع. انتهى.
وهذا هو الأسلوب الأمثل للتعبير عن المعنى المراد، فكما كان القدماء يعظمون حجم الأرض ويصفونه بالسعة، فكذلك نحن نعلم من حجم السماء وسعتها واحتوائها على المجرات العملاقة ما كانوا يجهلون، فيبقى لكل فريق ما يتمسك به لفهم دلالة الآية على السعة العظيمة التي لا يكاد يدركها العقل، وقد سبقت الإشارة إلى نحو هذا المعنى في الفتوى رقم: 65815.
وأما ما يتعلق بدوران الأرض، فقد سبق أن فصلناه في الفتاوى التالية أرقامها: 12870، 56931، 60279، 22383.
وكذلك حركة الشمس وسجودها تحت العرش، سبق أن بيناه في الفتاوى التالية أرقامها: 99520، 26538، 61100، 13678، 103017، 39301.
وأما نظرية التطور فقد رفضها المنصفون من أهل العلم على اختلاف مللهم، ويمكنك أن ترجع في ذلك كتاب خديعة التطور ـ الانهيار العلمي لنظرية التطور وخلفياتها الأيديولوجية ـ للأستاذ هارون يحيى.
كما يمكن الاستفادة من مناقشة نظرية دارون، في الفتاوى التالية أرقامها: 4755، 57722، 119411.
ثم ليعلم السائل الكريم أنه لا تعارض بين قطعي الوحي وقطعي العقل، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 26538.
وأخيراً ننصح السائل الكريم بكثرة القراءة في كتب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: ككتابات الشيخ الزنداني والدكتور زغلول النجار، فسيجد فيها ما تطمئن به نفسه، ويعلم أن القرآن الكريم لا يخالف النظريات الثابتة بل يدل عليها ويؤيدها، وننصحه كذلك بقراءة كتاب ـ الإسلام يتحدى ـ لوحيد الدين خان.
والله أعلم.