أليس الله بأعلم بالشاكرين
مدة
قراءة المادة :
37 دقائق
.
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾الشُّكر مِن العبادات العظيمة التي يشترك فيها الجسم قلبًا وقالبًا (إقرارًا بالقلب، وتحدثًا باللسان، وبذلًا بالجوارح)؛ ولذلك رفَع البعض هذه النعمة العظيمة فاعتبرها النصف الآخر للإيمان تساويًا مع الصبر.
إن الشُّكر يجعل صاحبه هادئَ النفس، مستقر الحال، فيتفرغ لعبادة خاشعة لا يضارعها خشوع، لها لذة لا تضارعها لذة؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].
أولًا: معنى الشُّكر ومنزلته:
إن الشُّكر هو أبسط وأقل ما يصدر من العبد للخالق سبحانه وتعالى؛ إقرارًا واعترافًا، وانقيادًا وخضوعًا له سبحانه؛ فهو الذي بيده مقاليدُ الأمور، وهو الذي يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويعطي ويمنع، ويضع ويرفع.
• الشَّاكر - الشَّكور (جل جلاله): اسمانِ من أسماء الله تعالى الحسنى، ومعناهما: أنه الذي يشكُرُ القليل من العمل، فيجازي عليه الكثير المضاعف، وهو تعالى يعطي الجزيل من النعمة، فيرضى باليسير من الشُّكر.
• يقول الجرجاني - رحمه الله - في "التعريفات": والشُّكر اللغوي هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل على النعمة من اللسان والجَنان والأركان".
• جاء في تاج العروس: وقال الشبلي: "الشُّكر رؤية المنعِم، لا رؤية النعمة، ومعنى ذلك: ألا يحجُبَه رؤية النعمة ومشاهدتها عن رؤية المنعِم بها، وقيل: الشُّكر قيد النِّعم الموجودة، وصيد النِّعم المفقودة".
• وجاء في تاج العروس أيضًا: "الشُّكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره، هذه الخمسة هي أساس الشُّكر، وبناؤه عليها، فإن عدم منها واحدة اختلت قاعدةٌ من قواعد الشُّكر، وكل من تكلم في الشُّكر فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور".
• قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتاب "مدارج السالكين": الشُّكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعةً.
• ويقول أيضًا: منزلة الشُّكر هي مِن أعلى المنازل، وهو - أي الشُّكرُ - نصف الإيمان؛ فالإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمَر الله به، ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خَلْقه، وجعله غاية خَلْقه، وأمره ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسمًا مِن أسمائه؛ فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكورًا، وهو غاية الرب مِن عبده، وأهله هم القليل من عباده؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، وقال سبحانه: ﴿ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].
ثانيًا: الشُّكر في القرآن الكريم: لقد زخَرَتْ آيات القرآن الكريم بالآيات التي تتحدث عن الشُّكر، وترغِّب العباد في هذه النعمة، وتبرز أمامهم مِن النماذج والنتائج ما يجعل الإنسانَ يقبِل على التحلي بهذه الصفة طوعًا وليس كرهًا، واختيارًا وليس قَسْرًا، وحبًّا وليس جبرًا واضطرارًا.
أ) أمَر الله تعالى عباده أن يشكروه:
1 - قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].
2 - قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
3 - قال تعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].
4- قال تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].
5- قال تعالى: ﴿ ...
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17].
6- قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12].
7- قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
8- قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15].
9- قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
ب) اللهُ تعالى يشكر عباده على ما يقدِّمونه مِن العبادات والطاعات:
1- قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
2- قال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147].
ج) الأنبياء عليهم السلام أكثر خَلْق الله تعالى شكرًا له:
1- قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 120، 121].
2- قال تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3].
د) اللهُ تعالى يبيِّن لعباده الآياتِ، ويغدق عليهم النِّعم لعلهم يشكرون:
1- قال تعالى: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58].
2- قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].
3- قال تعالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 79، 80].
4- قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].
5- قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يس: 34، 35].
6- قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يس: 71 - 73].
هـ) أخبَر الله تعالى أن الشُّكر سببٌ للنماء والزيادة:
1- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
و) يجب على العبد أن يطلب من الله تعالى العونَ على أن يشكر نعم الله عليه:
1- قال تعالى: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
2- قال تعالى: ﴿ ...
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
ز) يجب على العبد أن يدركَ أن الله تعالى قد يغدق عليه من النِّعم اختبارًا له هل سيشكر أم سيكفر؟:
1- قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
2- قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الزمر: 7].
ح) بيَّن اللهُ تعالى أن أكثر الناس لا يؤدُّون شُكر النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243].
2- قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
3- قال تعالى: ﴿ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يونس: 60].
4- قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 38].
5- قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [النمل: 73].
6- قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [غافر: 61].
ط) الإنسان يتقلَّب بين حالين؛ إما الرضا والشُّكران، وإما الجحود والكفران:
1- قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
2- قال تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 2، 3].
ي) الإنسانُ وقتَ الحاجة والضعف يكون أكثر تعلقًا بالله تعالى، وأكثر وعدًا بالشُّكر:
1- قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 63].
2- قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 189].
3- قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [يونس: 22].
ك) بيَّن اللهُ تعالى أنه وحده المطلع على القلوب، والأعلم بالشاكرين:
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].
ل) المُسلِم يفعل الخير لوجه الله تعالى وحده دون انتظار الجزاء ولا الشُّكر من العباد:
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9].
م) وعَد الله تعالى الشاكرين بحُسن الجزاء في الدنيا والآخرة:
1- قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144، 145].
2- قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
3- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
بهذه النِّقاط بيَّن الله تعالى جوانب الشُّكر في القرآن الكريم، بدايةً مِن أمر الله تعالى لعباده بأن يكونوا من الشاكرين: ﴿ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66]، مرورًا بشُكر الله تعالى لعباده على حُسن عبادته، وشكره على نعمه وآلائه: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]، ثم انتهاءً بأحوال العباد وتفاوتهم في تحقيق هذه الصفةِ في أنفسهم، وأن اللهَ تعالى قد أعد للشاكرين الجزاء الأوفى: ﴿ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
ثالثًا: الشُّكر في السنَّة النبويَّة المطهَّرة:
لقد ضرَب النبي صلى الله عليه وسلم المَثَلَ والقدوة في جانب الشُّكر؛ حيث شكَر اللهَ تعالى في كل الظروف والأحوال، وصبر على لَأْوَاءِ الطريق، فما تجده يومًا شاكيًا ولا متبرِّمًا، بل كان شِعاره صلى الله عليه وسلم في كل الظروف والأحوال: ((أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا)).
1- عن صُهَيب بن سنان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فكان خيرًا له))؛ (رواه مسلم).
2- عن عبدالله بن غنام البياضي رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خَلْقك، فمنك وحدك لا شريك لك؛ فلك الحمد ولك الشُّكر - فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته))؛ (أخرجه أبو داود - وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة).
3- عن عائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تَفَطَّرَ رِجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا))؛ (رواه مسلم).
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا بنَ آدم، حملتُك على الخيل والإبل، وزوَّجتك النساء، وجعلتك تربَع وترأَس، فأين شكر ذلك؟!))؛ (رواه أحمد).
• تربَع: تأخذ ربع غنيمة القوم - ربع بالمكان: أقام به، اطمأن.
• ترأَس: تكون رئيسًا للقوم - رأس فلانٌ: شرُف قدرُه.
5- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كن ورِعًا تكُنْ أعبدَ الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحِبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسِنْ مجاورة مَن جاوَرك تكن مسلمًا، وأَقِلَّ الضَّحِك؛ فإن كثرةَ الضحك تُميت القلب))؛ (صححه الألباني).
6- عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمرٌ يُسَرُّ به خر ساجدًا شكرًا لله تعالى، وأتاه بشيرٌ يبشره بظفَر جندٍ له على عدوهم، فقام وخر ساجدًا؛ (رواه ابن القيم في إعلام الموقعين).
7- عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ: لا تدَعَنَّ في دُبُر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعنِّي على ذِكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك))؛ (صححه الألباني في صحيح الجامع).
8- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: ((ربِّ، أعني ولا تُعِنْ علَيَّ، وانصرني ولا تنصر علَيَّ، وامكر لي ولا تمكر علَيَّ، واهدِني ويسِّر لي الهدى، وانصرني على مَن بغى علَيَّ، ربِّ، اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مِطواعًا، لك مُخبتًا، إليك أوَّاهًا منيبًا، ربِّ، تقبَلْ توبتي، واغسل حَوْبتي، وأجِبْ دعوتي، وثبِّتْ حُجَّتي، وسدِّدْ لساني، واهدِ قلبي، واسلُلْ سَخيمة صدري))؛ (رواه الترمذي).
9- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن لم يشكُرِ القليل لم يشكر الكثير، ومَن لم يشكر الناسَ لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكرٌ، وتركها كفرٌ، والجماعة رحمةٌ، والفُرقة عذابٌ))؛ (الألباني في صحيح الترغيب، وقال: حسَن صحيح).
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله))؛ (رواه الترمذي).
11- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أُعطيَ عطاءً فوجَد فليَجزِ به، ومن لم يجد فليُثْنِ؛ فإن مَن أثنى فقد شكر، ومَن كتم فقد كفر، ومَن تحلى بما لم يُعْطَهْ كان كلابس ثوبَيْ زُورٍ))؛ (رواه الترمذي).
12- عن عبدالله بن عمرَ رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن سأل بالله فأعطُوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، ومَن صنع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإن لم تجدوا ما تكافِئُوه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه))؛ (صححه الألباني).
13- عن أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن صُنِع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك اللهُ خيرًا، فقد أبلَغ في الثناء))؛ (رواه ابن حبان).
14- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: مُطِرَ الناسُ على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصبَح مِن الناس شاكرٌ ومنهم كافرٌ، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضُهم: لقد صدَق نَوْءُ كذا وكذا))، قال: فنزلت هذه الآية: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ [الواقعة: 75] حتى بلغ: ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82]؛ (رواه مسلم).
15- عن ثوبانَ مولَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلَتْ: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ﴾ [التوبة: 34]، قال: كنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفِضَّة لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟! فقال: ((أفضَلُه لسانٌ ذاكرٌ، وقلبٌ شاكرٌ، وزوجةٌ مؤمنةٌ تُعِينه على إيمانه))؛ (رواه الترمذي).
16- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((رُبَّ طاعمٍ شاكرٍ أعظم أجرًا مِن صائمٍ صابرٍ))؛ (رواه السفاريني الحنبلي في شرح كتاب الشهاب وقال: إسناده صحيح).
17- عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتوجَّه نحو صدقته، فدخل، فاستقبل القِبلة فخر ساجدًا، فأطال السجود حتى ظننتُ أن الله عز وجل قبض نفسَه فيها، فدنوتُ منه، فجلستُ، فرفع رأسه، فقال: ((مَن هذا؟))، قلت: عبدالرحمن، قال: ((ما شأنك؟))، قلت: يا رسول الله، سجدتَ سجدةً خشيتُ أن يكون اللهُ عز وجل قد قبض نفسك فيها، فقال: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فبشَّرني، فقال: إن الله عز وجل يقول: مَن صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلَّمتُ عليه، فسجدتُ لله عز وجل شكرًا))؛ (رواه أحمد).
18- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: خرَجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكَّةَ نريد المدينة، فلما كنا قريبًا من عزوزاء، نزل، ثم رفع يديه فدعا الله ساعةً، ثم خر ساجدًا فمكث طويلًا، ثم قام فرفع يديه فدعا الله ساعةً، ثم خر ساجدًا فمكث طويلًا، ثم قام فرفع يديه ساعةً، ثم خر ساجدًا، فقال: إني سألتُ ربي وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررتُ ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي، فأعطاني الثلث الآخر، فخررتُ ساجدًا لربي شكرًا)).
• عزوزاء: موضع بين مكةَ والمدينةِ.
19- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ فاشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغني، فنزل البئر، فملأ خُفَّه فأمسكه بفيه حتى رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له))، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: ((في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجرٌ))؛ (رواه أبو داود).
بهذه الأحاديث وبالترجمة العملية لها عاش المجتمع المسلم معنى الشُّكر في أبهى صوره، فتجد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بالرغم من شظف العيش وصعوبة الطريق وثقل التكاليف مقبِلين غير مدبرين، شاكرين غير متبرِّمين ولا متأفِّفين، حَوْل دينهم ملتفين غير معرضين، وبنبيِّهم فرِحين، وله مطيعين، فأثابهم اللهُ تعالى جزاء الشاكرين؛ ففتحت لهم الأقطار، ودانت لهم الملوك، وهابَتْهم السلاطين.
