العزة في دروس الهجرة (التقويم الهجري)


الحلقة مفرغة

الحمد لله خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، أبدع ما خلق، وأتقن ما صنع حكمةً وتدبيراً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان على كل شيءٍ قديراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق بالحق بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- حيثما كنتم، فهو سبحانه يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، فزكوا نفوسكم بالتوبة وطهروها، وأيقظوها من سِنَة الغفلة وذكّروها أن لكم موعداً لن تُخلَفوه، وموقفاً بين يدي ربكم لا بد أن تقفوه، ولسوف تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.

أيها المسلمون: إن العزة والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في نفوس المسلمين، وتعهَّد نماءها بما شرع من عقائد، وسن من أحكام، ووجَّه من آداب؛ فالمؤمن عزيزٌ بما أعزه الله، وبما منحه من كرامة، قال الله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] له الكرامة والعلو: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].

وكيف لا يكون عزيزاً وهو في معية الله وكنفه ورعايته؟!

أي تكريمٍ وإعزاز أعظم وأعلى من مخلوقٍ استخلفه الله في أرضه، وسخر له مخلوقاته في أرضه وسماواته، وكلفه بإقامة الحق، ونشر العدل، وإشاعة الخير، وبسط الفضيلة؟!

ربه في معيته، والملائكة الكرام في حفظه، ويطمع ويطمح بإيمانه أن يكون رفيقاً للَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً!

هل بعد هذه المعاني الكبيرة، والمشاعر العالية من تكريمٍ وعزة؟!

إنها إذا سرت في كيان فرد، جعلت منه إنساناً كريماً، كبير الآمال، واثق الخطى، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا تخضع رقبته لجبار، أبِيَّاً على الضيم، عصيَّاً على الذل والهوان.

إن المسلم بإيمانه وتوحيده، وحسن ظنه بربه، ينقل أقدامه على هذه الأرض مكيناً كريماً في عزة وخضوعٍ لله وخشوعٍ وخشيةٍ وتقوى ومراقبةٍ لله في السراء والضراء.

ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية يصمد المؤمن ويصد كل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا يتطلع إلا إلى رضا مولاه.

يقال ذلك -أيها الإخوة- والمتحدثون يتحدثون هذه الأيام عن الهجرة وحَدَثها، وتاريخها، وعبرها، ولكنه مع الأسف في كثيرٍ من أحواله حديث ذكريات وسرد لأحداثٍ مضت وانقضت، من غير توجهٍ جاد نحو الاستفادة الحقة والتأسي الصادق واقتران الأقوال بالأعمال.

وإن من أهم الوقفات التي تستوقف المتأمل، ويتوجه إليها الحديث -وهو حديث المناسبة- موقف العزة الذي تجلى من خلال هذه الهجرة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار وأرضاهم.

وإن درس العزة تحتاجه الأمة في حوالك أيامها، ومظاهر تسلط أعدائها، وصور الذلة والخنوع في كثيرٍ من جنباتها.

إن درس العزة والثقة يتجلى في ثقة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بربه، ويقينه بحفظه ونصره، قال الله تعالى: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40] ثم يقول عليه الصلاة والسلام لصاحبه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).

ليكن العدو من يكون وما يكون، في شدته وبطشه وقوة سلاحه وكثرة جنده، فالله أقوى، والمسلم بربه أعز، ولن يُغْلَب صفٌ يكون رب العزة معه بالنصر والتأييد.

أهمية التاريخ العمري في حياة الأمة الإسلامية

أيها الإخوة: وهذه وقفةٌ معاصرة، يستبينها درس الهجرة، تبين مدى ما أصاب المسلمين من غفلةٍ واستكانة وانهزام، ومدى ما بلغه الأعداء من تمكنٍ وهيمنة.

حساب السنين بتاريخ الهجرة سُنَّةٌ عُمَرية، هدى الله عز وجل إليها أمير المؤمنين المُحَدَّث عمر بن الخطاب وإخوانه من الصحابة، رضوان الله عليهم، حين تشاوروا في وضع تاريخ يبدأ منه حساب المسلمين، لقد اتفقوا على حدث الهجرة، لأنه الحدث الذي قامت به دولة الإسلام، وصارت به للمسلمين دار، ونشأ لهم به كيان، وشهر الله المحرم جاء بعد شهر الحج، والحج هو آخر الفرائض الكبرى تشريعاً.

