ولا تفرقوا


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الله تعالى خلق البشر من نفس واحدة، وكان بالإمكان أن يجعل كل واحد منهم آدم مستقلاً، ولكنه أراد بحكمته البالغة أن يكونوا إخواناً، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يجعلهم متكاملين فيما بينهم متعاونين، فلذلك جعلهم جميعاً من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وامتن عليهم بذلك فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

وقد جاء هذا الدين فألف بين القلوب وجمع بينها، وأكد هذه الآصرة البشرية التي تجمع البشر جميعاً، ولهذا قال الله فيه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105]، وقال تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].

وقد حرم الله تعالى التفرقة بين المسلمين، وبين خطرها وضررها، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ [الأنعام:159].

وبين أنها ضرب من ضروب العذاب فقال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

وهذه الآية قسم الله فيها العذاب إلى ثلاثة أقسام: إلى عذاب منزل من السماء، وعذاب خارج من الأرض، وعذاب في الوسط، وهو بحصول الخلافات والنزاعات عائذاً بالله من الجميع.

وبين الله تعالى أن الفرقة منافية للرحمة فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[هود:118-119].

وبين أنها مظهر من مظاهر الشرك، فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:30-32]، و(من) هنا بيانية، أي: المشركون هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.

وكذلك بين أنها سبب للفشل، ولنزع مهابة العدو من القلوب، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45-46].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أخوة الإسلام وارتباطها بهذه العقيدة القويمة، فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

وأخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه ).

وأخرج النسائي من حديث أبي جحيفة السوائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترك عند علي : ( والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من هم سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ).

وقد بين الله تعالى أن التأليف بين القلوب إنما هو بالإيمان، ولا يمكن أن يتم بالوسائل المادية الدنيوية، ولذلك قال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأمور التي هي سبب لإزالة هذه الأخوة فحذر منها فقال: (لا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، ولا يسم بعضكم على سوم بعض)، وفي رواية: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يحقره، ولا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).

وكذلك قال في خطبته في حجة الوداع: ( فإن الله تعالى حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد ).

وبين أن الفرقة هي الحالقة، قال: ( لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)، فهي سبب لإزالة الدين؛ لأن الفرقة تؤدي من الإنسان أن يستبيح من أخيه ما حرم الله منه، فإما أن يستبيح دمه وهذه هي الطامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال المسلم في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً).

وقال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

وإما أن يصيب من عرضه فذلك أيضاً مثل دمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تكفير المسلم كقتله )، وقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته وهي من آخر ما سمع منه: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وقال: ( القاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: أليس كان حريصاً على قتل صاحبه؟).

وكذلك بين حرمة الأموال وأنها مثل حرمة الأنفس فقال: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، وقال: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه).

والفرقة تؤدي إلى استباحة أموال المسلمين، فلذلك كانت ذات ضرر بالغ، وكانت حالقة للدين.

الكلام على الناس والاعتداء على حقوقهم

وهي أيضاً: سبب لإلقاء الكلام على عواهنه مما يفتح المجال أمام إبليس، فإبليس هو عدو البشر الأول، وهو يتربص بهم الدوائر، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ويريد منهم أية غفلة ليصل إلى القلب، لأن مبتغاه في الإنسان أن يجد ثغرة يدخل منها إلى قلبه، وهذه الثغرة من أبلغها الفرقة والعداوة، فإذا حصلت استطاع إبليس أن ينفخ فيها وأن يزيدها فيدخل إلى البشر منها، فيفسد ما بينهم من العلاقات، ويضيع ما لديهم من المكتسبات، ولذلك فإن الله تعالى أنزل سورة الحجرات، فذكر فيها ثلاثة عشر سبباً من أسباب الفرقة والخلاف وحرمها جميعاً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

فبين أن التعدي على الصلاحيات والاعتداء على الحقوق، وتجاوز الأدب في هذا الباب هو سبب للفرقة والخلاف وحرمه.

نقص الأدب وعدم إنزال الناس منازلهم

عدم التثبت في نقل الأخبار والبغي والاعتداء على الغير

ثم بين سبباً آخر: وهو عدم التثبت في نقل الأخبار، فالإنسان الذي إذا سمع قولاً قاله، ولا يبحث عن صدقه ولا يتثبت في نقله، فهذا سبب لحصول الفرقة والخلاف، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً[الحجرات:6-8].

ثم بعد ذلك ذكر سبباً آخر وهو البغي والاعتداء، فاعتداء الإنسان على أخيه المسلم سبب لحصول الضغائن والشحناء، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].

احتقار المسلمين والسخرية منهم باللمز والطعن

ثم بعد هذا بين سبباً آخر من أسباب الفرقة والخلاف: وهو احتقار المسلمين والسخرية منهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [الحجرات:11]، أي: إن المسخور منه قد يكون أفضل عند الله تعالى من الساخر: وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].

ثم بين سبباً آخر للفرقة والخلاف، وهو اللمز والطعن في الأنساب والاعتداء على أعراض الناس والجسارة على ذلك وعدم عفة اللسان فقال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، فحذر من هذا اللمز، وبين ضرره، فإن اللامز لغيره إنما هو لامز لنفسه؛ لأنه سيسعى الآخر للرد عليه، ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل، فلهذا قال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، فاللامز الطاعن في غيره إنما يلمز نفسه.

التنابز بالألقاب وسوء الظن بالآخرين

ثم بعد ذلك قال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11]، فذكر هذا السبب من أسباب الفرقة والخلاف وهو التنابز بالألقاب، فذكر الأسماء غير المرضية، والألقاب غير المحبوبة هو سبب للفرقة والخلاف، وقد حرمه الله تعالى فقال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

ثم بعد هذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

فعلى الإنسان أن يحسن ظنه بالمؤمنين، وأن يلتمس لهم المعاذير، فإذا أساء الظن بهم فذلك سبب للفرقة والخلاف، لهذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

التجسس والغيبة على المسلمين

ثم ذكر سبباً آخر: وهو التجسس فقال: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]، فالتجسس وهو التحسس من أجل الاطلاع على الأخبار لنقلها على وجه الإفساد، من أسباب الفرقة والبغضاء والشحناء، ولا يأتي بخير، ولذلك حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن صاحبه لا يدخل الجنة فقال: ( لا يدخل الجنة قتات ). ومعنى أنه لا يدخل الجنة أي: أنه إذا كان من المؤمنين فلا بد أن تسوء خاتمته ويموت على غير الإسلام.

ثم ذكر سبباً آخر: فقال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فالسعي بالغيبة واستحلالها من الناس سبب لحصول البغضاء والشحناء، ولذلك في حديث عائشة ( أنها ذكرت أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم فأشارت إلى قصرها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً )، وبين ثقل هذه الكلمة الواحدة التي قالتها، كلمة واحدة قالتها أم المؤمنين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم غضب منها غضباً شديداً وبين ثقلها في الكفة، وهي مجرد إشارة إلى القصر، وهذا من خلقة الإنسان التي خلقه الله عليها، وليس للإنسان تدخل فيه، ومع ذلك حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، فلذلك قال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12].

فبين أن أكل الغيبة ما هو إلا بمثابة أكل لحم الإنسان الميت بعد أن أنتن وتغير، وهذا ما يتقززه الإنسان ولا يمكن أن يقدم عليه، فالغيبة مثله فهي منتنة.

التفاخر بالأنساب وادعاء الإنسان ما ليس له

عدم الوفاء لله بالعهد والميثاق

ثم ذكر السبب الأخير من هذه الأسباب: وهو عدم الوفاء لله بالعهد، فالذين لا يفون لله بما عاهدوه عليه ولا ينصرون دينه لا ينتصرون على أنفسهم، فينهزمون أمام هذه النفوس الشريرة، فتكون نفوسهم غير راضية إلا أن يكونوا من المطففين: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:2-3].

ولذلك قال: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ[الحجرات:15-16].

فبين أن النفوس إذا تركت على هواها فسيختل تعاملها مع الله سبحانه وتعالى، حتى يمن الإنسان على الله ببعض نعم الله عليه، وهذا غاية في الابتعاد عن حسن الأدب مع الله تعالى.

وهي أيضاً: سبب لإلقاء الكلام على عواهنه مما يفتح المجال أمام إبليس، فإبليس هو عدو البشر الأول، وهو يتربص بهم الدوائر، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ويريد منهم أية غفلة ليصل إلى القلب، لأن مبتغاه في الإنسان أن يجد ثغرة يدخل منها إلى قلبه، وهذه الثغرة من أبلغها الفرقة والعداوة، فإذا حصلت استطاع إبليس أن ينفخ فيها وأن يزيدها فيدخل إلى البشر منها، فيفسد ما بينهم من العلاقات، ويضيع ما لديهم من المكتسبات، ولذلك فإن الله تعالى أنزل سورة الحجرات، فذكر فيها ثلاثة عشر سبباً من أسباب الفرقة والخلاف وحرمها جميعاً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

فبين أن التعدي على الصلاحيات والاعتداء على الحقوق، وتجاوز الأدب في هذا الباب هو سبب للفرقة والخلاف وحرمه.

ثم بين سبباً آخر: وهو عدم التثبت في نقل الأخبار، فالإنسان الذي إذا سمع قولاً قاله، ولا يبحث عن صدقه ولا يتثبت في نقله، فهذا سبب لحصول الفرقة والخلاف، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً[الحجرات:6-8].

ثم بعد ذلك ذكر سبباً آخر وهو البغي والاعتداء، فاعتداء الإنسان على أخيه المسلم سبب لحصول الضغائن والشحناء، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].