مكانة المساجد


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وقد اختار من خلقه أشياء نسبها إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، ومن ذلك هذه المساجد التي سماها الله بيوت الله، وشرفها بذلك عما سواها من الأماكن؛ فجعلها بداية الدنيا فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:96-97]، جعل الله بداية الدنيا من البيت الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً، فمن هنالك ابتدأت الحضارة على هذه الأرض كلها، وشرف القدم يقتضي الاهتمام الزائد من خالق هذا الكون بهذه المساجد، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها )، فأحب المشاهد إلى الله هذه البيوت التي شرفها بأن أضافها إلى نفسه، وجعلها متمحضة لعبادته.

مشروعية الإنشاء والبناء

لقد خص الله سبحانه وتعالى المساجد بكثير من الخصائص ومن أعظمها: مشروعية إنشائها وبنائها، والأجر العظيم على ذلك؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من بنى لله مسجداً ولو قدر مفحص قطاة بنى الله به بيتاً في الجنة ).

وانظروا إلى قدر مفحص قطاة! والقطاة الطير الكدر التي تسكن في الأرياف والبوادي، ومفحصها المكان الذي تحفره لتستقر فيه عند البر، وبنى الله له بيتاً في الجنة مقابل ذلك القدر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمد بيده لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، وقال لأصحابه حين عجبوا من جبة أكيدر دومة الجندل ولمسوها بأيديهم كما في الصحيح، قال: ( والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بيوت الجنة فبين أنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن سقفها قباب من لؤلؤ وزبرجد منحوتة، يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، إنها بيوت الجنة، إن سعتها لا تقدر؛ فانظروا إلى الجنة التي هذه بيوتها وعرضها كعرض السماء والأرض.

إذا كان جزاء مفحص قطاة في هذه الدنيا يقابل بمثل هذه البيوت في الجنة فمعناه أن هذه البيوت صفقاتها رابحة، فيا أيها الراغبون في الربح! يا أيها التجار الذين يرغبون في زيادة الاستثمار! إن هذه البيوت هي مكان للاستثمار الرائج، هي التي دعاكم الله سبحانه وتعالى للاستثمار فيها فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ[الصف:10-12].

استثمار الأوقات فيها بالطاعة

إن هذه البيوت مكان للاستثمار في الأوقات وفي الجهد كله؛ فالنوع الثاني من أنواع تفضيلها أن وقت الإنسان فيها وقت شغلت فيه جوارحه عن معصية الله سبحانه وتعالى بطاعته؛ ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم الجلوس فيها رباطاً في سبيل الله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا أخبركم بما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط )، إنه جلوس لا يكلف؛ فالإنسان فيه ليس تحت بارقة السيوف، وليس في السجون، ولا في الأماكن التي يشق عليه الجلوس فيها، بل هو في راحة تامة وطمأنينة، يزاحم الملائكة الكرام المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويتعرف عليهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، ويجالس أهل الذكر الذين اختارهم الله لشغلهم بطاعته عن معصيته، فهو بذلك يرابط في سبيل الله سبحانه وتعالى بمجرد الجلوس في هذه البيوت الطيبة.

فضل قصد المساجد والمشي إليها

كذلك فإن قصدها بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلته فقال: ( بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، إن الظلمة التي يسير فيها الإنسان في آخر الليل إلى المسجد ثمنها النور التام يوم القيامة، عندما يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب؛ فيتخبط أهل النار في ظلماتهم أشد تخبط، ضرب الله لهم مثلا بقوم كانوا تحت مطر شديد، ورعد شديد وبرق، إذا أضاء لهم البرق أخذ أبصارهم، فلا يدركون شيئاً مما ينظرون إليه من شدة وقع البرق، وإذا انطفأ البرق انطفأ نورهم بالكلية؛ فلم يستطيعوا تقدماً ولا تأخراً؛ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ[البقرة:19]، فهذا حال أهل النار، نسأل من الله السلامة والعافية.

إننا محتاجون إلى النور التام يوم القيامة؛ ولذلك حضَّنا الله على سؤاله وبين أن أهل الإيمان يسألونه إياه؛ فحكى عنهم قولهم: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التحريم:8]، كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بذلك؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذهب إلى المسجد في آخر الليل يقول: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً )، وفي رواية: ( وأكمل لي نوراً )، وفي بعض الروايات أنها تبلغ تسع عشرة دعوة بالنور، فنحن محتاجون إلى هذا النور، وسوقه في الدنيا هي الظلمات على أبواب المساجد، فالذين يقصدونها في سدف الليل هم الذين يتمم الله نورهم يوم القيامة.

فضل التعليم والتعلم في المساجد

كذلك فإن من صفقاتها المربحة: أن جلوساً فيها لقصد التعليم أو التعلم بمثابة جهاد في سبيل الله يرجع منه الإنسان سالماً غانماً؛ فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، قال: من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. إنها غنيمة باردة يرجع بها الإنسان وهو ينوي عند خروجه أن يعلم أو يتعلم في المسجد، فيرجع كالمجاهد في سبيل الله غانماً، فسلم وغنم.

كذلك فإن عمارتها دليل على الإيمان، وهذه الصفقة ليست دون السابقة؛ فمجرد كون الإنسان من الذين يعمرون المساجد دليل على إيمانه؛ لقول الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18].

إقبال جميع المؤمنين عليها

كذلك من صفقاتها المربحة: أن الله سبحانه وتعالى دعا إليها المؤمنين أجمعين، ذكوراً وإناثا، كباراً وصغاراً؛ فجعل مناديه ينادي: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، فيسمع ذلك المؤمنون فيلبون نداء الله سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات )، أي: غير متعطرات ولا متزينات، فهذا نداء الله وهذه مائدته في الأرض يدعو إليه عباده رجالاً ونساء، وأطفالاً وشيوخاً، وغير ذلك، يدعوهم جميعاً للاجتماع فيها؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن.. ) أي: في المكان الذي ينادى بهن فيه، ( فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته، كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف ). فالرجل الذي لا يستطيع السير يهادى ويحمل بين رجلين حتى يدرج، أي: يدخل في الصف، هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق؛ كل الناس يشهدون له بالنفاق.

لقد خص الله سبحانه وتعالى المساجد بكثير من الخصائص ومن أعظمها: مشروعية إنشائها وبنائها، والأجر العظيم على ذلك؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من بنى لله مسجداً ولو قدر مفحص قطاة بنى الله به بيتاً في الجنة ).

وانظروا إلى قدر مفحص قطاة! والقطاة الطير الكدر التي تسكن في الأرياف والبوادي، ومفحصها المكان الذي تحفره لتستقر فيه عند البر، وبنى الله له بيتاً في الجنة مقابل ذلك القدر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمد بيده لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، وقال لأصحابه حين عجبوا من جبة أكيدر دومة الجندل ولمسوها بأيديهم كما في الصحيح، قال: ( والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بيوت الجنة فبين أنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن سقفها قباب من لؤلؤ وزبرجد منحوتة، يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، إنها بيوت الجنة، إن سعتها لا تقدر؛ فانظروا إلى الجنة التي هذه بيوتها وعرضها كعرض السماء والأرض.

إذا كان جزاء مفحص قطاة في هذه الدنيا يقابل بمثل هذه البيوت في الجنة فمعناه أن هذه البيوت صفقاتها رابحة، فيا أيها الراغبون في الربح! يا أيها التجار الذين يرغبون في زيادة الاستثمار! إن هذه البيوت هي مكان للاستثمار الرائج، هي التي دعاكم الله سبحانه وتعالى للاستثمار فيها فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ[الصف:10-12].

إن هذه البيوت مكان للاستثمار في الأوقات وفي الجهد كله؛ فالنوع الثاني من أنواع تفضيلها أن وقت الإنسان فيها وقت شغلت فيه جوارحه عن معصية الله سبحانه وتعالى بطاعته؛ ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم الجلوس فيها رباطاً في سبيل الله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا أخبركم بما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط )، إنه جلوس لا يكلف؛ فالإنسان فيه ليس تحت بارقة السيوف، وليس في السجون، ولا في الأماكن التي يشق عليه الجلوس فيها، بل هو في راحة تامة وطمأنينة، يزاحم الملائكة الكرام المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويتعرف عليهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، ويجالس أهل الذكر الذين اختارهم الله لشغلهم بطاعته عن معصيته، فهو بذلك يرابط في سبيل الله سبحانه وتعالى بمجرد الجلوس في هذه البيوت الطيبة.

