فقه العبادات [34]


الحلقة مفرغة

المقدم: تحدثتم في اللقاءات الماضية عن الأموال التي تزكى، بقي علينا والذي نحب أن نقف عنده نحن والمستمعون: حكم زكاة الديون؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الديون التي في ذمم الناس سواء كانت ثمن مبيوع أو أجرة أو قرضاً أو قيمة المتلف أو غير ذلك مما يثبت في الذمة ينقسم إلى قسمين:

الأول: أن تكون مما لا يجب الزكاة في عينه كالعروض، يعني: أن يكون الإنسان عنده لشخص ما مائة صاع من البر أو أكثر، فهذا الدين لا زكاة فيه؛ وذلك لأن الزروع أو الحبوب لا تجب الزكاة في عينها إلا لمن زرعها.

الثاني: الديون التي تجب الزكاة في عينها كالذهب والفضة، وهذا فيه الزكاة على الدائن لأنه صاحبه، ويملك أخذه والإبراء منه، فيزكى لكل سنة إن شاء زكاه مع ماله، وإن شاء قيد زكاته وأخرها إلى قبضه، فإذا كان عند شخص لآخر مائة ألف فإن الزكاة تجب على من هي له كلها، لكن هو بالخيار: إما أن يخرج زكاتها مع ماله، وإما أن ينتظر حتى يقبضها ثم يزكيها لما مضى، هذا إذا كان الدين على موسر قادر.

فإن كان الدين على معسر فإن الصحيح أن الزكاة لا تجب فيه؛ لأن صاحبه لا يملك المطالبة به شرعاً، فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فهو في الحقيقة عاجزٌ شرعاً عن ماله، فلا تجب عليه الزكاة فيه، لكن إذا قبضه فإنه يزكيه سنة واحدة فقط وإن بقي في ذمة المدين عشر سنوات؛ لأن قبضه إياه يشبه تحصيل ما خرج من الأرض، يزكى عند الحصول عليه، وقال بعض أهل العلم: لا يزكيه لما مضى، وإنما يبتدئ به حولاً من جديد، وما ذكرناه أحوط وأبرأ للذمة أنه يزكيه سنة واحدة لما مضى ثم يستأنف به الحول، والأمر في هذا سهل، وليس من الصعب على الإنسان أن يؤدي ربع العشر من دينه الذي قبضه بعد أن أيس منه، فإن هذا من شكر نعمة الله تعالى عليه في تحصيله.

هذا هو القول في زكاة الديون، وخلاصته: أنه ثلاثة أقسام:

القسم الأول: لا زكاة فيه: وهو ما إذا كان الدين مما لا تجب الزكاة في عينه، مثل أن يكون في ذمة شخص لآخر أصواعاً من البر أو كيلوات من السكر أو من الشاي أو ما أشبه ذلك فهذا لا زكاة فيه أبداً، مادام الواجب في الذمة، وما لا تجب الزكاة فيه فلا زكاة فيه، ولو كان عنده مئات الأصواع.

القسم الثاني: الدين الذي تجب في عينه كالذهب والفضة فهذا لا زكاة فيه إلا إذا قبضه فإنه يزكيه لسنة واحدة ثم يستأنف به الحول، وقيل: إنه يستأنف به الحول على كل حال، ولكن ما قلناه أولى لما ذكرنا من التعليل.

القسم الثالث: ما فيه زكاة كل عام، وهو الدين الذي تجب فيه الزكاة بعينه، وهذا فيه زكاة كل عام، لكن إن شاء صاحب الدين أن يخرج زكاته مع ماله وإن شاء أخرها حتى يقبضه من المدين.

المقدم: هل يجوز خرص عروض التجارة إذا تعذر إحصاؤها؟

الشيخ: لا يجوز خرصها؛ لأن الخرص إنما ورد في الثمار، وألحق به بعض العلماء الزروع، وأما الأموال فلا يمكن خرصها؛ لأنها أنواع متعددة، لكن على الإنسان أيضاً أن يتحرى ما استطاع وأن يحتاط لنفسه، فإذا قدر أن البضاعة هذه تبلغ مائة ويحتمل أن تكون مائة وعشرين، فليخرج عن مائة وعشرين إبراء لذمته.

السائل: هل تجب الزكاة في مال غير المكلف كالصغير والمجنون؟

الشيخ: هذا فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إن الزكاة في مال الصغير والمجنون غير واجبة؛ نظراً إلى تغليب التكليف بها، ومعلوم أن الصغير والمجنون ليسا من أهل التكليف فلا تجب الزكاة في مالهما، ومنهم من قال: بل الزكاة واجبة في ماليهما، وهو الصحيح؛ نظراً لأن الزكاة من حقوق الناس، ينظر فيها إلى المال؛ لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التوبة:103]، (خذ من أموالهم)، فجعل معقد الحكم أو موضع الورود المال؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ( أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )، وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ويتولى إخراجها وليهما.

السائل: إذاً: هذا بالنسبة لغير المكلف، لكن نود أن نعرف المصارف التي يمكن أن تصرف فيها الزكاة؟

الشيخ: المصارف ثمانية بينها الله تعالى بياناً شافياً كافياً، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة، وأنه مبني على العلم والحكمة، فقال جل ذكره: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، قال الله تعالى بعد ذلك: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فهؤلاء أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم ثمانية:

الفقراء والمساكين

الفقراء والمساكين، وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم، والفرق بين الفقراء والمساكين: أن الفقراء أشد حاجة لا يجد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة، والمساكين أعلى حالاً من الفقراء؛ لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية، هؤلاء يعطون حاجتهم، ولكن كيف نقدر الحاجة؟

قال العلماء: يعطون حاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة، ويحتمل أن يعطوا ما يكونون به أغنياء، لكن الذين قدروا ذلك لسنة قالوا: لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال، فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة، فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة، وهذا قول حسن جيد، أي: أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل، سواء أعطيناه أعياناً من أطعمة وألبسة، أو أعطيناه نقوداً يشتري بها ما يناسبه، أو أعطيناه صنعة إذا كان يحسن الصنعة، يعني: آلة يصنع بها إذا كانت صنعة كخياط أو نجار أو حداد ونحوه، المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة.

العاملون عليها

الثالث: العاملون عليها، أي: الذين لهم ولاية عليها من قبل ولي الأمر، ولهذا قال: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60] ولم يقل: العاملون فيها، إشارة إلى أن لهم نوع ولاية، وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها، وكتابها ونحوه، فهؤلاء العاملون عليها يعطون من الزكاة، ولكن كم يعطون؟ ننظر هم عاملون عليها فهم مستحقون بوصف العمالة، ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف، وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها، سواء كانوا أغنياء أم فقراء؛ لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة، فإن قدر أن العاملين عليها فقراء، فإنهم يعطون للعمالة ويعطون للفقر، فيعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم.