مفسدات القلوب واتباع الهوى [1-2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

الهوى وما أدراك ما الهوى، المفسد العظيم من مفسدات القلوب، هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مدلوكا، ومدخل الشر مسلوكا، والهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي، ولا تفسدنك دنياك بحسن العوافي، فمدة اللهو تنقطع، وعارية الله ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم وتكتسبه من الجرائم.

والهوى حجاب بين العبد وربه، فيه حطت النار، واستحق به غضب الجبار، وحرم أتباعه منازل الأبرار، ولهذا عظمت منزلة مخالفته، فلم يجعل الله للجنة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباعه، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:37-41] قيل: هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها -أي المعصية- لله.

بل شرع الله له -للهوى- الجهاد، فجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن : يا أبا سعيد ! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.

قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أعظم من جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً؛ حتى يخرج إليهم -أي: للكفار- وبدون جهاد الهوى والنفس لا يمكن الخروج إلى جهاد الكفار، فلا بد أن ينتصر عليها أولاً.

فإذا كان هذا شأن الهوى فلابد من معرفته ليحذر ومعرفة أسبابه وطرق التخلص منه، وهذا موضوع الحديث في هذه الليلة بمشيئة الله: معنى الهوى لغةً واصطلاحاً والآيات والأحاديث الواردة فيه، وموقف التشريع من الهوى، وخطر الهوى، وما يتعلق باتباع الهوى والأهواء في التشريع وفي العقائد مما يضاد التشريع ويضاد العقائد ويضاد الأحكام الفقهية أيضاً، ونتحدث كذلك عن علاج الهوى.

ولقد تحدث الشاعر عن قوم رأى معاشرهم جنحوا بـ ... طبيعتهم في كل تيار في اتباع الهوى وقال عنهم:

تهوى نفوسهم هوى أجسامهم      تهتك بكل دناءة وصغارِ

تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى     ملئ الهوان بأهله فحذارِ

فانظر بعين الحق لا عين الهوى     فالحق للعين الجلية عاري

عار: يعني ليس عليه غطاء.

قاد الهوى الفجار بل قالوا لـه     دأبت عليه مقادة الأبرار

الهوى في اللغة: مصدر هويه يهواه، من باب علم أي: أحبه واشتهاه.

والهوى في الأصل: العشق في الخير أو الشر، وما تريده النفس، وجمعه: أهواء، وهوي إذا أحب.

قال ابن القيم رحمه الله في تعريف الهوى: الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحس لما تريده هذه النفس كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً، ولا مدحه مطلقاً، كما أن الغضب لا يذم مطلقاً ولا يحمد مطلقاً، وإنما يذم ما فيه إفراطٌ من النوعين، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار، وهناك غضب لله وهناك غضب للنفس، ذاك محمود وهذا مذموم، وكذلك الهوى هناك هوى فيما يحبه الله عندما تصبح النفس تهوى ما يحبه الله هذا هوى محمود: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) لكن الهوى المذموم أكثر، والمقصود أن الهوى من جملة السلوك الفطرية عند الإنسان، وهذا أمرٌ ضروريٌ وملازم وليس مكتسباً، ولذلك لا يذم مطلقاً ولا يمدح مطلقاً، وهنا يأتينا إشكال؛ وهو أننا وجدنا آيات في القرآن الكريم مفادها ذم الهوى مطلقاً فما هو وجه التوفيق بين هذا وبين ما تقدم؟ قال تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] وقال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] وكذلك ما جاء في السنة وكلام الصحابة والعلماء كما سيأتي.

قال ابن القيم رحمه الله في كلام له في رفع هذا الإشكال: ولما كان الغالب على متبع هواه وشهوته أنه لا يقل فيه عن حجم المنتفع به -يعني: المنتفع بهواه، أي أن الإنسان يمكنه أن يوجه الهوى توجيهاً ينتفع به منه- لكن لما كان الغالب على متبعي الهوى أنهم لا يقفون عند حد الانتفاع بل يتعدون -أطلق ذم الهوى؛ لأن الغالب هو استعماله واتباعه فيما يضر، ولذلك أطلق في عدد من النصوص ذمه بدون تفصيل لعموم غلبة الضرر، مثل الشهوة والغضب، فأنت ترى في كثير من النصوص ذم الشهوة مطلقاً، وهناك شهوة مباحة ومستحبة وهناك غضب محمود وذلك لأنها غالباً لا تنفع وإن لم تكن كلها أضرار، وبهذا يحصل التوفيق وتفهم القضية ويندر من يقصد العدل في هذه الأمور ويقف عندها؛ ولذلك لا تكاد تجد الهوى في الكتاب والسنة إلا مذموماً، وعندما ذكر الهوى في السنة بذم جيء به مقيداً، كما جاء في الحديث الذي صححه بعض أهل العلم وضعفه بعضهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فإذا كان هواك تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام كان هوى محموداً.

وعندما كان صاحب الهوى منه إما محباً للخير حاضاً عليه، وإما مريداً للشر حاضاً عليه، وتجد أن الله عز وجل يصف الهوى في أكثر الآيات للكفار: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا [الأنعام:150] .. قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56].. وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] والمقصود بهذه الآيات نوع من الكفار هم أهل الكتاب: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48] .. فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [الشورى:15] .. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].

وقد جاء في الحديث نسبة الهوى إلى صاحبه كما قال: (والعاجز من أتبع نفسه هواها) مع تقصيره في طاعة الله واتباعه للشهوات لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع بل يتمنى العفو والجنة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار. (العاجز من غلبت عليه نفسه فأعطاها ما تشتهيه).