كذلك فإن قصدها بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلته فقال: ( بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، إن الظلمة التي يسير فيها الإنسان في آخر الليل إلى المسجد ثمنها النور التام يوم القيامة، عندما يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب؛ فيتخبط أهل النار في ظلماتهم أشد تخبط، ضرب الله لهم مثلا بقوم كانوا تحت مطر شديد، ورعد شديد وبرق، إذا أضاء لهم البرق أخذ أبصارهم، فلا يدركون شيئاً مما ينظرون إليه من شدة وقع البرق، وإذا انطفأ البرق انطفأ نورهم بالكلية؛ فلم يستطيعوا تقدماً ولا تأخراً؛ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ[البقرة:19]، فهذا حال أهل النار، نسأل من الله السلامة والعافية.

إننا محتاجون إلى النور التام يوم القيامة؛ ولذلك حضَّنا الله على سؤاله وبين أن أهل الإيمان يسألونه إياه؛ فحكى عنهم قولهم: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التحريم:8]، كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بذلك؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذهب إلى المسجد في آخر الليل يقول: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً )، وفي رواية: ( وأكمل لي نوراً )، وفي بعض الروايات أنها تبلغ تسع عشرة دعوة بالنور، فنحن محتاجون إلى هذا النور، وسوقه في الدنيا هي الظلمات على أبواب المساجد، فالذين يقصدونها في سدف الليل هم الذين يتمم الله نورهم يوم القيامة.

كذلك فإن من صفقاتها المربحة: أن جلوساً فيها لقصد التعليم أو التعلم بمثابة جهاد في سبيل الله يرجع منه الإنسان سالماً غانماً؛ فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، قال: من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. إنها غنيمة باردة يرجع بها الإنسان وهو ينوي عند خروجه أن يعلم أو يتعلم في المسجد، فيرجع كالمجاهد في سبيل الله غانماً، فسلم وغنم.

كذلك فإن عمارتها دليل على الإيمان، وهذه الصفقة ليست دون السابقة؛ فمجرد كون الإنسان من الذين يعمرون المساجد دليل على إيمانه؛ لقول الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18].

كذلك من صفقاتها المربحة: أن الله سبحانه وتعالى دعا إليها المؤمنين أجمعين، ذكوراً وإناثا، كباراً وصغاراً؛ فجعل مناديه ينادي: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، فيسمع ذلك المؤمنون فيلبون نداء الله سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات )، أي: غير متعطرات ولا متزينات، فهذا نداء الله وهذه مائدته في الأرض يدعو إليه عباده رجالاً ونساء، وأطفالاً وشيوخاً، وغير ذلك، يدعوهم جميعاً للاجتماع فيها؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن.. ) أي: في المكان الذي ينادى بهن فيه، ( فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته، كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف ). فالرجل الذي لا يستطيع السير يهادى ويحمل بين رجلين حتى يدرج، أي: يدخل في الصف، هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق؛ كل الناس يشهدون له بالنفاق.

إنها صفقات مربحة في هذه المساجد تقتضي العناية بها والاهتمام.

بناء الرسول للمسجد النبوي

إن الله سبحانه وتعالى شرع بناءها وحض عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وباشره بيده وبين عظم منزلته؛ فعندما كان يبني مسجده كان يحمل الحجارة على بطنه، حتى اغبر بطنه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يحملون اللبنة كل رجل منهم يحمل لبنة إلا عمار بن ياسر كان يحمل لبنتين لبنتين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أعز ربنا وأطهر

فهو خير من كل التجارات، وكل الثمار: هذا الحمال لا حمال خيبر.

كذلك فقد باشره أنبياء الله، حيث باشروا بناء المساجد بأيديهم؛ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة:127]، وقد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى المسجد بيده، فعندما بركت به ناقته في مكان المسجد وكان إذا مر بقوم من الأنصار أمسكوا بخطامها فيقولون: ( يا رسول الله! انزل عندنا ففينا الحلقة والسلاح، فيقول: دعوها فإنها مأمورة )، حتى بلغت ديار بني النجار فدارت فيها، ثم بركت في مكان المسجد، ثم قامت فدارت، ثم رجعت إلى مبركها فبركت فيه، فعرفوا أن ذلك المكان هو الذي اختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأول عمل بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نادى بني النجار فقال: ( يا بني النجار! ثامنوني حائطكم هذا.. )، وكان في الحائط مقبرة للمشركين ونخل، فقالوا: ( والله لا نأخذ به ثمناً، وإنما هو لله ورسوله )، وفي رواية: ( أنه كان لغلامين يتيمين من بني النجار؛ فدفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنه )، ثم أمر بقبور المشركين فنبشت، فأخرجت من المسجد وأمر بالنخل فقطعت، ثم بنى مسجده في ذلك المكان، فقيل له: ( يا رسول الله! ألا ننحت الحجارة نحتاً؟ فقال: لا ولكن عريشاً كعريش أخي موسى )، فسقفه بجذوع النخل وسعفها وبالطين، وجعل له مصابّاً تصب الماء عن سقفه في الأطراف، وباشر ذلك بيده صلى الله عليه وسلم وأوسعه، وبين منزلته فقال في مسجد: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )، وقال: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد)، وفي رواية: ( إلا المسجد الحرام )، وقال كذلك: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، وقال: ( إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة يوم القيامة )، وماء الترع: المياه التي تجري في الأرض بين النخل، وهي مثل الأنابيب التي تساق فيها المياه والأخاديد التي تشق للمياه بين النخل، فبين أنه سيكون على نهر ضيق من أنهار الجنة يوم القيامة.

كذلك فإن قوله: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) فسره أهل العلم بثلاثة تفسيرات:

التفسير الأول: أن المقصود به أن ذلك المكان برمته سيوضع في الجنة كما هو.

التفسير الثاني: أن ذلك المكان لا يزال معموراً بذكر الله إلى يوم القيامة، فإن حلق الذكر هي رياض الجنة؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر )، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن حلق الذكر فقال: (كيف تصوم، وكيف تحج، وكيف تنكح، وكيف تبيع). أي: حلق تعليم العلم، فهذه هي رياض الجنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المكان روضة من رياض الجنة ففسره بعض أهل العلم باستمرار ذكر الله والتعليم فيه إلى يوم القيامة، وما زالت الروضة معمورة بذلك.

التفسير الثالث: أن ذلك المكان سيكون فيه قبر عيسى عليه السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار )، وقبر عيسى قطعاً روضة من رياض الجنة، وليس بعد الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين من يقطع بأن قبره روضة من رياض الجنة، إلا عيسى بن مريم ؛ فلذلك جمعوا بين هذه الأدلة فتوصلوا منها إلى أنه إذا كان المقصود روضة من رياض الجنة، أي: قبر من قبور أهل الجنة، فإن الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة لم يدفن أحد منهم في ذلك المكان، فلم يبق إلا عيسى بن مريم فيكون ذلك المكان مدفنه، وأرجح هذه الأقوال القول الأول؛ لبيان النبي صلى الله عليه وسلم أن المنبر سيكون على الحوض، وفي رواية ( على ترعة من ترع الجنة ) فأرجح الأقوال أن هذا المكان برمته سيوضع في الجنة، فيكون روضة مزهية عطرة في الجنة يوم القيامة.

بناء الرسول لمسجد قباء ومساجد أخرى

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بنى بقباء مسجده الذي قال فيه: ( من تطهر في بيته، ثم ذهب إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كانتا له كأجر عمرة )، وكذلك قال في الحديث الآخر: ( من صلى في مسجد قباء أربعاً من غير الفريضة، كن له كعتق ست رقاب من ذرية إسماعيل )، وكذلك بنى مساجد أخرى في أحياء متفرقة من أحياء الأنصار في المدينة منها مسجد بني معاوية الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث، فأجيب باثنتين ولم يجب بواحدة، وذكره في الصحيحين وغيرهما، ومنها مسجد بني زريق الذي في حديث ابن عمر في صحيح البخاري كذلك، ومنها مسجد بني مبذول بن النجار الذي جاء فيه تحويل القبلة، وغير ذلك من المساجد التي في مدينته صلى الله عليه وسلم، وكذلك أمره لوفد عبد القيس أن يبنوا مسجداً وأن يوسعوه ففعلوا؛ فبنوا مسجدهم بجواثى، وهو أول مسجد تقام فيه الجمعة التي أقيمت بنقيع الخضمات، بهزم النبيت، أقامها أسعد بن زرارة و مصعب بن عمير قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك أمر مالك بن الحويرث والشببة الذين معه أن يرجعوا إلى أهليهم وأن يقيموا فيهم مسجداً، وأن يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، وأن يتخذوا مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ففعلوا، فكان إذا أتاه وفد أمرهم أن يبنوا مسجداً في مكانهم لله سبحانه وتعالى، فهو بداية صلاح الأمر، وبداية الهداية؛ ولذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيروز بن باذان وهو من الأبناء في اليمن أن يبني لأهل صنعاء مسجداً، وأن يجعل قبلته بين عيبان ونقم، وأن يجعله بين الصخرة الململمة وبستان باذان ففعل ذلك فيروز ، وجعل فيه عمودين ما زالا قائمين إلى وقتنا هذا، وهما الأسطوانتان إحداهما تسمى بالمنقورة، والأخرى تسمى بالمسمورة، وما زالتا إلى وقتنا هذا.

عناية الصحابة ومن بعدهم بالمسجد النبوي

وكذلك فعل أصحابه من بعده وعنايتهم بهذا المسجد بناءً وتطويراً؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسعه عثمان توسعة أكبر من توسعة عمر ، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك بالتوسعة الكبرى التي حوت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ثم وسعه المهدي العباسي ، وكذلك المسجد الحرام وسعه الوليد وجمع بين السقائف القديمة والسقائف الطريفة بالبناء، ووسعه كذلك المهدي العباسي وجعل فيه العمودين الباقيين إلى وقتنا هذا، اللذين كتب عليهما: (أمر بوضع هاتين الأسطوانتين في هذا المكان علماً على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا؛ ليأتم به حجاج البيت وعماره، أمير المؤمنين محمد المهدي ، أجزل الله مثوبة أمير المؤمنين، وأطال بقاءه بتكريم وتعظيم، وكان ذلك سنة 167ه مما عمل أهل الكوفة. كان ذلك سنة 167 من الهجرة، وما زال الخط إلى الآن مقروءاً واضحاً على هذين العمودين كما وضعهما المهدي في هذا التاريخ المذكور في القرن الثاني الهجري.

العناية بتنظيف المساجد وتطهيرها

كذلك من أوجه العناية بهذه المساجد ما يتعلق بتنظيفها؛ فقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم تنظيف المسجد بيده، فقد صح في الصحيحين: ( أنه رأى مخاطاً في قبلة المسجد فقام إليه يحته.. )، أي: يحكه بظفره، ( حتى أزاله ودعا بطيب فوضعه مكانه )، ( وحين رأى المخاط في قبلة المسجد اشتد غضبه، واحمر وجهه، وقال: إذا كان أحدكم في مصلاه فلا يبصق تلقاء وجهه فإن ربه أمامه )، وكذلك حذر صلى الله عليه وسلم من البصاق في المسجد، وبين أن تكفيرها دفنها، وهذا محله في المحصب أو المترب، وأما المفروش فلا يحل البصق فيه مطلقاً، وكذلك أخبر أن المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد أنها من أهل الجنة، وحين مات الغلام أو المرأة التي كانت تقم المسجد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبره بعد أن دفن.

اختيار أئمة المساجد

وكذلك فإن من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالمساجد أنه كان يختار لها الأئمة؛ ففي حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً )، وفي رواية: ( فأقدمهم سناً )، وأقام معاذ بن جبل إماماً لمسجد قباء رتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ورتب عتاب بن أسيد إماماً للمسجد الحرام بمكة، وكذلك اعتنى بمساجد القبائل والأمصار الأخرى، فكان يرتب لها أئمة من خيرة أصحابه، فمسجد البحرين رتب له عمرو بن العاص ، وكذلك رتب العلاء بن الحضرمي لأهل الشاطئ الشرقي، ورتب عدداً من الأئمة للمساجد.

إن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المساجد بتنظيفها، وبأئمتها وببنائها معلومة في سنته، متواترة لا يختلف عليها اثنان، وكذلك عناية أصحابه بها، ومنطلق ذلك أنها المكان الذي اقتضاه الله سبحانه وتعالى لإقامة عبادته ولإعلاء كلمته.

إن هذه المساجد لم تبن فقط لمجرد أن تكون أشكالاً أو مناظر أو أن تتخذ لها المنائر، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بل عريشاً كعريش أخي موسى )، وحين أمر عمر رجلاً أن يغطي المسجد قال له: لا تحمر ولا تصفر فتشغل الناس عن الصلاة. نهاه أن يجعل الألوان في المسجد، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن زخرفة المساجد، بل قد قال: ( ما أمرت بتشييد المساجد )، والتشييد معناه: طلاؤها بالشيد، وهو الصبغ الجميل الذي ترى فيه الوجوه، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن هذا يشغل عن الصلاة، وقد ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا ساء عمل قومٍ زخرفوا مساجدهم، وأطالوا خطبهم، وقصروا صلاتهم )، وبين كذلك أن اختيار الأئمة على أساس مجرد حسن الصوت من أشراط الساعة، فقال فيما أخرج عنه أحمد في المسند وغيره: ( إنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليؤمهم، ليس بأفقههم ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم )، فيختارونه على أساس صوته فقط؛ فهذا مناف للعناية السابقة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الله سبحانه وتعالى شرع بناءها وحض عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وباشره بيده وبين عظم منزلته؛ فعندما كان يبني مسجده كان يحمل الحجارة على بطنه، حتى اغبر بطنه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يحملون اللبنة كل رجل منهم يحمل لبنة إلا عمار بن ياسر كان يحمل لبنتين لبنتين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أعز ربنا وأطهر

فهو خير من كل التجارات، وكل الثمار: هذا الحمال لا حمال خيبر.

كذلك فقد باشره أنبياء الله، حيث باشروا بناء المساجد بأيديهم؛ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة:127]، وقد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى المسجد بيده، فعندما بركت به ناقته في مكان المسجد وكان إذا مر بقوم من الأنصار أمسكوا بخطامها فيقولون: ( يا رسول الله! انزل عندنا ففينا الحلقة والسلاح، فيقول: دعوها فإنها مأمورة )، حتى بلغت ديار بني النجار فدارت فيها، ثم بركت في مكان المسجد، ثم قامت فدارت، ثم رجعت إلى مبركها فبركت فيه، فعرفوا أن ذلك المكان هو الذي اختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأول عمل بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نادى بني النجار فقال: ( يا بني النجار! ثامنوني حائطكم هذا.. )، وكان في الحائط مقبرة للمشركين ونخل، فقالوا: ( والله لا نأخذ به ثمناً، وإنما هو لله ورسوله )، وفي رواية: ( أنه كان لغلامين يتيمين من بني النجار؛ فدفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنه )، ثم أمر بقبور المشركين فنبشت، فأخرجت من المسجد وأمر بالنخل فقطعت، ثم بنى مسجده في ذلك المكان، فقيل له: ( يا رسول الله! ألا ننحت الحجارة نحتاً؟ فقال: لا ولكن عريشاً كعريش أخي موسى )، فسقفه بجذوع النخل وسعفها وبالطين، وجعل له مصابّاً تصب الماء عن سقفه في الأطراف، وباشر ذلك بيده صلى الله عليه وسلم وأوسعه، وبين منزلته فقال في مسجد: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )، وقال: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد)، وفي رواية: ( إلا المسجد الحرام )، وقال كذلك: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، وقال: ( إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة يوم القيامة )، وماء الترع: المياه التي تجري في الأرض بين النخل، وهي مثل الأنابيب التي تساق فيها المياه والأخاديد التي تشق للمياه بين النخل، فبين أنه سيكون على نهر ضيق من أنهار الجنة يوم القيامة.

كذلك فإن قوله: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) فسره أهل العلم بثلاثة تفسيرات:

التفسير الأول: أن المقصود به أن ذلك المكان برمته سيوضع في الجنة كما هو.

التفسير الثاني: أن ذلك المكان لا يزال معموراً بذكر الله إلى يوم القيامة، فإن حلق الذكر هي رياض الجنة؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر )، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن حلق الذكر فقال: (كيف تصوم، وكيف تحج، وكيف تنكح، وكيف تبيع). أي: حلق تعليم العلم، فهذه هي رياض الجنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المكان روضة من رياض الجنة ففسره بعض أهل العلم باستمرار ذكر الله والتعليم فيه إلى يوم القيامة، وما زالت الروضة معمورة بذلك.

التفسير الثالث: أن ذلك المكان سيكون فيه قبر عيسى عليه السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار )، وقبر عيسى قطعاً روضة من رياض الجنة، وليس بعد الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين من يقطع بأن قبره روضة من رياض الجنة، إلا عيسى بن مريم ؛ فلذلك جمعوا بين هذه الأدلة فتوصلوا منها إلى أنه إذا كان المقصود روضة من رياض الجنة، أي: قبر من قبور أهل الجنة، فإن الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة لم يدفن أحد منهم في ذلك المكان، فلم يبق إلا عيسى بن مريم فيكون ذلك المكان مدفنه، وأرجح هذه الأقوال القول الأول؛ لبيان النبي صلى الله عليه وسلم أن المنبر سيكون على الحوض، وفي رواية ( على ترعة من ترع الجنة ) فأرجح الأقوال أن هذا المكان برمته سيوضع في الجنة، فيكون روضة مزهية عطرة في الجنة يوم القيامة.

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بنى بقباء مسجده الذي قال فيه: ( من تطهر في بيته، ثم ذهب إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كانتا له كأجر عمرة )، وكذلك قال في الحديث الآخر: ( من صلى في مسجد قباء أربعاً من غير الفريضة، كن له كعتق ست رقاب من ذرية إسماعيل )، وكذلك بنى مساجد أخرى في أحياء متفرقة من أحياء الأنصار في المدينة منها مسجد بني معاوية الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث، فأجيب باثنتين ولم يجب بواحدة، وذكره في الصحيحين وغيرهما، ومنها مسجد بني زريق الذي في حديث ابن عمر في صحيح البخاري كذلك، ومنها مسجد بني مبذول بن النجار الذي جاء فيه تحويل القبلة، وغير ذلك من المساجد التي في مدينته صلى الله عليه وسلم، وكذلك أمره لوفد عبد القيس أن يبنوا مسجداً وأن يوسعوه ففعلوا؛ فبنوا مسجدهم بجواثى، وهو أول مسجد تقام فيه الجمعة التي أقيمت بنقيع الخضمات، بهزم النبيت، أقامها أسعد بن زرارة و مصعب بن عمير قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك أمر مالك بن الحويرث والشببة الذين معه أن يرجعوا إلى أهليهم وأن يقيموا فيهم مسجداً، وأن يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، وأن يتخذوا مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ففعلوا، فكان إذا أتاه وفد أمرهم أن يبنوا مسجداً في مكانهم لله سبحانه وتعالى، فهو بداية صلاح الأمر، وبداية الهداية؛ ولذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيروز بن باذان وهو من الأبناء في اليمن أن يبني لأهل صنعاء مسجداً، وأن يجعل قبلته بين عيبان ونقم، وأن يجعله بين الصخرة الململمة وبستان باذان ففعل ذلك فيروز ، وجعل فيه عمودين ما زالا قائمين إلى وقتنا هذا، وهما الأسطوانتان إحداهما تسمى بالمنقورة، والأخرى تسمى بالمسمورة، وما زالتا إلى وقتنا هذا.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع