شرح سنن أبي داود [309]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (خير الصحابة أربعة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا.

حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) قال أبو داود : والصحيح أنه مرسل ].

أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا. يعني: من حيث العدد، فأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خير الصحابة أربعة..) الصحابة: الرفقاء؛ لأن الصحبة بمعنى الرفقة، فهذا هو المطابق للترجمة، فالرفقاء المقصود بهم الصحابة الذين هم أربعة أشخاص.

وذكر هنا الأربعة مع أنه قد مر في الأحاديث أن أقل الجمع في السفر ثلاثة، وأن الثلاثة ركب، وأنهم يؤمرون واحداً منهم إذا كانوا ثلاثة فأكثر، ولكن هنا ذكر أن خير الرفقاء أربعة، فمعناه: لا يقلون عن أربعة، فلو كانوا خمسة أو ستة فلا بأس بذلك، لكن كونهم ينقصون عن هذا العدد فلا يوصفون بالخيرية، ولعل ذلك أن الأربعة إذا كانوا مع بعض يمكن أن ينفرد كل واحد مع الثاني فيتحدثان، بخلاف ما لو كانوا ثلاثة، فإنه إذا تناجى اثنان دون الثالث فإنه يؤلمه ويحصل له تأثر، وأما إذا كانوا أربعة فلا يوجد إشكال، لكن إذا كانوا ثلاثة فلابد أن يتحدثوا كلهم مع بعض، ولا يتناجى اثنان دون الثالث فإنه قد جاء ما يدل على منعه؛ لأن ذلك يؤلمه ويغضبه.

ثم أيضاً لو أرادوا أن يقتسموا المهمة بحيث يتعاونون مع بعض، وكل يوكل له مهمة فيكون اثنان مع بعض واثنان مع بعض، بخلاف الثلاثة فإنه لا تكون القسمة متساوية.

قوله: [ (وخير السرايا أربعمائة) ].

يعني: يكون عددهم أربعمائة، لا يقلون عن ذلك، مع أن السرية يمكن أن تكون أقل من أربعمائة، ولكن لا تكون خيرة حتى يكون عددها أربعمائة، ولا أدري ما وجه اختيار هذا العدد؟!

وقيل: لعل ذلك أن أهل بدر كانوا فوق الثلاثمائة، فيكون الكسر مجبوراً على اعتبار أن هذا العدد خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم فوق الثلاثمائة، ولكنهم ما بلغوا الأربعمائة فيكون هناك جبر للكسر.

على كل: الله تعالى أعلم بوجه اختيار هذا العدد، وكونه خير السرايا.

والسرية: هي القطعة التي تقتطع من الجيش وترسل في مهمة، ثم تعود إلى الجيش، والجيش عدده كبير فالإمام أو الأمير يختار سرية يسند إليها مهمة تذهب بها، ثم ترجع إلى الجيش الذي هو أصلها.

قال: [ (وخير الجيوش أربعة آلاف) ].

قوله: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) يعني: كون الغلبة سببها القلة، ولكن قد تكون الغلبة في غير القلة بأن يكون هناك عجب وأمور أخرى يحصل بها الانهزام أو عدم الغلبة، فليس المقصود أنه لا تحصل الصفات الذميمة والأشياء التي قد تكون سبباً في الهزيمة، وإنما المسألة هي مسألة قلة فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يغلب اثنا عشر ألف من قلة).

تراجم رجال إسناد حديث (خير الصحابة أربعة...)

قوله: [ حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة ].

زهير بن حرب أبو خيثمة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ حدثنا وهب بن جرير ].

وهو وهب بن جرير بن حازم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا أبي ].

جرير بن حازم ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ].

يونس والزهري مر ذكرهما وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.

[ عن ابن عباس ].

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال أبو داود : والصحيح أنه مرسل، والشيخ الألباني صححه وهو مرفوع، ولعله جاء من طرق أخرى مرسلة أي: أن الطريقة المتصلة هي المعتبرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا.

حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) قال أبو داود : والصحيح أنه مرسل ].

أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا. يعني: من حيث العدد، فأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خير الصحابة أربعة..) الصحابة: الرفقاء؛ لأن الصحبة بمعنى الرفقة، فهذا هو المطابق للترجمة، فالرفقاء المقصود بهم الصحابة الذين هم أربعة أشخاص.

وذكر هنا الأربعة مع أنه قد مر في الأحاديث أن أقل الجمع في السفر ثلاثة، وأن الثلاثة ركب، وأنهم يؤمرون واحداً منهم إذا كانوا ثلاثة فأكثر، ولكن هنا ذكر أن خير الرفقاء أربعة، فمعناه: لا يقلون عن أربعة، فلو كانوا خمسة أو ستة فلا بأس بذلك، لكن كونهم ينقصون عن هذا العدد فلا يوصفون بالخيرية، ولعل ذلك أن الأربعة إذا كانوا مع بعض يمكن أن ينفرد كل واحد مع الثاني فيتحدثان، بخلاف ما لو كانوا ثلاثة، فإنه إذا تناجى اثنان دون الثالث فإنه يؤلمه ويحصل له تأثر، وأما إذا كانوا أربعة فلا يوجد إشكال، لكن إذا كانوا ثلاثة فلابد أن يتحدثوا كلهم مع بعض، ولا يتناجى اثنان دون الثالث فإنه قد جاء ما يدل على منعه؛ لأن ذلك يؤلمه ويغضبه.

ثم أيضاً لو أرادوا أن يقتسموا المهمة بحيث يتعاونون مع بعض، وكل يوكل له مهمة فيكون اثنان مع بعض واثنان مع بعض، بخلاف الثلاثة فإنه لا تكون القسمة متساوية.

قوله: [ (وخير السرايا أربعمائة) ].

يعني: يكون عددهم أربعمائة، لا يقلون عن ذلك، مع أن السرية يمكن أن تكون أقل من أربعمائة، ولكن لا تكون خيرة حتى يكون عددها أربعمائة، ولا أدري ما وجه اختيار هذا العدد؟!

وقيل: لعل ذلك أن أهل بدر كانوا فوق الثلاثمائة، فيكون الكسر مجبوراً على اعتبار أن هذا العدد خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم فوق الثلاثمائة، ولكنهم ما بلغوا الأربعمائة فيكون هناك جبر للكسر.

على كل: الله تعالى أعلم بوجه اختيار هذا العدد، وكونه خير السرايا.

والسرية: هي القطعة التي تقتطع من الجيش وترسل في مهمة، ثم تعود إلى الجيش، والجيش عدده كبير فالإمام أو الأمير يختار سرية يسند إليها مهمة تذهب بها، ثم ترجع إلى الجيش الذي هو أصلها.

قال: [ (وخير الجيوش أربعة آلاف) ].

قوله: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) يعني: كون الغلبة سببها القلة، ولكن قد تكون الغلبة في غير القلة بأن يكون هناك عجب وأمور أخرى يحصل بها الانهزام أو عدم الغلبة، فليس المقصود أنه لا تحصل الصفات الذميمة والأشياء التي قد تكون سبباً في الهزيمة، وإنما المسألة هي مسألة قلة فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يغلب اثنا عشر ألف من قلة).

قوله: [ حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة ].

زهير بن حرب أبو خيثمة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ حدثنا وهب بن جرير ].

وهو وهب بن جرير بن حازم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا أبي ].

جرير بن حازم ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ].

يونس والزهري مر ذكرهما وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.

[ عن ابن عباس ].

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال أبو داود : والصحيح أنه مرسل، والشيخ الألباني صححه وهو مرفوع، ولعله جاء من طرق أخرى مرسلة أي: أن الطريقة المتصلة هي المعتبرة.

شرح حديث (كان رسول الله إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في دعاء المشركين.

حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيتها أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم.

ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجرى عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.

فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم.

فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم.

وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله تعالى فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم).

قال سفيان بن عيينة : قال علقمة : فذكرت هذا الحديث لـمقاتل بن حيان فقال: حدثني مسلم -قال أبو داود : هو ابن هيصم - عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث سليمان بن بريدة ].

أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في دعاء المشركين. يعني: دعوتهم إلى الإسلام، فالدعاء بمعنى الدعوة، وذلك كونهم يدعون إلى الإسلام أولاً، والكفار إذا بلغتهم الدعوة فلا تجب دعوتهم عند القتال، وإنما يستحب ذلك، وأما إذا لم تبلغهم فيجب أن يدعوا وأن تبلغ الدعوة إليهم.

وأورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل الأمراء على الجيوش يوصي الأمير بأمرين:

أولاً: أن يتقي الله عز وجل في جميع شئونه.

ثانياً: يوصيه بمن معه من المسلمين خيراً، يعني: أصحابه الذين هو أمير عليهم يوصيه بهم خيراً.

وهذا فيه بيان ما يتعلق بصلة الإنسان بربه وصلته بغيره، وهو يشبه ما جاء في حديث معاذ الذي قال فيه: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) فأوصاه بتقوى الله في معاملته لربه، ومعاملته للناس بأن يخالقهم بخلق حسن، وهنا في الحديث أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيراً، يعني: أنه يرفق بهم ويعاملهم المعاملة اللائقة بهم، ولا يسيء إليهم، بل يحسن إليهم.

قوله: [ (قال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث) ].

يقول للأمير الذي يؤمره بعدما يوصيه بالوصيتين: المتعلقة بنفسه والمتعلقة بأصحابه، يقول: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال) وهذا شك من الراوي، فخصلة أو خلة معناهما واحد، والشك من الراوي هل قال: (خصال) أو قال: (خلال).

الأولى: أن يدعوهم إلى الإسلام.

والثانية: إلى إعطاء الجزية.

والثالثة: أن يستعين بالله ويقاتلهم.

فهذه هي الخصال الثلاث التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الأولى فيها تفصيل.

قوله: [ (فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) ].

يعني: إذا استجابوا وأسلموا يدعون للتحول إلى دار المهاجرين، بمعنى: أنهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ويكونون مستعدين للجهاد معه، ويكون لهم ما للمهاجرين، وإن أبوا وأرادوا أن يبقوا في دارهم فيكونوا كأعراب المسلمين الذين يبقون في الفلاة، وليس لهم من الغنيمة والفيء إلا أن يجهزوا أنفسهم للجهاد، ومن احتيج إليه في الجهاد من الأعراب وجاء من هذه الدار التي لم يحصل فيها هجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يعطى نصيبه من الغنيمة إذا حضر الغزوة والجهاد، فإن لم يحضر فإنه لا يكون له شيء، وإنما يكون له من ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، لكن من جاء من البادية وحضر الجهاد فإنه يكون له نصيب؛ لأنه قد حضر، لكن كونه يجري له ما يجري للمهاجرين، وحكمه حكم المهاجرين الذين تركوا أوطانهم وجاءوا لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون له ذلك.

قوله: [ (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين) ].

يعني: لهم ما للمهاجرين من الحقوق، وعليهم ما على المهاجرين من الواجبات.

قوله: [ (فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين: يجرى عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) ].

يعني: إذا أرادوا أن يبقوا في دارهم، ولا توجد ضرورة تدعو إلى هجرتهم ومجيئهم فإنهم يكونون كالأعراب الذين يكونون في فلاتهم مع مواشيهم ودوابهم يقومون برعايتها ومتابعتها، فتجري عليهم أحكام الإسلام، وليس لهم في الغنيمة والفيء أي شيء، إلا من حضر منهم الغزو فإنه يكون له نصيب من الغنائم بحضوره الغزو ومشاركته، لكن لا يقال إنهم في حكم المهاجرين الذين تركوا بلادهم، وصاروا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم معه ينصرونه ويؤيدونه، وتحت إمرته، وتحت توجيهه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

قوله: [ (فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية) ].

يعني: أبوا أن يسلموا وأن يدخلوا في الإسلام؛ لأن الكلام الذي مر هو مع أناس دخلوا في الإسلام.

والدعوة إلى إعطاء الجزية يعني: أن يعطوا الجزية حيث بقوا على كفرهم، ولكن المسلمين استولوا عليهم، فإنهم يعطون الجزية لأنهم يكونون تحت ولاية المسلمين، فيكونون خاضعين لحكم المسلمين وهم باقون على ما هم عليه، فوجودهم بين المسلمين وتحت حكم المسلمين يكون من أسباب دخولهم في الإسلام، وكون المسلمين يحكمونهم وهم يشاهدون أحكام الإسلام وأعمال المسلمين الحسنة والأمور العظيمة التي جاء بها الإسلام، فإنه يكون سبباً في إسلامهم.

والحديث يدل على أخذ الجزية من كل شخص سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب، وبعض أهل العلم يقصرها على أهل الكتاب؛ لأنه قال في آية التوبة: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] ولكن هذا الحديث يدل على أن الحكم عام وشامل، فأهل الكتاب جاء الحكم فيهم في القرآن، وهذا الحديث يشمل أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فتؤخذ الجزية من العرب وغير العرب.

قوله: [ (فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم) ].

لأنه إذا قبل منهم الجزية، وكف عنهم، ودخلوا تحت حكم الإسلام وصاروا بين المسلمين، فإن ذلك يكون سبباً في دخولهم الإسلام، وهذا هو المهم في الأمر في الجهاد في سبيل الله؛ لأن المقصود من ذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وكون المسلمين لهم الحكم والولاية في الأرض، والكفار يكونون تحت لوائهم، فيكون ذلك سبباً في دخولهم في الإسلام.

قوله: [ (فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم) ].

فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم يعني: هذه الخصلة الثالثة التي هي الأخيرة، استعن بالله وقاتلهم؛ لأنهم ما دخلوا في الإسلام، ولا أعطوا الجزية، وإنما كابروا وعاندوا.

قوله: [ (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم) ].

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأمير: إذا حاصرت أهل حصن يعني: جماعة متحصنين في مكان معين، وأرادوا أن ينزلوا على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ لأنك لا تدري هل أصبت حكم الله أو لا، لكن أنزلهم على حكمك، أو حكم أصحابك، أو حكم الأمير، أو حكم واحد ممن مع الأمير؛ لأن المجتهد قد يصيب الحق وقد يخطئه، قد يصيب حكم الله وقد يخطئه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر المتفق على صحته: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) وهذا يدل على أن الحق واحد قد يصيبه بعض المجتهدين ويخطئه البعض، فمن اجتهد وأصاب حصل على أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن اجتهد وأخطأ حصل أجراً على الاجتهاد، وخطؤه مغفور.

فلا ينزلونهم على حكم الله لأنه قد لا يكون حكم الله واضحاً فيحتاج الأمر إلى اجتهاد، ومعلوم أنهم كانوا يجتهدون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مثلما حصل في قصة الذهاب إلى بني قريظة حيث قال لهم صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فذهبوا، ولما دنا وقت غروب الشمس انقسموا إلى قسمين: منهم من قال: نستمر في المشي حتى ولو غربت الشمس، ومنهم من قال: نصلي الصلاة في وقتها ولا نؤخرها، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد أن تؤخر الصلاة عن وقتها. فهذا الاجتهاد حصل في زمن النبوة، فقال: فلا تنزلهم على حكم الله؛ لأنك لا تدري هل تصيب حكم الله أو لا، ولكن أنزلهم على حكمك أنت، فتجتهد في البحث عن حكم الله وفي الوصول إلى حكم الله، فقد تصيبه وقد لا تصيبه.

تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله...)

قوله: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ].

محمد بن سليمان الأنباري ، صدوق أخرج له أبو داود .

[ حدثنا وكيع ].

وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سفيان ].

سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن علقمة بن مرثد ].

علقمة بن مرثد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سليمان بن بريدة ].

سليمان بن بريدة ، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبيه ].

بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ قال سفيان بن عيينة ].

سفيان بن عيينة ، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال علقمة : فذكرت هذا الحديث لـمقاتل بن حيان ].

