اللقاء الشهري [49]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو لقاؤنا الشهري الذي يتم كل شهر في هذا المسجد الجامع الكبير بـعنيزة ، ويكون في السبت الثالث من كل شهر، وهذه الليلة هي ليلة الأحد العشرين من شهر جمادى الأولى عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف.

أمامي الآن فكرياً موضوعان:

الموضوع الأول: صلاة الكسوف، أسبابها، وحكمها، وكيفيتها.

أسباب الكسوف

أسباب الكسوف نوعان: نوع شرعي لا يطلع عليه إلا بالوحي، ونوع طبيعي يطلع عليه علماء الفلك ويعرفونه ويقدرونه بحساب لا يزيد دقيقة ولا ينقص دقيقة، وهذا السبب الفلكي معلوم عند العلماء، تكلم فيه العلماء قديماً كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وبينوا أن هذه الأسباب معلومة يعرفها أهل الفلك وعلماء الهيئة - يعني: علماء الفلك - ويقدرونها .. ستكون في الساعة الفلانية في اليوم الفلاني أو في الليلة الفلانية؛ وذلك لأن جريان الشمس والقمر بتقدير العزيز العليم عز وجل لا يختلف، ولا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، قال الله تبارك وتعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].

هذه الأسباب الطبيعية قد لا يتكلم عنها الوحي من الكتاب والسنة بكلام كثير؛ لأنها موكولة إلى العلم وتقدمه، وليست ذات فائدة كبيرة.

أما السبب الثاني - السبب الشرعي - الذي لا يطلع عليه إلا بالوحي فهذا هو المهم، وهذا السبب الشرعي لا يعرفه هؤلاء الفلكيون، بل هم من أجهل الناس به.

السبب الشرعي: هو عقوبات انعقدت أسبابها، ولكن الله سبحانه وتعالى برحمته رفعها عن العباد وخوفهم منها بهذا الخسوف سواء في الشمس أو في القمر .. فأسبابها عقوبات انعقدت أسبابها، فكسفت الشمس أو القمر تخويفاً للعباد وإنذاراً لهم.

نحن لا يمكن أن ندرك هذا بحساب ولا بتفكير، لا يدرك هذا إلا عن طريق الوحي، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرنا فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم أو حياة عظيم، وسبحان الله الحكيم العليم صادف كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الذي توفي فيه إبراهيم رضي الله عنه، إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فماذا قال الناس؟ قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فأبطل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه العقيدة، أبطلها إبطالاً تاماً؛ لأن الأفلاك والعالم العلوي لا تتأثر بما يكون في العالم السفلي أبداً، فالأفلاك العليا لا تتأثر بما يكون في العالم السفلي، ولذلك تحدث الحروب والأوبئة وغيرها من الفضائل العظيمة لكن هل تتأثر الأفلاك بذلك؟ لا: تكون الزلازل وتكون الحروب ويكون الفقر والأمراض وغيرها، لكن الشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والنجوم هي النجوم، وسيرها هو سيرها، بل الغمام هو الغمام، والمطر هو المطر، لكن الله عز وجل يحدث في العالم العلوي ما يكون سبباً لتخويف العالم السفلي وهو الكسوف.

أما السبب الطبيعي فهو معلوم عند علماء الفلك يعرفونه بالساعة والدقيقة، والليل والنهار، لكن هذا لا يعنينا كثيراً، والذي يعنينا كثيراً ويهمنا هو الذي لا يعلم إلا عن طريق الوحي وهو السبب الشرعي.

حكم صلاة الكسوف

أما حكم الصلاة - أعني صلاة الكسوف - فإن أكثر العلماء على أنها سنة، ولكن الصحيح أنها واجبة إما على الكفاية وإما على الأعيان.

على الكفاية بمعنى: أنه إذا قام بها بعض أهل البلد حصل المقصود، أو على الأعيان بمعنى: أنه يجب على كل واحد أن يصلي صلاة الكسوف، ولكن الأرجح أنها واجبة على الكفاية، وأنه لا يمكن لأهل البلد ألا يقيموا صلاة الكسوف، فإن فعلوا فهم آثمون.

الدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فزع للكسوف فزعاً عظيماً، وخرج مسرعاً حتى إنهم لحقوه بردائه عليه الصلاة والسلام، ووضعوه على كتفه وجعل يجر رداءه من هول الفزع، وأتى إلى المسجد وأمر منادياً أن ينادي "الصلاة جامعة" واجتمع الناس، وكان يوماً حاراً، اجتمعوا وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً غريبة، لا نظير لها في الصلوات، وشاهد في هذه الصلاة ما لم يكن يعلمه من قبل، ورأى الجنة ورأى النار، ورأى ما توعد به هذه الأمة، وكشف له عن عذاب القبر .. حصل أمور عظيمة جداً جداً!! مما يدل على أهميتها، وأنها لها شأن عظيم، لا يمكن أن يبلغنا ما حصل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نقول: هي سنة من شاء صلى ومن شاء لم يصل، أبداً.

ثم أمر بالفزع إلى الصلاة، وبالذكر، والدعاء والتكبير، والاستغفار، والصدقة والعتق، كل هذا وقع من الرسول عليه الصلاة والسلام، فصلاة احتفت بها هذه القرائن العظيمة لا يمكن أن نقول: إنها سنة .. بل هي فرض كفاية.

إذاً: صلاة الكسوف فرض كفاية، ومعنى فرض الكفاية: أنه يجب على أهل البلد أن يصلوا، وإذا حصل العدد الذي يكفي في إقامة الصلاة فإنها تسقط عن الباقين، أما أن يدعها أهل البلد ويأتي الكسوف ويمر وكأنه سحاب مر على الأفق فهذا لا يمكن أن يقع.

كيفية صلاة الكسوف

أما كيفيتها: فلها زمان ولها مكان ولها هيئة. زمانها: من حين أن يظهر أثر الكسوف فهناك تشرع الصلاة، فإن قدر أن الكسوف يسير ولم يتبين أي: لم ينكسر به نور الشمس أو القمر فإنها غير مشروعة، حتى لو علمنا من ناحية العلم الفلكي أنه سيكون كسوف ولكن لم يتبين فإنه لا يشرع الكسوف؛ لأنه لا عمل على الحساب، لا بد أن يتبين انكسار النور، فمن حين يتبين يفزع الناس إلى الصلاة إلى أن ينجلي، فإذا انجلى فلا صلاة، فلو قدر أن الكسوف وقع في آخر الليل والناس نائمون، ولما استيقظوا وإذا قد بقي جزء يسير حتى ينجلي، وقد زال أثر الكسوف فهنا لا تشرع الصلاة.. لأنه زال السبب (انتهى الزمن) وهي لا تقضى إذا فاتت لأنها من ذوات الأسباب، وكل صلاة لها سبب إذا فات سببها فإنها لا تقضى.

أما المكان: فمكانها الجوامع، تصلى في الجوامع، هذا هو الأفضل، لأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتمعوا في مسجد واحد، ولهذا قال العلماء: الأفضل في صلاة الكسوف أن تقام في المسجد الجامع، يعني: الذي تصلى فيه الجمعة، لكن إذا قدر أن المساجد الأخرى فيها عجزة، فيها شيوخ، عندهم كسل، وأقاموا صلاة الكسوف في مساجدهم فلا بأس لأن عمل الناس عليه من زمان قديم، لكن إذا أمكن أن يجتمع الناس في الجوامع فهذا أفضل وأحسن.

أما كيفيتها: فإنها أولاً: لها نداء -أذان- لكنه ليس كالأذان المعتاد، بل يقال: الصلاة جامعة؛ حتى يجتمع الناس، تكرر هذه الكلمة بقدر ما يغلب على الظن أن الناس بلغهم ذلك، يعني: مرتين، ثلاثاً، أربعاً، خمساً، حسب الحال، قد يكون الناس في الليل نائمين فنزيد التكرار، وقد يكون في النهار والنهار ضجة وأصوات وصخب فنزيد في ذلك حسب الحال، لكن الثلاث هي الأصل، وما زاد فبحسب الحاجة، وإنما قلت: إن الثلاث هي الأصل لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً حتى يُبلغ.

ثم يحضر الناس، ويتقدم الإمام ويصلي بهم صلاةً جهرية حتى في النهار، لأن الصلاة النهارية الأصل فيها أنها سرية؛ لكن إذا كانت صلاةً ذات اجتماع صارت جهرية، كل صلاة يجتمع الناس عليها جميعاً في النهار فإنها تكون جهرية، انظر إلى العيد فإنها جهرية، والجمعة جهرية، والاستسقاء جهرية؛ لأن الناس يجتمعون، فإذا اجتمعوا فإنه من الحكمة أن يكونوا على قراءة الإمام يستمعون إليها جميعاً، فكل صلاة ذات اجتماع عام فإنها جهرية، أقصد في النهار أما الليل فكل صلاة جهرية.

فيكبر ويستفتح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك) وهناك استفتاح آخر: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب -يعني: فلا أفعل الخطايا، اجعلها عني بعيدة- اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس -أي: اجعلني نقياً منها، لا تعلق بي كما لا يعلق الوسخ بالثوب الأبيض- اللهم اغسلني من خطاياي -بعد التنقية غسل لإزالة الأثر نهائياً- بالماء والثلج والبرد) إذاً فليستفتح إما بالأول: (سبحانك اللهم وبحمدك ... إلخ)وإما بالثاني: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي...).

ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة طويلة طويلة، قدرها الصحابة رضي الله عنهم بنحو سورة البقرة، ثم يركع ركوعاً طويلاً طويلاً طويلاً، لكن ماذا يقول في الركوع؟ لأنا فهمنا أنه في القيام يقرأ، لكن في الركوع ماذا يقول؟ يقول: سبحان ربي العظيم، يكررها، ولو كررها ألف مرة، ويقول أيضاً: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) ويقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الركوع: (عظموا فيه الرب) فأكثر من تعظيم الله.

ثم يرفع، وإذا رفع قال: سمع الله لمن حمده حين رفعه ويقول: ربنا ولك الحمد إذا استقام، إلا المأموم فيقول: ربنا ولك الحمد في حال الرفع، ثم يقرأ الفاتحة وسورةً طويلةً طويلةً لكنها دون الأولى.

ثم يركع ركوعاً طويلاً طويلاً لكنه دون الركوع الأول، ثم يرفع قائلاً: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ويطيل القيام بقدر الركوع، ماذا يقول في القيام وهو طويل؟ يحمد الله، هذا القيام محل حمد، يقول مثلاً: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ويكرر الحمد: (اللهم لك الحمد، أنت رب السماوات والأرض، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض) وما أشبه ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الركوع (عظموا فيه الرب) هذا في الركوع، ثم في القيام بعد الركوع ما ذكر شيئاً معيناً لكنه عليه الصلاة والسلام جعله محلاً للحمد.

ثم يسجد السجدة الأولى ويطيل ويطيل ويطيل، ويقول: (سبحان ربي الأعلى) لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (اجعلوها في سجودكم) ويكرر الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ - أي: حري - أن يستجاب لكم) أكثر من الدعاء، هذا السجود يكون بقدر الركوع.

ثم يقوم من السجدة الأولى ويجلس بين السجدتين جلوساً بقدر السجود، وماذا يقول؟ يقول: (رب اغفر لي، وارحمني، وعافني، وارزقني، واجبرني، واهدني) ويكرر من الاستغفار؛ لأن هذا الجلوس جلوس استغفار فليكرر، كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في كل يوم مائة مرة.

ثم يسجد السجدة الثانية ويطيل السجدة، ثم يقوم إلى الركعة الثانية ويقرأ فيها، لكن قراءته دون قراءته الأولى، وركوعه دون ركوعه الأول، وقيامه بعد الركوع دون قيامه الأول، وسجوده دون سجوده الأول، وجلوسه بين السجدتين دون سجوده الأول، والسجود الثاني دون السجود في الركعة الأولى، ثم يتشهد ويكمل ويسلم.

فلو انتهت الصلاة والخسوف باق، لم تنجل الشمس أو لم ينجل القمر، فماذا يصنع الإنسان؟

قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (صلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم انصرف من الصلاة وقد تجلت الشمس، فإذا أنهينا الصلاة والكسوف باق فالباب مفتوح -ولله الحمد- ماذا نصنع؟ نستغفر الله وندعو الله حتى ينجلي.

ثم (حتى ينجلي..) هل المراد حتى يزول بالكلية، أو نقول: إذا بدأ الانجلاء فقد زال التخويف؟

ظاهر النصوص أنه إلى الانجلاء نهائياً تبقى تدعو الله، تستغفر الله، تذكر الله، تكبر الله حتى ينجلي.

