فقه العبادات [25]


الحلقة مفرغة

المقدم: كنا قد سألنا في الحلقة الماضية عن شروط الصلاة، وعرفنا الوقت وستر العورة، نريد أن نعرف بقية هذه الشروط؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الطهارة

من شروط الصلاة: الطهارة، وهي نوعان: طهارة من الحدث، وطهارة من النجس، والحدث نوعان: حدث أكبر وهو ما يوجب الغسل، وحدث أصغر وهو ما يوجب الوضوء، وقد سبق لنا في حلقات سابقة ذكر الغسل والوضوء وأسبابهما وهي نواقض الوضوء وموجبات الغسل، فلا حاجة إلى إعادته مرةً أخرى، لكن الذي يهمنا هنا أن نبين أن الطهارة من الحدث شرط، وهي من باب الأوامر التي يطلب فعلها، لا التي يطلب اجتنابها، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم: أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل، وبناءً على ذلك فلو أن أحداً من الناس صلى بغير وضوء ناسياً فإنه يجب عليه أن يعيد صلاته بعد أن يتوضأ؛ لأنه أخلّ بشرطٍ إيجابي مأمورٌ بفعله، وصلاته بغير وضوءٍ ناسياً ليس فيها إثم؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] لكنها صلاة غير صحيحة فلا تبرأ بها الذمة، فيكون مطالباً بها، ولا فرق في هذا بين أن يكون الإنسان منفرداً أو مأموماً أو إماماً، فكل من صلى بغير وضوء أو بغير غسل من حدث أكبر ناسياً فإنه يجب عليه إعادة الصلاة متى ذكر حتى وإن كان إماماً، إلا أنه إذا كان إماماً وذكر في أثناء الصلاة فإنه ينصرف ويأمر من خلفه أن يتموا الصلاة، فيقول لأحدهم: تقدم أتم الصلاة بهم، فإن لم يفعل، أي: لم يعين من يتم الصلاة بهم قدموا واحداً منهم فأتم، فإن لم يفعلوا أتم كل واحدٍ على نفسه، ولا يلزمهم أن يستأنفوا الصلاة من جديد، ولا أن يعيدوا الصلاة لو لم يعلموا إلا بعد ذلك؛ لأنهم معذورون حيث أنهم لا يعلمون حال إمامهم.

وكذلك لو صلى بغير وضوء جاهلاً فلو قدم إليه طعام وفيه لحم إبل وأكل من لحم الإبل وهو لا يدري أنه لحم إبل ثم قام فصلى ثم علم بعد ذلك فإنه يجب عليه أن يتوضأ ويعيد صلاته، ولا إثم عليه حين صلى وقد انتقض وضوءه وهو لا يدري بانتقاضه؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] .

المقدم: لكن في هذه الحالة لو انصرف الإمام من الصلاة ولم يعلم الإمام إلا بعد أن انقضت الصلاة، فما حكم ذلك؟ وهل تعتبر صلاة المأمومين كل شخص لوحده منفرداً أم لا؟

الشيخ: حكم ذلك أن الإمام يجب عليه إعادة الصلاة، وأما المأمومون فلا تجب عليهم إعادة الصلاة، وهم في الأجر قد نالوا أجر الجماعة؛ لأنهم صلوا جماعةً فيكتب لهم الأجر، ولا يخفى أيضاً أن الإنسان إذا قلنا: إنه صلى بغير وضوء أو بغير بغسل من الجنابة أنه إذا كان معذوراً لا يتمكن من استعمال الماء فإنه يتيمم بدلاً عنه، فالتيمم عند تعذر استعمال الماء يقوم مقام الماء، فإذا قدر أن هذا الرجل لم يجد الماء وتيمم وصلى فصلاته صحيحة ولو بقي أشهراً ليس عنده ماء، أو لو بقي أشهراً مريضاً لا يستطيع أن يستعمل الماء، فإن صلاته بالتيمم صحيحة، فالتيمم يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله، وإذا قلنا: إنه يقوم مقامه عند تعذر استعماله فإنه إذا تطهر بالتيمم بقي على طهارته حتى تنتقض الطهارة، حتى لو خرج الوقت وهو على تيممه فإنه لا يلزمه إعادة التيمم للصلاة الثانية؛ لأن التيمم مطهر،كما قال الله تعالى في آية المائدة لما ذكر التيمم قال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6].

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) .

المقدم: أيضاً لو يؤم متيممٌ بمتوضئ؟

الشيخ: يجوز أن يكون المتيمم إماماً للمتوضئ؛ لأن كلاً منهما قد صلى بطهارةٍ مأذون فيها.

أما الشق الثاني: الطهارة من النجاسة ومواضعها ثلاثة: البدن، والثوب، والبقعة، فلا بد أن يتنزه الإنسان عن النجاسة في بدنه وثوبه وبقعته.

ودليل البدن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول) ، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الحائض إذا أصاب الحيض ثوبها أن تغسله ثم تصلي فيه، ففيه دليل على وجوب تطهير الثوب من النجاسة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام (أنه أتي بصبيٍ لم يأكل الطعام، فوضعه في حجره فبال عليه، فدعا بماءٍ فأتبعه إياه) .

وأما البقعة: ففي حديث أنس رضي الله عنه: (أن أعرابياً جاء فبال في طائفة المسجد -أي: في جانبٍ منه- فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يراق على بوله ذنوبٌ من ماء).

إذاً: فلا بد أن يتجنب الإنسان النجاسة في بدنه وثوبه وبقعته التي يصلي عليها، فإن صلى وبدنه نجس، أي: قد أصابته نجاسة لم يغسلها، أو ثوبه نجس، أو بقعته نجسة، ولكنه لم يعلم بهذه النجاسة، أو علم بها ثم نسي أن يغسلها حتى تمت صلاته فإن صلاته صحيحة، ولا يلزمه أن يعيد، ودليل ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذات يوم فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم سألهم: لماذا خلعوا نعالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذىً، أو قال: قذراً) .

ولو كانت الصلاة تبطل باستصحاب النجاسة حال الجهل لأستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، فإن الإنسان لو ذكر أنه لم يتوضأ في أثناء صلاته وجب عليه أن ينصرف ويتوضأ.

إذاً: اجتناب النجاسة في البدن والثوب والبقعة شرطٌ لصحة الصلاة، لكن إذا لم يتجنب الإنسان النجاسة جاهلاً أو ناسياً وصلى فإن صلاته صحيحة، سواءٌ علم بها قبل الصلاة ثم نسي أن يغسلها، أو لم يعلم بها إلا بعد الصلاة.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً، حيث أمرنا من صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً بالإعادة، ولم نأمر هذا الذي صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً بالإعادة؟

قلنا: الفرق بينهما: أن الوضوء أو الغسل من باب فعل المأمور، وأما اجتناب النجاسة فهو من باب ترك المحظور، وفعل المأمور لا يعذر فيه بالجهل والنسيان بخلاف ترك المحظور.

استقبال القبلة

ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة؛ لقول الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] .

فاستقبال القبلة شرطٌ لصحة الصلاة، فمن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة غير صحيحة، ولا مبرئةٌ لذمته إلا في أحوالٍ أربعة:

الحالة الأولى: إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة، مثل: أن يكون مريضاً ووجهه إلى غير القبلة، ولا يتمكن من الانصراف إلى القبلة، فإن صلاته تصح على أي جهةٍ كانت؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ، وهذا الرجل لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة لا بنفسه ولا بغيره.

الحالة الثانية: إذا كان خائفاً، يعني: خائفاً من عدو، وكان هارباً واتجاهه إلى غير القبلة، ففي هذه الحال يسقط عنه استقبال القبلة؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] ، ومعلومٌ أن الخائف قد يكون اتجاهه إلى القبلة، وقد يكون اتجاهه إلى غير القبلة، فإذا رخص الله له في الصلاة راجلاً أو راكباً كان مقتضى ذلك أن يرخص له في الاتجاه إلى غير القبلة إذا كان يخاف على نفسه إذا اتجه إلى القبلة.

الحالة الثالثة: إذا كان في سفر وأراد أن يصلي النافلة، فإنه يصلي حيث كانت جهة سيره، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في السفر حيث كان وجهه، إلا أنه لا يصلي المكتوبة، ففي النافلة يصلي المسافر حيث كان وجهه بخلاف الفريضة؛ فإن الفريضة يجب عليه أن يستقبل القبلة فيها في السفر.

الحالة الرابعة: إذا كان قد اشتبهت عليه القبلة فلا يدري أي جهاتٍ تكون القبلة، ففي هذه الحال يتحرى بقدر ما يستطيع ويتجه حيث غلب على ظنه أن تلك الجهة هي القبلة، ولا إعادة عليه لو تبين له فيما بعد أنه مصل إلى غير القبلة، وقد يقول قائل: إن هذه الحالة لا وجه للاستثناء لها؛ لأننا نلزمه أن يصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة، ولا يضره إذا لم يوافق القبلة؛ لأن هذا منتهى قدرته واستطاعته، وقد قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ، وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات [40] 3736 استماع
فقه العبادات [22] 3391 استماع
فقه العبادات [31] 3339 استماع
فقه العبادات [14] 3311 استماع
فقه العبادات [33] 3183 استماع
فقه العبادات [43] 3050 استماع
فقه العبادات [27] 2972 استماع
فقه العبادات [59] 2869 استماع
فقه العبادات [52] 2859 استماع
فقه العبادات [18] 2756 استماع