تفسير سورة النساء [88-92]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]. قوله: ((فما لكم في المنافقين)) يعني: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين؟! وكيف تختلفون على أمر المنافقين؟! ((فئتين)) يعني: فرقتين أي: كيف لم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام هنا للإنكار والنفي، والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ فهو متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك الميل، وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ من المنافقين؛ لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية. وقد قيل: إن المراد بهم هاهنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا، كما تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران.

سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم ...)

يوضح ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس قد خرجوا معه في الجيش، وثبطوا الناس عن القتال، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم مؤمنون -يعني: باعتبار ما كانوا يظهرون- فأنزل الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة -يعني: المدينة- وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد) يعني: المدينة تطرد المنافقين منها وتتخلص منهم. وذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد: أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع يومئذٍ بثلث الجيش -وهم ثلاثمائة- وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة. وثمة رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف : (أن قوماً من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ [النساء:88]) أي: نكسهم وردهم إلى الكفر. (بما كسبوا) يعني: بسبب ما كسبوا من لحاقهم بالكفار، وابتعادهم عن المؤمنين. (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) تهدوا هنا بمعنى: أن تصفوا بالهداية من أضل الله، وأن تعدوا هؤلاء الضلال من جملة المهتدين. فهنا توبيخ على هذا الفعل من المؤمنين الذين لم يعدوا هؤلاء منافقين ويبرءوا منهم، وإشعار بأن هذا الأمر منهم يؤدي إلى أن يعدوا هؤلاء المنافقين من جملة المهتدين وهو من المحال؛ لأن هداية من أضله الله تعالى من المستحيل، فإنه من يضلل الله فلا هادي له، لذلك يقول الله لهم: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله). (ومن يضلل الله) يعني: عن دينه. (فلن تجد له سبيلاً) أي: طريقاً إلى الهدى.

يوضح ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس قد خرجوا معه في الجيش، وثبطوا الناس عن القتال، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم مؤمنون -يعني: باعتبار ما كانوا يظهرون- فأنزل الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة -يعني: المدينة- وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد) يعني: المدينة تطرد المنافقين منها وتتخلص منهم. وذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد: أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع يومئذٍ بثلث الجيش -وهم ثلاثمائة- وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة. وثمة رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف : (أن قوماً من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ [النساء:88]) أي: نكسهم وردهم إلى الكفر. (بما كسبوا) يعني: بسبب ما كسبوا من لحاقهم بالكفار، وابتعادهم عن المؤمنين. (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) تهدوا هنا بمعنى: أن تصفوا بالهداية من أضل الله، وأن تعدوا هؤلاء الضلال من جملة المهتدين. فهنا توبيخ على هذا الفعل من المؤمنين الذين لم يعدوا هؤلاء منافقين ويبرءوا منهم، وإشعار بأن هذا الأمر منهم يؤدي إلى أن يعدوا هؤلاء المنافقين من جملة المهتدين وهو من المحال؛ لأن هداية من أضله الله تعالى من المستحيل، فإنه من يضلل الله فلا هادي له، لذلك يقول الله لهم: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله). (ومن يضلل الله) يعني: عن دينه. (فلن تجد له سبيلاً) أي: طريقاً إلى الهدى.

قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89]. (ودوا لو تكفرون كما كفروا) هذا كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر، وتصديهم لإضلال غيرهم، أي: أنه سبحانه بعدما بين كفرهم وضلالهم في أنفسهم بين تعالى هنا أنهم أيضاً ساعون في إضلال غيرهم، وصدهم عن سبيل الله. (ودوا لو تكفرون كما كفروا) يعني: تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان، (فتكونون سواء) في الكفر والضلال. (فلا تتخذوا منهم أولياء) يعني: في العون والنصرة؛ لأنكم إذا واليتموهم فإن ذلك يؤدي ويئول بكم إلى الكفر؛ لأن موالاة الكفار من الكفر. وإن أظهروا لكم الإيمان طلباً لموالاتكم، فلا تتخذوا منهم أولياء. (حتى يهاجروا) يعني: حتى يهاجروا في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، فحينئذٍ تتحققون من صحة إيمانهم. (فإن تولوا) يعني: عن الهجرة. (فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) يعني: وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة فافعلوا بهم ما تفعلونه بالكفار؛ لأنهم حينما ينحازون من المؤمنين إلى الكافرين وهم قادرون على الهجرة من وسط الكافرين إلى وسط المؤمنين، ومع ذلك يؤثرون الانحياز إلى معسكر الكافرين، فهنا خرجوا من صفة النفاق وأظهروا الكفر بتحيزهم للكافرين. (فخذوهم) هذا أمر باتخاذهم أسرى. (واقتلوهم حيث وجدتموهم) يعني: سواء كان ذلك في الحل أو في الحرم. (ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً) يعني: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك. فهذه الآية تدل على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا متأكد بعموم قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن الدين هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به لطلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، فأعظم أنواع العداوة ما كان بسبب الدين، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه، كأن يعادي دينك ويعادي الله سبحانه وتعالى ويعادي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعروف معلوم أن أكثر مسائل الإيمان أدلة بعد التوحيد هي قضية الولاء والبراء، فهي أكثر قضايا الإيمان من حيث أدلتها بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، وبلا شك فإن هذه القضية وثيقة الصلة بالإيمان والتوحيد.

قال تبارك وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]. (إلا الذين يصلون) يعني: الذين يلجئون. (إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) يعني: عهد هدنة أو أمان، فاجعلوا حكمهم كحكمهم؛ لأن هذا سيؤدي إلى قتال من وصلوا إليه، فيفضي إلى نقض الميثاق. وفي هذا احترام للعهود والمواثيق، يعني: الحكم السابق في قوله تبارك وتعالى: (فإن تولوا) أي: عن الهجرة وانحازوا للكفار مع قدرتهم على الهجرة إليكم. (فخذوهم) يعني: بالأسر. (واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل أو الحرم. (ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً). من الذي يستثنى من هؤلاء المذكورين؟! يستثنى من لجأ إلى قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق، ففي هذه الحالة ينبغي عدم التعرض له، بل يعامل كمعاملة هؤلاء الذين لهم عهد ولهم هدنة ولهم ميثاق؛ لأنه إذا دخل هذا في جوار هؤلاء القوم الذين لهم عهد وميثاق، وحاول المسلمون أن يقتلوه وهو في جوارهم فهذا سيؤدي إلى قتال هؤلاء المعاهدين، وبالتالي تنقض العهود، ومن ثم أمر الله سبحانه وتعالى بأن هؤلاء يعاملون كمعاملة هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق. (أو جاءوكم حصرت صدورهم) يعني: وهؤلاء الذين جاءوكم يستثنون مع هؤلاء اللاجئين. (حصرت صدورهم) يعني: قد ضاقت وانقبضت نفوسهم. (أن يقاتلوكم) لإرادتهم المسالمة فهم يريدون أن يكونوا سلماً لكم، ويكرهون وتضيق نفوسهم بأن يقاتلوكم. (أو يقاتلوا قومهم) أي: معكم لمكان القرابة منهم، فهؤلاء لا يريدون أن يقاتلوكم، ولا يريدون أن يضموا إليكم ليقاتلوا قومهم وقبيلتهم، فهم لا لكم ولا عليكم. إذاً المستثنى هنا من المأمور بأخذهم فريقان: أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. الآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين. (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن التعرض لقتلهم فيه إظهار لقوتهم الخفية، فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل. (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) يقول القاسمي : فيها إشعار بأنه لديهم قوة كاملة هم يستطيعون أن يقاتلوكم، لكن الله هو الذي كف أيديهم عنكم، وأنتم إذا تعرضتم لقتلهم فستستفزونهم، وبالتالي سيأخذون موقفاً معادياً ويشرعون في قتالكم، هذا هو التعليل لسبب استثنائهم من الأخذ والقتل. (فإن اعتزلوكم) يعني: إن تركوكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك. (فلم يقاتلوكم) مع أنهم متمكنون من قتالكم وقادرون على قتالكم، لكن الله سبحانه وتعالى كفهم عنكم. (وألقوا إليكم السلم) أي: الانقياد والاستسلام. (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي: ليس لكم حق في أن تأخذوهم بالأسر أو بالقتل، إذ لا ضرر منهم على الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ولما رجع ناس من معركة أحد -وهم المنافقون- اختلف الناس فيهم، فقال فريق: نقتلهم، وقال فريق: لا، فنزل: (فما لكم) أي: ما شأنكم صرتم (في المنافقين فئتين) فرقتين، لذلك فإن إعراب كلمة فئتين يكون بتقدير كلمة صرتم. (والله أركسهم) أي: ردهم. (بما كسبوا) من الكفر والمعاصي. (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) أتريدون أن تهدوا من أضله الله، أي: تعدوهم من جملة المهتدين، والاستفهام في الموضعين للإنكار. (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً) أي: ومن يضلله الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى. (ودوا) أي: تمنوا. (لو تكفرون كما كفروا فتكونون) أنتم وهم (سواءً) في الكفر. (فلا تتخذوا منهم أولياء) توالونهم وإن أظهروا لكم الإيمان. (حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم. (فإن تولوا) يعني: عن الهجرة كما ذكرنا وأقاموا على ما هم عليه. (فخذوهم) بالأسر. (واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً) توالونه (ولا نصيراً) تنتصرون به على عدوكم. (إلا الذين يصلون) يلجئون. (إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد بالأمان لهم، كما عاهد صلى الله عليه وسلم هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعين على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعينه، على أن من لجأ إليه لا يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم له. (أو) الذين (جاءوكم) وقد (حصرت) ضاقت، (صدورهم) عن (أن يقاتلوكم) مع قومهم، (أو يقاتلوا قومهم) معكم، أي: ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرضوا إليهم بأخذ ولا قتل. وهذا وما بعده منسوخ بآية السيف. وسبق البيان أن معنى النسخ في مثل هذه المواضع من القرآن الكريم يتفاوت بحسب حال المسلمين، أما النسخ الآخر كنسخ الخمر والربا أو غير ذلك من الأشياء التي نسخ حكمها تماماً. (ولو شاء الله) تسليطهم عليكم، (لسلطهم عليكم) بأن يقوي قلوبهم، (فلقاتلوكم) ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب. (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) الصلح أي: انقادوا. (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي: طريقاً بالأخذ أو القتل.

قال تبارك وتعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91]. (ستجدون آخرين) أي: أقواماً آخرين. (يريدون أن يأمنوكم) على أنفسهم بأن يظهروا لكم الإسلام. (ويأمنوا قومهم) يعني: بإظهار الكفر. فهؤلاء يريدون أن يأمنوكم بإظهار الإسلام لكم، ويأمنوا قومهم بإظهار الكفر لهم. (كلما ردوا إلى الفتنة) كلما دعوا إلى الارتداد وإلى الشرك. (أركسوا فيها) أي: رجعوا إلى الشرك منكوسين على رءوسهم. (فإن لم يعتزلوكم) إن لم يتنح عنكم هؤلاء جانباً، بأن يكونوا لا معكم ولا عليكم. (ويلقوا إليكم السلم) يعني: ولم ينقادوا لكم. (ويكفوا أيديهم) يعني: عن قتالكم. (فخذوهم) أي: خذوهم أسرى. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي: حيث وجدتموهم في داركم أو في دارهم. (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) يعني: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلاً وسبياً؛ بسبب عداوتهم وغدرهم وإضرارهم بأهل الإسلام، أو تسلطاً ظاهراً في أخذهم وقتلهم لغدرهم.

أقوال المتقدمين من أهل التفسير في قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ...

يقول الحافظ ابن كثير: قال تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء المذكورين قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]. وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا. وقال الأكثرون من المفسرين: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، وقوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190] فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم) بإظهار الإيمان عندكم. (ويأمنوا قومهم) بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم بنو أسد وغطفان. (كلما ردوا إلى الفتنة) دعوا إلى الشرك. (أركسوا فيها) يعني: وقعوا أشد وقوع. (فإن لم يعتزلوكم) بترك قتالكم. (ويلقوا) ولم يلقوا إليكم السلم. (ويكفوا أيديهم) عنكم. (فخذوهم) بالأسر. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) وجدتموهم. (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) برهاناً بيناً ظاهراً على قتلهم وسبيهم؛ لغدرهم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2814 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2614 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2578 استماع
تفسير سورة البلد 2563 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2556 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2540 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2499 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2435 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2407 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2397 استماع