قال الحسن : [إن قوماً لهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لقوا حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب فإنه لو أحسن الظن أحسن العمل. وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]] وجاء في الحديث الصحيح في الحوار بين حذيفة وعمر لما روى حذيفة رضي الله عنه حديث عرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، وكيف يصبح قلب المؤمن في النهاية بعد التمحيص أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والقلب الآخر الذي نكتت فيه نكتة من المعصية على نكتة أخرى من معصية أخرى على ران يعلو القلب، قال: (والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فأضاف الهوى إلى القلب، وأضاف الله عز وجل الهوى دون أن ينقصه إلى الكفار لأن أهواءهم ليست على الحق بخلاف المؤمن فإن هواه موافق للحق، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فالكافر هواه كله باطل، والمؤمن قد يرتقي هواه حتى يصير تابعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا مال إلى شيء كان ذلك الشيء سنة وطاعة وعلى أدنى الأحوال مباح.. فهوى المؤمن إذا ارتقى يصبح موافقاً لما في الكتاب والسنة.

ومما ورد من استعمالٍ في الهوى الذي لا يذم ما تقدم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغار على اللاتي يهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51] وأيضاً قال الله له: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] قالت عائشة : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك).

وفي صحيح مسلم في قضية الأسرى بعد معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر -لوزيريه- مستشيراً: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ بهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان -نسيب لـعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء قمة الكفر وصناديدها، قال عمر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت).

إذاً: مال إلى قول الصديق ، وسماه هوى مع أنه أخذ به لمصلحة الإسلام في ظنه، وليس لأجل اتباع الهوى المخالف للحق، فكان ذلك الاجتهاد من النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه: نأخذ ما ننتفع به من المال منهم ليس لجيوبنا بل لمصلحة الإسلام، ولعل الله أن يهديهم فيموتوا على الإسلام بدلاً من أن نقتلهم على الكفر، هوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق ، فنـزل القرآن مصوباً لرأي عمر رضي الله عنه؛ لأنه ليس له أي مدخل في الدنيا، وإنما ضرب الرقاب إثخاناً لهؤلاء الكفار لتنكسر شوكتهم، وقدم على أخذ الأموال وإطلاق هؤلاء الذين ربما يعودون في الجيش القادم ضد المسلمين..

وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فقوله صلى الله عليه وسلم: (والقلب يهوى ويتمنى) ليس في الشر فقط بل في الخير أيضاً، ولهذا قال بعده: (ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) ما هو المنهي عنه بالنسبة لنا الآن وأي هوى الذي ننهى عنه؟

لو نظرنا في المواضع التي نزلت في الكتاب العزيز لعرفنا أننا نهينا عن اتباع الكفار كما تقدم، وقال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] هل هذا مثل الذي يتبع هواه؟ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] وهذا الاتباع فيه التقصي للشيء من كل وجه؛ لأن الاتباع في الأصل المشي خلف الشيء، فالذي يكون متبعاً لهواه يتأمل دقة العبارة في القرآن وبلاغة القرآن: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28] إذا قلت: فلان اتبع فلاناً، أي: مشى وراءه، واحدة واحدة، حذو النعل بالنعل، فقول الله تعالى: وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] فكأن الهوى هو القائد وهم يسيرون خلفه فيتبعونه، فحيثما مال بهم الهوى مالوا، وحيثما قادهم انقادوا وهكذا.

وقد جاءت السنة بهذا التعبير عن أبي أمية الشعباني قال: (سألت أبا ثعلبة القشري فقلت: يا أبا ثعلبة ! كيف تقول في هذه الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105]؟ قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف) هل قوله: (عليكم أنفسكم) يعني: عليه نفسه وما له دخل في الناس إذا رأى منكراً أو خطأ؟ هل هذا معنى الآية؟ كلا، ولذلك قال: (إني سألت النبي عليه الصلاة والسلام عنها -فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مفترةً -تقدم على الآخرة- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه -لا أحد يرضخ لأحد، كل واحد يرى نفسه أنه شيخ المشايخ وأعقل العقلاء وأحكم الحكماء وأذكى الأذكياء، ولا أحد يتنازل عن ذلك- فعليك بنفسك ودع عنك العوام) الآن يطبق عليك .. عندما لا يوجد مجال إلا هذا فسدت الدنيا وفسد الجو المحيط والبيئة وكل واحد متبع هواه والشر منتشر والدنيا مقدمة، وكل إنسان معجب برأيه فلا فائدة إذاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أغلقت الأبواب سيأتي وقت يمر على البشرية بهذه الطريقة وبهذه الصفات، فعليك نفسك عندئذٍ، فنحن الآن نقترب من هذه المرحلة؛ لكن -الحمد لله- ما وصلنا إليها ولا زلنا نرى نتيجة من الدعوة، ونتيجة من النصيحة، ونتيجة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك تأثر من بعض الناس وإن كانوا أقلية؛ لكن هذا موجود، وهناك أناس من المؤمنين سيصلون إلى مرحلة هذه حالها، قال: (فإن من ورائكم أيام صبر، الصبر فيها مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) وهو حديث صحيح فقيد الهوى بمضلات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، كل إنسان في نفسه هوى وشهوة، فهل يعاقب لأن في نفسه هوى وشهوة؟ هل يطلب من كل إنسان أن يستخرج الهوى والشهوة من نفسه وينبذها خارجاً؟ الجواب: لا. ولا يستطيع، يعني: لا يأثم على وجودها وليس مطالباً بإخراجها لأنه لا يمكن انتزاع الهوى والشهوة من النفس وإسقاطهما، ولذلك قال شيخ الإسلام : "ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليها، بل على اتباعه والعمل به" إذا صار يتبع شهوته في كل شيء، ويتبع الهوى في كل شيء فالعقوبة على الاتباع لا على نفس الشهوة، وهذا كلام دقيق موزون، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، وكان في جهاد: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:40-41] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الغضب والرضا) وهذا حديث حسنه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة .

وقوله في الحديث: (هوىً متبع) فيه دليلٌ على أن المتبع هو مقامة النفس، كقوله: (شحٌ مطاع)وجعل الشح المطاع أنه هو الآمر وجعل الهوى متبعاً لأن المتبع قد يكون إماماً يقتدى به ولا يكون آمراً.

ما هو موقف الشريعة من الهوى؟

عندما خلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة، قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] فلجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، وإنما هو أعظم داءٍ فيه تلفها، وتضع الداء موضع الدواء، والدواء موضع الداء، وكله بسبب الظلم والجهل والهوى فيتولد بذلك عللٌ وأمراض، كيف لو أن إنساناً داوى نفسه بشيء ٍيجلب له المرض، وداء المنية كانت هي الداءُ، كيف سيكون حاله؟ فيتولد من ذلك عللٌ وأمراض، وهي مع ذلك تبلغ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال، وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح في ظلمها فتقول النفس لله: أنت قدمت علي، وأنت كتبت، وأنت كذا وأنا بريئة، وأنا مغصوبة وأنا مجبورة مع أنها تملك الإرادة في الاختيار وفيها قوة الممانعة والمداهنة.

فهاتان الخصلتان: الظلم والجهل هما أساس كل شرٍ عند الإنسان، ولا يظن ظان أن ظلم الإنسان وجهله يكون في حق غيره.. بل إن أول من يتضرر بهذا هي نفسه التي بين جنبيه، والتشريع إنما جاء لإصلاح الإنسان في دنياه وآخرته ولصلاحه كذلك، وأما هواه المبني على الظلم والجهل فلا يمكن أن يحقق له سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا علمت حقيقة التضاد بين الهوى والشرع، وحقيقة الظلم والجهل في النفس، وأن والهوى مركب فيها، وأن التشريع جاء لإصلاحها فمن المتوقع أن يحدث هناك تعارض بين الشرع وبين النفس، لأنك تهوى وتجهل وتظلم، والشرع يريد صلاحاً وإصلاحاً وعدلاً فمن المتوقع أن يحدث اصطدام بين الشرع والنفس، وهذا الحق والشرع واتباع الهوى نقيضان لا يجتمعان، فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع، يأتي النهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم نجد فيه أن الأمر باتباع الشرع جاء مقروناً بالنهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم؟

وهنا تصريح باتباع الشرع وأعقبه بالنهي عن اتباع الهوى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثـية:18].

والشرع يأتي مناقضاً للهوى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] قال الشاطبي: "حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما".

يعني: لا يوجد إلا شريعة وهوى ولا يوجد شيء ثالث، وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده وهو الباطل، فاتباع الهوى مضاد للحق.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في فصل تعارض العقل والنقل في الوجه السادس والستون: أخبر سبحانه أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية لا من أحكام العلم والهدى، فقال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50] فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، فإذا رغب عن اتباع ما أنزله الله سيقع حتماً في اتباع الهوى، وإذا تعدى ما أنزل الله؛ حتماً سيقع في اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكم الله إلا حكم الجاهلين -وقد كان شيخ الإسلام يحارب في جبهة المنطق وعلم الكلام يحاربهم ويقف ضدهم فكان يقنعهم يقول يعني: غير النصوص الشرعية اتباع الهوى- فهذه الأشياء التي تخالفون إنما هي قواعد فلسفية بل هي اتباع هوى ضلال، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية -كما فعل الأشاعرة - وتحاكموا إليها، والنص إذا خالف القواطع العقلية والبراهين اليقينية يؤول ويسمى بغير اسمه.

كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد، وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقا.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في نصيحة له لعموم المسلمين قال في أولها: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يرى هذا الخطاب من المسلمين سلك الله به السبيل إلى المسلمين، وأعاذني وإياكم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين، قال في نصيحته: وكل من أعرض عن القرآن والسنة فهو متابعٌ لهواه عاصٍ لمولاه، مستحقٌ للنقد والعقوبة كما قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50] وقال تعالى في نقص الكفار: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].

واتباع الهوى -والعياذ بالله- يطمس نور القلب ويصد عن الحق، كما قال تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] فاحذروا -رحمكم الله- من اتباع الهوى والإعراض عن الهدى وعليكم بالتمسك بالحق والدعوة إليه، والحذر ممن خالفه لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

وهذه القضية -أيها الإخوة- متفقة مع فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وبدون مخالفة الهوى تفسد السماوات والأرض، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ولهذا كان من مقاصد الشرع تعبيد الناس لرب العالمين وتخليصهم من رق الهوى وأسره.

قال الشاطبي رحمه الله: المقصد الأصلي من وضع الشريعة في هذه الأحكام، إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً.

الآن نحن هل نستطيع الخروج عن الكون إطلاقاً؟! لا . فنحن عبيد غصباً عنا من هذه الناحية، فهل يمكن أن تخرج عن نواميس الله الكونية؟ لا يمكن، فأنت رغماً عنك عبد، لكن ممكن أن تعصي الله وممكن أن تفعل المنكرات والمحرمات، والشرع جاء ليجعلك متبعاً لهدى الله اختياراً كما أنك عبدٌ له اضطراراً، فالآن الكفار عبيد لله بالاضطرار، فإذا أراد أن يمرضهم أمرضهم رغماً عنهم ، وإذا أراد أن يحضرهم أحضرهم غصباً عنهم، وإذا أراد أن يميتهم قبض أرواحهم رغماً عنهم، فهم عبيدٌ رغماً عنهم، من هذه الجهة جهة اضطرار، لكن الشريعة لا تريد العبودية من جهة الاضطرار فقط، بل تريد أيضاً أن تكون عبداً من جهة الاختيار، فيصلي لله بنفسه، ويزكي بنفسه، ويذكر بنفسه، ويدعو بنفسه، ويترك الحرام اختياراً منه، فيؤجر، حتى يعبد الله اختياراً كما أنه يعبده اضطراراً.

فالشريعة جاءت بتعبيد النفس لله، ولذلك تجد أن الشريعة لا تأمر بأشياء تهواها النفس أصلاً، ليس هناك أوامر كثيرة في القرآن الكريم والسنة تقول: لا تنسوا الأكل، عليكم بالأكل والمأكولات، وعليكم بالشرب، يا أيها الناس! الشرب والشراب، من شرب فله كذا كذا حسنة، انكحوا ومن نكح فله كذا كذا، اشتروا وحصلوا الأموال، من حصل الأموال فله كذا، لماذا لم تأت الشريعة بنصوص من هذا النوع؟ وإنما تجد شيئاً شاقاً وثقيلاً على النفس؛ فكم من نصٍ ورد في الصلاة وكم من نص ورد في الجهاد! لأنها ثقيلة على النفس، لكن الأشياء الخفيفة التي تهواها النفس بطبيعتها هل تجد فيها آيات كثيرة؟!

هل تجد آيات كثيرة تحث على الأكل والشرب والنوم والنكاح والبيع والشراء؟

لا.

لماذا؟

لأن هوى العبد معه، فلا يحتاج إلى مؤكدات ومحفزات ومرغبات فيه، لكن الأشياء التي تخالف حظ النفس كالصلاة والجهاد والصيام وإخراج الأموال والصدقات والبذل والتضحية وردت فيها النصوص الكثيرة والمرغبات؛ لأن الشريعة تريد أن يكون العبد متبعاً لمولاه لا متبعاً لهواه، وأن يكون عبداً اختياراً كما هو عبدٌ اضطراراً.

قال ابن القيم رحمه الله: ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقتٍ تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين، وأمره أن يرفع حوادث الهوى دائماً إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد لحكمهما.

والمقصود العقل المتبع الموافق للشرع وليس العقل المخالف للشرع، فالمخالف للشرع ليس بعقل في الحقيقة، وإنما سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عما يضره.

وقال الماوردي رحمه الله في كلام نفيس له: فلما كان الهوى غالباً، وإلى سبيل المهالك مورداً؛ جُعل العقل عليه رقيباً مجاذباً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع ذاكرة خطوته، وخداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه؛ قوة السلطان وخفاؤه.

أما الوجه الأول: فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه حتى يستولي عليه -أي: على العقل- مغالبة الشهوات، فيكل العقل عن دفعها، أي: أن أي إنسان واحد يمكن أن يكون عنده عقل يدفع به الشهوة، لكن إذا كثرت الشهوات سيتعب العقل من الدفع والدرء فيخف سلطانه ويقوى الهجوم فيضعف عن المنع فيقع، مع أنها واضحة في العقل أنها غلط، قال: وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وإنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، وفعلاً تجد بعض الناس يقول: يا أخي! نحن شباب، وبعض الآباء أيضاً يعذرون أبناءهم الشباب بهذه.. فإذا عوتب بتصرف ولده الخطأ قال: هذا شاب مراهق، هذه الفترة لا بد منها، وماذا يعني لا بد منها؟ كأن يقول: لا تؤاخذ هذا الولد الشاب، فيقول الماوردي إنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، كما قال محمد بن البشير:

كلٌ يرى أن الشباب له          في كل مبلغ لذةٍ عذرا

كلما أراد أن يتبع لذة محرمة هونت عليه القضية أنه شاب، يقول: مازال شاباً صغيراً اصبر عليه، الآن يلعب ويلهو في الحرام لأنه شاب.

قال: وحسم ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة.

أي: نحن في تربية الشباب لا بد أن نقوي عندهم داعي العقل الذي يعني: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: طريق الخير وطريق الشر، فيعرف الحق والباطل، الطاعة والمعصية، يعرف ما يضره وما ينفعه، على الأقل يعرف الشيء الذي يضر والشيء الذي ينفع، هذا الميزان والقوة التي في النفس، وقوة العقل إذا نميناها عند الشباب يصير عنده مركز تحكم قوي وعنده مقاومة قوية، أما إذا كان داعي العقل عنده ضعيف ولا يميز بين ما يضره وينفعه وليس عنده تلك القوة والسلطان، فعند ذلك إذا اجتمعت عليه الشهوات غلبت عقله الضعيف المسكين.

قال: وحق ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام، أي: يقال له: فكر! أنت الآن عندما تذهب تتابع الفتيات بالحرام ثم تقع في الزنا والفاحشة، أليس ذلك ضرراً عليك؟ هتكت عرضاً والله يغار أن تنتهك حرماته فتسببت في إنجاب ولد حرام فضيحة عليك وفضيحة عليها، وسمعتك تتلوث، وتجلب لنفسك المرض، وتفعل وتفعل، يعني: هذه الأشياء فيها تربية، وداعي العقل، هي أن تفكر وتستعمل العقل، فكر ما حالك في القبر؟ يوم القيامة وأنت في تنور من نار، وفي عذاب الزناة، فماذا تختار؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) وأخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، لا يمكن اختراق الجنة إلا عبر المكاره، ولابد أن تتحمل لتصل، والطريق إلى النار اتباع الشهوات، لا أحد يصل إلى جهنم إلا على جسرٍ من الشهوات؛ لأنه قال: (حفت النار بالشهوات) الذي يدخل النار لابد أن يكون متبعاً للشهوات، حفت الجنة بالمكاره، ولن تنال إلا على جسر من التعب باتباع الهدى وترك الهوى واجتنابه.

إذاً: لابد أن نركز على هذا حتى يثمر العقل، فنقول للشباب والشابات ذكوراً وإناثاً: فكر بالعواقب والنتائج والمآلات، هذه المسألة فإذا انقادت النفس للعقل بما أُشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير العقل مشهوراً وفي النفس مقهورا، ثم له الحظ الأوفر في الثواب الصالح وثناء المخلوقين، فالشاب يقول: أنا لو اتبعت الهدى فسأنال ثواب الله وثواب المخلصين، وإذا اتبعت الهوى يحصل علي كذا، في الدنيا فضيحة ومرض ... الخ، وفي الآخرة سخط الله والعذاب الأليم.

قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:40-41]. وقال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى.

وقال بعض الحكماء:أعز العز الامتناع من ملك الهوى.

وقال بعض البلغاء : خير الناس من عصى هواه بطاعة ربه.

وقال بعض الأدباء: من أمات شهوته أحيا مروءته.

وطبعاً ليس المقصود بإماتة الشهوة المباحة والمستحبة، كلا، هي توجيه وعملية تنظيم وضبط الغريزة.

وقال بعض العلماء كلاماً بليغاً: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله، فهو شر من البهائم.

وقيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس وأحراهم في الظفر في مجاهدته؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه.

قد يدرك الحازم من رأى المنى     بطاعة الحزم وعصيان الهوى

قال الماوردي : وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره حتى تتموه أفعاله على العقل، يعني: ليس كل حرام يأتي إلى الإنسان واضحاً وصريحاً، الهوى يستعمل أسلوب اللف والدوران والإخفاء والتدبير والتمويه والتغريب في قالبٍ يحبه الناس.

والهوى يموه فيتصور القبيح حسناً، والضار نفعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون للنفس ميلٌ إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وتتصوره حسناً لشدة ميلها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة، وضبطها شيخٌ لي في النحو قرأت عليه: يعمي ويصمي.

وقال علي رضي الله عنه: الهوى عمى.

وأما السبب الثاني: فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتهى، فيطلب الراحة في اتباع ما تسهل حتى يظن أن ذلك أوثق الأمرين، وأحمد الحالين، اغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم، فلا يعدم أن يتورط بخدع الهوى، وريبة المكر، في كل حسن ومكروه.

ولذلك قال عامر بن الطلق : الهوى يقظان والعقل غلب فهذا سبب نجاح عملية التمويل، فالهوى يقظان والعقل راقد والنفس تطلب الأسهل.

وقال سليمان بن وهب الهوى أمنع، والرأي أنفع.

وقيل في المثل: العقل الوزير الناصح، والهوى وكيل فاضح.

كيف نتغلب على السبب الأول وعلى السبب الثاني؟

التغلب أن يجعل فكر قلبه حكماً على نظر عينه، فإن العين رائد الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل.

وقال بعض الحكماء: نظر الجاهل بعينه، ونظر العاقل بقلبه، يعني أن الجاهل يبنى أنه حسن أو لا بالشيء السطحي الظاهر أمام العين، العاقل أو الذي سوف ينجو ينظر بعقله لا بعينه، ولذلك ممكن يكون أعمى وهو نادر، ثم يتهم نفسه في فوات ما أحبت وتشتيت ما اشتهت، إذاً من الطرق الكبيرة لمعالجة الهوى أن تنظر أين ميل نفسك، إذا رأيتها تميل في اتجاه معين اتهم نفسك وشك فيها أنها تريد هذا وهو محرم، أو فيه أمر لا يرضاه الله، ولذلك مالت إلى نفسك، فخالف الأصل فاتهم نفسك فيما أحبت وما اشتهت.

ثم انظر إذا صرت بين أمرين أيهما أثقل على النفس، فإن النفس عادة تريد الأسهل؛ لأن النفس عن الحق أنفر، وللهوى آثر؛ ولذلك قال العباس: إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك وخذ أثقلهما عليك، والثقيل يبطئ النفس وتظهر القضية بشكل أوضح مع البطء.

وقال علي رضي الله عنه: [من تفكر أبصر، والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالإقدام عليه، فيكون استدراك ولا ينفع التفكير بعد العمل، ولا الاستبانة بعد الفوز -إذاً: خرجنا الآن بأمرين فانظر ما تميل إليه نفسك فخالفه- وإذا تعرضت لأمرين فانظر أثقلهما عليك فرجح أن يكون فيه الصواب وأخفهما على نفسك فشك ورجح أن هذا فيه الخطأ والباطل].

إذا نظرنا إلى قول الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] أي: اتخذ دينه هواه، لا يهوى شيئاً إلا ركبه، فهؤلاء الكفار لا يؤمنون بالله، ولا يحرمون ما حرمه، ولا يحللون ما أحله، إنما دينهم اتباع الهوى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ولا يخاف الله، هذه بعض عبارات المفسرين في تفسير هذه الآية، حتى كان الواحد من العرب الكفار يعبد حجراً، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وعبد الثاني، لماذا؟: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] أفرأيت -يا محمد- من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له ملكية كل شيء وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثـية:23] فليس في علمه طريق حقٍ يسير فيه.

وحق الهوى أن الهـوى سبب الهـوى     ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى

ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، ألا ترى أنه جعل الضلالة والحيرة فيمن أضله عن علم: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثـية:23] وهذا أشد شيء، ألا ترى أن العاشق من شدة إعجابه يكاد يعبد المعشوق.

ألا ترى أن أهل البدع لبس عليهم وأضلهم الله وبعضهم على علم، هل تظن أن شيوخ أهل البدع لم يطلعوا على كلام أهل السنة ؟ أنت تظن أن رهبان النصارى الكبار مثل الفاتيكان ما قرءوا بمقارنة الأديان؟!

إذاً: لماذا لا زالوا يصرون على ما هم عليه؟ اتباع الهوى، فهم يقولون: أتباعنا بالملايين، إذا تركنا هذا ذهب علينا المنصب والجاه والعلاوات والمميزات فهم لا يزالون على ضلالهم فقد أضلهم الله على علم.

التوحيد والهوى متضادان، كما قال ابن القيم : فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه حتى في هواه، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكسر الأصنام وعبادة الله، وليس مراد الله سبحانه وتعالى كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً -لاحظ العبارة- الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لكسر الأصنام، هناك أصنام في القلب، وأصنام في الواقع، فمن القصور الشديد تكسير الأصنام التي في الواقع وفي الخارج وترك الأصنام التي في الداخل، وكل واحد عنده هواه صنماً في قلبه يعبده ويتبعه، يتبع هواه، ولذلك قالوا: صنم كل إنسان هواه، وتأمل قول الخليل لقومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب؟ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ [الفرقان:44] وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176] وسنأتي على شرح هذا المثل إن شاء الله.

فاتبع هواه في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات والنذر فمثله في الخسة كمثل الكلب في أخس أحواله، وفي عدم التأثر بالمواعظ والبقاء على الضلالة، إن تحمل عليه وتزجره يلهث، أو تتركه من غير زجر يلهث، ولذلك قيل: كل حيوان يلهث من تعبٍ أو عطشٍ سوى الكلب فإنه يلهث بكل حال من الراحة والشدة والعطش والشبع والري والجوع، الكلب يلهث في كل حال، قال: وكذلك متبع هواه يلهث على غرض نفسه، ويتعطش إلى الدنيا وإلى الحظ العاجز ولا يلتفت إلى الوعظ ولا إلى غيره, فانظر حب الدنيا ما يفعل بالعلماء: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] عالم فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:175-176] نزول هائل جداً، من عالم إلى كلب.

كيف ولماذا؟

آتيناه آياتنا لكنه أعرض عنها وانسلخ، والسلخ الفصل التام وانظروا إلى التعبير القرآني! انسلخ بحيث لا تقع مماسة مع أي شيء انسلخ.. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] هذا الانحدار كيف يصبح قبيحاً جداً، فعلى الإنسان ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع الضرر ومواقع المنجى، وترى بعض الحيوانات لا يأكل أشياء؛ لأنه يعلم أن هذا ضرر عليه إن أكله، والإنسان قد أعطي عقلاً فالواجب عليه أن يميز بين ما يضره وما ينفعه، وكيف يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه؟ والبهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيشٍ هنيءٍ خالٍ عن الحزن والهم، البهيمة لا تصوم في الحقيقة، ولا تعاني من هم ولا غم، ولذلك تساق إلى منحرها وهي منهمكة على الشهوات لفقدان العلم بالعواقب، ولا تعرف ماذا يحدث بعد الذبح؟

والآدمي لا يناله ما ينال الحيوان لقوة الفكر الشاغل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ولأعطي الإنسان من القوة للشهوات كالبهيمة وأكثر من ذلك.

ثم لنتأمل حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... نحن نتكلم عن الهوى في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، وعرفنا ماذا قال تعالى في موضوع الهوى وعرفنا قول الله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] ثم عرفنا من مثال الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه، نأتي على حديث في الصحيحين في موضوع الهوى ونتأمل الأحوال التي تتعلق بالهوى، وموقع ابن آدم منها: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..) إذا تأملت السبعة كما يقول ابن القيم رحمه الله الذين يظلهم الله في العرش يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى.. فإن الإمام العادل صار عادلاً عندما خالف هواه، وإلا لبطش وسرق ونهب وضرب، والشاب المؤثر لعبادة الله نشأ في طاعة الله، وما استطاع أن يصل إلى هذا إلا بمخالفة هواه، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد لولا مخالفة هواه لصار قلبه معلقاً بالمسارح والأغاني والأسواق، وصور النساء والأشكال الجميلة، وكذلك المتصدق لولا مخالفة هوى النفس الداعية للشح والبخل ما أخرج، فكيف وقد أخرج إخفاءً حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وذلك الذي دعته المرأة الجميلة فخالف هواه مخافة لله، وهذا الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما أوصله إلى هذه المرحلة التي يخشع بها لهذه الدرجة مخالفة الهوى. فلذلك كان حر الموقف بعيداً عنه، وشدة الموقف زائلة عن هؤلاء.

التربية من الصغر على اتباع الهوى

هناك أسباب تنشأ منذ الصغر وتكبر مع الإنسان، فعدم التعود على ضبط الهوى من الصغر سبب في التمادي في اتباع الهوى؛ لأن الإنسان قد يلقى من أبويه صغيراً حباً مفرطاً وحناناً زائداً؛ بحيث يطغى هذا الحب والحنان على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لا بد منها لتنظيم الضرائر والنوافع ومقاومة الهوى، وكثير ما يلاحظ تفريط بعض الآباء والأمهات في هذا، من حيث ترفيه الولد وجعله يفعل ما يشاء ويرخي له العنان ليختار ما يشاء، وتلبى كل رغباته، وهذه تربية فاسدة.

يا أخي: إذا لم نحرم الأولاد من شيء أبداً، ولم نقف في طريقهم لنيل مطلوب نفسي عندهم أبداً، ونلبي كل ما يطلبون، ولا نقف عائقاً في طريق ما يشتهون، نكون قد أضررنا بهم، وربيناهم على اتباع الهوى منذ الصغر، ولذلك القضية في اتباع الهوى تنشأ منذ أن يقوم الأب بترفيه الولد وإعطائه ما يريد من البداية، يريد مالاً أعطيناه، يريد جوالاً أعطيناه، يريد دشاً ركبناه له، يريد سيارة أعطيناه، والبنت نفس الشيء تريد أن تتسلى على الدش ورسيفر والجوال، نحن تحت الخدمة.

إذاً: نحن منذ أن ننشئ أطفالنا ويكبروا ويصبحوا شباباً على مبدأ: (خذ) وبالذات إذا كان الأب مقتدراً وغنياً، بل يقول لك: أنا أقطع لقمتي لأعطي ولدي، جزاك الله خيراً، لكن ماذا تعطيه؟ لقمة يأكلها بالحلال فهذا حسن، لكن إذا قلت: أعطيه أي لعبة، فهل فكرت هل هذه اللعبة حلال أو حرام؟ يريد أن يعمل شيئاً، هل فكرت أن هذا الشيء حلال أم حرام؟ وإذا نام عن صلاة الفجر قالوا: دعوه يرتاح مسكين تعبان، فنحن الذين ربيناهم على اتباع الهوى في ذلك، وجعلناهم يمشون على هذا المبدأ منذ الصغر.

