هذا الحبيب يا محب 127


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وقد انتهى بنا الدرس إلى الأخلاق المحمدية، والصفات النبوية الكاملة، وها نحن نواليها خلقاً بعد خلق، وانتهى بنا الدرس إلى خلق: [الشجاعة المحمدية].

قال: [إن الشجاعة خلق فاضل] اللهم ارزقنا هذا الخلق الفاضل [ووصف كريم] أي: فلان شجاع [وخلة] خصلة من الخصال [شريفة] عالية [لا سيما إذا كانت في العقل كما هي في القلب] فشجاعة القلب غير شجاعة العقل، وشجاعة القلب كشجاعة الأسود الضواري، وشجاعة العقل كشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: [وكان صاحبها من أهل الإيمان والعلم] بهذا الشرط، شجاعة مع العلم .. مع العقل .. مع الإيمان الصحيح، إيمان وعلم وشجاعة قلبية وعقلية، وهذه كلها اجتمعت في الحبيب صلى الله عليه وسلم.

قال: [والشجاعة في القلب عدم الخوف مما يخاف عادةً] معنى الشجاعة في القلب أن صاحب هذه الشجاعة لا يخاف مما يخاف منه عادة عند الناس [والإقدام على دفع ما يخاف منه بقوة وحزم] فهذه الشجاعة في القلب.

قال: [وفي العقل المضاء فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر متى ظهر أنه الحق والمعروف] فالشجاعة في العقل معناها المضاء والسير بقوة فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر متى ظهر أنه الحق والمعروف، فيقدم ولا يتأخر.

قال: [وقد كان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أشجع إنسان على الإطلاق] بلا استثناء [فلم تكتحل عين الوجود بمثله صلى الله عليه وسلم] قط، فلم تر الدنيا أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[ومن أدلة ذلك] ومن أدلة هذا الحكم الذي حكمنا به، وهو أنه أشجع الخلق مطلقاً: [تكليف الله تعالى له بأن يقاتل وحده] فهذه الأمة بالملايين واختار الله واحداً وكلفه أن يقاتل وحده، لعلمه بأنه أشجعها. فالدليل على أن الله كلفه بأن يقاتل وحده: [قوله تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]]، فقاتل في سبيل الله لا تكلف أحداً إلا نفسك، من أراد أن يقاتل معك فليقاتل، لكن لا تكلف أحداً تقل: قاتل معي، ولولا علم الله بشجاعته وهو خالقها وواهبها ومعطيها ما كان يكلفه بهذا التكليف، والآية ظاهرة المعنى قوية الدلالة فيما نقول: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84]، أي: على القتال.

حكاية علي رضي الله عنه لموقف النبي صلى الله عليه وسلم في أحد

قال: [ومن أدلة شجاعته صلى الله عليه وسلم ومظاهرها ما يلي:

أولاً: شهادة الشجعان الأبطال له بذلك] أي: اعتراف الأبطال الشجعان له للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشجع الخلق [فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان من أبطال الرجال وشجعانهم بلا مراء] ولا أظن أحداً يشك في هذا قال: (كنا -أيام كنا معه صلى الله عليه وسلم نخوض المعارك في سبيل الله- إذا حمي البأس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم). أي: نتقي الضرب والطعان. وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا علي بن أبي طالب من أبطال الرجال بلا نزاع، قال: كنا إذا اشتدت الحرب نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ونختفي وراءه حتى يدفع عنا. وهل بعد هذا شجاعة؟!

قال: [ثانياً: موقفه البطولي الخارق للعادة في أحد حيث فر الكماة، ووجم الأبطال، وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله] وهذا دليل كالشمس في وضوحه.

إذاً من أدلة شجاعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهيا نقتدي به في ذلك: [موقفه البطولي الخارق للعادة في أحد] أي: في جبل أحد، حيث دارت المعركة هناك [حيث فر الكماة، ووجم الأبطال، وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله وقاتلوا حتى انجلت المعركة بعد قتال مرير وهزيمة نكراء حلت بالقوم؛ لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم]. فهزيمة أحد لا مثيل لها، وسببها معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت جيوش المشركين ونزلوا وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم خروجهم، خرج برجاله، وفي أثناء المسير رجع ثلاثمائة من المنافقين، وعلى رأسهم ابن أبي عليه لعائن الله، ومشى الرسول في سبعمائة، ووضع على جبل الرماة ثلاثين رامياً أو أكثر، وقال لهم: الزموا أماكنكم كيفما كانت الحال، انتصرنا أو انهزمنا، فهذه أماكنكم لا تفارقونها، واضربوا العدو وارموه بها، وأقدم الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وأقدم قومه، وما هي إلا ساعة وقد انهزم المشركون فارين هاربين، وكانوا قرابة ثلاثة آلاف، فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وشاهدوا الأصحاب يجمعون الغنائم، قالوا: ما الفائدة في بقاءنا هنا، فإن العدو قد انكسر وانهزم، فهيا ننزل ونأخذ كما يأخذ أصحابنا، ومع الأسف كان على رأس الخيل قائدها خالد بن الوليد تابع للمشركين، فما إن رأى خالد أن الجبل قد فرغ وأن أهله قد نزلوا إلا القليل منهم، حتى استولى على الجبل، ثم أوقعوا المسلمين بين شدقي الأسد، فكانت هزيمة، وتجلت هنا الشجاعة المحمدية، فلاذوا به والتفوا حوله.

ولعل أكثر السامعين ما تفطنوا!

أقول: لقد انهزم جيش رسول الله لمعصية واحدة، وهي أن الرماة الذين ألزمهم بالبقاء في الجبل لما شاهدوا الفرح والنصر هبطوا عصاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان سبباً للهزيمة، فكيف إذاً بجيوشنا لو نقاتل اليهود.

فإن قيل: يا شيخ! لقد قاتلناهم وانهزمنا عشرات المرات، أقول: لماذا؟ لأن النصر بيد الله، والله يضعه حيث شاء، وكيف يؤدب عباده وأولياءه إذا لم يؤدبه بمثل هذه الضربات ليفيقوا ويعودوا إلى رشدهم، واسمعوا وبلغوا، لقد تكرر هذا القول من هذا المكان، أن من لطف الله، ومن تدبير الله، ومن إحسان الله إلى أمة الإسلام، أن هزم العرب في قتالهم مع اليهود؛ لأنه يا عقلاء! لو انتصر العرب ويومها كان شعارات العروبة والاشتراكية عالية، وكانت كلمة الإسلام مهزومة، فلو انتصروا على ذلك الحال، لأصبح المسلم أذل من الشاة عندهم.

والذي يكلمكم على علم، والله العظيم، كيف قاتل العرب اليهود؟ هل قاتلوهم وهم يقيمون الصلاة ويجبون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟! كلا والله، إنما قاتلوهم وهم على أبشع صورة من الفسق، وأعظم من ذلك أنه لم تكن الروح إسلامية، بل كانت قومية .. وطنية .. اشتراكية، فلهذا من رحمة الله بنا هزمنا ليبقى الإسلام ويبقى أهله إلى ما شاء الله عز وجل.

وإن قلت: كيف؟

نحن نقول: انهزم جيش رسول الله وهو معه القائد الأعظم، وكانت هزيمة نكراء -راجعوها في سورة آل عمران من أولها إلى آخرها- وسببها معصية واحدة تتعلق بالقتال.

شجاعة النبي عند تفرق أصحابه عنه في حنين

قال: [ثالثاً: في حنين حيث انهزم أصحابه وفر رجاله لصعوبة مواجهة العدو، من جراء الكمائن التي نصبها وأوقعهم فيها وهم لا يدرون، بقي وحده صلى الله عليه وسلم في الميدان يطاول ويصاول وهو على بغلته يقول: ( أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب )] وحده، فأي شجاعة أكثر من هذه؛ وأي شجاعة أعظم من هذه؟ لأن المسلمين كاد لهم العدو وأوقعهم في فخ، وقد كان العدو من ثقيف الذين هم شياطين العرب وشجعانهم، ودخل الرسول والمؤمنون الوادي، وهم ماذا فعلوا في ذلك الوادي؟ طوقوه بسلاحهم ورجالهم ورماحهم، وقالوا: إذا توغل المسلمون في الوادي نطبق عليهم مع جيشه، وكان ذلك، فكانت هزيمة، واقرأوا: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25]، أي: وضاقت عليكم أنفسكم، فاذكروا هذا يا مسلمون، اذكروا هذا يا مسلمون، اذكروا يوم حنين، فهذا يذكر الله به أصحاب رسول الله، فكيف بنا نحن؟! اذكروا يوم حنين إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا إذ قال أبو سفيان : لن نغلب اليوم من قلة، لن نغلب اليوم من قلة، كما كانت العرب تقول.

عرفتم هذه الآداب الإلهية أو لا؟ أدبنا الله؛ لأنهم تبجحوا قالوا: نحن أكثر من الجيش .. من هذا العدو فلن ننهزم، ولو قالوا: إن شاء الله لنجوا، لكن لا، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة! فانهزموا رضوان الله عليهم ولم يبق في الميدان سوى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب )، وما هي إلا ساعة حتى تراجع رجاله والتفوا حوله، ودارت المعركة من جديد، وانهزم المشركون عن آخرهم، وامتن الله عليهم فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ [التوبة:25].

قال: [وما زال في المعركة، وهو يقول: (إلي عباد الله، إلي عباد الله)]، فليس هناك مكبرات للصوت، لكن صوته وصل إلى نهاية أطراف الجيش: إلي عباد الله الهاربون الفارون [حتى فاء أصحابه إليه، وعادوا الكرة على العدو فهزموه في ساعة، وما كانت هزيمتهم أول مرة إلا بسبب ذنب ارتكبه بعضهم، وهو قوله: لن نغلب اليوم من قلة؟] لن نغلب اليوم.. ولو قالوا: إن شاء الله لكان رقعها، لكن قالوا: لن نغلب اليوم من قلة [إذ هذا القول كان عجباً، والعجب حرام]، بل هو من كبائر الذنوب والعياذ بالله، فيعجب بالنفس والمال والدولة والسلطان، وينسى الرحمن الذي بيده كل شيء.

قال: [وقد ذكرهم تعالى به في كتابه إذ قال تعالى من سورة التوبة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25] الآية].

لكن لم المسلمون ما يقرءون هذا القرآن؟

فيأتي الجواب: يا شيخ! يقرءونه على الموتى فقط، أما أن يجتمعوا هكذا عليه ويقرءون لا أبداً، ما هو معقول، هم مشغولون بدنياهم، وسر ذلك لتبقى آيات الله كما هي: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فلو أقبلوا على الله ووحدوا كلمتهم: لا إله إلا الله، ورايتهم وإمامهم، وقالوا: الله أكبر، لارتج الكون تحت أقدامهم، ولكن العدو الثالوث الأسود نفخ فيهم روح الموت والخراب والدمار عن طريق: الشرك، الخرافة، الانقسامات، الوطنيات، التحزبات، المذاهب، وكيف تجتمع هذه الأمة، وأنى لها؟ ولهذا تبقى ذليلة منكسرة مهانة للشرق والغرب، حتى يجمعها الله عز وجل.

مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف وقتله إياه

قال: [وفي أحد -والمعركة دائرة رأى أبي بن خلف لعنه الله النبي صلى الله عليه وسلم، فصاح: أين محمد؟] كان أبي بن خلف طاغية من طغاة مكة ومشركيها، فلما دارت المعركة رأى أبي بن خلف أن يسأل عن النبي أين هو ليقتله [لا نجوت إن نجا]، وليس هناك قوله: إن شاء الله، فهذا كافر ومشرك. والمعنى: سأهلك أنا إذا نجا هو [وتقدم على فرسه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترضه رجال من المسلمين، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ( خلوا طريقه )]، أي: دعوه يأتيني ليقتلني، وهذه شجاعة! لكن كيف نتصور هذه الشجاعة؟ فدعوا الطريق لهذا المتعنتر [وتناول الحربة من يد الحارث بن الصمة ]، فأخذ الحربة من الحارث بن الصمة .

