أرشيف المقالات

الحج تجرد لله

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
الحج تجرُّد لله

الحجُّ تجرُّدٌ لله تعالى، وتلبيةٌ لندائه، وطاعةٌ لأمره، وتصفيةٌ للنفس، وتزكية للروح، وتطهير للوجدان، وعزمٌ صادقٌ على الخضوع لله تعالى، والحرص على مرضاته وتجنُّبِ كلِّ ما يُسخِطُه في بقيةِ أيام العمر، وهو أيضًا تجاوُبٌ مع طبيعةِ الأمة المسلمة من حيث هي كيانٌ واحد، يَدِينُ بعقيدةٍ واحدة، إنه التحامُ المؤمنِ جزءًا لا يتجزَّأ في صفوفِ أمةِ التوحيد، خيرِ أمة أُخْرِجَتْ للناس.
 
وفي الحج يتَّحِدُ النشيد الإيماني، والهتاف الرباني، ينساب من أفواهِ المؤمنين، ويتدفَّق في ضمائرهم وسرائرهم، صادقًا صافيًا في عذوبةٍ وحنان، وشوقٍ وإخبات: ((لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لك لبَّيْكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك)).
 
وفي الحج صورٌ متحركة حية، ترسُمُ ملامحَ الأمةِ المسلمة، وتُعطيها أصولَ الحركة مع الوحدة، فالكلُّ هناك يطوف حول البيت من جميع جهاته، لكنهم مع تفرُّقهم حول البيت العتيق مُتَّصِلون متلاحمون، وكذلك يجب أن يكونوا مهما طافوا في جميع أنحاء الدنيا، تعاونًا ومحبة، وتناصُرًا ومودة، وتضامُنًا وأخوَّة، تمامًا كما وصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين شبَّههم بالجَسَد الواحد.
 
والكلُّ يسعى ولكنْ في حدودٍ لو تجاوَزَها لأخطأ، وكذلك السعيُ في الحياة، حيث على المسلم أن يسعى في دروبها مكافحًا صابرًا لكنْ ضمنَ الحدودِ التي رسمَتْها له الشريعةُ الغَرَّاءُ.
 
والكلُّ يقف في عرفات في جَمْعٍ لا مثيل له قَطُّ في أمةٍ من الأمم، قلوبُهم مشدودة إلى خالقهم، وألسنتُهم تُردِّد ذكره، وتلهَج بشكره، ورجاؤهم في الله وحده، ودموعهم الغزيرة تتساقط خوفًا وطَمَعًا، فيشعُر الواحد منهم بالرحمةِ الإلهية تفيض عليه، ويشعرون جميعًا أن سعادَتَهم الحقيقية هي في أن يعيشوا مع الله عز وجل، ويحكموا بقرآنه، ويُسلِموا قيادَهم إليه في كلِّ شؤونهم ليعطيَهم ما يَصْبون إليه، ويُحقِّقُ لهم ما يؤمِّلون، وكذلك الأمر بعدَ الحج، يجبُ أن تكونَ الأمةُ المسلمة على ما عاشت عليه وعاهدت ربَّها عليه يومَ عرفات.
 
ومئات الألوف يرمون الجمار، يقذفون بها الشيطانَ، ويقذفون بها ما في أنفسِهم من إغراءاتِه ونَزَغاته وهَمَزاته، ليفرُغوا بعدَ ذلك للراحةِ والطُّمَأنينة وشكر الله تعالى، ولو أن المسلمين تزاحموا على حربِ أعدائهم كما يتزاحمون على رَمْيِ الجمار، لصَفَّوا حسابَهم مع هؤلاء الأعداء، وهزموهم بإذن الله، وعاشوا أعِزَّاءَ كِرامًا في حُلَلِ النصرِ البهيجةِ المُشْرقة، والحريةِ الغالية، والكرامةِ الأبيَّةِ الشمَّاء.
 
وهناك في رحاب مكة المكرمة، والمدينة المنورة وأرض الحجاز، تاريخُ الأمةِ الإسلامية في أولى أيامها المباركة، تحكيه الأبنيةُ والمشاهد، وترويه البقاعُ والمدافنُ، وتنطق به الأرض الكريمة الطيبة، فما أجملَ أن يملأَ المسلمُ عينَه من أول بيتٍ وُضِع للناس لعبادة الله تعالى وحده! وما أجملَ أن يتذكَّرَ الخليلَ إبراهيم وابنَه إسماعيلَ عليهما الصلاة والسلام، وهم يرفعان القواعدَ من بيتِ الله جل شأنه، ويسألانه أن يمتدَّ أثرُهما حتى يتسلَّمَ أمرَ الرسالةِ نبيٌّ أُمِّيٌّ كريمٌ يتلو على الناسِ آياته، ويُزكِّيهم، ويُعلِّمهم الكتابَ والحكمة، وينقذهم من الضلال ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور!
 
وإنها لمعانٍ نبيلةٌ نبيلةٌ، ومشاعرُ ساميةٌ متألقةٌ تلك التي تفيض على الإنسان وهو يتذكَّرُ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام يقودُ ابنَه ليذبحَه طاعةً لأمر الله تبارك وتعالى بعد أن جرى بينهما حوارٌ عظيم مؤمن يشهدُ بعظمةِ الإيمان، وصدقِ التفويض، والشجاعة البالغةِ عندَ الأبِ والولد على السواء: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].
 
وحين يهمُّ الأبُ بذبح الولد يكون النداء: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 104، 105] فلقد صَدَقَ إبراهيمُ مع خالقه عز وجل، ولم تأخُذْهُ الشفقةُ على ابنِه في تنفيذِ أمرِ رَبِّه الكريم.
لقد ظهر الصدق، وانكشفت الطاعة وإن لم يتمَّ الذبح.
 
ولعل هاتيك المشاعر السامية، والمعاني النبيلة، تتدفَّق في نفسِ الحاج وهو يذبح لله تعالى في حَجِّه، مؤديًا بنجاح اختبارَ صدق الإيمان والتقوى فيما يفعل: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37]، المعنى العميقُ واحد، والمشاعرُ السامية هيَ هي، وإنِ اختلفَ الذبيحُ هنا وهناك، وإن تَمَّ ذبحٌ ها هنا، ولم يتمَّ ذبحٌ هناك.
 
والعِبَر في الحج كثيرةٌ كثيرةٌ، والعِظات بالغة، والدروس ساطعة كالشمس، والأملُ النهائيُّ من الرحلةِ المباركِ غُدُوُّها ورَواحُها، ووعيُ دروسِها وعبرِها أن يعودَ الحجيجُ، ورحمةُ اللهِ تعالى تحفُّهم، والبركةُ تتنزَّلُ عليهم، يعودون بحياةٍ جديدة، وعزمٍ جديدٍ، وإيمانٍ جديدٍ، وتوبةٍ نصوح، كأنهم وُلِدوا من يومهم، يعودون لمواصلةِ مسيرةِ الحياة على الطريقِ السويِّ، طريقِ الهداية والاستقامة.
 
أَسْعِدْ بها من رحلة! وأَسْعِدْ بهم من مُرْتحلين! وهنيئًا لهم في الذَّهَاب، وبُشْرى لهم في الإياب!

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