خطب ومحاضرات
(100) فائدة من العلامة الشيخ ابن عثيمين
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ أئمة يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى، ويدلونهم على التقى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هم للناس كالنجوم في السماء، يُهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبهات، كما يهتدى بالنجوم في الظلمات الحالكات، والطرق المهلكات، ويحرسون الشريعة من سهام شياطين الإنس والجن، الملبسين والمفسدين، كما تحمي النجوم السماء من مسترقي السمع والمردة الشياطين، وهم فخر الشريعة وزينة الدين، كما كانت النجوم زينة للسماء وأنساً للمسافرين، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، وورثة الأنبياء، والقائمون على وحيه، فهم غيظ الشيطان، وركيزة الإيمان، وقوام الأمة، وهم الساهرون على حراسة الحق الناشرون له، المعارضون للباطل المحاربون له، المتحملون في هذا السبيل كل أذىً ومشقة، يصلحون ما فسد، ويقومون ما اعوج، ويدعون إلى الطريق المستقيم؛ طريق النجاة والسلامة، غير هيابين ولا وجلين، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولذلك شرفهم الله بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، لا يسكتون عن حقٍ وجبت إذاعته، ولا يكتمون مما أنزل الله حكماً شرعياً؛ لأنهم آمنوا بقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، رفع الله مكانتهم، وقرن شهادته بشهادتهم، فقال سبحانه وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] وهم أهل الفضائل والمكاسب، الذين بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم بقوله: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب).
أيها الإخوة والأخوات: إن الحديث عن العلماء ليبعث الرهبة في النفس، لأننا نتحدث عن ورثة الأنبياء، وإذا مات العالم العظيم انثلم في الإسلام ثلمة حتى يخلف الله غيره، وقد فجعنا وفجع المسلمون بوفاة أحد ورثة الأنبياء في هذا الزمان ممن نحسبه، وهو الشيخ الفقيه الزاهد محمد بن صالح بن عثيمين رحمة الله عليه، ونحن نعلم أن الموت نهاية كل حي، ولذلك لا بد أن نعكف على علوم العلماء وأخبارهم، لأن المقصود ليس إثارة الأحزان، ولا تقليب المواجع والوجدان، ولكن الاقتداء بهم، والاستفادة منهم، والتعلم من علومهم، والتشبه بسيرتهم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحُ |
مولد الشيخ ابن عثيمين وحرصه على العلم والعمل
كان حريصاً على العلم منذ صغره، فقد نبغ وحصل المتوسطة والثانوية والجامعة في أقل من ست سنين، وزامل الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في الدراسة على يد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فكانا يحفظان المتون معاً، ويسرد كل واحدٍ منهما على الآخر ما حفظه من المتون، وحدثني الشيخ عبد الله البسام أنه كان يراجع القرآن مع الشيخ ابن عثيمين، يبدأ الأول فيقرأ ثمناً، ثم يقرأ الآخر الثمن الذين يليه.. وهكذا، حتى إذا انتهت الختمة بدءا ختمة جديدة، لكن فمن بدأ أولاً يبدأ ثانياً.. وهكذا حتى يكون كلٌ منهما قد قرأ القرآن وراجعه كله.
صبر الشيخ متعلماً
فأما عن صبره معلماً فسيأتي، وأما صبره متعلماً فلا بد أنه قد صابر نفسه كثيراً حتى وصل إلى ما وصل إليه، ومن ذلك: أنه كان يلازم شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، فأخذ عنه الكثير؛ خلقاً وعلماً.
وقد حدثني أحد أولاد الشيخ السعدي : أن الشيخ محمداً كان يمشي مع شيخه عبد الرحمن حتى في طريقه إلى الدعوات التي يدعى إليها شيخه، يسأله في الطريق ويأخذ عنه، حتى يصل إلى باب بيت صاحب الدعوة، فيدخل الشيخ ابن سعدي ثم قد يرجع الشيخ محمد وقد يدخل.
وقد تأثر الشيخ محمد بشيخه عبد الرحمن جداً، وسمعت عن رؤيا له في شيخه، فسألته عنها في أحد مواسم الحج، فقلت: ذُكر أنكم رأيتم شيخكم عبد الرحمن السعدي في المنام، فسألته: ما أكثر ما نفعك عند الله بعد الموت؟ فقال: حسن الخلق، فهل هذه الرؤية صحيحة؟ فقال: نعم، غير أني لا أذكر الآن هل قال لي: تقوى الله، أو حسن الخلق، ولكن الرواية التي سمعتها جزماً من بعض طلاب الشيخ أنه قال له: إن أكثر ما نفعه عند الله حسن الخلق.
أيها الإخوة: عندما يتعلم الإنسان العلم والأدب يكون شيئاً آخر، ولابد من علم وأدب مجتمعين، وهكذا كان طلاب الإمام أحمد في درسه وحلقته يتعلمون العلم والأدب.
وقد اهتم الشيخ محمد رحمه الله بالحفظ جداً؛ وهذا الذي نفعه كثيراً، وكان يقول: قرأنا كثيراً فلم يبق معنا إلا ما حفظنا، وكان يوصي بحفظ المتون والقواعد في الفنون المختلفة، وفقه الشيخ الكتاب والسنة، ولم يكن متعصباً لمذهبٍ، ولا أسيراً لعباراتٍ معينة، والأمر كما بين شيخه عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأنه ليس العالم الذي يحفظ مختصر خليل، ومتن الخرقي، ولكن العالم هو الفقيه بالكتاب والسنة.
عبادة الشيخ
مداومة الشيخ ابن عثيمين على العمل
وكان الشيخ -رحمه الله- يواظب على الصدقة صباح كل يوم جمعة، ولم يترك هذه المواظبة إلا لما تبين له أنه لم يثبت في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان -رحمه الله- مداوماً على قراءة ورده من القرآن، يقرأه وهو ماشٍ إلى الصلاة، كان لا يركب بل يمشي، ولا يقبل أن يقاطعه أحدٌ وهو ذاهبٌ إلى المسجد؛ لأن هذا وقت الورد -ورد القرآن- فإذا اضطر إلى كلامِ صاحبِ الضرورة وتأخر شيئاً ما في قراءة الورد ووصل إلى المسجد ولم يتم ورده وقف عند باب المسجد ولم يدخل إلى إقامة الصلاة حتى ينهي ورده، فيستغرب بعض الذين يرونه: الشيخ واقفاً وليس معه أحد، ماذا يفعل؟ وفي الحقيقة أنه يتم ورده.
زهد الشيخ ابن عثيمين في الدنيا
ورع الشيخ ابن عثيمين
ومن قصص ورعه: أن الكلية قد كلفته مرة أن يضع منهجاً لأحد المراحل، وخففوا نصابه التدريسي لأجل ذلك، ليكون عنده شيءٌ من التفرغ لإتمام ذلك المنهج في الوقت المحدد، وبعد أن فرغ من إتمامه -رحمه الله- صرفت له الكلية مكافأة، وهي تصرف له ولغيره ممن يضع المناهج، ويكتب هذه المواد الدراسية، فاستغرب الشيخ من تسليمه هذه المكافأة، وأخذها إلى أحد مسئولي فرع الجامعة ليعيدها، فاعتذر بأدبٍ عن استرداد المبلغ؛ لأن الشيخ قبل بالتكليف، ولوائح الجامعة وأنظمتها تنص على صرف مثل هذه المكافأة، وإعادة المبلغ بعد صرفه فيه إرباك للإدارة المالية هي في غنى عنه.. لم يعجب الشيخ تصرف الكلية بعدم أخذ المال، وذهب إلى مدير الجامعة لإعادة المال الذي حاول بدوره إقناع الشيخ بأحقيته بهذه المكافأة، كما تنص عليه أنظمة الجامعة، فرد الشيخ -رحمه الله- بأن الكلية حينما كلفته بالتأليف خففت عنه نصاب التدريس وأنه استفاد من هذا التخفيف في التأليف وهذا مقابل هذا، فلماذا إذاً يعطى شيئاً إضافياً وهو لا يستحقه، فاقترح عليه مدير الجامعة أن يتصدق بالمبلغ، ولكن حتى هذا الاقتراح لم يقبله، وأصر على إرجاع المبلغ وبعد ذلك تتصرف به الجامعة.
حدثني ضابط مرور، قال: وهذه القصة حصلت معنا، وإذا أردت أن تذكرها فاذكرها، خرج الشيخ مرة مع شخصٍ بسيارته -بسيارة هذا الشخص- يقودها من عنيزة إلى بريدة في مهمة في مشروع خيري، فأسرع السائق المرافق للشيخ، وكان في الطريق نقطة تفتيش على السرعة الزائدة، فأوقفوا السيارة لإعطاء المخالفة، فنظر العسكري في السيارة فإذا فيها الشيخ محمد بن صالح العثيمين فاستحيا، وقال: تفضلوا امشوا، فمشت السيارة، وبعد برهة يسيرة قال الشيخ للذي معه: لماذا أوقفونا؟ قال: لأجل السرعة الزائدة، قال له: ارجع إلى هذه النقطة، فاستدار ورجع على أمر الشيخ، فلما وصل إلى المكان قال لهذا العسكري: لماذا أوقفتنا قبل قليل؟ قال: يا شيخ! كان في سرعة زائدة، قال: ولماذا تركتنا نمضي؟ قال: قلت لعلكم مستعجلون وعندكم مسألة مهمة، قال: لا. كم هي مخالفة السرعة؟ قال: يا شيخ! لا داعي لذلك! قال: كم هي مخالفة السرعة؟ قال: ثلاثمائة ريال، قال الشيخ: هذه مائة وخمسون مني ومائة وخمسون تأخذها من هذا لأنه خالف، ولأني لم أنصحه، وأصر على دفع المبلغ.
ومن احتياطه لأموال المسلمين: أنه سلم مرة رئيس جمعية خيرية كيس تبرعات فيه مال وفير، فلما أخذه هذا وانطلق به إلى سيارته لحقه الشيخ إلى السيارة، وقال: انتبه! إن في الكيس نصف ريال، كأن الشيخ خشي أن ينسوه حين تفريغ الكيس؛ لأنه نصف ريال، وهذه صدقة مسلم قد تقع عند الله موقعاً عظيماً، وهي أمانة، وإذا وكلت ذكر الموكل.