قال الشيخ محمد قطب في منهج التربية الإسلامية : والأم التي ترضع طفلها كلما بكى لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي تضره بذلك؛ لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط من صغره فلا يتعود في كبره، ومن منا تتركه ظروفه الصعبة في حياته لرغباته يشبعها كما يشاء، وذلك فضلاً عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط، ويتعوده منذ باكر عمره؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم بالنفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها فتنساق معها، وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط الشهوات والرغبات، حتى وإن كانت في دائرة المباح الذي لا حكم فيه في ذاته؛ لكنه قد يصبح إثماً فيما يشغل عن الجهاد.. المباح يصبح إثماً حينما يشغل عن الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فكل ما ذكرته الآية ليس محرماً في ذاته، فالمساكن ليست حراماً في ذاتها، وتجارة تخشون كسادها ليست حراماً في ذاتها، كلا، لكنه صار فسقاً وحراماً حين أصبح سبباً في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فما الوسيلة للاستقامة على دين الله إلا ضبط هذه الرغبات والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله.

ألا ترون أن صحابية جليلة أخبرتنا بأنهم كانوا يُصوِّمون صبيانهم الرضع في عاشوراء، أي: على أقل يوم في السنة وإذا بكوا أعطيناهم اللعب من العهن ينشغلوا بها حتى وقت المغرب. حتى الرضع كانوا يصومونهم في عاشوراء.

قال: والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها، وعادة يتعلمها، وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها، وأكثر تمكناً منها فيجدها حاضرة في أعقابه حين تفجعه الأحداث؛ لأنه متدرب، كما قال بعضهم: إنه كان يرافق شيخاً فأراد في طريقه أن يشرب من بئر فقال: اصبر إلى البئر التي تليه، فلما وصل البئر التي تليها أراد أن يشرب قال: اصبر إلى البئر التي تليها، وهكذا.. ثم تركه يشرب في النهاية وقال: عود نفسك أنه ليس كل ما دعت النفس مباشرة تستجيب، أحياناً احرمها من بعض الأشياء بما لا يضرها، لكن بحيث يرق ذلك في نفسك قدرة على الاستغناء عن الشيء المباح في حالة عدم وجوده.

ومن أسباب فشل أولادنا في المجتمع أنه متعود أن يلبـى له كل طلب، إذا خرج المجتمع ووجد الحياة صعبة وأنه في الوظيفة يحرم من أشياء، ويخصم منه أشياء، ويطرد من أشياء ويجد كلمة غليظة فلا يتحمل العمل؛ لأنه تعود على إعطاء كل شيء على هواه، وكذلك تجد بعض أولاد الأغنياء إذا افتقر أبوه فجأة أو مات وضاعت الأموال لا يستطيع أن يعيش، متعود على مستوى ثانٍ، والبنت إذا خرجت من عند أبٍ يدللها بأي شيء إلى زوج قليل ذات اليد لا تستطيع أن تعيش، فتطلق بعد وقت قصير، لنفس السبب.

مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم

ثانياً من أصل أسباب اتباع الهوى: مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم، ذلك أن العواطف والدوافع تنمو بالمجالسة وطول الصحبة، فمن لزم مجالسة أهل الهوى، وأدام صحبتهم فلا بد أن يتأثر منهم، لا سيما إن كان ضعيف الشخصية وعنده قابلية للتأثر بمن حوله دون تساؤل، ولذلك كان السلف ينهون عن مجالسة أهل الأهواء، والمقصود بهم أهل البدع الذين يتبعون أهواءهم في العبادة، وأهل البدعة أناس أصحاب عبادة لكن يتبعون أهواءهم في العبادة فلا ينضبطون بأدلة الشريعة ويخترعون عبادات ويضلون بها.

قال: أبو قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.

وقال الحسن بن سيرين: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوهم.

ضعف اليقين والمعرفة بالله

ثالثاً: من أسباب اتباع الهوى: ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة، فإن الله أسرع الحاسبين وله الحكم عز وجل والذي لا يقدر ربه حق قدره، لا يبالي إذا أغضبه وإذا عصاه وإذا خالف أمره، ليس توقير الله وتعظيمه في قلب هذا الشخص كبيراً، ولذلك لا يبالي بمخالفته، ولذلك فإن الله عز وجل وعظ هؤلاء فقال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] لو قدروا الله حق قدره ما اتبعوا الكفر والهوى وخالفوا وعصوا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

التقصير في دعوة أهل الأهواء إلى الله

رابعاً: تقصير الآخرين بالقيام بواجبهم نحو صاحب الهوى يؤدي إلى المزيد من اتباعه؛ لأن صاحب الهوى إذا رأى استحساناً ممن حوله وسكوتاً، وعدم إنكار، وعدم اعتراض، فإنه يلجأ لذلك تماماً، ويزيد ويمضي حتى يتمكن الهوى من قلبه ويسيطر على سلوكياته وتصرفاته، ولذلك جاء الإسلام بالأصل العظيم في النهي عن المنكر وقول كلمة الحق، وأن الإنسان لا يبالي في الله لومة لائم، وأن يقول الحق ولو على نفسه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].. ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].. وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء:63] فلما يرى المبتدع أن الناس يقولون للمنكر: لا فإنه يرتدع ويكف ويخفف أو يختفي.

أما إذا جاهر وانتشر فإن البعض يتبعه، وخاصة حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].

الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى

خامساً: الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى.

هناك أسباب تنشأ منذ الصغر وتكبر مع الإنسان، فعدم التعود على ضبط الهوى من الصغر سبب في التمادي في اتباع الهوى؛ لأن الإنسان قد يلقى من أبويه صغيراً حباً مفرطاً وحناناً زائداً؛ بحيث يطغى هذا الحب والحنان على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لا بد منها لتنظيم الضرائر والنوافع ومقاومة الهوى، وكثير ما يلاحظ تفريط بعض الآباء والأمهات في هذا، من حيث ترفيه الولد وجعله يفعل ما يشاء ويرخي له العنان ليختار ما يشاء، وتلبى كل رغباته، وهذه تربية فاسدة.

يا أخي: إذا لم نحرم الأولاد من شيء أبداً، ولم نقف في طريقهم لنيل مطلوب نفسي عندهم أبداً، ونلبي كل ما يطلبون، ولا نقف عائقاً في طريق ما يشتهون، نكون قد أضررنا بهم، وربيناهم على اتباع الهوى منذ الصغر، ولذلك القضية في اتباع الهوى تنشأ منذ أن يقوم الأب بترفيه الولد وإعطائه ما يريد من البداية، يريد مالاً أعطيناه، يريد جوالاً أعطيناه، يريد دشاً ركبناه له، يريد سيارة أعطيناه، والبنت نفس الشيء تريد أن تتسلى على الدش ورسيفر والجوال، نحن تحت الخدمة.

إذاً: نحن منذ أن ننشئ أطفالنا ويكبروا ويصبحوا شباباً على مبدأ: (خذ) وبالذات إذا كان الأب مقتدراً وغنياً، بل يقول لك: أنا أقطع لقمتي لأعطي ولدي، جزاك الله خيراً، لكن ماذا تعطيه؟ لقمة يأكلها بالحلال فهذا حسن، لكن إذا قلت: أعطيه أي لعبة، فهل فكرت هل هذه اللعبة حلال أو حرام؟ يريد أن يعمل شيئاً، هل فكرت أن هذا الشيء حلال أم حرام؟ وإذا نام عن صلاة الفجر قالوا: دعوه يرتاح مسكين تعبان، فنحن الذين ربيناهم على اتباع الهوى في ذلك، وجعلناهم يمشون على هذا المبدأ منذ الصغر.

قال الشيخ محمد قطب في منهج التربية الإسلامية : والأم التي ترضع طفلها كلما بكى لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي تضره بذلك؛ لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط من صغره فلا يتعود في كبره، ومن منا تتركه ظروفه الصعبة في حياته لرغباته يشبعها كما يشاء، وذلك فضلاً عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط، ويتعوده منذ باكر عمره؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم بالنفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها فتنساق معها، وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط الشهوات والرغبات، حتى وإن كانت في دائرة المباح الذي لا حكم فيه في ذاته؛ لكنه قد يصبح إثماً فيما يشغل عن الجهاد.. المباح يصبح إثماً حينما يشغل عن الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فكل ما ذكرته الآية ليس محرماً في ذاته، فالمساكن ليست حراماً في ذاتها، وتجارة تخشون كسادها ليست حراماً في ذاتها، كلا، لكنه صار فسقاً وحراماً حين أصبح سبباً في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فما الوسيلة للاستقامة على دين الله إلا ضبط هذه الرغبات والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله.

ألا ترون أن صحابية جليلة أخبرتنا بأنهم كانوا يُصوِّمون صبيانهم الرضع في عاشوراء، أي: على أقل يوم في السنة وإذا بكوا أعطيناهم اللعب من العهن ينشغلوا بها حتى وقت المغرب. حتى الرضع كانوا يصومونهم في عاشوراء.

قال: والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها، وعادة يتعلمها، وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها، وأكثر تمكناً منها فيجدها حاضرة في أعقابه حين تفجعه الأحداث؛ لأنه متدرب، كما قال بعضهم: إنه كان يرافق شيخاً فأراد في طريقه أن يشرب من بئر فقال: اصبر إلى البئر التي تليه، فلما وصل البئر التي تليها أراد أن يشرب قال: اصبر إلى البئر التي تليها، وهكذا.. ثم تركه يشرب في النهاية وقال: عود نفسك أنه ليس كل ما دعت النفس مباشرة تستجيب، أحياناً احرمها من بعض الأشياء بما لا يضرها، لكن بحيث يرق ذلك في نفسك قدرة على الاستغناء عن الشيء المباح في حالة عدم وجوده.

ومن أسباب فشل أولادنا في المجتمع أنه متعود أن يلبـى له كل طلب، إذا خرج المجتمع ووجد الحياة صعبة وأنه في الوظيفة يحرم من أشياء، ويخصم منه أشياء، ويطرد من أشياء ويجد كلمة غليظة فلا يتحمل العمل؛ لأنه تعود على إعطاء كل شيء على هواه، وكذلك تجد بعض أولاد الأغنياء إذا افتقر أبوه فجأة أو مات وضاعت الأموال لا يستطيع أن يعيش، متعود على مستوى ثانٍ، والبنت إذا خرجت من عند أبٍ يدللها بأي شيء إلى زوج قليل ذات اليد لا تستطيع أن تعيش، فتطلق بعد وقت قصير، لنفس السبب.

ثانياً من أصل أسباب اتباع الهوى: مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم، ذلك أن العواطف والدوافع تنمو بالمجالسة وطول الصحبة، فمن لزم مجالسة أهل الهوى، وأدام صحبتهم فلا بد أن يتأثر منهم، لا سيما إن كان ضعيف الشخصية وعنده قابلية للتأثر بمن حوله دون تساؤل، ولذلك كان السلف ينهون عن مجالسة أهل الأهواء، والمقصود بهم أهل البدع الذين يتبعون أهواءهم في العبادة، وأهل البدعة أناس أصحاب عبادة لكن يتبعون أهواءهم في العبادة فلا ينضبطون بأدلة الشريعة ويخترعون عبادات ويضلون بها.

قال: أبو قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.

وقال الحسن بن سيرين: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوهم.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3529 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع