اعملي وأبشري


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وقيوم السماوات والأرضين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأثني عليه الخير كله.

هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يعز ويذل، يحيي ويميت، لا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين، وأحكم الحاكمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا مثيل له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه أجمعين.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أختي المؤمنة! حياك الله وبياك، وسدد على طريق الحق خطاك، وأسأله سبحانه أن يجمعنا وإياكن في دار كرامته إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].

تكلمنا فيما مضى عن الوقت وأهميته، وأن الوقت هو العمر، وأن العمر هو أخو المال، وأنه أغلى من الذهب ومن الفضة، وإذا مضى فإنه لا يرجع أبداً، والفَطِنة الذكية هي التي تعرف قيمة الوقت، وتستغل أوقاتها في مرضاة ربها، وذلك بمجاهدة النفس على فعل الطاعات، وبمجاهدة النفس على ترك المحرمات، قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فإن خير ما تصرف فيه الأوقات هي الأعمال الصالحات على اختلاف أنواعها من ذكر، وصلاة، وقيام، وقراءة قرآن، ومن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وصلة أرحام، والمجال لذكر الأعمال الصالحة يضيق؛ لكثرة هذه الأعمال، فالمجال مفتوح لمن أراد أن يتقدم أو يتأخر.

فحث الله تبارك وتعالى عباده على المسارعة والمسابقة فيما ينالون به مرضاته وجنته، فقال عز من قائل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وقال في موضع آخر: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، وامتدح أنبياءه وعباده الصالحين فقال عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، فمن صفات المؤمن والمؤمنة أنهم يسارعون ولا يتأخرون، فالحياة مضمار سباق وتنافس كما قال سبحانه: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ولقد حثنا نبي الهدى والرحمة على اغتنام العمر ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).

فالحياة مجال واسع لفعل الطاعات وترك المنكرات، ولا شك أن من يعمل عملاً ينتظر ثمار هذا العمل، فالأجير ينتظر أجرته، والله أعظم معطي وأعظم مسئول، قال الله: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، وقال: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فالله لا يضيع أجر العاملين والعاملات.

لم يذكر الله تبارك وتعالى الإيمان في كتابه إلا وذكر العمل الصالح قريناً له؛ لأن الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر، ولأن الأعمال الصالحات هي الترجمة الحقيقية لهذا الإيمان، فلا إيمان إلا بالعمل، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277] في مواضع كثيرة، وقال سبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

فالعمل الصالح هو الترجمة الحقيقية لهذا الإيمان، ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان: هو ما وقر في القلب، وعملت به الجوارح والأركان، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، فالإيمان ساعة وساعة، فساعة في قوة وازدياد، وساعة في نزول ونقصان، والمفترض أن نحافظ على الإيمان، ونعمل على تقويته ولا نغفل عن تعاهد قلوبنا من حين إلى حين؛ لأن مدار صلاح الأعمال على صلاح القلوب.

محبة الله وملائكته

إن ثمار العمل الصالح كثيرة، وسنذكر بعضاً منها، ومن أعظم هذه الثمار: أن العمل الصالح سبب لحب الله للعبد، قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].

فمن أعظم ثمرات العمل الصالح أنه سبب لحب الله لهذا العبد، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، وكفى بحب الله شرفاً!

والله! إن القلب ليطير فرحاً إذا قيل له: إن فلاناً أو فلانة من الناس يحبك أو يذكرك بالخير، فكيف إذا أحبك الله، وهو الملك الواحد الأحد الذي ما تقرب إليه عبد إلا تقرب إليه، وأقبل عليه برحمته وعفوه وكرمه، فكان مع العبد في سرائه وفي ضرائه، ومن كان الله معه فقد فاز وأفلح.

يا من يحار الفهم في قدرته وتطلب النفس حمى طاعته

تخفى عن الناس سما طلعته

وكلما في الكون من صنعته

الله أكبر إن الغني يحب الفقراء، والقوي يحب الضعفاء، والعزيز يحب الأذلاء، فما أعظمها من منزلة ومكانة! ولا ينالها إلا من جاهد وصبر.

ومن ثمار العمل الصالح: حب الله والملائكة، قال جل من قائل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، قال أهل التفسير: يعني: حباً وقبولاً بقدرة الله.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل وقال له: إني أحب فلاناً فأحببه، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، ذكراً كان أم أنثى فكم من الفضل العظيم عند التقرب من الرحمن الرحيم!

ومما زادني شرفاً وتيهاً

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي

وأن صيرت أحمد لي نبياً

والله! مهما تبذل الأمة ويبذل العبد لكسب محبة الناس فلا يستطيعون ذلك، ومن ابتغى رضا الله في سخط الناس، رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن ابتغى رضا الناس في سَخْط الله سَخِطَ الله عليه وأسخط الناس عليه، فبحب الله تحصل على خير الدنيا وخير الآخرة.