مسائل في صلاة الكسوف

المسألة الأولى: لو أن شخصاً دخل والإمام قد رفع من الركوع الأول وأدرك الركوع الثاني أيكون مدركاً لركعة أو لا؟

الجواب: لا، ليس مدركاً للركعة، فإذا دخلت مع الإمام في الركعة الأولى لكنه قد فاتك الركوع الأول منها فإذا سلم الإمام تأتي بركعة، لكن هل تأتي بركعة مبتورة - أي: ليس فيها إلا ركوع واحد - أو بركعة فيها ركوعان؟ الجواب: بالثاني، لا بد أن تأتي بركعة فيها ركوعان؛ لأن الركعة الأولى فاتتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) إذاً لا بد أن تأتي بالركعة التي فاتتك على صفتها: ركوعان في الركعة وسجودان.

المسألة الثانية: لو أن الإنسان خفف الصلاة هل يكون قد أتى بالواجب؟

الجواب: نعم أتى بالواجب، لكن الأفضل أن يطيل، والدليل أنه أتى بالواجب: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وهذا قرأ، وقوله للرجل: (اركع حتى تطمئن راكعاً) وهذا اطمأن، فيجزئ لكن الأفضل الإطالة كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

المسألة الثالثة: هل يقال للنساء في البيوت، أو لمن كان في بيته لمرض وعجز، هل يقال: صلوا أو لا؟

الجواب: يقال: صلوا لعموم الحديث: (صلوا وادعوا) فيقال لهؤلاء: صلوا في البيوت، ولا بأس أن تصلوا جماعة -أيضاً- كما لو فرض أن النساء فيهن امرأة قارئة أمتهن فلا بأس؛ لأن الحديث عام يشمل صلاتها في المساجد وصلاتها في البيت، لكن سبق لنا أنه بالنسبة للرجال الأفضل أن يصلوها في الجوامع.

المسألة الرابعة: إذا مر الإنسان بآية السجدة في صلاة الكسوف هل يسجد ويطيل السجدة، أو يسجد سجدة خفيفة كالعادة؟

الظاهر الأول: أنه إذا سجد للتلاوة يطيل سجدة التلاوة كما أطال سجدة الصلاة؛ وذلك من أجل أن تكون الصلاة متناسبةً؛ لأن سجود التلاوة داخل الصلاة حكمه حكم سجود الصلاة، فينبغي أن يكون طويلاً متناسباً.

المسألة الخامسة: هل ينبغي لنا إذا علمنا متى يكون الكسوف أن نخبر الناس بذلك ليستعدوا للصلاة، أو الأفضل ألا نخبرهم؟

الجواب الثاني: ألا نخبرهم؛ لأن كون الشيء يأتي والإنسان مستعد له يقلل من هيبته ومن خوف الإنسان، لكن إذا جاء بغتة صار له وقع في النفس، ولذلك ترى الناس الذين علموا بوقت الكسوف تراهم يترقبونه، يتراءون القمر ويتراءون الشمس كما يتراءون الهلال، يعني: أن المسألة باردة عندهم، فكون الناس لا يعلمون إلا حين وقوعه لا شك أنه أعظم مخافة وأعظم هيبة، ولهذا إذا علمت به فلا تحرص على الإخبار به لا أهلك ولا لغير أهلك.

أسأل الله تعالى أن يقينا وإياكم شر عقوباته، وأن يعيذنا وإياكم من سخطه وعقابه، إنه على كل شيء قدير.

أسباب الكسوف نوعان: نوع شرعي لا يطلع عليه إلا بالوحي، ونوع طبيعي يطلع عليه علماء الفلك ويعرفونه ويقدرونه بحساب لا يزيد دقيقة ولا ينقص دقيقة، وهذا السبب الفلكي معلوم عند العلماء، تكلم فيه العلماء قديماً كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وبينوا أن هذه الأسباب معلومة يعرفها أهل الفلك وعلماء الهيئة - يعني: علماء الفلك - ويقدرونها .. ستكون في الساعة الفلانية في اليوم الفلاني أو في الليلة الفلانية؛ وذلك لأن جريان الشمس والقمر بتقدير العزيز العليم عز وجل لا يختلف، ولا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، قال الله تبارك وتعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].

هذه الأسباب الطبيعية قد لا يتكلم عنها الوحي من الكتاب والسنة بكلام كثير؛ لأنها موكولة إلى العلم وتقدمه، وليست ذات فائدة كبيرة.

