الرد على من أحل الربا


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] يقوم آكل الربا من قبره يتخبط كأنه حبلى، جزاءً بما أكل في بطنه من المال الحرام، يخرج الناس من الأجداث سراعاً، ولكن آكل الربا يتخبط في مشيته عقاباً له من الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279] لا تَظلمون: بأخذ الزيادة، ولا تُظلمون: فيكون لكم رأس المال كما أعطيتموه، تأخذونه عدلاً من الله عز وجل.

فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [البقرة:279] ولم يحدد الله هل الحرب عسكرية، أم مرضية، أو وبائية، أو جوع، أو خوف، إنها كلمة عامة تتضمن جميع أنواع الحرب، ولذلك قال أهل العلم: إن من كان مقيماً على الربا لا ينزع؛ فحق على إمام المسلمين -واجب- أن يستتيبه من أكل الربا، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وإذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحرب على أكلة الربا وشنها عليهم منوطة بنوابه وخلفائه عليه الصلاة والسلام، وكل إمام يسير على نهجه.

والربا باب من السبع الموبقات الكبيرة التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلها، وحذر الأمة فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات) وحذر عليه الصلاة والسلام منه تحذيراً شديداً: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية؛ فقد أحلو بأنفسهم عذاب الله) حديثان صحيحان، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا وآكله وموكله وجميع من يساعد عليه فقال: (لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم فيه سواء) وفي لفظ آخر: (الآخذ والمعطي فيه سواء) لا تقولن: إني محتاج سأقترض من البنك، أنت والبنك ملعونان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً، فهو إذاً كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً ) فهو متنوع وله صور متعددة، فلا تغتروا أيها المسلمون باستهزاء المستهزئين، وألاعيب المتلاعبين، وحيل المتحايلين على الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً، أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام) أدنى باب من أبواب الربا كالذي يزني بأمه في الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا سبعون حوباً -والحوب هو الذنب الكبير- أيسرها أن ينكح الرجل أمه) وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) أحاديث صحيحة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام: (أنه قد رأى في الرؤيا الصالحة -ورؤيا الأنبياء حق- رجلاً يسبح في نهر، ورجلاً آخر قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً) وهكذا يظل يفعل به عقاباً من الله وعذاباً.

ولذلك كان كل من ساهم في معاملة ربوية، أو إنشاء مكان ربويٍ حتى ولو بنظافته وصيانته، أو تأجيره أو بنائه داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستحق للعقاب إذا لم يمتثل ذلك النهي، قال ربنا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] فكم من أناس ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان؟

ولقد وصل الأمر إلى مهازل، أناس يخرجون زكواتهم من الربا، وأناس يحجون من الربا، وآخرون يتصدقون من الربا، وطائفة يبنون المساجد من الربا، وبعضهم يطبع الكتب الإسلامية من الربا، يتقربون إلى الله بالحرام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) هذا بخلاف من يتخلص منها اتقاء غضب الله، فإنه يجوز أن يصرفها في أي مصرف خير، لكن تخلصاً لا صدقة ولا قربة إلى الله عز وجل.

وبعضهم يظن أن الربا في المطعومات والمشروبات، ولذلك فهو يبني سكنه من الربا، ويدفع أجور العمال والخادمات من الربا، ويشتري السيارات من الربا، ويقول: الشريعة حرمت أكله ولكنه إنسان متلاعب، مستهزئ بآيات الله، فإن الله حرم الانتفاع به من أي وجه كان، وجاء التعبير بالأكل في بعض الآيات والأحاديث؛ لأن أكثر ما يستخدم الناس الربا في الأكل، وإن كانوا يستخدمونها في أشياء أخرى كلها من الحرام، سحت في سحت، يبنون أجسادهم خلية خلية من الربا والمال الحرام، لا يتقون الله (وكل لحم نبت من سحت، فالنار أولى به) يأكل منه، ويطعم أولاده وزوجته من المال الحرام، ثم يريد مغفرة الله، ثم يريد أن ينجو من عذاب الله، كيف له ذلك وهو مصر على أكل الربا، حتى لو صلى صلاة الفجر في المسجد.

لكي يكشف عليه الصلاة والسلام أنواع الربا، ولكي يضبط الأمر ويحدده قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإن اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يداً بيد) رواه مسلم وغيره.

ولذلك يشترط في بيع الأشياء المتماثلة من الأشياء المكيلة والموزونة شرطان:

أولاً: التماثل، مائة غرام ذهب بمائة غرام ذهب، بلا زيادة هللة.

ثانياً: التقابض في مجلس العقد، سلمني مائة غرام ذهب الآن، وأسلمك مقابلها مائة غرام ذهب الآن، أو ما يقوم مقام الذهب من العملة النقدية الآن؛ لو تأخر لحظة واحدة وقع في الحرام، لو قال: هات الذهب وسأذهب إلى البيت وآتيك بالمال، فيكون هذا البيع حراماً، فالشرط واضح في الحديث: (يداً بيد) لو قال: هذا مائة غرام من الذهب القديم آخذ منك سبعين غراماً من الذهب الجديد، فهذا لا يجوز، وإنما يبيع الذهب القديم أولاً، ويقبض المال، ثم يشتري به ذهباً جديداً لو أراد، عقدان لا ترابط بينهما لكي تصبح المسألة حلالاً.

(فإذا اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم) سيارة بسيارة مع دفع الفرق جائز، ساعة بساعة مع دفع الفرق جائز، لكن ذهب بذهب مع دفع الفرق حرام، تمر بتمر غير متماثلين حرام، يجب أن يكون التماثل وزناً في الأشياء الموزونة، وكيلاً في الأشياء المكيلة، يداً بيد في مجلس العقد، لا يتأخر الدفع لحظة واحدة.

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: (جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني-نوع جيد من التمور يقال له: التمر البرني- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ فقال بلال : كان عندي تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع -تمر أقل جودة، أعطيته صاعين، وأخذت صاعاً من النوع الجيد، والغرض شريف يريد به نفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يريد أن يأكله هو- ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: أوه أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري؛ فبع التمر بيعاً آخر ثم اشتر به) وهكذا يحدد عليه الصلاة والسلام المسألة، ويقطع الطريق على المتلاعبين المتحايلين.

ولذلك قال أهل العلم: الربا أنواع: منه ربا الفضل، ومنه ربا النسيئة، ومنه ربا اليد، ومنه ربا القرض الذي يجر منفعة، لو وضعت ألف ريال في بنك، وأخذت عليها زيادة، فهو حرام لا يجوز، كذلك لو أعطيته ذهباً وأخذت أكثر من الذي أعطيته، مثلاً أعطيته مائة غرام وأخذت مائة وعشرة أو أخذت سبعين؛ كان ذلك حراماً، لو قلت: هات الذهب؛ وسأدفع لك بعد خمس دقائق أو أذهب إلى البيت وأحضر الثمن، فذلك حرام.

ولو أنك أقرضته على أن يرجع لك الشيء المقترض بسلة؛ فالسلة حرام، لو قلت له: أقرضك على أن توصلني بسيارتك إلى البيت، وترجع لي القرض نفسه، فذلك حرام، كل قرض جر نفعاً فهو ربا، تأخذ مثلما أعطيت، نفس الشيء بلا تلاعب.

هذه مقدمة أقولها بمناسبة أن بعض إخواننا جزاهم الله خيراً من الحريصين قد أراني مقالة نشرت في بعض الجرائد في الخارج عن فتوى أفتى بها أحد الضالين في هذه المسألة على الأقل، يقول في هذه الفتوى، ومن كلامه نقلت مختصراً بعد تعليلات وأدلة وليٍ لأعناق النصوص، واجتزاءٍٍ من أقوال بعض أهل العلم كما يهوى هو، قال بعد ذلك: وبناء على كل ما سبق فإن (........) ترى أن المعاملات في شهادات الاستثمار وفيما يشبهها كصناديق التوفير جائزة شرعاً، وأن أرباحها كذلك حلالٌ وجائزة شرعاً، إما لأنها مضاربة شرعية -كما يظن هذا المفتري- وإما لأنها معاملة حديثة نافعة للأفراد وللأمة، وليس فيها استغلال من أحد طرفي التعامل للآخر.

ثم قال حاثاً الناس أن ينهجوا هذا النهج المحرم: ومن الخير أن يشتري الإنسان هذه الشهادات، وأن يتقبل ما تمنحه -يعني ما يمنح- من أرباح نتيجة لذلك، ثم قال متبجحاً: وقد اقترحت على المسئولين -في بلدته- أن يتخذوا الإجراءات اللازمة لتسمية الأرباح التي تعطى لأصحاب شهادات الاستثمار بالعائد الاستثماري، أو بالربح الاستثماري، وأن يحذفوا كلمة الفائدة لارتباطها في الأذهان بشبهة الربا.

سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] يريد أن يحلل للناس الحرام، ثم يقترح بأن تسمى الفائدة أرباحاً استثمارية وعائدات استثمارية، لكي يلبس على الناس بزيادة، وليس هو الجديد الذي فتح هذا الباب، فقد فتحه اليهود من قبله، وغيروا الأسماء لكي يلبسوا على الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه (سيأتي من هذه الأمة أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) سمها ما شئت؛ خمراً، مشروبات روحية، كحولاً، وسكي، كله حرام، كل مسكر خمر وكل خمر حرام، طلعت أو نزلت، ذهبت يميناً أو شمالاً، دخلت جحر ضب نصراني أو يهودي فهو خمر حرام.

وكذلك نقول: سمها ما شئت؛ ربا، فوائد، أرباحاً، عوائد استثمارية، أرباحاً استثمارية، سمها ما شئت، هو حرام أولاً وأخيراً، طلعت أو نزلت فهي حرام؛ لأنها ربا منصوص على تحريمه في الكتاب والسنة.

ثم قال: إن دخول الإنسان في مضاربة دون تحمل للخسارة.. أيها الإخوة! حرام -هذا الكلام نقوله نحن ولم يقله هو- إذا كان دخوله في مضاربة مع اشتراط ألا يتحمل خسارة حرام، فكيف يدخل في مضاربة وهو يشترط نسبة معينة من الأرباح 8% أو 10% أو 11% ونحو ذلك؟! إنه حرام أكثر، فكيف يقول هذا في فتواه مستنداً يقول: تحديد الربح مقدماً حماية لصاحب المال، وهكذا يجادلون في آيات الله، وهكذا يريدون أن يضلوا الناس.

ورغم هذه الشنشنة التي يطلقونها يقولون متبجحين: الربا ما كان بين طرفين غني وفقير، الربا ما كان فيه استغلال، أما إذا كان بين غني وغني؛ فلا بأس.

من الذي قعد هذه القاعدة؟ ومن الذي وضع هذا الاستثناء؟ هل هو موجود في القرآن؟ لما قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة:278] هل قال: ذروا ما بقي من الربا بين الأغنياء والفقراء؟ أم أن الآية عامة تشمل كل شيء؟! غني وغني، غني وفقير، فقير وفقير، الآية عامة ولذلك مهما حاول هؤلاء أن يخرجوها فإنها لن تخرج؛ لأنها نزلت من عند الحكيم الخبير.

وأهل الباطل يستغلون هذه الفتاوى العوجاء، ويبحثون عنها بتنقيب شديد، ويستغلونها أبشع استغلال، ويصورونها ويطبعونها وينشرونها ويوزعونها، لكن هل دخلت مرة مكاناً ربوياً فوجدت معلقاً عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] هل وجدت هذه الآية؟ هل إذا دخلت مكاناً فيه ربا وجدت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم؛ أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) لا تجد هذا، لكن تجد الفتاوي الرخيصة مطبوعة ومنشورة لتضل الناس، ويل لهم من عذاب الله، ثم ويل لهم ثم ويل لهم.

بلال عنده صاعان من التمر غير الجيد، ذهب إلى السوق، واشترى صاعاً من التمر الجيد، هل هناك أحد مظلوم؟ هل جرت المعاملة وهل فيها استغلال؟ أليست قد تمت برضا الطرفين؟

هذا رضي أن يعطي صاعين من التمر الرديء، وهذا أعطاه مقابلها صاعاً من التمر الجيد، تمت برضا الطرفين بدون استغلال، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أوه أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل) إذاً.. هؤلاء الذين يقولون: نحن نستثمر في البنوك بالربا، البنك قوي وأنا غني، أو أنا فقير محتاج نقول له: أين هذا في حديث بلال ؟ كيف تتلاعبون على الدين؟ كلاهما قد استفاد.. بلال استفاد والآخر قد استفاد، ربما كان عنده عائلة كبيرة والصاعين عنده شيء جيد، وبلال أخذ صاع تمر لشخص واحد للرسول صلى الله عليه وسلم، كلاهما قد استفاد، كلاهما لا ينكر أن يكون قد حقق رغبته، بل هناك تراض، وليس فيها استغلال، لكنه عليه الصلاة والسلام رفض هذا، ذلك لتعلموا مدى تحايل هؤلاء الناس، وتتابعهم على الشر والإثم والعدوان.

وبعضهم يثير الشبهات، يقول: الله قال: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] يعني لا تأخذ (100%، 200%، 300%) نحن نأخذ فقط (10%) نقول له: هل نسيتم بقية الآيات: اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة:278] ولو (1%) .

ثم لو أنني قلت لشخص: حرام عيك أن تزني بعشرات النساء، هل يعني هذا أنه لو زنى بامرأة واحدة صار حلالاً؟! لو قلت لواحد مرتشٍ كبير: حرام عليك أن تأخذ مئات الآلاف أو تأخذ آلاف النقود بالرشاوي، بمعنى: لو أخذ ريالاً واحداً برشوة كان ذلك جائزاً، إذاً فانظروا كيف يتلاعبون بكتاب الله عز وجل، ويستهزئون به، ثم نقول لهم: أين تذهبون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) درهم واحد يمكن هذا (1%) يمكن (0.5%) .

والمؤسف أيها الإخوة أنني سمعت أن بعض الفقراء لديه ألف ريال مثلاً يضعها في البنك، لكي يأخذ عليها فوائد، والفائدة مقدارها؟ عشرة ريالات! هكذا تغلغل الربا في الأمة، حتى لم يكد يسلم منه أحد إلا من رحم الله، ونسأل الله العافية.

فإذاً، الذي يقول البنوك غير معروفة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، نقول له: لكن مبدأ الربا معروف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول له: إن الله يعلم أنه سيكون في الزمان بنوك، وهذه الشريعة تصلح لأول الأمة كما تحصل لآخر الأمة، وتلك مهزلة إذا كانت الشريعة تصلح للزمن الذي قبل وجود البنوك، ولا تصلح لزمن وجود البنوك.

أيها الإخوة! يقول تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] كل شيء موجود حكمه، وإن تغيرت الوسائل والأساليب، فإن هذا التبيان والحكم موجود في كتاب الله العزيز، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟!

اللهم سلمنا من الحرام، وباعد بيننا وبينه، واجعل أموالنا ورزقنا حلالاً يا رب العالمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أحمد الله وحده لا إله إلا هو الحكيم الخبير، الذي بيّن لنا الحلال في القرآن فأحله، وبيّن الحرام فحرمه، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فجاء كلامه عليه الصلاة والسلام مؤكداً للكتاب العزيز شارحاً له ومفصلاً ومبيناً، فصلوات الله وسلامه عليه.

ماذا نقول لهذه الفتاوى العوجاء التي تصدر من أولئك الذين لا يخافون الله، يتبعون شهواتهم وأهواءهم، ويقبضون ثمن الفتوى عاجلاً، ويبيحون الربا المعجل ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا نملك أن نقول إلا كما قال الله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18].

والمشكلة أن في المسلمين ضعفاء إيمان، يقولون: ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً، ضع بينك وبين النار شيخاً أو مطوعاً كما يقولون، هؤلاء ضعاف الإيمان الذي سيستغلون مثل هذه الفتاوى العوجاء وسيقولون: نحن مضطرون، نحن محتاجون، ويضعون أموالهم في الربا، هؤلاء لو قالوا لنا: هذا عالم، هذا مفتي، هذا مشهور، نقول لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أخوف ما يخاف على أمته الأئمة المضلين، الذين يأتم بهم الناس فيضلونهم، ولذلك وضح الله في القرآن بأن هؤلاء سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة زائد: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] لا تحسب المسألة ستمضي في الدنيا، سيحملون أوزارهم يوم القيامة؛ جراء هذه الفتاوى مع أوزار كل الناس الذين اتبعوهم، وأنت أيها الأخ المسلم لا تغتر بقول فلان وفلان، فعندك المسألة في الكتاب والسنة واضحة جداً ولا تحتاج بعدها إلى شيء.

ثم اعلم بأن هؤلاء سيتبرءون ممن اتبعهم يوم القيامة: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167].

وهذا أيها الإخوة تاريخ سيكتب أنه في 8/صفر/1410هـ صدرت الجريدة الفلانية في البلد الفلاني يقول فيها المفتي كذا وكذا، وستلعن الأجيال القادمة هذا الرجل الذي أفتى بهذا ومن معه من الذين يضلون الناس بغير علم، ولو لم يكتبه الناس؛ فهو مكتوب عند الله، وأرض بلاد النيل والحمد لله فيها خير عظيم، وما عقمت نساء مصر أن ينجبن العلماء الصلحاء الأخيار أبداً في القديم ولا في الحديث، والمتدينون من أهل مصر يعلمون أن هذه الفتاوي حرام، وأنها خزعبلات فارغة، ولو أتينا بصبي صغير في المدرسة وقلنا له: لو أخذت مالاً من بنك أو مصرف، وأخذت عليه (10%) نسبة ثابتة فما هذا؟ سيقول الولد الصبي: هذا حرام إنه ربا، وإذا قالوا: إن وظيفة البنك في الاقتصاد كوظيفة القلب في الجسم، فقل لهم: كلا، إن وظيفة البنك في الاقتصاد هي كوظيفة السرطان في الجسم.

المشكلة أن النقاش صار الآن في الأساسيات، ومنذ زمن بعيد كان النقاش في أشياء أصغر، لكن النقاش الآن صار في أساسيات، الربا من السبع الموبقات، من كان يتصور أنه سيأتي زمان على المسلمين يتناقشون في الأشياء الأساسية المفروغ منها، والتي أجمعت الأمة على تحريمها، يأتي أناس اليوم يحلونها والله عز وجل يقول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وقد فسرها عليه الصلاة والسلام لـعدي بن حاتم : أحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، وهكذا يحدث.

وإذا أردت أن تعلم عظم جريمة الربا فتأمل هذه القصة: جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله، قال: يا أبا عبد الله ! إني رأيت رجلاً سكران يتعاقر، قد بلغ السكر أوجه، يريد أن يأخذ القمر -سكران يقفز ليأخذ القمر- فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر، فما حكم امرأتي الآن؟ فقال له الإمام مالك : ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، مسألة طلاق المرأة أو بقائها ليست سهلة، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فلما أتاه قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم أر شيئاً شراً من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب ولم يحارب أحداً آخر، فالخمر ضرره على الشارب في الغالب، والزنا ضرره على الزاني والزانية في الغالب، أما الربا فليس ضرره على فرد ولا فردين ولا دولة ولا دولتين، بل أضراره على أمم تتحطم بهذا الربا، ذلك لتعلموا حكمة الله في تحريم الربا، فهذا الدين عظيم وليس دين لهو ولا لعب.

وكذلك فإن مما يؤسف له أنني قرأت خبراً في جريدة خارجية، ليست خارجية عن البلاد فقط ولكن خارجية عن الإسلام أيضاً، يرد فيها كاتب على الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، في أي شيء؟ في قضية تحريم الربا، يقول: قال ابن باز .. حتى كلمة توقير واحترام واحدة لم ترد، ما هو المأخذ؟ يقول: أنت يا بن باز لو حرمت العمل في البنوك، معناه أن البنوك سيعمل فيها الكفار؛ لأن المسلمين سيتركون البنوك حسب الفتوى، فإذاً نسلم البنوك للكفار، انظر إلى هذه الشبهة.

نقول أيها الإخوة باختصار شديد رداً على الشبهة: لو كان هناك مصنع خمر في بلد من بلدان المسلمين، قلنا: يا أيها المسلمون العاملون في هذا المصنع! حرام عليكم العمل في مصنع الخمر، يجب أن تتركوا وظائفكم فيه، هل سيأتي عاقل ويقول: لا، أصلاً إذا ترك المسلمون هذا المصنع معناه عمل فيه الكفار وسلمنا مصنع الخمر للكفار؟!

لو كان هناك بلد دعارة يشتغل في المسلمون قلنا لهم: يا أيها المسلمون حرام عليكم أن تعملوا في هذا المكان، رواتبكم سحت، هل سيأتي قائل وعاقل يقول: لكن لو ترك المسلمون بيت الدعارة سيستلمه الكفار، هل هذا عقل؟! فانظروا أيها الإخوة كيف يفعل هؤلاء، ثم إن كثيراً منهم يبتغون الشهرة بكلامهم هذا، يأتي واحد مغمور لا يساوي الوسخ الموجود تحت الأظافر، فيرد على عالم جليل في فتوى صحيحة لا غبار عليها ليشتهر فيقال: فلان رد على الشيخ فلان، هؤلاء مثل الأعرابي الذي جاء وبال في ماء زمزم، فقام الناس عليه: لماذا تبولت في ماء زمزم؟! قال: أحببت أن أُشتهر بين الناس حتى لو باللعنات المهم أن يُشتهر، وهذا دأبهم.

ونقول لهذا الخبيث: اطمئن.. ولتقر عينك قراراً لا حركة بعده بإذن الله، أنه سيبقى هناك من الفسقة والعصاة من المسلمين من سيعملون في بيوت الربا، حتى لو صدرت الفتاوى بتحريم أعمالهم، فاطمئن ونم قرير العين، فإن مخاوفك لن تتحقق.

ختاماً فإننا نقول أيها الإخوة: إن علماء الأمة الثقات آراؤهم واضحة، وفتوى هيئة كبار العلماء في المملكة صريحة والحمد لله في تحريم الربا، وفوائد شهادات الاستثمار وصناديق التوفير، وغيرها من المشاريع الكاذبة الخاطئة في البنوك، والحمد لله أنه ما زال لدينا من أهل الفتوى من يوثق بدينهم ولا يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً.

ذكر ابن حجر الهيتمي في مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر قال: كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي، فخرجت يوماً بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان، فلما جلست عند قبره ولم يكن بالمقبرة أحد غيري، إذ أنا أسمع التأوه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا، بصوت أزعجني من قبر مبني بالنورة والجص وله بياض عظيم، فاستمعت صوت ذلك العذاب من داخله وذلك الرجل يتأوه تأوهاً عظيماً، يقلق سماعه القلب ويفزعه، فاستمعت إليه زمناً، فلما وقع الإسفار -أسفر الفجر خفي حسه- فمر بي إنسان فقلت: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر فلان، لرجل أدركته وأنا صغير، وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته، فكبر علي الأمر جداً لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبساً بها في الظاهر، فسألت واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله، فأخبروني أنه كان يأكل الربا؛ فأوقعه ذلك في العذاب الأليم.

وذكر الشيخ محمد بن أحمد السفاريني رحمه الله في كتابه المسمى بـالبحور الزاخرة في علوم الآخرة قال: أخبرني بعض إخواني وهو عندي غير متهم -صادق- أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته، وكانت تتعاطى الربا، فلما كان وقت العشاء، سمع زوجها صريخاً من داخل القبر، وكان جالساً في باب داره، فلما سمعها أخذه الغضب والغيرة من أجلها، وكان ذا شدة وبأس، فأخذ سلاحه وذهب إلى عند قبرها، فوقف عليه وقال لها: لا تخافي، فأنا عندك، زعماً منه أنه سينقذها مما هي فيه لشدة عتوه وجهله، وتناول حجراً من القبر. قال: فما رفع رأسه حتى ضربه ضربة أبطلت حركته، وأرخت مفاصله وأدلع لسانه، فرجع على حالة قبيحة وهيئة فضيحة، قال: فوالله لقد رأيته وقد رض حنكه وبصاقه ينزل على صدره قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلدة عندنا.

النقل قرآن وسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، والعلماء الثقات، وما شهد به الثقات في الواقع، ماذا تريدون أكثر من ذلك أيها الإخوة؟

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم احم بلدنا هذا من الحرام والربا، اللهم واجعل رزق هذا البلد وفيراً يا رب العالمين، اللهم واجعل الطمأنينة والسكينة فيه وفي سائر بلاد المسلمين، اللهم باعد بين المسلمين وبين أكل الربا، اللهم طهر أموالنا من الربا والحرام واجعلها حلالاً يا أرحم الراحمين.