جلسات رمضانية لعام 1411ه [1-1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول الله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:73] .

ثم إن الله تعالى جلل هذه النعمة بما أنزله من الغيث والمطر على غالب بلادنا ولله الحمد.

ثم إن هذه النعمة جُلِّلت بأمر ثالث وهو: انتهاء الحر قبل أن يأتي هذا الشهر المبارك؛ لأنه لو بقي على ما كان عليه لاختلت عبادات كثير من الناس في هذا الشهر، ولقلقوا، ولفاتهم الخير الذي جعله الله تعالى في هذا الشهر.

هذه النعم وأمثالها وأمثال أمثالها، وأضعافها، وأضعاف أضعافها كلها يجب على المرء المؤمن أن يتأملها، حتى يعرف نعم الله عليه من الفضل والإحسان، وحتى يحب الله عزَّ وجلَّ، فإن من أكبر أسباب محبة الله: أن ينظر الإنسان إلى نعم الله سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الأثر: (أحبوا الله لِمَا يغذوكم به من النعم) .

فإن الإنسان بطبيعته التي جبله الله عليها يحب من يحسن إليه ولو كان من بني جنسه، فكيف إذا كان المحسن عليه هو الخالق عزَّ وجلَّ، فإنه يحبه أكثر وأكثر.

ولكن من الناس من انحرف عن هذه الفطرة والعياذ بالله، وعن هذه الطبيعة التي خلق الله الخلق عليها، وجَبَلَهم عليها، فصار إذا أصابتهم نعمة أضافها إلى سببها، ونسي المسبب لها وهو الله، كما ثبت ذلك في الصحيح: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداة على إثْر سماء كانت من الليل في الحديبية -يعني: على إثْر ماء مطر نزل- فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال الله عزَّ وجلَّ: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) مع أن الكواكب ليست سبباً لنـزول المطر؛ لكنها ظروف وأوقات لنـزول المطر، يقدر الله سبحانه وتعالى الأمطار في نوء دون نوء، وفي وقت دون وقت، لحكمة اقتضت هذا.

أقول: إن بعض الناس لينسبون النعم إلى غير مسديها، أي: إلى غير الله عزَّ وجلَّ، ينسبونها إلى قوتهم، وإلى بسالتهم إذا كان هناك حرب وانتصار، وإلى أناس لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.

والواجب أن ننسب النعم أولاً وآخراً إلى الله عزَّ وجلَّ، حتى نعطي للحق حقه، لأن هذا ما يقتضيه الدين الإسلامي، فـإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90] .

في هذه السنة، وبعد زوال هذه الغمة العظيمة يجيء هذا الشهر في وقت معتدل، إبَّان دخول فصل الربيع الذي هو أحسن فصول السنة، وأريحها للبدن.

لذلك سيكون إن شاء الله تعالى صومنا في هذا الشهر سهلاً، والليل أطول مما مضى من الأعوام السابقة.

فالذي ينبغي لنا أن نستغل هذه الفرصة فيما يقرب إلى الله عزَّ وجلَّ.

ولكن أبشركم ونفسي بأن الإنسان إذا قام مع الإمام حتى ينصرف في صلاة التراويح، فإنه يُكتب له قيام ليلة كاملة، ولو كان نائماً على فراشه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بأصحابه ذات ليلة حتى مضى شطر الليل، قالوا: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا! قال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) وهذا يدل على أن هذا القيام الذي نسميه في أول الليل يغني عنه قيام في آخر الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرشدهم إلى أن يقوموا في آخر الليل، لم يقل: من شاء منكم فليقم في بيته، بل قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) من أجل ألا يتعب أبدانهم.

ومع ذلك فإن العشر الأواخر من هذا الشهر كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم إحياؤها، يحيي الليل كله، ويوقظ أهله؛ لأنها أفضل أيام الشهر، ولياليها أفضل ليالي الشهر، وفيها ليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً غُُفر له ما تقدم من ذنبه، كما صح في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

درسنا في هذه الليلة أن نعرف:

متى فُرِضَ الصيام؟

وكيف تطور فرضُه؟

وعلى من يجب الصيام؟

فرضية الصيام

أما الأول: فإن الصيام فُرض في السنة الثانية من الهجرة، كما فُرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، على قول بعض أهل العلم.

فُرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وكان أول ما فُرض: أن من شاء صام، ومن شاء افتدى أي: أطعم عن كل يوم مسكيناً.

ثم فُرض الصيام عيناً، وكان لابد أن يصوم الإنسان.

فإذاً: تطور الصيام مرتين:

المرة الأولى: التخيير.

والثانية: تعيين الصوم.

ثم هناك تطور آخر، فكان الناس إذا صلوا العشاء أو نام الإنسان ولو قبل العشاء، فإنه يحرم عليه الأكل والشرب والجماع إلى أن تغرب الشمس من اليوم الثاني؛ ولكن الله خفَّف وقال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فيسَّر الله على عباده، وصار الإنسان له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى طلوع الفجر، سواء نام قبل ذلك أم لم ينم.

من يجب عليهم صيام رمضان

أما مَن يلزمه الصوم فإنه مَن جَمَعَ ستة شرائط: 1/ الإسلام. 2/ والبلوغ. 3/ والعقل. 4/ والقدرة. 5/ والإقامة. 6/ وانتفاء المانع. أما الإسلام: فضده الكفر. فالكافر لا يلزمه الصوم، أو نلزمه به، ولا نلزمه بقضائه إذا أسلم؛ لأنه قبل أن يسلم ليس من أهل العبادات، حتى لو صام لم يصح صومه، ولم يُقبل منه. وأنه إذا أسلم فإننا لا نأمره بالقضاء، لقول الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38] فإذا أسلم في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما مضى، وإذا أسلم في أثناء اليوم لم يلزمه قضاء ذلك اليوم؛ ولكن يمسك بقية الشهر في المسألة الأولى، وبقية اليوم في المسألة الثانية. أما العقل: فضده الجنون، وإن شئت فقل: ضده فَقد العقل، من جنون أو غيره :- فالمجنون ليس عليه صوم، وفاقد العقل لحادث أو كبر أو غير ذلك ليس عليه صوم، وليس عليه كفارة؛ لأنه قد رُفع عنه القلم، فليس من أهل التكليف. وأما البلوغ: فضده الصغر. فالصغير لا يلزمه الصوم؛ لكنه يختلف عن المجنون أو عن فاقد العقل، لأنه إذا صام صحَّ صومه، بل إن العلماء يقولون: يجب على وليه أن يأمره بالصوم ليعتاده، ويتمرن عليه، اقتداءً بـالسلف الصالح ، الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصوِّمون أولادهم حتى إن الصبي ليبكي من الجوع، فيُعطى لعبة يتلهى بها إلى الغروب. وأما القدرة: فضدها العجز. وقد قسم أهل العلم العجز إلى قسمين: 1- عجزٌ مستمر. 2- وعجزٌ طارئ غير مستمر. فالعجز المستمر: كعجز الكبير عن الصوم، وعجز المريض مرضاً لا يرجى برؤه كالسرطان، والجُذام، وشبهه، فهؤلاء لا يلزمهم الصوم؛ لأنهم عاجزون عنه؛ ولكن يلزمهم أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، وكيف يكون الإطعام؟ للإطعام صفتان: الصفة الأولى: أن يصنع طعاماً غداءً وعشاءً، ومعلوم أن الغداء يكون بعد رمضان، غداءً وعشاءً، ويطعمهم إياه، كما كان أنس بن مالك يفعل ذلك حينما كبر. الصفة الثانية: أن يعطي كل واحد مُدَّاً من الأرز، ويَحْسُن أن يجعل معه لحماً أو شيئاً يؤدِّمه، والمُدُّ: مقابل خُمُس الصاع في صاعنا هنا في القصيم، وذلك لأن المُدَّ الموجود في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان ربع صاع النبي صلى الله عليه وسلم، الصاع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان أربعة أمداد، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى صاعنا أربعة أخماس، بل يقل قليلاً. أما القسم الثاني من العجزة، فهو: العاجز عن الصوم عجزاً طارئاً يُرجى زواله: فمن مرض مرضاً طارئاً بحمى أو غيرها، فهذا ينتظر حتى يُشفى، ثم يصوم، كما قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]. فإن قُدِّر أن هذا المرض تمادى به واستمر حتى مات فليس عليه شيء، لا إطعام، ولا صيام؛ وذلك لأن الله أوجب عليه أن يقضي، ولم يدرك القضاء، فصار كمن مات قبل دخول رمضان، لا يلزمه أن يُصام عنه، إلا إذا شُفي وقدر على الصوم؛ ولكنه تهاون حتى مات، فإنه يُقضى عنه بعدد الأيام التي قدر فيها على الصوم فلم يصم. أما الشرط الخامس فهو: الإقامة. الإقامة يعني: أن يكون الإنسان مقيماً: وضده المسافر، فالمسافر لا صوم عليه، يخيَّر بين أن يصوم ويفطر والصوم أفضل، إلا مع المشقة فالفطر أفضل؛ لقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر؛ إلا أنه أفطر لما شق على أصحابه. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر في رمضان، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة ) . وأما انتفاء المانع فهو: ألا تكون المرأة حائضاً ولا نُفَساء، فإن كانت حائضاً أو نُفَساء فإنه لا يلزمها الصوم، بل لو صامت الحائض أو النُّفَساء لم يصح صومها، بإجماع المسلمين. وإذا حاضت المرأة في أثناء نهار رمضان وهي صائمة بطل صومها، وإذا حاضت بعد غروب الشمس ولو بلحظة، فصومها صحيح، حتى لو أحست (بمغص) قبل أن تفطر ولكنها لم ترَ الدم إلا بعد الفطور فإن صومها صحيح؛ خلافاً لما يظن بعض النساء أنها إذا حاضت قبل أن تصلي المغرب بطل صوم يومها، فإن هذا لا أصل له، ولا صحة له. هذه الشروط الستة، شروط من يجب عليه الصوم أداءً. ومنها ما هو شروطٌ للوجوب أداءً وقضاءً مثل: الإسلام، والعقل، فإن فاقد العقل لا صوم عليه، لا أداءً ولا قضاءً، وكذلك الكافر لا صوم عليه، لا أداءً ولا قضاءً، البلوغ أيضاً شرط للوجوب أداءً وقضاءً، فالصبي لا يجب عليه الصوم، لا أداءً ولا قضاءً. بقي الإقامة، والقدرة، وعرفتم التفصيل فيها. وإلى هنا ينتهي درسنا لهذه الليلة. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الاستقامة على دينه، والثبات عليه.