تواضع الشيخ ابن عثيمين
وكان رحمه الله من تواضعه لا يرضى أن يقال له: العلامة، وإذا سجل أحد طلابه ذلك في الشريط، قال له: امسحه من الشريط، وقلت له مرة: يا شيخ! هذه المسائل التي سألتك إياها سنجمعها في كتاب ونسميه: مسائل العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ، قال: لا نريد العلامة ولا غيرها.
وفي أحد اللقاءات الشهرية قال له أحد الحاضرين: يا شيخ! إني قد اغتبتك فاجعلني في حل، فقال: من أنا حتى لا أُغتاب وأنت في حل.
وكان يقرب الفراشين الذين كانوا يخدمونه في المسجد، ويتحدث معهم.
واستأذن بعض الشباب بقراءة أبياتٍ من الشعر نظمها في مدح الشيخ رحمه الله، فكان الشيخ يقاطعه مراراً معترضاً على مدحه، وطلب تغيير تلك الكلمات، وكلما سمع مدحاً اعترض وقاطع وأوقف الطالب، حتى قال الطالب: لا يصلح هذا يا شيخ! إما أن أقرأ ما كتبت أو أتوقف، فقال الشيخ: توقفك أحب إليَّ، ولم يرضَ رحمه الله بهذا المديح، والقصة تسمعها في الشريط فتتأثر من هذا.. والقصة ملخصة على النحو التالي:
قال الطالب بين يدي الشيخ: أما بعد: فضيلة الشيخ! أستأذنكم في هذه القصيدة:
يا أمتي إن هذا الليل يعقبه فجرٌ وأنواره في الأرض تنتشرُ |
والخير مرتقبٌ والفتح منتظرُ والحق رغم جهود الشر منتصرُ |
وبصحوة بارك الباري مسيرتها نقية ما بها شوبٌ ولا كدرُ |
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا بمثله يرتجى التأييد والظفر |
قال الشيخ: أنا لا أوافق على هذا البيت؛ لأني لا أريد أن يربط الحق بالأشخاص، كل شخص سيفنى، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص فمعناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من هذا، فأقول: إذا أمكنك الآن فبدل البيت:
ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله فهذا طيب.
الطالب: مادام فينا كتاب الله وسنة رسوله ابن العثيمين
الشيخ: لا هذه لا تأتي بها..... لا... توقف....
الطالب: فقيهنا.
تداخل: دعه يواصل.
الشيخ: لا لا لا لا. لا أرضى، ما عندك إلا هذا؟
الشيخ: أبداً.. وليس له داعٍ يا رجال! فقط أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألا تجعلوا الحق مربوطاً بالرجال، الرجال قد يضلون، حتى ابن مسعود يقول: [من كان مستناً فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة] الرجال إذا جعلتم الحق مربوطاً بهم، فالواحد منهم قد تقتلب نفسه -نعوذ بالله من ذلك- ويسلك طرقاً غير صحيحة، ولذلك أنا أنصحكم الآن ألا تجعلوا الحق مقيداً بالرجال لأمور:
أولاً: لا يأمن الإنسان -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم- الزلل والفتنة.
ثانياً: أنه لا أحد يبقى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].
ثالثاً: أن بني آدم بشر، ربما يغتر إذا رأى الناس يبجلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، ويظن أنه معصوم، ويدعي لنفسه العصمة، وأن كل شيءٍ يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، فيحصل بذلك الهلاك، ولهذا امتدح رجلٌ رجلاً عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ويحك! قطعت عنق صاحبك، أو قال: ظهر صاحبك)، وأنا أشكر الأخ مقدماً وإن لم أسمع ما يقوله فيَّ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب أن أمدح.
صبر الشيخ ابن عثيمين معلماً
فقد صبر عالماً ومعلماً، واتجه الشيخ للتعليم من مرحلة مبكرة من عمره، فدرس قريباً من خمسين عاماً، نصف قرنٍ من الزمان أنفقها ذلك الشيخ -رحمه الله- في تدريس دين الله، وكان قبل أن يشتهر مواظباً على التدريس مهما كان عدد الحضور، حتى إنه كان لا يحضر عنده في بعض الأوقات إلا أربعة أشخاص، وأحياناً يغيب نصفهم، ومرة جاء الشيخ إلى مكان الدرس فلم يجد إلا كتاباً وضعه أحد الطلاب في مكان الحلقة وانصرف لشيءٍ، فلما رأى الشيخ ذلك، توجه إلى المحراب وأخذ مصحفاً وجلس يقرأ فيه، فجاء الطالب ووجد الشيخ يقرأ ولا يوجد إلا كتابه فاستحيا وأخذ الكراس وانصرف.
وظل الشيخ مصابراً حتى فتح الله عليه، فصار يجلس في حلقته نحو خمسمائة طالب، وفي درسه في الحرم ومحاضراته الخارجية أضعاف هؤلاء، وصبر على الإفتاء في شتى المجالات، ورتب الدروس والمحاضرات.
وكان له رعاية لطلابه، وكان يكلف بعضهم بمراجعة الأحاديث، أو تحرير بعض المسائل، وينظر في ذلك كله ويتابعه، بل كان يجعل بعضهم يدرس بعض المبتدئين.
وقد سعى الشيخ -رحمه الله- إلى توفير سكنٍ للطلاب المتزوجين وغير المتزوجين، وهيأ لهم داخل السكن مكتبة تضمنت سائر أنواع الفنون، وكان حريصاً على تمرين طلابه على إلقاء الكلمات، وذلك في كل ليلة جمعة بعد المغرب وقبل الدرس، وكان حريصاً على طلابه، فإذا مرض أحدهم وأدخل المستشفى زاره فيه إن استطاع، وإذا صار الطالب المريض في مسكنه زاره في غرفته في العمارة المخصصة إن كان من العزاب، وفي شقته في عمارة المتأهلين إذا كان متزوجاً.
وكان يتفقد طلابه ويعينهم وخصوصاً بالشفاعات، وكم دخل من طلابٍ الجامعة بسببه، وعولج أشخاص بسببه، وقضيت حاجات بتدخله وشفاعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) رواه البخاري.
وفي فصل الشتاء كان يعطي طلاب السكن أوراقاً بمبالغ مالية محولة على محلاتٍ معينة ليشتروا بها ملابس شتوية لأنفسهم ولأولادهم، وكان يتابع تلامذته أثناء الدرس حتى لا يشرد ذهن أحدهم فتضيع عليه الفائدة، وذات مرة كان أحد تلامذته غير حاضر الذهن في الدرس، فأوقفه الشيخ وقال له: هل أنت فاهمٌ لما قلته؟ فقال الطالب: إن شاء الله، فقال الشيخ: هل على رأسك شماغ؟ فقال الطالب: نعم، فقال الشيخ: لِمَ لم تقل: إن شاء الله؟ لكنك عندما كنت غير فاهم للدرس قلت: إن شاء الله، والشماغ جزمت به!
وكان له مع طلابه رحلة في كل ثلاثة أشهر يآنسهم فيها ويقيم مسابقات لهم بنفسه، ويخرج معهم إلى بعض المزارع المشتملة على أماكن للسباحة، وقد يلاطفهم فيأمرهم أن يغطسوا هذا، ويرموا هذا في الماء، وينتقي البدين، ولما أعرب أحدهم عن شكه في قدرة الشيخ على السباحة أثبت له ذلك عملياً، وسابق الشيخ بعض طلابه على الأقدام.
وكان رحمه الله عالماً مؤدباً، لا يأذن لمن رفع يده الشمال في الدرس أن يجيب، ويأمر من دخل المجلس أن يصافح الأكبر سناً ثم من عن يمنيه، ودخل المسجد رجلٌ ومعه ولده المميز والولد لابسٌ حذاءً في قدميه في المسجد، فأراد الولد أن يسلم على الشيخ، فرفض الشيخ حتى يخرج الولد فيخلع نعاله خارج المسجد ثم يأتي فيسلم إذا أراد، ففعل الولد وخرج وخلع نعاله، ثم جاء وسلم على الشيخ فرد عليه وهش له، فخاف الأب أن الولد قد نفر من المسجد أو من الشيخ، فراقبه قال: فصار ولدي بعدها لا يمكن أن يدخل المسجد بحذائه.
وربما يشتد الشيخ أحياناً على بعض السائلين تأديباً لهم لمخالفتهم للأدب معه، وما ترى من شدة في الشيخ أحياناً فلأنهم اجترئوا عليه، وربما لأجل هذا التأديب يشتد أحياناً.
وكان للشيخ -رحمه الله- أدوارٌ عالمية، تمثلت في عدة جوانب، ومنها: إلقاء الدروس الشهرية وغيرها عبر الهاتف لبعض المراكز الإسلامية في أقطار الأرض، واتصاله بالأوضاع المأساوية التي حدثت في بلاد المسلمين، وأرسل بعض طلابه للتدريس وللدعوة في الخارج، وشارك في إرسال الكتب والأشرطة، ومراسلة المستفتين من الخارج بكتابات مدونة بخط يده، وهكذا.
الوفاء بالوعد عند الشيخ ابن عثيمين
وكان متحرياً للدقة والعدل، ومن أمثلة ذلك: التصحيح وتقدير الدرجات في الاختبارات، حتى لربما أعطى طالباً درجة واحدة من خمس وأربعين درجة؛ بل وواحداً من ثمانين، فيراجع في ذلك، فيقول: لا أستطيع أن أزيده فأظلم غيره، ولا أنقصه فأظلمه.
الشيخ ابن عثيمين وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
اهتمام الشيخ ابن عثيمين بأمور الجهاد وقضايا الأمة
وكذلك كان اهتمامه بالجهاد في الشيشان، حتى ذهب بعض طلابه إلى هناك يعلمون ويدرسون، ويشرفون على تطبيق الشريعة في بلاد الشيشان.
واهتمام الشيخ بقضايا الأمة، وقضية الاعتداء على حرماتها قديم، هذه خطبة خطبها الشيخ قبل اثنين وأربعين سنة وهي موجودة في كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع.
أما بعد: أيها الناس: فلقد مضى على احتلال اليهود للمسجد الأقصى أكثر من ثمان سنوات، وهم يعيثون به فساداً وبأهله عذاباً، وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكماً بجواز تعبد اليهود بنفس المسجد الأقصى، ومعنى هذا الحكم الطاغوتي إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة، إنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ليعرج من هناك إلى السماوات العلا، إلى الله جل وتقدس وعلا، وإنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده، ففي الصحيحين عن أبي ذر .. وساق الحديث، ثم ذكر قصة طلب موسى من قومه دخول المسجد الأقصى -دخول تلك الأرض المقدسة- وماذا حصل لما تولوا، ثم قصة استيلاء الفرنجة والنصارى عليه، وقال بعد ذلك في شروط النصر: وأن الله ينصر من ينصره، وأن النصر لا يكون بالأقوال البراقة، والخطب الرنانة التي تحول القضية إلى قضية سياسية، وهزيمة مادية، ومشكلة إقليمية، وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله.
إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا في الإخلاص له، والتمسك بدينه ظاهراً وباطناً، والاستعانة به، وإعداد القوة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع، ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه، أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا، ثم نسكنهم قلوبنا؛ بالميل إلى منحرف أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون أو يستمرئون صديد أفكارهم، ثم يرجعون يتقيأونه بيننا، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلامٍ فاتنةٍ وصحفٍ مضلة.. إلى آخر كلامه المؤثر -رحمه الله تعالى- في قضية المسجد الأقصى.
نشاط الشيخ ابن عثيمين
وقد رأيت الشيخ محمداً مرة في المسعى، فمشيت معه أسأله وحوله بعض الشباب، فلما وصلنا (العلم الأخضر) جرى وجرينا فسبقنا كلنا، وكان الشيخ في السبعين تقريباً.
كرم الشيخ ابن عثيمين
لطافة الشيخ ابن عثيمين وفكاهته
كان الشيخ رحمه الله ذا فكاهة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولا يكاد يخلو درسٌ من الدروس العامة للشيخ من مثل هذه المفاكهة والممازحة، فكان الشيخ يتكلم ذات مرة في درسٍ من دروس الفقه عن عيوب النساء في أبواب النكاح، فسأله سائل وقال: إذا تزوجت ثم وجدت زوجتي ليس لها أسنان فهل هذا عيب يبيح لي طلب الفسخ؟ فضحك الشيخ وقال: هذه امرأة جيدة حتى لا تعضك.
وسأله سائلٌ قال: شخصٌ كبيرٌ في السن ولا يستطيع الصوم، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، وفي يوم من أيام رمضان أراد أن يأتي أهله -العجوز هذا- فهل يجوز؟ فضحك الشيخ وقال: أولاً أخبرني: هل زوجته عجوزٌ مثله أم لا؟
وجاء مرة رجلٌ مسلمٌ أعجميٌ من أهل الباكستان يريد أن يسأل الشيخ، وكان يناديه: يا شيك! يا شيك! لأن الأعجمي لا يستطيع نطق الخاء، فقال السائل المسلم: يا شيك! يا شيك! فقال له الشيخ محمد : والله إني شيك بمائة وعشرين ألف ريال، وهي الدية.
وجاءه شخصٌ من العامة أثناء دروسه في الحرم، وهو جالس على كرسيه، فجاءه من الخلف، والشيخ يشرح، ويقول: عندي سؤال يا شيخ! فقال الشيخ: ما رأيك لو تسورت المحراب، فأصر العامي على السؤال ولم يعرف طبيعة الدرس والشيخ يمازحه ويلاطفه ولا يجيبه، فلما أصر هذا الرجل العامي توجه الشيخ للطلبة، وقال: هل تسمحون له بالسؤال، فكلهم أجاب: أن نعم، فأجابه ثم انصرف.
حلم الشيخ ابن عثيمين
حب الشيخ ابن عثيمين للشيخ ابن باز وحب الشيخ ابن باز له
ثم سألته عن السفر للصلاة على الشيخ عبد العزيز فلم ير في ذلك بأساً، وسألته عن إبلاغ إمام المسجد جماعته في الوفاة، فقال: لم يكن من هدي السلف الإخبار عن وفاة كل ميت من قبل الإمام إلا صاحب الشأن في الإسلام.
وكان يحب الشيخ عبد العزيز وكانت له مكانة في نفس الشيخ محمد نفسه، فقد خلوت بالشيخ محمد مرة بعد وفاة الشيخ عبد العزيز أحادثه في موضوع الفتوى بعد الشيخ ابن باز ، حال الفتوى، وكيف واقعها، فقال لي بمرارة: بعد الشيخ ابن باز ما عاد لنا رأس، هذا كلام الشيخ محمد.
وكان الشيخ عبد العزيز بن باز كذلك يحب الشيخ محمداً ويقدره قدره، وكنت في مجلس الشيخ عبد العزيز في الطائف، فكان الناس يأتون ويسلمون على الشيخ عبد العزيز وهو جالسٌ على كرسيه، فلما أخبر بقدوم الشيخ محمد بن عثيمين قام إليه، ولم أره قام لأحدٍ غيره، فاعتنقه، ورأيت وجه الشيخ عبد العزيز يتهلل بالبشر والسرور للقاء الشيخ ابن عثيمين، قال الشيخ محمد للشيخ عبد العزيز: الناس يسألوننا المعتكفين أو المعتمرين لأجل إكمال الطواف عن حكم الخروج من الحرم للصعود على السلم الكهربائي إلى السطح، فنقول لهم: إنما خرجتم لتدخلوا- يعني أنه لا بأس بذلك؛ لأنك خرجت لتدخل ولم تخرج لتخرج- فكان الشيخ عبد العزيز يسمع، وأقره على ذلك.
