أرشيف المقالات

مقدار العوض المخالع عليه

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
مقدار العوض المخالع عليه

• أما مقدارُ ما يجوز أن تختلع به المرأةُ من عِوَض الخُلْع، فهو محل خلافٍ بين الفقهاء، فمنهم من لم يحدِّد له قدرًا معينًا، فيجوز لها أن تختلع بأكثرَ مما أعطاها، أو بأقلَّ منه، أو بمقداره، ومنهم من قال: ليس له أن يأخذَ أكثَرَ مما أعطاها.

• فالفقهاءُ في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجوزُ للمرأة أن تفتديَ نفسها بما تراضيا عليه، سواءٌ أكان العِوَض أقلَّ ممَّا أعطاها، أم أكثرَ منه، أم مساويًا له.

وإليه ذهَبَ المالكيةُ، والشافعية، والظاهرية، ورواية عند الحنفية[1].

وقد رُوِي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعِكرمة.

كما رُوِي هذا الرأيُ عن مجاهد والنَّخَعي.

وجاء في المدونة: (قال مالك: لم أرَ أحدًا ممن يُقتدى به يكرَه أن تفتدي المرأة بأكثرَ من صداقها)[2].

وقال الإمام الشافعي: (إذا كانت مؤديةً لحقِّه، كارهةً له، حلَّ له أن يأخذَ، فإنه يجوز أن يأخذ منها ما طابت به نفسًا بغير سببٍ؛ فبالسبب أَوْلى)[3].

ويروى عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: (لو اختلعت امرأةٌ من زوجها بميراثها وعِقاص رأسها، كان ذلك جائزًا)[4].

القول الثاني: أنه لا يجوز للزوجِ أن يأخذَ منها أكثرَ مما أعطاها.

وبه قال أحمدُ وإسحاق وعطاء وطاوس والأوزاعيُّ.

وقال الأوزاعي: (كان القضاةُ لا يُجيزون إلا ما ساق إليها)[5].

• سبب الخلاف:
وسببُ الخلاف أن من أجاز الخُلْع بأكثرَ مما أعطاها، شبَّهه بسائر الأعواض في المعاملات.

حيث رأى أن القَدْر فيه راجعٌ إلى التراضي بينهما.

ومن لم يُجِزْ له أن يأخذَ أكثرَ مما أعطاها، أخَذَ بظاهر الحديث، وكأنه رآه من باب أخذِ المال بغير حق[6].

• أدلة الفريق الأول:
• استدلَّ أصحابُ القول الأول بأدلة من الكتاب والسنَّة:
أولاً: من القرآن الكريم:
يقول تعالى: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ [البقرة: 229].

فظاهرُ الآية الكريمة يدلُّ على رَفْع الجُناح عنهما في الأخذ والعطاء من الفداء، من غير فَرْق بين ما إذا كان بقَدْر الصِّداق، أو زيادة عليه، أو أقل منه، فقالوا بوجوبِ العملِ بإطلاق النص، فإنه عامٌّ للقليل والكثير.

ولأنها أعطت مالَ نفسِها بطِيب منها، ورضاءِ نفس[7]، وقد قال سبحانه: ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4].

ثانيًا: من السنَّة النبوية:
• ما رُوِي عن أبي سعيد الخدريِّ قال: كانت أختي تحت رجلٍ من الأنصار تزوَّجها على حديقة، وكان بينهما كلامٌ، فارتفعا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ((أتردِّين حديقته؟))، قالت: نعم وأزيدها، فخلَعها، فردَّت عليه حديقتَه وزادَتْه[8].

فالحديثُ يدلُّ على جوازِ أخذِ الزيادة؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سكَتَ عن ذلك، وسكوتُه صلى الله عليه وسلم تقريرٌ، فيدل على الجواز.

قال الشوكاني: (يمكن أن يقال: إن سكوتَه بعد قولِها: "وأزيده" تقريرٌ، ويؤيِّد الجوازَ)[9].

• كما رُوِي عن الرُّبيِّع بنت معوِّذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلامٌ - وكان زوجها - قالت: فقلتُ له: لك كل شيء وفارِقْني، قال: قد فعلتُ، فأخذوا والله كلَّ شيء حتى فراشي، فجئتُ عثمانَ وهو محصور فقال: الشرطُ أملك، خُذْ كل شيءٍ حتى عِقاصَ رأسِها[10]، فدل ذلك على جواز أخذِ الزيادة.
 
• أدلة الفريق الثاني:
• واستدل القائلون بعدم إباحةِ أن يأخذَ أكثرَ مما أعطاها بالكتاب والسنَّة كذلك:
أولاً: من القرآن الكريم:
فمنه: قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ [البقرة: 229]؛ فالآيةُ الكريمة تنهى عن أخذِ شيءٍ مما أعطاها من المهر، والنهي عن أخذِ شيء من المهر نهيٌ عن أخذِ الزِّيادة على المهر من باب أَوْلى، كالنهيِ عن التأفُّفِ من الوالدينِ، فإنه يكون نهيًا عن ضربِهما الذي هو فوق التأفُّفِ من باب أَوْلى[11].

ثانيًا: من السنَّة النبوية:
• ما رواه ابن ماجه في سننه - بسنده - عن ابن عباسٍ أن جميلةَ بنت سلول أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتِبُ على ثابتٍ في دِين ولا خُلق، ولكني أكره الكفرَ في الإسلام، لا أُطيقه بغضًا، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أتردِّين عليه حديقته؟))، قالت: نعم، فأمَرَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذَ منها حديقته ولا يزداد[12]، وفي الحديث دلالةٌ على النهي عن أخذِ الزيادة عما أعطاها، مع كون النشوزِ من قِبَل الزوجة.

• وما رُوي عن أبي الزبير أن ثابتَ بن قيس بن شَمَّاس كانت عنده بنتُ عبدالله بن أبي ابن سلول، وكان أصْدَقَها حديقةً، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أتردِّين عليه حديقتَه التي أعطاكِ؟))، قالت: نعم وزيادة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أما الزيادةُ، فلا، ولكنْ حديقتَه))، قالت: نعم، فأخَذها له وخلَّى سبيلها، فلما بلَغَ ذلك ثابت بن قيس، قال: قبِلتُ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم[13].

والحديث يدلُّ على عدم إباحةِ أخذِ أكثرَ مما أعطاها؛ إذ لو كان أخذُ الزيادة جائزًا لَمَا نهاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وقد أجاب أصحاب القول الثاني عمَّا استدل به أصحابُ القول الأول بما يلي:
1) قولهم: إن الآيةَ مطلقة، تدلُّ على جواز أخذ الكثير والقليل؛ فإن الروايات والأحاديث الصحيحة المتضمنة للنهيِ عن أخذ الزيادة مخصِّصةٌ لهذا العموم[14].

2) ما استدلوا به من حديث أبي سعيدٍ الخدري، فقد قال فيه الشوكاني في نيل الأوطار: (وهذا مع كونِ إسناده ضعيفًا، ليس فيه حُجَّة؛ لأنه ليس فيه أنه أقَرَّها صلى الله عليه وسلم على دَفْع الزيادة، بل أمرها بردِّ الحديقة فقط)[15].
 
الترجيح:
• ومِن عَرْض هذه الأدلة والمناقشة يترجَّحُ مذهبُ القائلين بعدمِ جواز أخذِ أكثرَ مما أعطاها؛ لأن الرواياتِ المتضمِّنةَ للنهي عن أخذِ الزيادة مخصِّصة لهذا العموم ومرجِّحة للنهيِ عن الزيادة؛ لكثرة طُرقِها وسلامتها من المعارضة، وللمصلحة التي تؤمن تحقيقَ الخُلْع بشكلٍ لا يتعسَّفُ الزوج في قَبوله، ولأن في أخذِ أكثرَ مما أعطاها ظلمًا للزوجة، كما أن من شأن إباحة ذلك أن يتم فتحُ باب المساومة من جانب الزوج لإيقاع الخُلْع، فيكون التقييد أَوْلى لسدِّ هذا الباب، والله تعالى أعلم.

المصدر: كتاب "الخلع كما شرعه الإسلام"



[1] المدونة الكبرى ج 2 ص 340، المهذَّب ج 2 ص 73، مغني المحتاج ج 3 ص 265، المحلى؛ لابن حزم ج 10 ص 235.


[2] المدونة الكبرى ج 2 ص 341.



[3] الأم؛ للشافعي ج 5 ص 197، وفتح الباري ج 9 ص 402.


[4] عقَصت المرأة شعرها عَقْصًا: لَوَتْه وأدخلت أطرافه في أصوله؛ (المعجم الوجيز ص 428)، والعِقَاص بكسر العين وتخفيف القاف: جمع عقصة، وهو ما يُربَط به شعرُ الرأس بعد جمعه؛ (فتح الباري ج 9 ص 397).


[5] المغني؛ لابن قدامة ج 8 ص 175، وفتح الباري ج 9 ص 402.



[6] بداية المجتهد ج 2 ص 71.


[7] بدائع الصنائع ج 4 ص 1905.



[8] سنن الدارقطني ج 3 ص 254، ونيل الأوطار ج 6 ص 251.


[9] نيل الأوطار ج 6 ص 251.


[10] فتح الباري ج 9 ص 397، نيل الأوطار ج 6 ص 251.



[11] بدائع الصنائع ج 4 ص 1905 و1906.



[12] سنن ابن ماجه ج 1 ص 633، نيل الأوطار ج 6 ص 246، قال الشوكاني: (رواه ابن ماجه من طريقِ أزهر بن مروان، وهو صدُوقٌ مستقيمُ الحديث، وبقيَّة إسناده من رجالِ الصَّحيح).



[13] نيل الأوطار ج 6 ص 246، فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 9 ص 402.


[14] نيل الأوطار ج 6 ص 251.


[15] نيل الأوطار ج 6 ص 251.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن