خطب ومحاضرات
فقه العبادات [4]
الحلقة مفرغة
المقدم: عرفنا في حلقات ماضية عن الغاية من خلق البشر كما عرفنا مفهوم العبادة، وعرفنا أيضاً التوحيد وأقسامه الثلاثة، وحكم صرف شيءٍ من أنواع العبادة لغير الله، لكن يبقى معنا شيءٌ مهمٌ جداً وهو معنى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الشرط الثاني: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هما مفتاح الإسلام، ولا يمكن الولوج إلى الإسلام إلا بهما، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يكون أول ما يدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأما الكلمة الأولى وهي شهادة أن لا إله إلا الله بأن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود إلا الله عز وجل؛ لأن الإله بمعنى المألوه، والتأله: التعبد، والمعنى: أنه لا معبود إلا الله تعالى وحده، وهذه الجملة تشتمل على نفي وإثبات، أما النفي ففي قوله: (لا إله)، وأما الإثبات ففي قوله: (إلا الله)، والله بدلٌ من الخبر المحذوف خبر (لا)؛ لأن التقدير لا إله حقٌ إلا الله، فهو إقرارٌ باللسان بعد أن آمن به القلب بأنه لا معبود حقٌ إلا الله عز وجل، وهذا يتضمن إخلاص العبادة لله وحده، ونفي العبادة عما سواه.
وبتقديرنا الخبر في هذه الكلمة حقٌ يتبين الجواب عن الإشكال الذي يورده كثير من الناس، وهو: كيف تقولون: لا إله إلا الله مع أن هناك آلهةً تعبد من دون الله سماها الله آلهة، وسماها عابدها آلهة، فقال الله تبارك وتعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ [هود:101]،وقال تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [القصص:88]؟
فكيف يمكن أن نقول: لا إله إلا الله مع ثبوت الألوهية لغير الله عز وجل؟ وكيف يمكن أن نثبت الألوهية لغير الله والرسل يقولون لأقوامهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] ؟
والجواب على هذا الإشكال يتبين بتقدير الخبر في لا إله إلا الله، فنقول: هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة لكنها آلهة باطلة، ليست آلهة حقاً، وليس لها من حق الألوهية شيء، ويدل لذلك قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:19-23].
وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف:40] .
إذاً: فمعنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود حقٌ إلا الله عز وجل، فأما المعبودات سواه من الرسل، أو الملائكة، أو الأولياء، أو الأحجار، أو الأشجار، أو الشمس، أو القمر، أو غير ذلك فإن ألوهيتها التي يزعمها عابدوها ليست حقيقة، أي: ألوهية باطلة، بل الألوهية الحق هي ألوهية الله عز وجل.
المقدم: وما معنى شهادة أن محمداً رسول الله؟
الشيخ: معنى شهادة أن محمداً رسول الله هو القول باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله عز وجل إلى جميع الخلق من الجن والإنس، كما قال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]،وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر، وأن تمتثل أمره بما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع.
ومقتضى هذه الشهادة أيضاً: أن لا تعتقد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً من الربوبية، وتصريف الكون، أو حقاً بالعبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يعبد، ورسولٌ لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا غيره شيئاً من النفع والضر إلا ما شاء الله، كما قال الله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، فهو عبدٌ مأمور يتبع ما أمر به، قال الله تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21-22]، وقال الله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188].
فهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبهذا المعنى نعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من دونه من المخلوقين، وأن العبادة ليست إلا لله تعالى وحده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقه أن ننزله المنزلة التي أنزله الله تعالى وهي أنه عبد الله ورسوله.
المقدم: لكن ما الفرق بين الاعتراف باللسان والقلب؟ وهل يلزم الجمع بينهما؟
الشيخ: الفرق بين الاعتراف بالقلب واللسان ظاهر، فإن من الناس من يعترف بلسانه دون قلبه كالمنافقين، فالمنافقون يقول الله عنهم: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] ، لكن قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] ، فهؤلاء اعترفوا بألسنتهم دون قلوبهم، وقد يعترف الإنسان في قلبه لكن لا ينطق به، وهذا الاعتراف لا ينفعه بالنسبة لنا ظاهراً، أما فيما بينه وبين الله فحكمه إلى الله، لكنه في الدنيا لا ينفعه، ولا يحكم بإسلامه ما دام لا ينطق بلسانه، اللهم إلا أن يكون عاجزاً عن ذلك عجزاً حسياً أو حكمياً، فقد يعامل بما يقتضيه أو بما تقتضيه حاله، فلا بد من الاعتراف بالقلب واللسان.
المقدم: الذي جرنا لهذا السؤال أن هناك فريقاً من الناس الآن إذا دعي إلى العبادة قال: إن الله رب القلوب، هذا الذي نريد أيضاً التعليق عليه؟
الشيخ: نحن نقول: إن الله تعالى رب القلوب والألسن، وليس رب القلوب فقط، والقلوب لو صلحت لصلحت الجوارح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وهذا الحديث يفسد كل دعوىً يدعيها بعض الناس إذا نصحته في أمرٍ من الأمور مما أتى الله به، قال لك: التقوى هاهنا، وهي كلمة حق أريد بها باطل، والكلمة قد تكون حقاً في مدلولها العام لكن يريد بها القائل أو المتكلم معنىً باطلاً، ألا ترى إلى قول الله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148]، فهم قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وصدقوا فيما قالوا: ولو شاء الله ما أشركوا، ولكنهم لا يريدون بهذه الكلمة حقاً بل يريدون بها تبرير بقائهم على شركهم، ورفع العقوبة عنهم؛ ولهذا قال الله تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام:148]، فلن ينفعهم الاحتجاج بالقدر حين أرادوا به الاستمرار على شركهم ورفع اللوم عنهم والعقوبة، أما الواقع فإنه كما قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، كما قال الله تعالى لنبيه: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام:106-107].
لكن هناك فرق بين الحالين، فالله قال لنبيه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام:107] ليبين أن شركهم ماض بمشيئته، وأن له حكمة سبحانه وتعالى في وقوع الشرك منهم؛ وليسلي نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الأمر الواقع منهم بمشيئته تبارك وتعالى، فالمهم أن هذا الذي قال فيما نصحته: (التقوى هاهنا) قال كلمة حق لكنه أراد بها باطلاً، فالذي قال: ( التقوى هاهنا ) هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الذي قال: التقوى هاهنا هو الذي قال: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله)، فإذا كان في القلب تقوى لزم أن يكون في جوارحه تقوى، والعمل الظاهر عنوان على العمل الباطن.
المقدم: نريد أن نعرف الإيمان المنقوص والتام ولو بصورةٍ مختصرة؟
الشيخ: الإيمان له مفهومان: مفهومٌ لغوي: وهو الإقرار بالشيء والتصديق به، ومفهومٌ شرعي وهو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فلا يكفي في الشرع أن يقر الإنسان بما يجب الإيمان به حتى يكون قابلاً ومذعناً، فمثلاً: لو أقر الإنسان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه رسول الله لكن لم يقبل ما جاء به ولم يذعن لأمره، فإنه ليس بمؤمن، ولهذا يوجد من المشركين من اعترفوا وأقروا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة لكنهم لم ينقادوا له ولم يسلموا، بل بقوا على دين قومهم، فلم ينفعهم هذا الإقرار المجرد عن القبول والإذعان، فالإيمان في الشرع أخص من الإيمان في اللغة، وقد يكون الإيمان في الشرع أعم من الإيمان في اللغة، فالصلاة مثلاً من الإيمان شرعاً، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، لكنها في اللغة لا تسمى إيماناً؛ لأنها عملٌ ظاهر، والإيمان في اللغة من الأمور الباطنة فإذا أردنا أن نعرف الإيمان الشرعي نقول فيه: هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فإن لم يكن مستلزماً لذلك فليس بإيمان شرعاً.
المقدم: لكن هذا المفهوم أيضاً هل هو المفهوم الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الشيخ: نعم؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله الحقيقي يستلزم القبول والإذعان، فمن قال: إنه مؤمنٌ بالله وملائكته وكتبه ورسله ولكن لم يقبل ولم يذعن لم ينفعه هذا القول ولا الإيمان بقلبه أيضاً، لا بد أن يقبل ويذعن.
المقدم: لكن إذا سئل الإنسان عن الإيمان هل يقول: هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، أم يقول: هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله؟
الشيخ: نحن نقول: القبول والإذعان، وإذا قلنا بهذا وأردنا أن نفصل نقول: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم إن تفسير الإيمان الذي أشرنا إليه يشمل الدين كله.
المقدم: نعم، إذاً نجعل التفصيل إن شاء الله في الحلقة القادمة حتى يتسع المقام، شكراً أثابكم الله.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
فقه العبادات [40] | 3736 استماع |
فقه العبادات [22] | 3391 استماع |
فقه العبادات [31] | 3339 استماع |
فقه العبادات [14] | 3311 استماع |
فقه العبادات [33] | 3183 استماع |
فقه العبادات [43] | 3050 استماع |
فقه العبادات [27] | 2972 استماع |
فقه العبادات [59] | 2869 استماع |
فقه العبادات [52] | 2859 استماع |
فقه العبادات [18] | 2756 استماع |