قال: [وانتفض انتفاضة] هذا رسول الله [تطاير عنه أصحابه] تباعدوا من شدته [تطاير الوبر عن ظهر البعير] يا أهل الإبل [إذا انتفض. واستقبله بطعنة نجلاء في عنقه، هكذا تدهده منها عن فرسه مراراً وهو يقول: قتلني محمد، فمات منها -بالطعنة- بسرف، وهو عائد إلى مكة مع جيش المشركين]. هذه شجاعة. هيا نقتدي به أسوتنا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

مواجهة النبي للأخطار ومبادرته إليها قبل غيره

قال: [فزع أهل المدينة] والله هذه في المدينة، وقد كنا نتحرق أن نراها فقط، وها نحن فيها فالحمد لله [ليلة] أي: من الليالي [فانطلق ناس قبل الصوت] أي: يجرون [فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لـأبي طلحة عُري والسيف في عنقه وهو يقول: ( لن تراعوا ). في هذه يقول أنس بن مالك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، وقص هذه القصة].

إذاً فزع أهل المدينة ليلة لصوت سمعوه أن العدو قد داهمهم، فانطلقوا قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعاً، قد وصل إلى العدو قبلهم وشرده ورجع، وكان على فرس لـأبي طلحة ليس عليه لا سرج ولا عري، والسيف في عنقه وهو يقول: ( لن تراعوا .. لن تراعوا .. لن تراعوا ). وفي هذه القصة يقول أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ويقص هذه القصة.

قال: [شهادة عمران بن حصين رضي الله عنهما]، من عمران بن حصين هذا؟

لما جاء حصين إلى مكة ليسلم، والرسول في مكة، قال له: ( يا حصين ! كم إلهاً تعبد؟ فقال: سبعة )، أي: سبعة آلهة؟ لأنهم يتخذون تماثيل ويضعونها، واحد في المنعطف وآخر في الوادي وواحد في الجبل وواحد في خيمته، قال: ( واحداً في السماء وستة في الأرض. قال: من لرهبتك ورغبتك يا حصين ؟ قال: الذي في السماء. قال: إذاً فاعبد الذي في السماء واترك الذين في الأرض )، هذا درس من أعجب الدروس: ( يا حصين كم إلهاً تعبد؟ قال سبعة. قال: من لرهبتك ورغبتك من هذه الآلهة؟ ) أي إله منها ترغب أن يعطيك، وترهب منه إذا أنت خالفته ولم تطعه؟ ( قال: الذي في السماء. قال: إذاً اعبد الذي في السماء واترك الذين في الأرض ).

فإن قيل: يا شيخ! جماعتنا يعبدون الأولياء في القبور، والله لا يخافونهم ولا يرهبونهم، فقط الشياطين تدفعهم لا رغبة ولا رهبة، ولو وقفت أمام ضريح تنادي خمسين ساعة .. خمسين يوماً والله ما تسمع صوتك، ولو كان الجوع يمزقك والله ما امتد إليك ربع قرص، ومع هذا تجد من يقول: يا سيدي فلان .. ويتمرغ عليه ويذبح له الذبيحة و.. و..

عرفتم ضعف البشر!

فـحصين كان يعبد سبعة وما اكتفى بواحد، فجاء للحبيب الحكيم صلى الله عليه وسلم، فسأله سؤال المنطق والعقل: ( كم إلهاً تعبد يا حصين ؟ قال: أعبد سبعة ) لي سبعة آلهة، واحد في السماء وستة في الأرض ( قال: من لرغبتك ورهبتك؟ ) أي: من هو الذي تخافه وتطمع فيه أن يقضي حوائجك؟ ( قال: الذي في السماء )، أما الذين في الأرض فهي أصنام يكسرها بفأسه ( قال: إذاً: اعبد الذي في السماء واترك الذين في الأرض ).

ما ننسى هذه الكلمة الطيبة، هذا الحكيم صلى الله عليه وسلم: ( اعبد الذي في السماء واترك الذين في الأرض ). أما ولده عمران فاستقام حتى كانت الملائكة تسلم عليه وهو جالس في المسجد، بل كانت تصافحه. ولما اختل ذلك اليقين وضعف بعض الشيء ما أصبحت الملائكة تصافحه، لأنه أصيب بمرض يسمى البواسير، فاضطر إلى العلاج، فلما عالج ابتعدت عنه الملائكة؛ لأن من هذه الأمة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وهم الذين لا يتداوون ولا يسترقون ولا يتطيرون، فكان عمران واحداً منهم ثم خرج منهم رضي الله عنه.

قال: [شهادة عمران بن حصين رضي الله عنهما إذ قال وهو صادق: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب] أي: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب العدو فيقدم ويتقدم أصحابه.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [كانت تلك شواهد شجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فنكتفي فيها بشاهد واحد، فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد]، فما تقدم من الأمثلة كانت مع شجاعة القلب، وأما شجاعة العقل ففيها مثال واحد يكفي أحسن من عشرين مثال.

قال: [وهو] أي: هذا الشاهد [موقفه من تعنت سهيل بن عمرو ، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية] أما صلح الحديبية فقد كان في السنة السادسة من الهجرة؛ لأن المشركين انهزموا في سلع أو غزوة الخندق، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، ففي السنة السادسة أمر رجاله وقدرهم ألف وأربعمائة أن يأتوا مكة معتمرين فقط؛ لأن الله نصرهم في المدينة في غزوة الخندق والمشركون ذهلوا، فخرج، وما إن سمعت قريش بخروجه حتى أعدت جيشها لاستقباله، وهو صلى الله عليه وسلم ما خرج للقتال.

فصدرت سفارة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش في مكان يسمى الحديبية، وهو موجود إلى الآن، وتمت مصالحة على أن تدوم عشر سنين، وكان سهيل بن عمرو قبل أن يسلم رضي الله عنه يمثل قريشاً في الجاهلية، وكان من رجالات السياسة، فالرسول يملي والكاتب يكتب، واسمع ماذا كان.

قال: [إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة بسم الله إلى باسمك اللهم] فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل : ما نعرف الله الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم فقط، فهذه الكلمات ما نعنيها ولا نعرفها، اكتب باسمك اللهم، وتنازل رسول الله لشجاعته العقلية وكتب، فهو يريد أن يؤمن المسلمين عشر سنوات، وهم محاصرون في بيوتهم، ويريدهم أن يتنفسوا ويخرجوا للتجارة والدعوة.

قال: [وعن كلمة محمد رسول الله إلى كلمة محمد بن عبد الله] قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال ممثل قريش: ما نعرف أنك رسول الله، ولا نؤمن بك، فلو آمنا أنك رسول لم نقاتلك؟ اكتب محمد بن عبد الله. فخضع لهذا وتنازل عن كلمة رسول الله.

هذه شجاعة عقلية فقد عرف ماذا ينتج عن هذا الصلح من فائدة، وإن نالوا منه منالاً لا قيمة له، فهو رسول الله أحبوا أم كرهوا، وبسم الله الرحمن الرحيم أحبوا أم كرهوا، لكن دفعاً لخطر فشل المعاهدة تنازل عن هاتين الكلمتين.

والآن لو زعيماً من زعيمكم يقول كلمة كهذه فإنكم تكفرونه كيف يتنازل عن هذه كلمة؟!

فإن قيل: هذا سياسي يريد أن ينقذكم. قلتم: لا، هذا كافر!! وكل هذا ناتج عن ضعف العقول وعدم البصيرة، فأين المعرفة والأمة جاهلة.

قال: [وقد استشاط أصحابه غيظاً، وبلغ الغضب حداً لا مزيد عليه، وهو صابر ثابت حتى انتهت الكتابة، وكانت بعد أيام فتحاً مبيناً، فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين القلبية والعقلية، مع بعد النظر وأصالة الرأي وإصابته، فصلى الله عليه وسلم ما بقي شجاعة أو جبن في العالمين].

إن شاء الله اكتسبنا شجاعة، وعلى الأقل إذا مرضنا لا نكفر، وإذا جعنا لا نسرق، وإذا أوذينا نصبر ولا نحارب ونقاتل.

قال: [ومن أدلة شجاعته صلى الله عليه وسلم ومظاهرها ما يلي:

أولاً: شهادة الشجعان الأبطال له بذلك] أي: اعتراف الأبطال الشجعان له للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشجع الخلق [فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان من أبطال الرجال وشجعانهم بلا مراء] ولا أظن أحداً يشك في هذا قال: (كنا -أيام كنا معه صلى الله عليه وسلم نخوض المعارك في سبيل الله- إذا حمي البأس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم). أي: نتقي الضرب والطعان. وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا علي بن أبي طالب من أبطال الرجال بلا نزاع، قال: كنا إذا اشتدت الحرب نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ونختفي وراءه حتى يدفع عنا. وهل بعد هذا شجاعة؟!

قال: [ثانياً: موقفه البطولي الخارق للعادة في أحد حيث فر الكماة، ووجم الأبطال، وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله] وهذا دليل كالشمس في وضوحه.

إذاً من أدلة شجاعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهيا نقتدي به في ذلك: [موقفه البطولي الخارق للعادة في أحد] أي: في جبل أحد، حيث دارت المعركة هناك [حيث فر الكماة، ووجم الأبطال، وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله وقاتلوا حتى انجلت المعركة بعد قتال مرير وهزيمة نكراء حلت بالقوم؛ لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم]. فهزيمة أحد لا مثيل لها، وسببها معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت جيوش المشركين ونزلوا وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم خروجهم، خرج برجاله، وفي أثناء المسير رجع ثلاثمائة من المنافقين، وعلى رأسهم ابن أبي عليه لعائن الله، ومشى الرسول في سبعمائة، ووضع على جبل الرماة ثلاثين رامياً أو أكثر، وقال لهم: الزموا أماكنكم كيفما كانت الحال، انتصرنا أو انهزمنا، فهذه أماكنكم لا تفارقونها، واضربوا العدو وارموه بها، وأقدم الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وأقدم قومه، وما هي إلا ساعة وقد انهزم المشركون فارين هاربين، وكانوا قرابة ثلاثة آلاف، فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وشاهدوا الأصحاب يجمعون الغنائم، قالوا: ما الفائدة في بقاءنا هنا، فإن العدو قد انكسر وانهزم، فهيا ننزل ونأخذ كما يأخذ أصحابنا، ومع الأسف كان على رأس الخيل قائدها خالد بن الوليد تابع للمشركين، فما إن رأى خالد أن الجبل قد فرغ وأن أهله قد نزلوا إلا القليل منهم، حتى استولى على الجبل، ثم أوقعوا المسلمين بين شدقي الأسد، فكانت هزيمة، وتجلت هنا الشجاعة المحمدية، فلاذوا به والتفوا حوله.

ولعل أكثر السامعين ما تفطنوا!

أقول: لقد انهزم جيش رسول الله لمعصية واحدة، وهي أن الرماة الذين ألزمهم بالبقاء في الجبل لما شاهدوا الفرح والنصر هبطوا عصاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان سبباً للهزيمة، فكيف إذاً بجيوشنا لو نقاتل اليهود.

فإن قيل: يا شيخ! لقد قاتلناهم وانهزمنا عشرات المرات، أقول: لماذا؟ لأن النصر بيد الله، والله يضعه حيث شاء، وكيف يؤدب عباده وأولياءه إذا لم يؤدبه بمثل هذه الضربات ليفيقوا ويعودوا إلى رشدهم، واسمعوا وبلغوا، لقد تكرر هذا القول من هذا المكان، أن من لطف الله، ومن تدبير الله، ومن إحسان الله إلى أمة الإسلام، أن هزم العرب في قتالهم مع اليهود؛ لأنه يا عقلاء! لو انتصر العرب ويومها كان شعارات العروبة والاشتراكية عالية، وكانت كلمة الإسلام مهزومة، فلو انتصروا على ذلك الحال، لأصبح المسلم أذل من الشاة عندهم.

والذي يكلمكم على علم، والله العظيم، كيف قاتل العرب اليهود؟ هل قاتلوهم وهم يقيمون الصلاة ويجبون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟! كلا والله، إنما قاتلوهم وهم على أبشع صورة من الفسق، وأعظم من ذلك أنه لم تكن الروح إسلامية، بل كانت قومية .. وطنية .. اشتراكية، فلهذا من رحمة الله بنا هزمنا ليبقى الإسلام ويبقى أهله إلى ما شاء الله عز وجل.

وإن قلت: كيف؟

نحن نقول: انهزم جيش رسول الله وهو معه القائد الأعظم، وكانت هزيمة نكراء -راجعوها في سورة آل عمران من أولها إلى آخرها- وسببها معصية واحدة تتعلق بالقتال.

قال: [ثالثاً: في حنين حيث انهزم أصحابه وفر رجاله لصعوبة مواجهة العدو، من جراء الكمائن التي نصبها وأوقعهم فيها وهم لا يدرون، بقي وحده صلى الله عليه وسلم في الميدان يطاول ويصاول وهو على بغلته يقول: ( أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب )] وحده، فأي شجاعة أكثر من هذه؛ وأي شجاعة أعظم من هذه؟ لأن المسلمين كاد لهم العدو وأوقعهم في فخ، وقد كان العدو من ثقيف الذين هم شياطين العرب وشجعانهم، ودخل الرسول والمؤمنون الوادي، وهم ماذا فعلوا في ذلك الوادي؟ طوقوه بسلاحهم ورجالهم ورماحهم، وقالوا: إذا توغل المسلمون في الوادي نطبق عليهم مع جيشه، وكان ذلك، فكانت هزيمة، واقرأوا: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25]، أي: وضاقت عليكم أنفسكم، فاذكروا هذا يا مسلمون، اذكروا هذا يا مسلمون، اذكروا يوم حنين، فهذا يذكر الله به أصحاب رسول الله، فكيف بنا نحن؟! اذكروا يوم حنين إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا إذ قال أبو سفيان : لن نغلب اليوم من قلة، لن نغلب اليوم من قلة، كما كانت العرب تقول.

عرفتم هذه الآداب الإلهية أو لا؟ أدبنا الله؛ لأنهم تبجحوا قالوا: نحن أكثر من الجيش .. من هذا العدو فلن ننهزم، ولو قالوا: إن شاء الله لنجوا، لكن لا، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة! فانهزموا رضوان الله عليهم ولم يبق في الميدان سوى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب )، وما هي إلا ساعة حتى تراجع رجاله والتفوا حوله، ودارت المعركة من جديد، وانهزم المشركون عن آخرهم، وامتن الله عليهم فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ [التوبة:25].

قال: [وما زال في المعركة، وهو يقول: (إلي عباد الله، إلي عباد الله)]، فليس هناك مكبرات للصوت، لكن صوته وصل إلى نهاية أطراف الجيش: إلي عباد الله الهاربون الفارون [حتى فاء أصحابه إليه، وعادوا الكرة على العدو فهزموه في ساعة، وما كانت هزيمتهم أول مرة إلا بسبب ذنب ارتكبه بعضهم، وهو قوله: لن نغلب اليوم من قلة؟] لن نغلب اليوم.. ولو قالوا: إن شاء الله لكان رقعها، لكن قالوا: لن نغلب اليوم من قلة [إذ هذا القول كان عجباً، والعجب حرام]، بل هو من كبائر الذنوب والعياذ بالله، فيعجب بالنفس والمال والدولة والسلطان، وينسى الرحمن الذي بيده كل شيء.

قال: [وقد ذكرهم تعالى به في كتابه إذ قال تعالى من سورة التوبة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25] الآية].

لكن لم المسلمون ما يقرءون هذا القرآن؟

فيأتي الجواب: يا شيخ! يقرءونه على الموتى فقط، أما أن يجتمعوا هكذا عليه ويقرءون لا أبداً، ما هو معقول، هم مشغولون بدنياهم، وسر ذلك لتبقى آيات الله كما هي: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فلو أقبلوا على الله ووحدوا كلمتهم: لا إله إلا الله، ورايتهم وإمامهم، وقالوا: الله أكبر، لارتج الكون تحت أقدامهم، ولكن العدو الثالوث الأسود نفخ فيهم روح الموت والخراب والدمار عن طريق: الشرك، الخرافة، الانقسامات، الوطنيات، التحزبات، المذاهب، وكيف تجتمع هذه الأمة، وأنى لها؟ ولهذا تبقى ذليلة منكسرة مهانة للشرق والغرب، حتى يجمعها الله عز وجل.