أما السبب الثاني - السبب الشرعي - الذي لا يطلع عليه إلا بالوحي فهذا هو المهم، وهذا السبب الشرعي لا يعرفه هؤلاء الفلكيون، بل هم من أجهل الناس به.

السبب الشرعي: هو عقوبات انعقدت أسبابها، ولكن الله سبحانه وتعالى برحمته رفعها عن العباد وخوفهم منها بهذا الخسوف سواء في الشمس أو في القمر .. فأسبابها عقوبات انعقدت أسبابها، فكسفت الشمس أو القمر تخويفاً للعباد وإنذاراً لهم.

نحن لا يمكن أن ندرك هذا بحساب ولا بتفكير، لا يدرك هذا إلا عن طريق الوحي، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرنا فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم أو حياة عظيم، وسبحان الله الحكيم العليم صادف كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الذي توفي فيه إبراهيم رضي الله عنه، إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فماذا قال الناس؟ قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فأبطل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه العقيدة، أبطلها إبطالاً تاماً؛ لأن الأفلاك والعالم العلوي لا تتأثر بما يكون في العالم السفلي أبداً، فالأفلاك العليا لا تتأثر بما يكون في العالم السفلي، ولذلك تحدث الحروب والأوبئة وغيرها من الفضائل العظيمة لكن هل تتأثر الأفلاك بذلك؟ لا: تكون الزلازل وتكون الحروب ويكون الفقر والأمراض وغيرها، لكن الشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والنجوم هي النجوم، وسيرها هو سيرها، بل الغمام هو الغمام، والمطر هو المطر، لكن الله عز وجل يحدث في العالم العلوي ما يكون سبباً لتخويف العالم السفلي وهو الكسوف.

أما السبب الطبيعي فهو معلوم عند علماء الفلك يعرفونه بالساعة والدقيقة، والليل والنهار، لكن هذا لا يعنينا كثيراً، والذي يعنينا كثيراً ويهمنا هو الذي لا يعلم إلا عن طريق الوحي وهو السبب الشرعي.

أما حكم الصلاة - أعني صلاة الكسوف - فإن أكثر العلماء على أنها سنة، ولكن الصحيح أنها واجبة إما على الكفاية وإما على الأعيان.

على الكفاية بمعنى: أنه إذا قام بها بعض أهل البلد حصل المقصود، أو على الأعيان بمعنى: أنه يجب على كل واحد أن يصلي صلاة الكسوف، ولكن الأرجح أنها واجبة على الكفاية، وأنه لا يمكن لأهل البلد ألا يقيموا صلاة الكسوف، فإن فعلوا فهم آثمون.

الدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فزع للكسوف فزعاً عظيماً، وخرج مسرعاً حتى إنهم لحقوه بردائه عليه الصلاة والسلام، ووضعوه على كتفه وجعل يجر رداءه من هول الفزع، وأتى إلى المسجد وأمر منادياً أن ينادي "الصلاة جامعة" واجتمع الناس، وكان يوماً حاراً، اجتمعوا وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً غريبة، لا نظير لها في الصلوات، وشاهد في هذه الصلاة ما لم يكن يعلمه من قبل، ورأى الجنة ورأى النار، ورأى ما توعد به هذه الأمة، وكشف له عن عذاب القبر .. حصل أمور عظيمة جداً جداً!! مما يدل على أهميتها، وأنها لها شأن عظيم، لا يمكن أن يبلغنا ما حصل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نقول: هي سنة من شاء صلى ومن شاء لم يصل، أبداً.

ثم أمر بالفزع إلى الصلاة، وبالذكر، والدعاء والتكبير، والاستغفار، والصدقة والعتق، كل هذا وقع من الرسول عليه الصلاة والسلام، فصلاة احتفت بها هذه القرائن العظيمة لا يمكن أن نقول: إنها سنة .. بل هي فرض كفاية.

إذاً: صلاة الكسوف فرض كفاية، ومعنى فرض الكفاية: أنه يجب على أهل البلد أن يصلوا، وإذا حصل العدد الذي يكفي في إقامة الصلاة فإنها تسقط عن الباقين، أما أن يدعها أهل البلد ويأتي الكسوف ويمر وكأنه سحاب مر على الأفق فهذا لا يمكن أن يقع.