السعادة في الدنيا والآخرة

ومنْ ثمار العمل الصالح: أنه سبب للسعادة التي ضل عنها كثير من الناس، فبحثوا عنها في غير أماكنها، فكم من باحث وباحثة عنها في المال، وأخرى في العمل والوظيفة، وأخرى في الجاه والسلطان، لكن اسمعي ماذا يقول الله تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] أي: حياة فيها سعادتك وانشراح صدرك، يقول الشاعر:

ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد

فهنيئاً لأولئك النساء اللاتي شغلن الأوقات بالعمل الصالح.

إن الحياة مصائب وآلام، ونعيم وفرح، ولا تدوم على حال واحد، لكن الأمة المؤمنة المصابرة المجاهدة على فعل أوامر ربها، والتاركة لما نهاها الله لا تتأثر بمصائب الدنيا إذا وقعت، ولا تفرح بالدنيا إذا أقبلت؛ لأنها ترى إلى أبعد من هذا، ترى أن َمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36]، واسمعي ماذا قال الله عن أهل الصلاة قال سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، ثم استثنى الله أهل الصلاة فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23]، ثم تتابعت الآيات وقال سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]، فأهل الصلوات إناثاً كانوا أم ذكوراً لا يفرحون بالدنيا إذا أقبلت، ولا يحزنون عليها إذا أدبرت؛ لأنهم على يقين أن الحياة دقائق وثوانٍ.

تفريج الهموم وكشف الغموم

من ثمرات العمل الصالح: أنه سبب لتفريج الهموم، وكشف الغموم والكربات، وأنه سبب لقضاء الحاجات، وإجابة الدعوات.

قال سبحانه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84].

وقال سبحانه عن ذي النون: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].

وقال سبحانه عن زكريا: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:89-90]، ثم اسمعي ماذا قال الله عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]؛ لأنهم كانوا من المسارعين في الخيرات، ولأنهم من الذين تقربوا إلى الله بالأعمال الصالحات، فلذلك استجاب الله دعاءهم، وفرج همومهم، وقضى حوائجهم: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، والله يستجيب لكل من سار ولكل من سارت على نفس الطريق، فقد جاء في الحديث عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم)، والشاهد من الحديث: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.

أخية! تخيلي الموقف: كهف وظلمة، لا ماء ولا طعام ولا هواء، وقد انقطعت بهم السبل، وأغلقت عليهم الأبواب ولم يبق إلا باب واحد وهو باب السماء، الباب الذي لا يغلق أبداً، فتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: (إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعا الأول ببره لوالديه)، واسمعي فضل بر الوالدين (فقال: اللهم! إنه كان لي أبوان شيخان كبيران لا أقدم عليهما مالاً ولا ولداً، وكنت إذا غبق -يعني: أحضرت- الحليب واللبن لا أسقي قبلهما أحداً، ولا أقدم عليهما أحداً، وأخرني طلب الحطب يوماً فجئت فإذا بالشيخين نائمين، فوقفت على رأسيهما وصغاري من حولي يتضاغون من الجوع حتى طلع الفجر فسقيتهما، ثم دعا وقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه)، فانظري يا رعاك الله! إلى الإخلاص، وإلى دعاء الله، والتوسل إليه بالعمل الصالح، فالتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من التوسل المشروع، (فقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً لا يستطيعون معه الخروج، ثم قال الثاني: وأما أنا فكانت لي ابنة عم أحب ما تكون المرأة إلى الرجل، فراودتها عن نفسها) يعني: طلبها بالحرام (فامتنعت حتى ألمت بها ضائقة، وجاءت تطلب حاجتها، فقلت لها: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فرضخت مرغمة محتاجة، فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً من الذهب، فلما جلست منها كما يجلس الرجل من المرأة قالت لي كلمة) اسمعي ما قالت (قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه)، الله أكبر إنها كلمة عظيمة لو وصلت إلى القلوب (قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، يقول: فقمت عنها -وهي أحب ما تكون المرأة إلى الرجل- ثم دعا الله وتضرع فقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه)، فترك الفاحشة عندما ذكر بالله وخوف بالله، وعندما قيل له: اتق الله! فكم يقال لنا في هذا الزمان: اتقوا الله ولا تفعلوا كذا؟! ولا تقولوا كذا؟! وقليل هم الذين يستجيبون لأمر تقوى الله تبارك وتعالى، بل البعض قد يغضب إذا قيل له: اتق الله، أما قال الله لنبيه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، وخاطب الله عباده فقال: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، (قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه يقول: فقمت عنها وهي أحب ما تكون المرأة إلى الرجل، ثم قال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً لا نستطيع معه الخروج، ثم دعا الثالث وقال: وأما أنا فكان لي أجراء يعملون عندي بأجر، حتى إذا انتهوا من عملهم أعطيت كل واحد منهم أجرته إلا واحداً ترك أجرته ومضى، فاستكثرت هذه الأجرة ونميتها حتى أصبحت خيراً كثيراً، فجاءني بعد حين يطلب أجرته، قلت له: ترى ما في هذا الوادي من دواب -من إبل، ومن بقر، ومن عبيد- هي كلها لك، قال: أتسخر مني؟ قلت: لا، هي كلها لك، فساقها ولم يترك منها شيئاً، ثم دعا وقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون)، وكان هذا جزاء العمل الصالح، وليس أي عمل صالح وإنما العمل الصالح الذي اقترن بالصدق والإخلاص مثل: بر الوالدين، وما أدراك ما بر الوالدين، فكم يشتكي الآباء والأمهات من عقوق الأبناء والبنات؟ وكم يشتكون من التطاول ورفع الأصوات عليهم، ويشتكون من قلة أدب الأولاد والبنات، فأين بر الوالدين في هذا الزمان؟ بل من هو الذي سيدعو الله ببره لوالديه؛ حتى يفرج الله همه، ويجيب دعوته؟!

وأما الفاحشة وتركها فحدث ولا حرج، فشباب المسلمين الآن يقطعون المسافات، والأراضي الشاسعات؛ حتى يعاقروا الفاجرات والمومسات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

و أما الأُجراء فكم يشتكي الخدم والخادمات من تضييع الحقوق، ومن تضييع الواجبات.

فالأول: دعا ببره بوالديه، والثاني: بتركه للفاحشة، والثالث: بإعطاء الأجير أجره، قد تظنين أنها أعمال بسيطة، لكن الأعمال البسيطة إذا اقترنت بالصدق والإخلاص كانت كبيرة عند الله الذي قال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، فالعمل الصالح سبب لتفريج الهموم وكشف الغموم.

يا صاحب الهم إن الهم منفرج

أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله

إذا بليت فثق بالله وارض به

إن الذي يكشف البلوى هو الله

إذا قضى الله فاستسلم لقدرته

ما لامرئ حيلة فيما قضى الله

اليأس يقطع أحياناً بصاحبه

لا تيأسن فإن الصانع الله

ومن داوم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه الله من حيث لا يحتسب.

حفظ الأهل والمال

من ثمار العمل الصالح أخية! أنه سبب في حفظ الأهل والمال والعيال، قال سبحانه في سورة الكهف، وهي السورة العظيمة التي يقرؤها كثير من الناس يوم الجمعة، ولكن القليل هم الذين يفهمون لماذا أُمرنا بقراءة هذه السورة العظيمة؟ فهي من أعظم سور القرآن؛ لذلك أمرنا بقراءتها من الجمعة إلى الجمعة، إنها سورة تصحح مفاهيم الناس، ومعتقداتهم، ونظرتهم إلى الحياة الدنيا وزينتها، قال الله في أوائل السورة: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:7-8]، ثم قال في آية: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، تذكرنا بوضع الحساب، وبالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، وتذكرنا هذه السورة العظيمة أنه مهما طالت الحياة فلابد من النهاية، ولابد من أن تجزى كل نفس بما كسبت، فيجازى المسلم على إحسانه، والمسيء على إساءته.

قال سبحانه بين سطور السورة: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، والشاهد من الآية قوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]، فبصلاح الأب حفظ الأبناء، وقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم العظيم يوم أن قال لـابن عباس وهو غلام: (احفظ الله يحفظك) أي: احفظ الله بفعل أوامره والمحافظة عليها، واحفظ الله بترك نواهيه، واحفظ الله بالمحافظة على العمل الصالح، والنتيجة: حفظ الله لك في دينك ودنياك وأهلك ومالك، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.

ولا شك أنك تحبين الأبناء والبنات أماً كنت أم بنية، فأما الأم فتعرف هذا الشعور، وأما البنية فستعرفه إن شاء الله يوم أن يرزقها الله بالزوج الصالح، ويرزقها الله بالأبناء عندها ستعلم قيمة الأولاد، ولا يمكن أن نعرف قيمة الشيء حتى نجربه.

وقد كنت في أحد المستشفيات فأحضر أب ابنه الصغير لإصابة في قدمه، فكانت الممرضة تريد تنظيف وتطهير الجرح، وكان الغلام كلما وضعت يدها على الجرح اشتكى، والأب يقول لها: اتقي الله في الغلام، وأنا لم أرها قد فعلت شيئاً، ثم تعاود الكرة، ويبكي الصغير والأب يتقطع ألماً أمامي، فقلت له: يا أخي! هي لا تستطيع أن تطهر الجرح حتى تلمسه، وحتى تضغط عليه قليلاً، قال: والله إنه كلما قال: آه وجدت أثرها في قلبي، قلت: سبحان الله! كم الأبناء والبنات غالون، فإذا كنت تريدين لهم الحب، وتريدين لهم الأمن والأمان فاحفظي الله، وعلميهم حب الله وحب رسوله؛ لأن الله خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

العمل الصالح أنيس لصاحبه في قبره

ومن ثمار العمل الصالح: أنه يكون رفيقاً لصاحبه في القبر، بل لنعيم القبر، جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله).

وفي حديث أبي هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الميت إذا وضع في قبره إن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات -من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس- عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن شماله فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخل) أو كما جاء في الحديث، (ثم يتمثل له عمله الصالح في قبره فيأتيه رجل طيب الريح، جميل الوجه، فيقول له العبد: من أنت فوجهك والله! الذي لا يأتي إلا بالخير؟! فيقول له: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح)، فيكون العمل الصالح أنيساً لصاحبه في قبره، (فيفتح للعبد نافذة من الجنة فيأتيه من روحها وريحانها، ويوسع له في قبره مد البصر، ويكسى حلة من الجنة، ويطرح له فراشاً من الجنة، فينادي بأعلى صوت: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة) حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

وأما العبد المضيع والأمة المضيعة: (فيأتيه رجل قبيح الوجه، نتن الرائحة، فيقول العبد أو الأمة: من أنت؟ فوجهك والله! الذي لا يأتي بالخير، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، وأنا عملك السيئ، فيفتح له نافذة من النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفرش له فراش من النار، ويكسى حلة من النار، فيصيح بأعلى صوته، أو تصيح بأعلى صوتها: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة).

يا من بدنياه اشتغل

وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة

والقبر صندوق العمل

الفلاح والنجاح في الآخرة

من ثمار العمل الصالح أخية! أنه سبب للفلاح والنجاح، وهو أعظم سبب لدخول الجنة بعد توحيد الله جل وعلا، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108]، وقال سبحانه: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

يا سلعة الرحمن لست رخيصة

بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن كيف تصبر

الخطاب عنك وهم ذوو إيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد

ولقد عرضت بأبخس الأثمان

يا سلعة الرحمن لولا أنها

حجبت بكل مكاره الإنسان

لما كان عنها قط من متخلف

وتعطلت دار الجزاء الثاني

ولكنها حفت بكل كريهة

ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى

رب العلى بمشيئة الرحمن

فالدنيا مزرعة للآخرة: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، والعمر فرصة، ونكرر هذا دائماً، فلابد من اغتنام الأعمار، فقد قال الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد فيها خيراً فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إن لله عباداً فطنا

طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا

أنها ليست لحي وطنا

اتخذوها لجة واتخذوا

صالح الأعمال فيها سفنا

إن مجالات الأعمال الصالحة لا تعد ولا تحصى، قال سبحانه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، فهذه صفات المؤمنين والمؤمنات الذين يريدون ما عند الله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29]، فالتجارة مع الله تجارة رابحة، والتجارة الرابحة تكون في أن الله يضاعف لعباده الأجر بالعشرات، فالحسنة بعشر أمثالها، ويزيد الله ويضاعف لمن يشاء.

أخية: إنا سنعرف قيمة العمل الصالح وقيمة العمر في ساعات الاحتضار، وهي لا شك ساعة يؤمن فيها الكافر، ويقر فيها الفاجر.

قال الله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].

ومر الحسن البصري مع رجل معه على جنازة فقال الحسن لصاحبه: أترى هذا الرجل إذا رجع للحياة يعمل صالحاً؟ قال: نعم، قال: فكن أنت ذلك الرجل، وكوني أنت كذلك فأنت الآن في زمن الإمكان، وأنت الآن في أيام مباركة، والعمر فرصة، والفرص قد لا تتكرر، فكوني ممن يعرفن لله حقه، وكوني من اللائي يعرفن للوقت قيمته، ويعرفن للمناسبات قيمتها وأنها قد لا تتكرر.

وأختم الكلام بكلمات قالها النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه حيث قال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليتزود العبد لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده! ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار).

فاستعيني بالله على فعل الطاعات، واستعيني بالله على ترك المنكرات.

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقكن لفعل ما فيه مرضاته سبحانه، وأن يوفقكن لترك ما فيه سخطه سبحانه.

اللهم! اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

اللهم! اغفر لوالدينا، ووالد والدينا، ولكل من له حق علينا.

اللهم! احفظنا في ديننا ودنيانا، وأهلنا وأموالنا.

اللهم! استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].

أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.