اللقاء الشهري [36]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا نحمد الله عز وجل أولاً وقبل كل شيء أن يسر لنا مثل هذه اللقاءات في بيوت الله عز وجل من أهل العلم، يجتمع إليهم فيها طلاب العلم والعامة، يتدارسون بينهم ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم وهذه من نعمة الله عز وجل.

هذا اللقاء يتم في عنيزة في الجامع الكبير كل شهر مرة في مساء السبت الثالث من كل شهر، وهذا هو السبت العشرون من شهر صفر عام (1417هـ).

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيينا جميعاً حياةً طيبة نستغلها فيما يرضي الله تبارك وتعالى.

نحن في مطلع إجازة الصيف لعام (1417هـ) فكلمة (إجازة) معناها: أن الإنسان يتجوز من شيء إلى شيء، أو يجتاز من شيء إلى شيء، وليس معناها (عطلة) كما يعبر عنها بعض الناس، هي في الواقع ليست عطلة، والإنسان ليس في حياته عطلة إطلاقاً، الإنسان دءوب كادح إلى أن يلقى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] أتت (الفاء) بعد قوله: (إنك كادح) إشارةً إلى أن هذا الكدح سوف يستمر إلى ملاقاة الله عز وجل وذلك بحلول الأجل، الإنسان دائماً لا بد أن يكون كادحاً عاملاً، ولهذا جاء في الحديث: (أصدق الأسماء حارث وهمام) لأن كل إنسان له همة وإرادة، وكل إنسان له حرث وعمل، فلا بد أن يكون الإنسان دائماً في عمل لكننا نجتاز من عمل إلى عمل.

استغلال الإجازة في طلب العلم

في الأيام الماضية كان التلاميذ والشباب من ذكور وإناث مشتغلين بالدراسات النظامية، ثم جاءت هذه الإجازة من أجل أن يستعيدوا ما فات مما قصروا فيه، لأن الإنسان ربما لا يستوعب جميع المعلومات التي درسها؛ لأن الوقت قصير، والمقررات طويلة ومتنوعة، فربما يركز في هذه الإجازة على شيء مما فاته مما سبق، وقد تكون بعض المواد التي قرأها في وقت الدروس النظامية قد يكون لم يهضمها ولم يتقنها تماماً فيعود عليها مرةً ثانية في هذه الإجازة، وقد يكون في هذه الإجازة يستعد للسنة القادمة فيراجع ما تيسر من دروسه المستقبلية، وقد يكون له دروس أخرى غير الدروس النظامية يستغل هذه الإجازة فيها، وقد يكون الإنسان ممن لا يهتم بالعلم كثيراً ولكنه يهتم بالزراعة والبيع والشراء وغير ذلك من الأشياء.

ولهذا نرى الناس في هذه الإجازة يختلفون، فمنهم من يستغلها بالعلم إما دراسةً لما مضى أو دراسةً لما يستقبل وهذا لا شك أنه خير الأقسام، لأن العلم لا يعدله شيء، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: (العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته) فالذي يستغلها في العلم إما بحفظ كتاب الله أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أو شيء من كتب العلماء في العقيدة أو في الأخلاق أو في الفقه هذا لا شك أنه خير الأقسام أن يستغل أي: هذه الإجازة في العلم.

استغلال الإجازة في زيارة مكة والمدينة

من الناس من يستغلها في زيارة مكة والمدينة إما منفرداً أو مع صحبة أو مع أهله، وهذا أيضاً لا شك أنه خير، وبناءً على ذلك نود أن نقول: إن العمرة في السفر الواحد عمرة واحدة بمعنى: أنه لا يمكن أن يكرر الإنسان عمرة في سفر واحد، لأن هذا ليس من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام ولا من هدي السلف، خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس.

وهذه صفة العمرة: قبل أن تعمل أي عمل من الأعمال تطوف وتسعى وتقصر أو تحلق والحلق أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلق ثلاثاً وللمقصر مرة. انتهت العمرة ثم إذا أردت أن تعود إلى أهلك فطف للوداع وارجع إلى أهلك.

وينبغي في هذا السفر أن يكون الإنسان مكثراً في الطاعة والإنابة إلى الله وبذل المال فيما يرضي الله عز وجل، وإذا أردت أن تذهب إلى المدينة من أجل الصلاة في المسجد النبوي وتزور بعد ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه -والثلاثة في مكان واحد معروف- وتخرج أيضاً إلى البقيع لتزور أهل البقيع، وتبدأ بأفضلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فإن أفضل أهل البقيع هو عثمان لأنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، تزور قبره وهو معروف، ثم تزور بقية قبور أهل البقيع، وتخرج أيضاً إلى قباء متطهراً وتصلي فيه ما شاء الله، وتخرج كذلك إلى شهداء أحد لتسلم عليهم وتدعو لهم، فهذه خمسة أشياء:

1- زيارة المسجد النبوي.

2- ثم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.

3- ثم زيارة البقيع.

4- ثم زيارة قباء.

5- ثم زيارة أحد، وما سوى ذلك مما يقال: إنه يزار في المدينة فلا أصل له، المدينة ما فيها شيء يزار إلا هذه المواضع الخمسة.

هذان صنفان من الناس: الأول: من يشتغل بالعلم وهو أفضل الأصناف، والثاني: من يذهب إلى مكة والمدينة لزيارة مكة والمسجد النبوي.

استغلال الإجازة في النزهة في البلاد

الثالث: من يخرج إلى نزهة، يذهب بأهله إلى نزهة في البلاد أياماً أو أسبوعاً أو أكثر أو أقل، هذا أيضاً لا بأس به، لا بأس أن يخرج الإنسان إلى بلد مجاور في بلاده -أي: في المملكة - من أجل أن يرفه عنه وعن أهل بيته، ولكن في هذه الحالة يحرص على أن يكون داعياً إلى الله عز وجل آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؛ لتكون رحلته رحلة خير، فكم من أناسٍ في أطراف البلاد لا يفهمون إلا القليل مما يفهمه بعض الناس في أواسط البلاد، فيدلهم على الخير ويأمرهم به ويبين لهم الشر وينهاهم عنه وهذا خير.

ومن الناس من يخرج إلى نزهةٍ قريبة من بلده، شباب يخرجون إلى نزهة قريبة من البلد وهذا أيضاً لا بأس به، ولكن بشرط: ألا يمارسوا شيئاً من المحرمات، وينبغي لهؤلاء أن يتخذوا لهم مسجداً؛ أي: أن يجعلوا لهم مخيماً كبيراً للمسجد ويحسن أن يكون فيه مكتبة للمراجعة والمطالعة حتى تكون هذه النزهة رحلة علم وإخاء ومودة، وليحرصوا على أداء الصلاة في جماعة؛ لأن الجماعة لا تسقط لا عن المقيمين ولا عن المسافرين، إن الجماعة لم تسقط حتى عن المقاتلين، يقول الله عز وجل: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ [النساء:102] أي: في الحرب فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].

استغلال الإجازة في مساعدة الأب في تجارته

هناك أيضاً صنف يستغل هذه الإجازة بمساعدة أبيه في تجارته أو حراثته أو ما أشبه ذلك، وهذا لا شك أنه خير؛ لأنه من البر بالوالدين، ولكن في هذه الحالة إذا كان الإنسان له أولاد منهم من يساعده في حرثه وتجارته ومنهم من لم يساعده، فهل يجوز أن يفضل الذي يساعده على الآخر بشيء من المال؟

الجواب: إذا كان هذا الذي يساعده يريد بذلك بر والديه وثواب الآخرة فلا حاجة أن يعطيه شيئاً؛ لأن هذا الذي ساعد والده أراد بذلك ثواب الآخرة فليكن له ثواب الآخرة، وأما إذا رأى منه أنه يتطلع إلى أن يعطيه أبوه شيئاً يختص به؛ لأنه يساعد أباه ويعمل معه في الحرث أو في التجارة أو في غيرها، فحينئذٍ يعطيه مثلما يعطي رجلاً من غير أولاده، بمعنى: أنه يفرض له كل شهر كذا، أو يجعل له نصيباً مشاعاً من الربح فيما إذا عمل بالتجارة أو بالزراعة أو ما أشبه ذلك، لماذا؟

لئلا يفضل بعض أولاده على بعض، فإن تفضيل بعض الأولاد على بعض في غير النفقة الواجبة محرم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من الشهادة عليه حيث نحل بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه ابنه النعمان بن بشير نحلة -أعطاه عطية- فقالت أم النعمان : لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب بشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه نحل ابنه النعمان نحلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل ولدك أعطيتهم مثل ذلك؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور) فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الشهادة عليه؛ لأن هذا جورٌ وتبرأ منه، وقال: (أشهد على هذا غيري).

وكان السلف رحمهم الله يعدلون بين أولادهم حتى في التقبيل، فمثلاً: إذا قبل الصبي الذي له خمس سنين أو ست سنين وأخوه عنده قبَّل الثاني، لماذا؟

لئلا يجور حتى في هذه الحالة، وكذلك أيضاً في الكلام يجب أن تسوي بين أولادك بالكلام، لا تتكلم مع هذا بغضب ومع هذا برضا، لا تنظر إلى هذا بوجه عابس والآخر بوجه راضٍ، يجب أن تعدل ما استطعت.