رابعًا: سجود الشُّكر:
استحبَّ جمهور أهل العلم أن يسجُدَ المسلم سجدة شكر لله تعالى، على حدوث النعمة أو اندفاع النقمة.
• روى البيهقي - وأصله في البخاري - عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا إلى اليمَن، فذكر الحديث قال: "...
فكتب عليٌّ بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، خرَّ ساجدًا؛ شكرًا لله تعالى على ذلك"؛ (وقال الترمذي: إسناده صحيح).
• وروى عبدالرزاق في مصنفه: أن عمرَ أتاه فتحٌ مِن قِبل اليمامة فسجد، وسجد أبو بكر حينما جاءه خبرُ قتل مسيلِمة الكذاب، وسجد عليٌّ حين وجد ذا الثديَّةِ بين قتلى الخوارج.
• ذو الثديَّة: هو حرقوص بن زهير البجلي، مِن أولئك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وسعَوا في الأرض بالفساد، وسفكوا الدم الحرام، فقاتلهم عليٌّ رضي الله عنه يوم النهروان، فقتلهم، فما نجا منهم إلا نفرٌ يسير.
خامسًا: قصص عن الشُّكر:
لقد ورد في تاريخ الصحابة والتابعين مِن قصص الشُّكر ما لا يتخيله عقل، ولولا أنها حدثت من ثقات ورواها ثقات، لربما شكك فيها المشككون.
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن ثلاثةً في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا للهِ أن يبتليهم، فبعث إليهم ملَكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، قد قذِرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونًا حسنًا، وجلدًا حسنًا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل - أو قال البقر، هو شك في ذلك: أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر - فأعطي ناقةً عشراء، فقال: يُبارَك لك فيها، وأتى الأقرع فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويذهب عني هذا، قد قذِرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرةً حاملًا، وقال: يُبارَك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: يرد الله إليَّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغَنم، فأعطاه شاةً والدًا، فأنتج هذان، وولَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من إبلٍ، ولهذا وادٍ من بقرٍ، ولهذا وادٍ من غنمٍ، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرًا أتبلَّغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرةٌ، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرصَ يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثتُ لكابرٍ عن كابرٍ، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرعَ في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا صيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابن سبيلٍ، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فردَّ الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخِط على صاحبيك))؛ (رواه البخاري).
2- جاء في كتاب "الثقات" لابن حبان، وفي كتاب "برد الأكباد عند فَقْد الأولاد" لابن ناصر الدين الدمشقي قصة التابعي الجليل (عبدالله بن زيد الجرمي) المعروف بـ "أبي قلابة"، وهو مِن عبَّاد أهل البصرة وزهَّادهم، مات بالشام سنة أربع ومائة في ولاية يزيد بن عبدالملك.
• عن عبدالله بن محمد قال: "خرجت إلى ساحل البحر مرابطًا، وكان رابطنا يومئذ عريش مصر، قال: فلما انتهيت إلى الساحل، فإذا أنا ببطيحة، وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهب يداه، ورِجلاه، وثقل سمعه وبصرُه، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه!
وهو يقول: "اللهم أوزِعْني أن أحمَدَك حمدًا أكافئ به شُكْر نعمتك التي أنعمت بها علي، وفضلتني على كثير ممن خلقتَ تفضيلًا".
قال الأوزاعي: قال عبدالله: قلت: والله لآتيَنَّ هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام! فهم أم علم أم إلهام ألهم؟
فأتيت الرجل فسلَّمت عليه، فقلت: سمعتك وأنت تقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثير ممن خلقتَ تفضيلًا!
فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، وأي فضيلة تفضَّل بها عليك تشكره عليها؟
قال: وما ترى ما صنع ربي، والله لو أرسل السماء عليَّ نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرَّقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددتُ لربي إلا شُكرًا؛ لما أنعم عليَّ مِن لساني هذا.
ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع، ولقد كان معي بُنَيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضِّيني، وإذا جُعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسَّسْه لي رحمك الله!
فقلت: والله ما مشى خَلْق في حاجة خَلْق كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجة مثلك.
فمضيتُ في طلب الغلام، فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت، وقلت: أنَّى لي وجه رقيق آتي به الرجل؟
فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطَر على قلبي ذِكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتيته سلمت عليه، فرد عليَّ السلام، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى، قال: ما فعلت في حاجتي؟
فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟
قال: بل أيوب النبي، قلت: هل علمت ما صنع به ربه؟! أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟
قال: بلى، قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا.
قلت: لم يرضَ منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟ قال: نعم، قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا، قلت: فلم يرضَ منه بذلك حتى صيَّره عرضًا لمارِّ الطريق.
هل علمت؟! قال: نعم، قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرًا شاكرًا حامدًا، أوجِزْ رحمك الله، قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع، فأكل لحمه، فأعظَم الله لك الأجر، وألهَمك الصبر.
فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خَلْقًا يعصيه فيعذبه بالنار، ثم استرجع، وشهق شهقة، فمات.
فقلت: إنا لله، وإنا إليه راجعون، عظُمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت لم أقدر على ضرٍّ ولا نفع، فسجيته بشملة كانت عليه، وقعدت عند رأسه باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم عليَّ أربعة رجال، فقالوا: يا عبد الله، ما حالك وما قصتك؟ فقصصتُ عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشِفْ لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه، فكشفت عن وجهه، فانكَبَّ القوم عليه، يقبِّلون عينيه مرة ويديه أخرى، ويقولون: بأبي، عين طال ما غضَّت عن محارم الله، وبأبي، وجسمه طال ما كنت ساجدًا والناس نيام.
فقلت: مَن هذا يرحمكم الله؟
فقالوا: هذا أبو قلابة الجَرْمي صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله، وللنبي صلى الله عليه وسلم، فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفناه.
فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي، فلما أن جن عليَّ الليل، وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]، فقلت: ألستَ بصاحبي؟ قال: بلى! قلت: أنى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشُّكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية.
3- قال يونس بن عبيد - رحمه الله - لرجل يشكو ضيق حاله: أيسرك ببصرك هذا مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فبرِجْليك مائة ألف؟ قال: لا، فذكره نعم الله عليه، ثم قال له: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة؟
سادسًا: قالوا عن الشُّكر:
1- قال الإمام عليٌّ رضي الله عنه: "كُفرُ النعمة لؤم".
2- قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لرجل من هَمْدان: "إن النعمة موصولة بالشُّكر، والشُّكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونانِ في قرن، فلن ينقطعَ المزيد مِن الله حتى ينقطع الشُّكر من العبد".
3- قال الحسنُ رضي الله عنه: "كلما شكرت نعمة، تجدَّد لك بالشُّكر أعظمُ منها".
4- قيل للحسن رضي الله عنه: ها هنا رجل لا يجالس الناس، فجاء إليه فسأله عن ذلك، فقال: إني أُمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أَشغَل نفسي عن الناس بالاستغفار من الذنب، والشُّكر لله على النعمة، فقال له الحسن: أنت عندي يا عبد الله أفقهُ مِن الحسن!
5- قال عمرُ بن عبدالعزيز رضي الله عنه: "تذكَّروا النِّعم؛ فإن ذِكرها شكرٌ، والرضا بقضاء الله شُكر".
6- قال قتادة رحمه الله: "إن الله - جل ثناؤه - لا يعذب شاكرًا ولا مؤمنًا".
7- قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الله ليمتِّعُ بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلَبَها عذابًا؛ ولهذا كانوا يسمون الشُّكر: الحافظ؛ لأنه يحفَظُ النِّعم الموجودة، والجالب؛ لأنه يجلِب النِّعم المفقودة".
8- قال مطرِّف - رحمه الله -: "لأن أُعافى فأشكر، أحبُّ إليَّ مِن أن أبتلى فأصبر".
9- قال أبو عبدالرحمن الحبلي - رحمه الله -: "الصلاة شُكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر، وأفضل الشُّكر الحمد".
10- ونختم بقول الشاعر: يا ربِّ:
أَوْليتَني نِعمًا أبوح بشُكرها
وكفَيْتني كلَّ الأمور بأَسْرِها
فلأشكرَنَّك ما حَيِيتُ وإن أمُتْ
فلتشكرَنَّكَ أعظُمي في قبرِها