فاليوم في الإسلام يبدأ من غروب الشمس، والشهر يبدأ من ظهور الهلال، والسنة تبدأ من شهر الله المحرم، هذا هو تاريخ المسلمين، وهذا ما جرى عليه عملهم، وتعاملوا به في كتبهم ومكاتباتهم، ومواعيدهم وآجال حقوقهم وديونهم، إنه تاريخٌ في ذاكرة كل مسلم، عند إشراقة شمس كل يوم، وإطلالة كل شهر، وحلول كل عام.

وظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يؤرخون به أحداثهم، ويسجلون به وقائعهم، ويكتبون به مكاتباتهم، ويثبتون به مواعيدهم، ويقدِّرون به أعمارهم، بل تقوم جملةٌ من الأحكام على هذا التاريخ المجيد.

لقد صار هذا التاريخ مترسخاً في نفوس كل المسلمين، عامتهم وعلمائهم، منذ الطفولة المميزة وحتى الشيخوخة المتأخرة، فهو مرتبط بهم ارتباط الأحكام بمواقيتها: في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفي جزئيات الأحكام: في العيدين، وأيام البيض، وستٍ من شوال، وعشرٍ من ذي الحجة، وأيام التشريق، وعاشوراء، في أحكامٍ وأيام لا تقع تحت حصر، يضاف إلى ذلك أيام الإسلام المجيدة المرتبطة بأحداث التاريخ، من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرته، وأيامه، ثم فتوحات الإسلام من بعده في القادسية ، واليرموك ، وفتح الأندلس ، وحطين ، والقسطنطينية ، وكل انتصارات المسلمين، وتاريخ أئمة الإسلام وأعلام الأمة.

تخلي الأمة عن تاريخها سبب من أسباب انهزامها

وماذا حدث أيها الإخوة؟!

لقد جاءت عهود الاحتلال من قِبَل الأعداء، فاحتُلَّت كثيرٌ من ديار المسلمين، وتنبه هؤلاء الأعداء المحتلون لدور هذا التاريخ وأثره في ربط المسلمين بدينهم ومجدهم، في يومهم وشهرهم وعامهم.

لقد أدركوا دور هذا في الدين والتاريخ، فخططوا للفصل بين ذاكرة الأمة وتاريخها، فأدخلوا تاريخاً لا يمت لشعائر الإسلام بصلة، ولا تذكّرها أيامه وشهوره وأعوامه بدينها وأحكامها ومجدها، بل إنه تاريخٌ يُشَوِّش الأذهان، ويخلط الأزمان، تاريخٌ يُشْعِر المسلمين بالذلة والتبعية والدونية.

لقد عمل الأعداء ودأبوا حتى استطاعوا اقتلاع التاريخ الهجري الإسلامي العُمَري الراشدي من جميع بلاد المسلمين، ما عدا بلاد الحرمين الشريفين ، صانها الله وحماها، وستظل بإذن الله حافظةً للعهد، قائمة بالحق، صامدةً ثابتة، مع علمنا وإدراكنا لمحاولة الأعداء التي لا تنثني -مما يؤكد ضرورة اليقظة- ولكنها ثابتةٌ بإذن الله، وكيف لا يكون ذلك، وهي البلاد التي تُحَكِّم شرع الله، وانطلقت منها البعثة والهجرة، وانبعثت منها أفواج الفتوح ورايات الحق؟!

أيها الإخوة: إن موقف الدرس والعبرة، وحديث العزة والهجرة، ليستوقف المتأمل، كيف ألغت غالبية المسلمين من ذاكرتها الشهور الهلالية، والسنين الهجرية، والقرون الإسلامية، وأحلت محلها تاريخ الأعداء وقرون المحتلين؟!

الله أكبر! ما هذه الذلة؟! وما هذه المهانة؟!