استغلال الإجازة في الذهاب إلى بلاد الكفر والفجور

وصنفٌ من الناس يمضون هذه الإجازة فيما يغضب الله عز وجل، فيكونون من الذي بدلوا نعمة الله كفراً، تجدهم يذهبون إلى خارج البلاد: إلى بلاد الكفر والفجور والدعارة والأخلاق السيئة، هؤلاء خسروا دينهم ودنياهم، أما دينهم فإنه لا شك أن هذه المشاهد التي يشاهدونها سوف تؤثر عليهم تأثيراً بالغاً ولا سيما الصغار، فإن الصغير إذا انطبع في ذهنه شيء لم يكد يخرج منه، وخسروا دنياهم؛ لأنهم يبذلون أموالاً طائلة في مثل هذا السفر: فنادق، سيارات نقل، وغير ذلك من الأموال الباهظة، ثم هم مع ذلك ينمون أموال الكفار؛ لأن الكفار يدخل عليهم فائدة كبيرة من السياح الذين يصلون إلى بلادهم، ولهذا أرى وخذوا عني: أن السفر إلى بلاد الكفار محرم إلا بثلاثة شروط:

الأول: أن يكون عند الإنسان علمٌ يدفع به الشبهات.

والثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات.

والثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.

فأما الإنسان الذي ليس عنده علم ويخشى عليه من الشبه التي يسمعها هناك أو يقرؤها فإنه لا يذهب؛ لأنه إذا ذهب زعزع عقيدته وشك بعد الإيمان وتردد بعد اليقين، وهذا دمارٌ للإنسان.

كذلك إذا كان ليس عنده دينٌ قوي بمعنى: أنه يفسد مع الفاسدين وتغريه المناظر فيفسد، هذا أيضاً لا يذهب؛ لأن المحافظة على الدين أولى من المحافظة على البدن.

والثالث: الحاجة إلى هذا، أن يحتاج إلى ذلك إما لعلم لا يوجد له نظير في المملكة، أو ذهب لمرضٍ يتداوى، أو لتجارة لا بد منها، وأما إذا لم يكن له حاجة فلا يذهب، وكم من أناسٍ يذهبون إلى الخارج باسم التمشي والنزهة فتفسد أخلاقهم وتنحل عقائدهم -والعياذ بالله- ويرجعون ممسوخين، ولا شك أن هذا لا يحل للمسلم أن يتعرض له لما فيه من الشر والفساد.

هذا ما يتعلق بأصناف الناس في هذه الإجازة، وإنني أكرر على إخواني: أن يستغلوا هذه الإجازة بما فيه الخير إما في الدين وإما في الدنيا، وأفضل ما تقضى فيه هذه الإجازة هو طلب العلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: (العلم لا يعدله شيء).

أسأله الله تعالى أن يرزقنا وإياكم اغتنام الأوقات بما يرضي الله عز وجل.

في الأيام الماضية كان التلاميذ والشباب من ذكور وإناث مشتغلين بالدراسات النظامية، ثم جاءت هذه الإجازة من أجل أن يستعيدوا ما فات مما قصروا فيه، لأن الإنسان ربما لا يستوعب جميع المعلومات التي درسها؛ لأن الوقت قصير، والمقررات طويلة ومتنوعة، فربما يركز في هذه الإجازة على شيء مما فاته مما سبق، وقد تكون بعض المواد التي قرأها في وقت الدروس النظامية قد يكون لم يهضمها ولم يتقنها تماماً فيعود عليها مرةً ثانية في هذه الإجازة، وقد يكون في هذه الإجازة يستعد للسنة القادمة فيراجع ما تيسر من دروسه المستقبلية، وقد يكون له دروس أخرى غير الدروس النظامية يستغل هذه الإجازة فيها، وقد يكون الإنسان ممن لا يهتم بالعلم كثيراً ولكنه يهتم بالزراعة والبيع والشراء وغير ذلك من الأشياء.

ولهذا نرى الناس في هذه الإجازة يختلفون، فمنهم من يستغلها بالعلم إما دراسةً لما مضى أو دراسةً لما يستقبل وهذا لا شك أنه خير الأقسام، لأن العلم لا يعدله شيء، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: (العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته) فالذي يستغلها في العلم إما بحفظ كتاب الله أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أو شيء من كتب العلماء في العقيدة أو في الأخلاق أو في الفقه هذا لا شك أنه خير الأقسام أن يستغل أي: هذه الإجازة في العلم.