مقاتل بن حيان ، صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ فقال: حدثني مسلم -قال أبو داود : هو ابن هيصم - ].

مسلم بن هيصم ، وهو مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن النعمان بن مقرن ].

النعمان بن مقرن رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تغُّلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً) ].

أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب ، وفيه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للجيوش التي كان يرسلها قال: (اغزوا باسم الله) يعني: مستعينين بالله معتمدين على الله.

فقوله: [ (وفي سبيل الله) ].

أي: حتى يكون الغزو في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

قوله: [ (وقاتلوا من كفر الله اغزوا ولا تغدروا) ].

الغدر: هو الغدر بالعهد، وهو كونهم يعاهدون ثم يغدرون في عهدهم، فلابد أن يوفوا بالعهود لغيرهم إذا عاهدوهم.

[ (ولا تغلوا) ].

الغلول: الأخذ من الغنيمة بدون حق، وهذه خيانة.

قوله: [ (ولا تمثلوا) ].

يعني: إذا قتلتم أحداً فلا تمثلوا به فتقطعوا أنفه أو تقطعوا شيئاً منه فيكون مشوهاً، لكن اقتلوه بدون تمثيل.

قوله: [ (ولا تقتلوا وليداً) ].

يعني: الصغير الذي لا يقاتل، ولكنه إذا كان من أهل القتال فإنه يقتل لمقاتلته.

تراجم رجال إسناد حديث (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله...)

قوله: [ حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى ].

أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى ، هو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ أخبرنا أبو إسحاق الفزاري ].

وهو: إبراهيم بن محمد بن الحارث ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ].

وقد مر ذكرهم جميعاً في الإسناد السابق.

شرح حديث (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى عن حسن بن صالح عن خالد بن الفزر قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأةً، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) ].

أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

قوله: [ (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله) ].

يعني: الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله فقوله: (انطلقوا باسم الله وبالله) يعني: معتمدين على الله متوكلين عليه مستعينين به، (وعلى ملة رسول الله) يعني: على سنته وطريقته ومنهجه ودينه.

قوله: [ (ولا تقتلوا شيخاً فانياً) ].

يعني: ليس من أهل القتال، إلا إن كان ذا رأي وخبرة في الحرب بحيث يستفيدون منه فيقتل وإن كان كبيراً للتخلص من شره.

قوله: [ (ولا طفلاً ولا صغيراً) ].

في بعض الروايات: (طفلاً صغيراً) ويمكن أن يكون الطفل صغيراً جداً كالرضيع والذي حوله، والصغير: هو الذي لم يبلغ الحلم، ولكن الحكم كما مر أن الوليد الذي لا يقتل هو الذي لا يقاتل، أما من يكون من المقاتلة ولو لم يبلغ فهو يقتل لقتاله.

قوله: [ (ولا امرأة) ].

المرأة كذلك لا تقتل إلا أن تكون من المقاتلة فإنها تقتل.

قوله: [ (ولا تغلوا، وضموا غنائمكم) ].

يعني: اجمعوها وضموا بعضها إلى بعض، حتى لا يؤخذ منها من غير حق.

قوله: [ (وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) ].

وهذه الجملة الأخيرة آية، وهذا يسمونه في علم البلاغة: الاقتباس، وهو أن يأتي بالكلام ثم يتبعه بآية أو جزء منها أو بحديث دون أن يقول فيه: قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا اسمه في علم البلاغة الاقتباس، فيأتي بشيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متصلاً بالكلام دون إضافته إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحديث ضعيف، فيه خالد بن الفزر ، ولكن له شواهد في أحاديث أخرى مثل النهي عن الغلول وغيره.

تراجم رجال إسناد حديث (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله...)

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في أعمال اليوم والليلة.

[ حدثنا يحيى بن آدم ].

يحيى بن آدم الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ وعبيد الله بن موسى ].

عبيد الله بن موسى ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن حسن بن صالح ].

حسن بن صالح بن حي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن خالد بن الفزر ].

خالد بن الفزر ، وهو مقبول، أخرج له أبو داود .

[ عن أنس بن مالك ].

أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2649 استماع