لقد جعلوا التاريخ الذي وضعه يوليوس قيصر بدلاً من التاريخ الذي وضعه عمر إمامهم وخليفتهم وصاحب نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ورضي الله عن عمر وعن الصحابة أجمعين.

لقد رحل المحتل بعسكره، ولكنه مع الأسف قد غرس البذور في رءوس المنهزمين والمهازيل والأذلاء، فحصلت الاختراقات المطلوبة، فعندما رحل الأعداء كان الطمس قد عم، والانحلال قد حل، وإن شئتم مزيداً من المآسي؛ فانظروا كم تتحدث الصحف ووسائل الإعلام عن الاستعداد والتخطيط لدخول القرن الحادي والعشرين.

إنها أمورٌ تُحْشَر حشراً، وإصرارٌ على حشو الأذهان بها قسراً، وكأن دورة الكون والتقدم الحضاري للبشرية، مرتبطة بهذه القرون وحدها.

إنكم لتعلمون، ويعلم كل منصفٍ عزيزٍ مستقل، أن التقدم الإنساني ليس مرتبطاً بقرنٍ دون قرن، فالمسيرة الإنسانية قد بدأت فيما مضى، وسوف تستمر بإذن الله وما شاء الله، ولا علاقة لها بحساب السنين من أي نوعٍ كان، شمسياً أو قمرياً أو غيرها.

أيها الإخوة: إنه لمن المحزن والمخزي، وإنه لمن الذلة والهوان أن ترى دول الإسلام تؤرِّخ وتحتفل وتبتهج بتاريخ الذين طمسوا دينها، وألغوا تاريخها، وامتهنوا موروثاتها.

كيف ترضى أمةٌ هي خير أمةٍ أخرجت للناس، بمن يمحو ذاكرتها، وذاكرة شعوبها، ويلغي تاريخها ويطمس مجدها؟!

وإن مما يسوء أن ترى أقلاماً في الأمة، وعقولاً في الناس، قد جدَّت في سلوك مسالك السخرية بتراث الأمة، والتشكيك في ثوابتها، ليتجلى فيها ومن خلالها إهدار الكرامات، واستباحة الحرمات، وتَرْهَقَ الوجوهَ الذلةُ، ويروجَ الباطلُ، وينزوي الحق، ويسود المنكر، ويتلاشى المعروف.

إنها زرافاتٌ من حملة الأقلام، ووجوه الإعلام، قد صُنِعَت رءوسهم خارج ديار الإسلام.

إن تصورَهم لكثيرٍ من حقائق الإسلام، وحكمَهم في كثيرٍ من القضايا لا صلة له -والله- بدين الله، ولا ارتباط له البتة بشرع الله، بل مع الأسف كل الأسف أن آخر ما يهتمون به هو الإسلام وحاضره وتاريخه ومستقبله ومصيره.

لقد كان المخلصون يظنون أن زوال الاحتلال وانكشاف خطط الأعداء كفيلٌ بإعادة هؤلاء إلى صوابهم، ولقد ازداد الأمر وضوحاً وجلاءً في معركة أهل الإسلام هذه الأيام مع اليهود المحتلين ومَن شايعهم!

أما كان هذا كافياً في مراجعة الحسابات وتصحيح الأخطاء؟!

ولكن مع شديد الأسى لقد كان كثيرٌ من ذلك وهماً، مع علمهم الجازم أنهم هاجت في دمائهم أصول ديانتهم المحرفة ولوثات تعصبهم المقيت، فهجموا على بلاد الإسلام، يبغون محو الأمة والدين والحضارة، وفي ملاقاة هذا العدوان لا تسمع إلا أحاديث الكُتَّاب والمثقفين عن اللهو والغناء، والتسابق المحموم في قنوات الرقص والمجون، فضلاً عن المنكر الصارخ في الإلحاد والتنكر للدين والتاريخ والتراث.

أيها الإخوة: وهذه وقفةٌ معاصرة، يستبينها درس الهجرة، تبين مدى ما أصاب المسلمين من غفلةٍ واستكانة وانهزام، ومدى ما بلغه الأعداء من تمكنٍ وهيمنة.

حساب السنين بتاريخ الهجرة سُنَّةٌ عُمَرية، هدى الله عز وجل إليها أمير المؤمنين المُحَدَّث عمر بن الخطاب وإخوانه من الصحابة، رضوان الله عليهم، حين تشاوروا في وضع تاريخ يبدأ منه حساب المسلمين، لقد اتفقوا على حدث الهجرة، لأنه الحدث الذي قامت به دولة الإسلام، وصارت به للمسلمين دار، ونشأ لهم به كيان، وشهر الله المحرم جاء بعد شهر الحج، والحج هو آخر الفرائض الكبرى تشريعاً.

فاليوم في الإسلام يبدأ من غروب الشمس، والشهر يبدأ من ظهور الهلال، والسنة تبدأ من شهر الله المحرم، هذا هو تاريخ المسلمين، وهذا ما جرى عليه عملهم، وتعاملوا به في كتبهم ومكاتباتهم، ومواعيدهم وآجال حقوقهم وديونهم، إنه تاريخٌ في ذاكرة كل مسلم، عند إشراقة شمس كل يوم، وإطلالة كل شهر، وحلول كل عام.

وظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يؤرخون به أحداثهم، ويسجلون به وقائعهم، ويكتبون به مكاتباتهم، ويثبتون به مواعيدهم، ويقدِّرون به أعمارهم، بل تقوم جملةٌ من الأحكام على هذا التاريخ المجيد.

لقد صار هذا التاريخ مترسخاً في نفوس كل المسلمين، عامتهم وعلمائهم، منذ الطفولة المميزة وحتى الشيخوخة المتأخرة، فهو مرتبط بهم ارتباط الأحكام بمواقيتها: في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفي جزئيات الأحكام: في العيدين، وأيام البيض، وستٍ من شوال، وعشرٍ من ذي الحجة، وأيام التشريق، وعاشوراء، في أحكامٍ وأيام لا تقع تحت حصر، يضاف إلى ذلك أيام الإسلام المجيدة المرتبطة بأحداث التاريخ، من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرته، وأيامه، ثم فتوحات الإسلام من بعده في القادسية ، واليرموك ، وفتح الأندلس ، وحطين ، والقسطنطينية ، وكل انتصارات المسلمين، وتاريخ أئمة الإسلام وأعلام الأمة.

وماذا حدث أيها الإخوة؟!

لقد جاءت عهود الاحتلال من قِبَل الأعداء، فاحتُلَّت كثيرٌ من ديار المسلمين، وتنبه هؤلاء الأعداء المحتلون لدور هذا التاريخ وأثره في ربط المسلمين بدينهم ومجدهم، في يومهم وشهرهم وعامهم.

لقد أدركوا دور هذا في الدين والتاريخ، فخططوا للفصل بين ذاكرة الأمة وتاريخها، فأدخلوا تاريخاً لا يمت لشعائر الإسلام بصلة، ولا تذكّرها أيامه وشهوره وأعوامه بدينها وأحكامها ومجدها، بل إنه تاريخٌ يُشَوِّش الأذهان، ويخلط الأزمان، تاريخٌ يُشْعِر المسلمين بالذلة والتبعية والدونية.

لقد عمل الأعداء ودأبوا حتى استطاعوا اقتلاع التاريخ الهجري الإسلامي العُمَري الراشدي من جميع بلاد المسلمين، ما عدا بلاد الحرمين الشريفين ، صانها الله وحماها، وستظل بإذن الله حافظةً للعهد، قائمة بالحق، صامدةً ثابتة، مع علمنا وإدراكنا لمحاولة الأعداء التي لا تنثني -مما يؤكد ضرورة اليقظة- ولكنها ثابتةٌ بإذن الله، وكيف لا يكون ذلك، وهي البلاد التي تُحَكِّم شرع الله، وانطلقت منها البعثة والهجرة، وانبعثت منها أفواج الفتوح ورايات الحق؟!

أيها الإخوة: إن موقف الدرس والعبرة، وحديث العزة والهجرة، ليستوقف المتأمل، كيف ألغت غالبية المسلمين من ذاكرتها الشهور الهلالية، والسنين الهجرية، والقرون الإسلامية، وأحلت محلها تاريخ الأعداء وقرون المحتلين؟!

الله أكبر! ما هذه الذلة؟! وما هذه المهانة؟!

لقد جعلوا التاريخ الذي وضعه يوليوس قيصر بدلاً من التاريخ الذي وضعه عمر إمامهم وخليفتهم وصاحب نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ورضي الله عن عمر وعن الصحابة أجمعين.

لقد رحل المحتل بعسكره، ولكنه مع الأسف قد غرس البذور في رءوس المنهزمين والمهازيل والأذلاء، فحصلت الاختراقات المطلوبة، فعندما رحل الأعداء كان الطمس قد عم، والانحلال قد حل، وإن شئتم مزيداً من المآسي؛ فانظروا كم تتحدث الصحف ووسائل الإعلام عن الاستعداد والتخطيط لدخول القرن الحادي والعشرين.

إنها أمورٌ تُحْشَر حشراً، وإصرارٌ على حشو الأذهان بها قسراً، وكأن دورة الكون والتقدم الحضاري للبشرية، مرتبطة بهذه القرون وحدها.

إنكم لتعلمون، ويعلم كل منصفٍ عزيزٍ مستقل، أن التقدم الإنساني ليس مرتبطاً بقرنٍ دون قرن، فالمسيرة الإنسانية قد بدأت فيما مضى، وسوف تستمر بإذن الله وما شاء الله، ولا علاقة لها بحساب السنين من أي نوعٍ كان، شمسياً أو قمرياً أو غيرها.

أيها الإخوة: إنه لمن المحزن والمخزي، وإنه لمن الذلة والهوان أن ترى دول الإسلام تؤرِّخ وتحتفل وتبتهج بتاريخ الذين طمسوا دينها، وألغوا تاريخها، وامتهنوا موروثاتها.

كيف ترضى أمةٌ هي خير أمةٍ أخرجت للناس، بمن يمحو ذاكرتها، وذاكرة شعوبها، ويلغي تاريخها ويطمس مجدها؟!

وإن مما يسوء أن ترى أقلاماً في الأمة، وعقولاً في الناس، قد جدَّت في سلوك مسالك السخرية بتراث الأمة، والتشكيك في ثوابتها، ليتجلى فيها ومن خلالها إهدار الكرامات، واستباحة الحرمات، وتَرْهَقَ الوجوهَ الذلةُ، ويروجَ الباطلُ، وينزوي الحق، ويسود المنكر، ويتلاشى المعروف.

إنها زرافاتٌ من حملة الأقلام، ووجوه الإعلام، قد صُنِعَت رءوسهم خارج ديار الإسلام.

إن تصورَهم لكثيرٍ من حقائق الإسلام، وحكمَهم في كثيرٍ من القضايا لا صلة له -والله- بدين الله، ولا ارتباط له البتة بشرع الله، بل مع الأسف كل الأسف أن آخر ما يهتمون به هو الإسلام وحاضره وتاريخه ومستقبله ومصيره.

لقد كان المخلصون يظنون أن زوال الاحتلال وانكشاف خطط الأعداء كفيلٌ بإعادة هؤلاء إلى صوابهم، ولقد ازداد الأمر وضوحاً وجلاءً في معركة أهل الإسلام هذه الأيام مع اليهود المحتلين ومَن شايعهم!

أما كان هذا كافياً في مراجعة الحسابات وتصحيح الأخطاء؟!

ولكن مع شديد الأسى لقد كان كثيرٌ من ذلك وهماً، مع علمهم الجازم أنهم هاجت في دمائهم أصول ديانتهم المحرفة ولوثات تعصبهم المقيت، فهجموا على بلاد الإسلام، يبغون محو الأمة والدين والحضارة، وفي ملاقاة هذا العدوان لا تسمع إلا أحاديث الكُتَّاب والمثقفين عن اللهو والغناء، والتسابق المحموم في قنوات الرقص والمجون، فضلاً عن المنكر الصارخ في الإلحاد والتنكر للدين والتاريخ والتراث.