فقه العبادات [64]


الحلقة مفرغة

المقدم: ما حكم من أكل أو شرب ناسياً؟ وكيف يصنع إذا ذكر أثناء ذلك؟

الشيخ: سبق الكلام في حلقة سابقة: أن الناسي لا يفسد صومه ولو أكل كثيراً وشرب كثيراً ما دام على نسيانه فصومه صحيح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)، ولكن يجب من حين أن يذكر أن يمتنع عن الأكل والشرب، حتى لو فرضنا أن اللقمة أو الشربة في فمه وجب عليه لفظها؛ لأن العذر الذي جعله الشارع مانعاً من التفطير قد زال.

المقدم: ينتشر عند كثيرٍ من الناس أن الإنسان إذا رأى صائماً يأكل لا يذكره، فما مدى صحة هذا الكلام؟ وكيف يصنع من يرى صائماً يأكل؟

الشيخ: إذا رأى صائماً يأكل فليذكره؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، كما لو رأى الإنسان شخصاً مصلياً إلى غير القبلة، أو رأى شخصاً يريد أن يتوضأ بماءٍ نجس أو ما أشبه ذلك فإنه يجب عليه تبيين الأمر له، والصائم وإن كان معذوراً بنسيانه، لكن أقول: الذي يعلم الحال يجب عليه أن يذكره، ولعل هذا يؤخذ أيضاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)، فإنه إذا كان يذكر الناسي في الصلاة فكذلك الناسي في الصوم يذكر.

المقدم: ما حكم خروج الدم من فم الصائم أو أنفه أو بقية جسمه؟

الشيخ: لا يضره خروج ذلك لأنه بغير قصد منه، فلو أرعف أنفه وخرج منه دمٌ كثير فإن صومه صحيح، ولا ضرر عليه.

المقدم: والذي يتسبب في خروج الدم كأن يخلع ضرسه؟

الشيخ: لا حرج عليه أيضاً لأنه لم يخلع ضرسه ليخرج الدم، وإنما خلع ضرسه لألم، فهو إنما يريد إزالة هذا الضرس، ثم إن الغالب أن الدم الذي يخرج من خلع الضرس دمٌ يسير.

المقدم: سبق أن سألنا عن حكم من أكل أو شرب شاكاً في طلوع الفجر ولم يتبين له؟

الشيخ: سبق لنا في المفطرات أنه يشترط أن يكون عالماً، فإذا أكل وهو شاكٌ في طلوع الفجر ثم تبين له بعد ذلك أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه.

المقدم: ما حكم من أكل أو جامع بعد غروب الشمس ثم انتقل إلى مكان فرآها، نحو من أفطر في الأرض مثلاً ثم أقلعت الطائرة أثناء غروب الشمس فلما ارتفع رأى الشمس؟

الشيخ: الحكم أنه لا يلزمه الإمساك؛ لأنه لما غربت الشمس تم يومه وأفطر بمقتضى دليله الشرعي، ومع أنه أفطر بمقتضى دليله الشرعي فإنه لا يؤمر بإعادته.

المقدم: ما حكم الجماع في نهار رمضان ذاكراً أو ناسياً؟ وما الذي يلزمه؟

الشيخ: الجماع في نهار رمضان كغيره من المفطرات، إن كان الإنسان في سفر فليس عليه القضاء، سواءٌ كان صائماً أم مفطراً، لكن إن كان صائماً وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأما إذا كان ممن يلزمه الصوم فإنه إن كان ناسياً فلا شيء عليه أيضاً؛ لأن جميع المفطرات إذا نسي الإنسان فأصابها فصومه صحيح، وإن كان ذاكراً ترتب على ذلك خمسة أمور: الإثم، وفساد صوم ذلك اليوم، ولزوم الإمساك، ولزوم القضاء والكفارة، والكفارة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هلكت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم خصال الكفارة: عتق رقبة، فقال: إنه لا يجد، فقال: صيام شهرين متتابعين، فقال: إنه لا يستطيع، فقال: إطعام ستين مسكيناً، فقال: إنه لا يقدر، ثم جلس الرجل وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدق به، قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه أو نواجذه، ثم قال: أطعمه أهلك).

المقدم: وإذا تعدد الجماع في اليوم أو في شهر رمضان فهل تتعدد هذه الكفارة؟

الشيخ: المشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه إذا تعدد في يوم ولم يكفر عن الجماع الأول فكفارته كفارة واحدة، وإن تعدد في يومين لزم لكل يومٍ كفارة؛ لأن كل يوم عبادةٍ مستقلة.

المقدم: ما حكم صيام المسافر إذا شق عليه؟

الشيخ: إذا شق عليه الصوم مشقةً محتملة فهو مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( رأى رجلاً يظلل عليه والناس حوله زحام، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر).

وأما إذا شق عليه مشقةً شديدة فإن الواجب عليه الفطر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه الناس أنهم قد شق عليهم الصيام أفطر، ثم قيل له: إن بعض الناس قد صام، فقال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة).

وأما من لا يشق عليه الصوم فالأفضل أن يصوم؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في حرٍ شديد، وما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة ).

المقدم: نود أيضاً أن نعرف هل للفطر في السفر أيام معدودة، كما لو كان الإنسان يريد أن يسافر مثلاً أو يبقى في مدينةٍ غير مدينته حول خمسة أيام مثلاً؟

الشيخ: له أن يفطر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة دخل في رمضان في العشرين من رمضان، ولم يصم بقية الشهر كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما أخرجه البخاري عنه، وبقي بعد ذلك تسعة أيام أو عشرة، فبقي عليه الصلاة والسلام في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، وأفطر في رمضان.

المقدم: كثير من المسلمين يعتمرون في شهر رمضان المبارك، لكنهم يتحرجون من الإفطار لأنهم ذهبوا للعبادة، فما حكم الصيام في رمضان أثناء البقاء في مكة؟

الشيخ: حكم صيامه أنه لا بأس به، وقد سبق لنا قبل قليل أن المسافر إذا لم يشق عليه الصوم فالأفضل أن يصوم، وإن أفطر فلا حرج عليه، وإذا كان هذا المعتمر يقول: إذا بقيت صائماً شق علي أداء نسك العمرة، فأنا بين أمرين: إما أن أؤخر أداء أعمال العمرة إلى ما بعد غروب الشمس وأبقى صائماً، وإما أن أفطر وأؤدي أعمال العمرة حين وصولي إلى مكة، فنقول له: الأفضل أن تفطر، وأن تؤدي أعمال العمرة حين وصولك إلى مكة؛ لأن هذا -أعني: أداء العمرة- من حين الوصول إلى مكة هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المقدم: ما حكم السفر في شهر رمضان من أجل الإفطار؟ ونود أن نعرف كيف يكون ذلك؟

الشيخ: الصيام في الأصل واجب على الإنسان، بل هو فرضٌ وركنٌ من أركان الإسلام كما هو معروف، والشيء الواجب في الشرع لا يجوز للإنسان أن يتحيل ليسقطه عن نفسه، فمن سافر من أجل أن يفطر كان السفر حراماً عليه، وكان الفطر كذلك حراماً عليه، فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يرجع عن سفره ويتوب، فإن لم يرجع وجب عليه أن يصوم ولو كان مسافراً.

وخلاصة الجواب: أنه لا يجوز للإنسان أن يتحيل على الإفطار في رمضان بالسفر؛ لأن التحيل على إسقاط واجب لا يسقطه، كما أن التحيل على المحرم لا يجعله مباحاً.