شرح سنن أبي داود [547]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (إن الله رفيق يحب الرفق...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الرفق.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس وحميد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة: [ باب في الرفق ].

والمراد بالرفق الرفق في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي النصح، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل هذا مطلوب فيه الرفق، وكذلك معاملة الناس تكون بالرفق.

وأورد أبو داود حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، والعنف ضد الرفق.

قوله: (إن الله رفيق) يدل على أن من أسماء الله الرفيق، وهو يحب الرفق، مثل: (إن الله جميل يحب الجمال) ومثل (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو رفيق يحب الرفق.

قوله: [ (ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) ].

يعني: أن الذي يرفق في الأمور فإنه يحصل الخير، ويحصل من النفع ما لا يحصل بالعنف والشدة والقسوة والغلظة، وقصة الأعرابي الذي جاء وبال في المسجد معروفة، فقام الصحابة ليزجروه وينهروه؛ لأن فعله هذا شيء عظيم، ولأن المسجد لا يبال فيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتركوه، فالرسول صلى الله عليه وسلم رفق به؛ لأنه لو قام حين زجروه لملأ ثيابه، وملأ جسده، ولتناثرت قطرات البول في المسجد، فيحتاج إلى أن تطهر كل البقعة التي مر عليها؛ لأن النجاسة وصلت إليها، ولكن مادام أنه قد بدأ بالبول فبقاؤه في مكانه يجعل مكان النجاسة محصوراً، وبعد ذلك يطهر هذا المكان الذي علم بأنه تنجس، فالرسول أمرهم بأن يتركوه، ثم إن الرجل تأثر من هذا الذي حصل من الزجر، وأعجبه هذا الذي حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرفق، ولهذا جاء أنه قال: اللهم! اغفر لي ولمحمد ولا تشرك في رحمتنا أحداً.

تراجم رجال إسناد حديث (إن الله رفيق يحب الرفق...)

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس ].

يونس هو يونس بن عبيد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وحميد عن الحسن ].

الحسن هو الحسن بن أبي الحسن البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن مغفل ].

عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (...إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا: حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: (سألت عائشة عن البداوة فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة، فقال لي يا عائشة : ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه).

قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني: لم تركب ].

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن البداوة فقالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى بعض هذه التلاع) والتلاع: هي الأماكن التي يكون فيها الماء، وينزل من علو إلى سفل، فيقال: تلعة للماء إذا كان في الجبل ثم ينزل إلى مكان منخفض، فكان يذهب أحياناً، والرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البادية، لكن الذي هو غير سائغ أن يترك الإنسان الحاضرة ويذهب للبادية، فيصير من أهل البوادي، ويصير من أهل الفلاة بدل ما كان من أهل الحاضرة، وأما الذهاب في بعض الأحيان للبادية فلا يجعل الإنسان بدوياً، كما أن البدوي لو جاء للمدينة ومكث يوماً أو يومين أو ثلاثة فلا يقال: إنه حضري، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج أحياناً.

وقد كان أئمة اللغة يخرجون لأخذ الكلام العربي من الأعراب ومن البوادي، ويدونون ذلك في كتبهم، فلم يخرجوا بذلك عن كونهم من أهل الحضر إلى كونهم من أهل البادية، بل إن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما ذكر الله عز وجل أنه جاء من البدو ليس معنى ذلك أنه كان في البادية، ولكنه ذهب إلى البادية؛ لأن الرسل كلهم من الحاضرة وليسوا من البادية، كما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، فالرسل من أهل القرى وليسوا من البادية، وما جاء من قوله: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100] هو من جنس ما ذكرنا من أن الإنسان يخرج إلى البادية في بعض الأحيان، ولا يخرج إليها ليفارق الحاضرة ويكون بدوياً.

قوله: [ (سألت عائشة عن البداوة فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع) ].

يعني: يخرج إلى هذه التلاع.

قوله: [ (وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة) ].

أي: أنه أراد أن يذهب إلى البادية مرة من المرات فأرسل إليها ناقة محرمة، يعني: غير ذلول، وغير مدربة على الهدوء والسير، وإنما يكون في ركوبها صعوبة؛ ولهذا يقال: يركب الصعب والذلول، فالصعب ضد الذلول، والذلول: المذللة، والصعب: التي يصعب قيادها.

قوله: [ (يا عائشة ارفقي، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) ] يعني: ارفقي بها، وهذا يدل على عظم شأن الرفق وأهميته، والترغيب فيه، والحث عليه، وأنه فيه الفوائد بخلاف العنف فإنه يأتي بعكس ما هو مطلوب.

تراجم رجال إسناد حديث (...إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)

قوله: [ حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة ].

هذا الإسناد فيه تقديم عثمان على أبي بكر ، وكما قلت من قبل فإن التقديم والتأخير لا يدل على الكبر، فإن عثمان أكبر، ومع ذلك قدم أبا بكر في بعض الأحيان، وقدم عثمان هنا في هذا الإسناد.

[ ومحمد بن الصباح البزاز ].

محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا شريك ].

هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن المقدام بن شريح ].

المقدام بن شريح ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبيه ].

هو شريح بن هانئ ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ سألت عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مر ذكرها.

قوله: [ قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني: لم تركب ].

هذا: تفسير لكلمة محرمة، يعني: أنها ليست مذللة، وما ألفت الركوب عليها؛ ولهذا فإنها تكون فيها صعوبة، فهي إذا كانت لم تركب فإنها تحتاج إلى وقت لتكون على الحال المطلوبة من السهولة واليسر، وترك النفور الذي كانت متصفة به من قبل.

حكم استخدام إبل الصدقة لمن لا تحل له الصدقة

وفي الحديث دلالة على أن إبل الصدقة يمكن استخدامها بالنسبة لـعائشة ، ومعلوم أن عائشة لا تحل لها الصدقة أو الزكاة، لكن جاء في هذا الحديث: (فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة).

وكان المقصود من ذلك أنها ستركب عليها وستذهب إليه، فهذا يدل على جوازه، والركوب غير التملك وغير البيع، وغير كونها تتصرف فيها كيف تشاء، إنما المقصود أعطاها إياها من أجل أنها تذلل، أي: من أجل تمرينها، وعائشة وإن كانت لا تستحقها إلا أن في ذلك إصلاح لتلك الناقة.

ومثل ذلك ما جاء في قصة الرجل الذي كان يسوق بذمته إلى الحج وقال: إنها هدي، فأمره النبي أن يركبها وهو يعلم أنها هدي، وهذا معناه أنه جاز استخدامها، وهنا أيضاً يمكن أن يكون المقصود أن تعودها وتذللها لتصير سهلة القياد، ويكون في ذلك مصلحة لمن يستحقها.

شرح حديث (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) ].

أورد أبو داود حديث جرير رضي الله عنه، وهو يدل على عظم شأن الرفق حيث قال: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) أي: أنه لا يحصل خير من وراء العنف، وإنما يحصل منه الضرر.

تراجم رجال إسناد حديث (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)

قوله: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ].

أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ووكيع عن الأعمش ].

الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن تميم بن سلمة ].

تميم بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن عبد الرحمن بن هلال ].

عبد الرحمن بن هلال ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن جرير ].

هو جرير بن عبد الله رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث قال الأعمش : وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال الأعمش : ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) ].

أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) يعني: التؤدة مطلوبة في كل شيء إلا في عمل الآخرة فإنه يبادر فيها، ويحرص عليها، ولا يتهاون فيها، ولا تترك الفرصة لاقتناء ما يعود على الإنسان بالخير.

قوله: [ (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) ].

يعني: أن أمور الدنيا يتأنى الإنسان ويتروى فيها، وأما بالنسبة لأمور الآخرة فلا يتأنى فيها، بل يقدم ويسارع، وهذا يدلنا على أن أمور الآخرة لا بد فيها من منافسة ومسابقة، ولا بد فيها من الجد والاجتهاد، ولا بد فيها من اغتنام الفرص وعدم التساهل، بخلاف أمور الدنيا فالإنسان يتأنى، وقد يكون في التأني الخير الكثير، بخلاف العجلة فإنه قد يترتب عليها شيء من الضرر، فأمور الدنيا التأني والتروي فيها لا شك أنه خير للإنسان.

تراجم رجال إسناد حديث (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)

قوله: [ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ].

الحسن بن محمد بن الصباح ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ حدثنا عفان ].

هو عفان بن مسلم الصفار ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا عبد الواحد ].

هو عبد الواحد بن زياد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث ].

الأعمش مر ذكره، ومالك بن الحارث ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ قال الأعمش : وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد ].

مصعب بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

هو سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

وإسناد الحديث صحيح، وعنعنة الأعمش لا تؤثر.

وقول الأعمش : وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد معناه: أن مالك بن الحارث وأناساً مع مالك بن الحارث ذكروه عن مصعب ، ولم يذكر الأعمش عمن روى مالك بن الحارث وأقرانه هذا الحديث، فالواسطة بين مالك ومصعب غير مذكورة، إلا أنه جاء في المستدرك عن مالك عن مصعب، وهنا يوجد آخرون مع مالك .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الرفق.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس وحميد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) ].

أورد أبو داود هذه الترجمة: [ باب في الرفق ].

والمراد بالرفق الرفق في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي النصح، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل هذا مطلوب فيه الرفق، وكذلك معاملة الناس تكون بالرفق.

وأورد أبو داود حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، والعنف ضد الرفق.

قوله: (إن الله رفيق) يدل على أن من أسماء الله الرفيق، وهو يحب الرفق، مثل: (إن الله جميل يحب الجمال) ومثل (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو رفيق يحب الرفق.

قوله: [ (ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) ].

يعني: أن الذي يرفق في الأمور فإنه يحصل الخير، ويحصل من النفع ما لا يحصل بالعنف والشدة والقسوة والغلظة، وقصة الأعرابي الذي جاء وبال في المسجد معروفة، فقام الصحابة ليزجروه وينهروه؛ لأن فعله هذا شيء عظيم، ولأن المسجد لا يبال فيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتركوه، فالرسول صلى الله عليه وسلم رفق به؛ لأنه لو قام حين زجروه لملأ ثيابه، وملأ جسده، ولتناثرت قطرات البول في المسجد، فيحتاج إلى أن تطهر كل البقعة التي مر عليها؛ لأن النجاسة وصلت إليها، ولكن مادام أنه قد بدأ بالبول فبقاؤه في مكانه يجعل مكان النجاسة محصوراً، وبعد ذلك يطهر هذا المكان الذي علم بأنه تنجس، فالرسول أمرهم بأن يتركوه، ثم إن الرجل تأثر من هذا الذي حصل من الزجر، وأعجبه هذا الذي حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرفق، ولهذا جاء أنه قال: اللهم! اغفر لي ولمحمد ولا تشرك في رحمتنا أحداً.