أما الأول: فإن الصيام فُرض في السنة الثانية من الهجرة، كما فُرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، على قول بعض أهل العلم.

فُرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وكان أول ما فُرض: أن من شاء صام، ومن شاء افتدى أي: أطعم عن كل يوم مسكيناً.

ثم فُرض الصيام عيناً، وكان لابد أن يصوم الإنسان.

فإذاً: تطور الصيام مرتين:

المرة الأولى: التخيير.

والثانية: تعيين الصوم.

ثم هناك تطور آخر، فكان الناس إذا صلوا العشاء أو نام الإنسان ولو قبل العشاء، فإنه يحرم عليه الأكل والشرب والجماع إلى أن تغرب الشمس من اليوم الثاني؛ ولكن الله خفَّف وقال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فيسَّر الله على عباده، وصار الإنسان له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى طلوع الفجر، سواء نام قبل ذلك أم لم ينم.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
جلسات رمضانية لعام 1411ه[6] 2911 استماع
جلسات رمضانية لعام 1411ه [4] 2872 استماع
جلسات رمضانية 1415ه [1] 2823 استماع
جلسات رمضانية لعام 1411ه [7] 2782 استماع
جلسات رمضانية لعام 1410ه[2] 2714 استماع
جلسات رمضانية 1412ه [1] 2709 استماع
جلسات رمضانية (1415ه)[5] 2578 استماع
جلسات رمضانية1410ه [2-3] 2499 استماع
جلسات رمضانية لعام 1411ه [5] 2420 استماع
جلسات رمضانية لعام 1411ه [2-1] 2347 استماع