واستمر الشيخ -رحمه الله- في هذا العطاء العظيم حتى حلَّ به المرض.
ولد الشيخ رحمه الله في 27/رمضان من عام (1347هـ) وأنفق نحواً من خمسين سنة من حياته يعلم دين الله تعالى.
كان حريصاً على العلم منذ صغره، فقد نبغ وحصل المتوسطة والثانوية والجامعة في أقل من ست سنين، وزامل الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في الدراسة على يد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فكانا يحفظان المتون معاً، ويسرد كل واحدٍ منهما على الآخر ما حفظه من المتون، وحدثني الشيخ عبد الله البسام أنه كان يراجع القرآن مع الشيخ ابن عثيمين، يبدأ الأول فيقرأ ثمناً، ثم يقرأ الآخر الثمن الذين يليه.. وهكذا، حتى إذا انتهت الختمة بدءا ختمة جديدة، لكن فمن بدأ أولاً يبدأ ثانياً.. وهكذا حتى يكون كلٌ منهما قد قرأ القرآن وراجعه كله.
وقد صبر الشيخ رحمه الله متعلماً، وصبر معلماً.
فأما عن صبره معلماً فسيأتي، وأما صبره متعلماً فلا بد أنه قد صابر نفسه كثيراً حتى وصل إلى ما وصل إليه، ومن ذلك: أنه كان يلازم شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، فأخذ عنه الكثير؛ خلقاً وعلماً.
وقد حدثني أحد أولاد الشيخ السعدي : أن الشيخ محمداً كان يمشي مع شيخه عبد الرحمن حتى في طريقه إلى الدعوات التي يدعى إليها شيخه، يسأله في الطريق ويأخذ عنه، حتى يصل إلى باب بيت صاحب الدعوة، فيدخل الشيخ ابن سعدي ثم قد يرجع الشيخ محمد وقد يدخل.
وقد تأثر الشيخ محمد بشيخه عبد الرحمن جداً، وسمعت عن رؤيا له في شيخه، فسألته عنها في أحد مواسم الحج، فقلت: ذُكر أنكم رأيتم شيخكم عبد الرحمن السعدي في المنام، فسألته: ما أكثر ما نفعك عند الله بعد الموت؟ فقال: حسن الخلق، فهل هذه الرؤية صحيحة؟ فقال: نعم، غير أني لا أذكر الآن هل قال لي: تقوى الله، أو حسن الخلق، ولكن الرواية التي سمعتها جزماً من بعض طلاب الشيخ أنه قال له: إن أكثر ما نفعه عند الله حسن الخلق.
أيها الإخوة: عندما يتعلم الإنسان العلم والأدب يكون شيئاً آخر، ولابد من علم وأدب مجتمعين، وهكذا كان طلاب الإمام أحمد في درسه وحلقته يتعلمون العلم والأدب.
وقد اهتم الشيخ محمد رحمه الله بالحفظ جداً؛ وهذا الذي نفعه كثيراً، وكان يقول: قرأنا كثيراً فلم يبق معنا إلا ما حفظنا، وكان يوصي بحفظ المتون والقواعد في الفنون المختلفة، وفقه الشيخ الكتاب والسنة، ولم يكن متعصباً لمذهبٍ، ولا أسيراً لعباراتٍ معينة، والأمر كما بين شيخه عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأنه ليس العالم الذي يحفظ مختصر خليل، ومتن الخرقي، ولكن العالم هو الفقيه بالكتاب والسنة.
كان الشيخ محمد رحمه الله ذا عبادة؛ ينام مبكراً بعد العشاء، فإذا جاءت الساعة الثانية يستيقظ تلقائياً بغير منبه؛ ليقوم الليل ويعمل ما يعمل، وقال أحد من رافقه مرة في سفرٍ، وقد ذهب مع الشيخ في دعوة فرجعا متأخرين كالين متعبين إلى مسكنهما، فوضع كلٌ منهما رأسه الساعة الواحدة ليلاً، واضطجع الشيخ، قال المرافق: وأثناء النوم انتبهت قرابة الساعة الثالثة أو الثالثة والنصف، وكنا قد نمنا قرابة الواحدة والنصف، فحينما انتبهت انتبهت على صوت الشيخ وهو قائم يصلي، وفي هذا الوقت الذي كان هو في أمس الحاجة إلى النوم والراحة فيه، كان -رحمه الله- قائماً لله جل وعلا يصلي.
كان الشيخ رحمه الله يداوم على العمل، فإذا عمل عملاً لا يتركه؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه في المداومة على العمل: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) فكان لا يترك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولو سافر وانشغل قضاها بعد سفره، ولما اعتاد الذهاب إلى بيت الله الحرام ومكة للتدريس، استمر على هذه العادة، ولم ينقطع حتى في السنة التي مات فيها، وفي مرض الموت ذهب إلى هناك على عادته يعبد الله ويدرس دين الله، ولما رتب الدروس لطلاب العلم لم يكن ينقطع عن ذلك، ولم تتوقف الدروس إلا فيما ندر، وهذا مما رغب طلبة العلم فيه، فجاءوا إليه من أماكن بعيدة، بينما ترى أنت أحياناً اليوم عدداً ممن يفتح دروساً سرعان ما يغلقها، فلا يصبر الذي يُلقي ولا الذين معه، وسرعان ما ينفرط العقد، وقضية العلم -أيها الإخوة- لا بد فيها من صبرٍ ومصابرة.
وكان الشيخ -رحمه الله- يواظب على الصدقة صباح كل يوم جمعة، ولم يترك هذه المواظبة إلا لما تبين له أنه لم يثبت في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان -رحمه الله- مداوماً على قراءة ورده من القرآن، يقرأه وهو ماشٍ إلى الصلاة، كان لا يركب بل يمشي، ولا يقبل أن يقاطعه أحدٌ وهو ذاهبٌ إلى المسجد؛ لأن هذا وقت الورد -ورد القرآن- فإذا اضطر إلى كلامِ صاحبِ الضرورة وتأخر شيئاً ما في قراءة الورد ووصل إلى المسجد ولم يتم ورده وقف عند باب المسجد ولم يدخل إلى إقامة الصلاة حتى ينهي ورده، فيستغرب بعض الذين يرونه: الشيخ واقفاً وليس معه أحد، ماذا يفعل؟ وفي الحقيقة أنه يتم ورده.
وكان الشيخ زاهداً في الدنيا، ليس من أهل العقارات ولا الأموال، وكان ما يأتيه من الرواتب ينفقه على أهله، وقد أعطي سيارة جديدة فلم يستعملها، فلما علاها الغبار سحبت من أمام البيت، وأعطي بيتاً كبيراً فوهبه لطلبة العلم، وسيارته قديمة (مازدا من الثمانينات) ومن تأمل غترته وبشته ونعله عرف أنه رجلٌ زاهد غير متعلقٍ بالدنيا، ولا هو من أصحاب المظاهر.
كان الشيخ -رحمه الله- عالماً ورعاً فيما نحسب، وقد يفتي بجواز أشياء ويترجح لديه إباحتها ولكنه لا يستعملها ورعاً كالكحول، فأخبر أنه لا يضع الطيب الذي فيه كحول؛ ولكنه قال: ولكني قد أستعمله في تعقيم الجروح.
ومن قصص ورعه: أن الكلية قد كلفته مرة أن يضع منهجاً لأحد المراحل، وخففوا نصابه التدريسي لأجل ذلك، ليكون عنده شيءٌ من التفرغ لإتمام ذلك المنهج في الوقت المحدد، وبعد أن فرغ من إتمامه -رحمه الله- صرفت له الكلية مكافأة، وهي تصرف له ولغيره ممن يضع المناهج، ويكتب هذه المواد الدراسية، فاستغرب الشيخ من تسليمه هذه المكافأة، وأخذها إلى أحد مسئولي فرع الجامعة ليعيدها، فاعتذر بأدبٍ عن استرداد المبلغ؛ لأن الشيخ قبل بالتكليف، ولوائح الجامعة وأنظمتها تنص على صرف مثل هذه المكافأة، وإعادة المبلغ بعد صرفه فيه إرباك للإدارة المالية هي في غنى عنه.. لم يعجب الشيخ تصرف الكلية بعدم أخذ المال، وذهب إلى مدير الجامعة لإعادة المال الذي حاول بدوره إقناع الشيخ بأحقيته بهذه المكافأة، كما تنص عليه أنظمة الجامعة، فرد الشيخ -رحمه الله- بأن الكلية حينما كلفته بالتأليف خففت عنه نصاب التدريس وأنه استفاد من هذا التخفيف في التأليف وهذا مقابل هذا، فلماذا إذاً يعطى شيئاً إضافياً وهو لا يستحقه، فاقترح عليه مدير الجامعة أن يتصدق بالمبلغ، ولكن حتى هذا الاقتراح لم يقبله، وأصر على إرجاع المبلغ وبعد ذلك تتصرف به الجامعة.
حدثني ضابط مرور، قال: وهذه القصة حصلت معنا، وإذا أردت أن تذكرها فاذكرها، خرج الشيخ مرة مع شخصٍ بسيارته -بسيارة هذا الشخص- يقودها من عنيزة إلى بريدة في مهمة في مشروع خيري، فأسرع السائق المرافق للشيخ، وكان في الطريق نقطة تفتيش على السرعة الزائدة، فأوقفوا السيارة لإعطاء المخالفة، فنظر العسكري في السيارة فإذا فيها الشيخ محمد بن صالح العثيمين فاستحيا، وقال: تفضلوا امشوا، فمشت السيارة، وبعد برهة يسيرة قال الشيخ للذي معه: لماذا أوقفونا؟ قال: لأجل السرعة الزائدة، قال له: ارجع إلى هذه النقطة، فاستدار ورجع على أمر الشيخ، فلما وصل إلى المكان قال لهذا العسكري: لماذا أوقفتنا قبل قليل؟ قال: يا شيخ! كان في سرعة زائدة، قال: ولماذا تركتنا نمضي؟ قال: قلت لعلكم مستعجلون وعندكم مسألة مهمة، قال: لا. كم هي مخالفة السرعة؟ قال: يا شيخ! لا داعي لذلك! قال: كم هي مخالفة السرعة؟ قال: ثلاثمائة ريال، قال الشيخ: هذه مائة وخمسون مني ومائة وخمسون تأخذها من هذا لأنه خالف، ولأني لم أنصحه، وأصر على دفع المبلغ.
ومن احتياطه لأموال المسلمين: أنه سلم مرة رئيس جمعية خيرية كيس تبرعات فيه مال وفير، فلما أخذه هذا وانطلق به إلى سيارته لحقه الشيخ إلى السيارة، وقال: انتبه! إن في الكيس نصف ريال، كأن الشيخ خشي أن ينسوه حين تفريغ الكيس؛ لأنه نصف ريال، وهذه صدقة مسلم قد تقع عند الله موقعاً عظيماً، وهي أمانة، وإذا وكلت ذكر الموكل.
وكان رحمه الله متواضعاً لا يأنف أن يركب أي سيارة مهما كانت قديمة، بل ربما ركب بعض السيارات وتعطلت به، ونزل يدفع مع السائق، ويخشى أن تفوت الصلاة في المسجد، ودخل مرة البلد والمساجد مغلقة بعد ما رجع من سفر، فلف على المساجد حتى وجد مسجداً مفتوحاً فبدأ به بركعتين تطبيقاً للسنة.
وكان رحمه الله من تواضعه لا يرضى أن يقال له: العلامة، وإذا سجل أحد طلابه ذلك في الشريط، قال له: امسحه من الشريط، وقلت له مرة: يا شيخ! هذه المسائل التي سألتك إياها سنجمعها في كتاب ونسميه: مسائل العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ، قال: لا نريد العلامة ولا غيرها.
وفي أحد اللقاءات الشهرية قال له أحد الحاضرين: يا شيخ! إني قد اغتبتك فاجعلني في حل، فقال: من أنا حتى لا أُغتاب وأنت في حل.
وكان يقرب الفراشين الذين كانوا يخدمونه في المسجد، ويتحدث معهم.
واستأذن بعض الشباب بقراءة أبياتٍ من الشعر نظمها في مدح الشيخ رحمه الله، فكان الشيخ يقاطعه مراراً معترضاً على مدحه، وطلب تغيير تلك الكلمات، وكلما سمع مدحاً اعترض وقاطع وأوقف الطالب، حتى قال الطالب: لا يصلح هذا يا شيخ! إما أن أقرأ ما كتبت أو أتوقف، فقال الشيخ: توقفك أحب إليَّ، ولم يرضَ رحمه الله بهذا المديح، والقصة تسمعها في الشريط فتتأثر من هذا.. والقصة ملخصة على النحو التالي:
قال الطالب بين يدي الشيخ: أما بعد: فضيلة الشيخ! أستأذنكم في هذه القصيدة:
يا أمتي إن هذا الليل يعقبه فجرٌ وأنواره في الأرض تنتشرُ |
والخير مرتقبٌ والفتح منتظرُ والحق رغم جهود الشر منتصرُ |
وبصحوة بارك الباري مسيرتها نقية ما بها شوبٌ ولا كدرُ |
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا بمثله يرتجى التأييد والظفر |
قال الشيخ: أنا لا أوافق على هذا البيت؛ لأني لا أريد أن يربط الحق بالأشخاص، كل شخص سيفنى، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص فمعناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من هذا، فأقول: إذا أمكنك الآن فبدل البيت:
ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله فهذا طيب.
الطالب: مادام فينا كتاب الله وسنة رسوله ابن العثيمين
الشيخ: لا هذه لا تأتي بها..... لا... توقف....
الطالب: فقيهنا.
تداخل: دعه يواصل.
الشيخ: لا لا لا لا. لا أرضى، ما عندك إلا هذا؟
الشيخ: أبداً.. وليس له داعٍ يا رجال! فقط أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألا تجعلوا الحق مربوطاً بالرجال، الرجال قد يضلون، حتى ابن مسعود يقول: [من كان مستناً فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة] الرجال إذا جعلتم الحق مربوطاً بهم، فالواحد منهم قد تقتلب نفسه -نعوذ بالله من ذلك- ويسلك طرقاً غير صحيحة، ولذلك أنا أنصحكم الآن ألا تجعلوا الحق مقيداً بالرجال لأمور:
أولاً: لا يأمن الإنسان -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم- الزلل والفتنة.
ثانياً: أنه لا أحد يبقى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].
ثالثاً: أن بني آدم بشر، ربما يغتر إذا رأى الناس يبجلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، ويظن أنه معصوم، ويدعي لنفسه العصمة، وأن كل شيءٍ يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، فيحصل بذلك الهلاك، ولهذا امتدح رجلٌ رجلاً عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ويحك! قطعت عنق صاحبك، أو قال: ظهر صاحبك)، وأنا أشكر الأخ مقدماً وإن لم أسمع ما يقوله فيَّ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب أن أمدح.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اقتضاء العلم العمل | 3615 استماع |
التوسم والفراسة | 3614 استماع |
مجزرة بيت حانون | 3544 استماع |
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] | 3500 استماع |
اليهودية والإرهابي | 3429 استماع |
إن أكرمكم عند الله أتقاكم | 3429 استماع |
حتى يستجاب لك | 3396 استماع |
المحفزات إلى عمل الخيرات | 3376 استماع |
ازدد فقهاً بفروض الشريعة | 3350 استماع |
الزينة والجمال | 3340 استماع |