شرح زاد المستقنع - كتاب الأطعمة [1]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الأطعمة. الأصل فيها الحل، فيباح كل طاهر لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما، ولا يحل نجس كالميتة والدم، ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه، وحيوانات البر مباحة إلا الحمر الإنسية، وما له ناب يفترس به غير الضبع، كالأسد والنمر والذئب والفيل والفهد والكلب والخنزير وابن آوى وابن عرس والسنور والنمس والقرد والدب، وما له مخلب من الطير يصيد به، كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة، وما يأكل الجيف، كالنسر والرخو واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والغداف -وهو أسود صغير أغبر- والغراب الأسود الكبير، وما يستخبث، كالقنفذ والنيص والفأرة والحية والحشرات كلها والوطواط، وما تولد من مأكول وغيره كالبغل والسمع.

فصل: وما عدا ذلك فحلال كالخيل وبهيمة الأنعام والدجاج والوحش من الحمر والبقر والضب والظباء والنعامة والأرنب وسائر الوحش.

ويباح حيوان البحر كله إلا الضفدع والتمساح والحية، ومن اضطر إلى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه].

قال رحمه الله تعالى: (كتاب الأطعمة).

الأطعمة: جمع طعام، وهو ما يؤكل ويشرب، فما يؤكل يقال له: طعام، وما يشرب أيضاً يقال له: طعام، ومن ذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم: (طعام طعم)، فما يؤكل يقال له: طعام، وما يشرب أيضاً يقال له: طعام.

يقول المؤلف رحمه الله: (الأصل فيها الحل).

الأصل في الأطعمة الحل، فالأطعمة من المآكل والمشارب الأصل فيها الحل، وعلى هذا لا نسأل عن أي طعام: هل هو حلال أو حرام؟ الأصل فيها الحل، فمن ادعى التحريم فلابد أن يقيم الدليل على أن هذا الطعام أو هذا الشراب حرام، ويدل لذلك قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقال سبحانه وتعالى: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10]، وفي صحيح البخاري قال: (أعظم الناس جرماً رجل سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته).

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الله عز وجل إنما أباح الطيبات لمن يستعين بها على طاعته، لا من يستعين بها على معصيته، لقول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93]، إذاً الأصل في الأطعمة الحل لمن يستعين بها على طاعة الله، أما الذي يستعين بها على معصية الله فليس الأصل فيها الحل بالنسبة له، فلا يجوز أن يستعان بهذه الأطعمة على معصية الله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: (فيباح كل طاهر لا مضرة فيه).

طاهر: يخرج النجس ويخرج المتنجس، والنجس ما كانت ذاته وعينه نجسة، مثل: دهن الميتة وذاته نجسة، هذا محرم، والمتنجس ما كانت عينه وذاته طاهرة، لكن طرأت عليه نجاسة، كخبز أصابه شيء من الدم المسفوح، فلا يباح، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

الأول: عدم المضرة

قال: (لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما، ولا يحل نجس كالميتة والدم.. إلى آخره).

عندنا أصل، وعندنا أشياء خرجت عن هذا الأصل، ما هو الأصل؟ الأصل الحل، وعندنا أشياء أخرجها المؤلف رحمه الله عن هذا الأصل.

الشيء الأول: قال: (لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما).

الشيء الأول: كل مضر لا يباح، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، ومن هذا يؤخذ تحريم شرب الدخان؛ لأنه ثبت بالطب أنه مضر، فعلى هذا نقول: كل مضر لا يباح، ولا يجوز.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يحرم على الشخص أن يأكل حتى يضر بنفسه، وبعض الناس قد يأكل كثيراً ويضر بنفسه، وشيخ الإسلام يرى أن هذا لا يجوز، نحن نقول: صحيح الأصل في الأطعمة الحل، لكن ليس لك أن تضر نفسك؛ لأن المباح وإن كان مباحاً، إلا أن الإنسان إذا أكثر منه ينقلب إلى كونه مضراً، وإن كان نافعاً إلا أنه ينقلب إلى كونه مضراً.

ومن الأمثلة على ذلك: أن بعض المرضى يمنع من بعض الأطعمة، فإذا تناول هذا الطعام أضر به، نقول: هذا الطعام بالنسبة له حكمه: لا يجوز؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، مثلاً: الذين فيهم داء السكري تحرم عليهم الكثير من الأطعمة؛ لأنه إذا أكل هذا الطعام سيؤدي به ذلك إلى الضرر، وما دام سيؤدي به إلى الضرر نقول: لا تأكل هذا، أو لا تكثر منه، وإنما تأكل منه بنسبة يسيرة بحيث أنها لا تضرك.

إذاً: الضابط الأول الذي تخرج من هذه القاعدة الكبيرة، نقول: كل مضر لا يجوز، وفرع عليه ما شئت.

الثاني: الطهارة

قال: (ولا يحل نجس).

هذا الضابط الثاني: كل نجس أو متنجس لا يحل، ويدل لذلك قول الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] ، قال: فإنه رجس، وأيضاً كما تقدم لنا قول الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فنقول: كل نجس أو متنجس فإنه لا يجوز، هذا هو الضابط الثاني.

قال: (كالميتة).

الميتة هي كل ما مات حتف أنفه، أو ذكي ذكاة غير شرعية.

قال: (والدم).

أيضاً الدم محرم، كما تقدم في الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، وقد كان العرب في الجاهلية يجمعون الدم المسفوح ويشوونه ويأكلونه، فحرمه الله عز وجل، وأيضاً كان الواحد منهم إذا جاع فصد الإبل ومص دمها، وهذا حرمه الشارع قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3].

الثالث: إباحة حيوانات البر إلا الحمر

قال: (ولا ما فيه مضره كالسم ونحوه).

قال: (وحيوانات البر مباحة إلا الحمر).

حيوانات البر مباحة تبعاً للأصل، والأصل الحل، إلا الحمر الأهلية، هذا الضابط الثالث، يقول: الحمر الأهلية محرمة ولا تجوز، وهذا رأي جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، ويدل لذلك حديث جابر في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل)، وعند الإمام مالك رحمه الله تعالى أنها مباحة، وتقدم لنا في القواعد النورانية أن مذهب الإمام مالك رحمه الله هو أوسع الناس في باب الأطعمة، فالمالكية يرون كراهتها، وإلا فإنها مباحة عندهم.

ويستدلون بقول الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145]، وحديث غالب بن أبجر في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعم أهلك من سمين حمرك)، لكن الحديث لا يثبت، ففيه غالب بن أبجر.

الرابع: حرمة ما له ناب يفترس به

قال: (وما له ناب يفترس به).

هذا الضابط الرابع: ما له ناب يفترس به، لابد من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون له ناب، والناب هو السن التي تكون خلف الرباعية.

الأمر الثاني: يفترس به، أي: ينهش بنابه ويعض بنابه، إذاً لابد من أمرين: يكون له ناب ويفترس بنابه، فإذا توفر الأمران، فإن هذا محرم ولا يجوز، ولهذا أمثلة كثيرة ذكرها المؤلف رحمه الله، ويدل لذلك حديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير)، ومثله أيضاً حديث أبي هريرة في مسلم ، وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهم.

وهذا رأي جماهير العلماء: أن ما له ناب يفترس به فإنه محرم ولا يجوز، وعند الإمام مالك رحمه الله ومذهب المالكية: الإباحة، ويتمسكون بآية الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145].

قال: (غير الضبع).

الضبع استثناها المؤلف رحمه الله، فهي لها ناب تفترس به، ومع ذلك الشارع استثناها، فالمذهب ومذهب الشافعية أن الضبع مباحة، لحديث جابر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأكل الضبع)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيره وصححه البخاري.

وعلى هذا يكون استثناء الضبع سنة مستقلة، وإلا الأصل أن كل ذي ناب من السباع محرم، وكما تقدم في جحد العارية، الأصل أن اليد ما تقطع إلا في السرقة، أما جحد العارية ما فيه سرقة، نقول: هذه سنة مستقلة، وقيل: إن الضبع تختلف عن بقية السباع؛ فهي لا تعتدي إلا على من يعتدي عليها، بخلاف بقية السباع، فإن بقية السباع تعتدي وإن لم يُعتد عليها.

قال المؤلف: (كالأسد والنمر والذئب والفيل والفهد والكلب والخنزير وابن آوى وابن عرس والسنور والنمس والقرد والدب).

إذاً الضابط الرابع أن كل ما له ناب من السباع فإنه محرم ولا يجوز، وقلنا: إنه لابد أن يتوفر أمران:

الأمر الأول: أن يكون له ناب.

والأمر الثاني: أن يفترس بنابه.

الخامس: حرمة ما له مخلب من الطير يصيد به

قال: (وما له مخلب من الطير يصيد به).

هذا الضابط الخامس، ما له مخلب من الطير يصيد به.

قال: (كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة).

ويدل لذلك ما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير)، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة، فإن المالكية كما تقدم يتوسعون في باب الأطعمة، بخلاف الجمهور فيرون أن هذه الأشياء محرمة.

السادس: حرمة ما يأكل الجيف

قال: (وما يأكل الجيف، كالنسر والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والغداف -وهو أسود صغير أغبر- والغراب الأسود الكبير).

هذا الضابط السادس، ما يأكل الجيف كالنسر والرخم، فهذه التي تأكل الجيف يقول المؤلف رحمه الله تعالى: بأنها محرمة ولا تجوز.

ويدل على أن هذه الأشياء محرمة ولا تجوز التي تأكل الجيف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها)، والجلالة هي التي تأكل العذرة، فمادام أن الشارع نهى عن الجلالة، فكذلك هذه بمنزلة الجلالة؛ لأنها تأكل الجيف وتأكل الميتات.

وأيضاً يدل على ذلك أن لحوم هذه الطيور التي تأكل الجيف قد تكون مضرة بسبب أكلها لهذه الميتات والجيف ونحو ذلك، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

وعلى هذا، يقال والله أعلم: إن مثل هذه الأشياء التي تأكل الجيف من الميتات ونحو ذلك، إذا ظهر أثر ما تأكله في اللحم في الطعم أو الرائحة أو العرق، نقول: بأنها لا تجوز، أما إن لم يظهر شيء من ذلك واستحالت هذه الجيف، فإن النجاسة تطهر بالاستحالة، والله أعلم.

وذكر المؤلف رحمه الله الغراب الأبقع، وكذلك أيضاً والأسود الصغير الأغبر، وكذلك الغراب الأسود الكبير، فالغراب محرم لا يجوز أكله، ويدل لذلك حديث عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل خمس فواسق، وذكر منها الغراب)، فلو كان مباحاً ما أمر الشارع بقتله، وإنما أباح صيده، وهذا مما يدل على أنه ليس مباحاً، ويستثنى من الغربان غراب الزرع الذي يأكل الحب، فجماهير العلماء على أنه مباح؛ لأن مرعاه الزرع.

السابع: ما يستخبثه العرب

قال: (وما يستخبثه العرب).

هذا الضابط السابع، ما يستخبثه العرب، يرون أنه محرم ولا يجوز، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

والمراد بالعرب ذوو اليسار، ولا عبرة باستخباث غيرهم، والشافعية يقولون: إنهم سكان القرى والريف دون البوادي، والحنابلة يقولون: إن المراد بهم أهل الحجاز دون غيرهم.

والرأي الثاني: أنه لا يرجع أصلاً إلى استخباث العرب، لا أهل القرى والأمصار ولا أهل الحجاز، وإنما يرجع إلى ما دلت عليه السنة؛ لأن من العرب من يستخبث الطيب، ومنهم من يستطيب الخبيث، ولهذا العرب الذين نزل القرآن بلغتهم في مكة وهم أهل الحجاز يستطيبون بعض الخبائث، من شرب الخمور وأكل الميتات والدماء ونحو ذلك، فالصواب في ذلك أنه لا يرجع في الاستخباث إلى طبائع الناس؛ لأن من الناس -كما تقدم لنا- من يستطيب الخبيث، ومنهم من يستخبث الطيب.

الثامن: ما تولد من مأكول وغيره

قال رحمه الله: (وما تولد من مأكول وغيره، كالبغل والسمع).

هذا الضابط الثامن مما يخرج من القاعدة الكبيرة، ما تولد من مأكول وغيره كالبغل، فالبغل متولد من الخيل والحمر الأهلية، والسمع متولد من الذئب والضبع، فما تولد من مأكول وغيره اجتمع فيه الحلال والحرام، ودل على ذلك حديث عدي رضي الله تعالى عنه على تجنبه، فإن عدياً رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجد مع كلبه كلباً آخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الكلب الآخر)، وذكر أنه يجد الصيد في الماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تأكل فإنك لا تدري أسهمك قتله أم الماء؟)، فهنا اجتمع حظر بمباح، فغلب النبي صلى الله عليه وسلم جانب الحظر.

قال: (لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما، ولا يحل نجس كالميتة والدم.. إلى آخره).

عندنا أصل، وعندنا أشياء خرجت عن هذا الأصل، ما هو الأصل؟ الأصل الحل، وعندنا أشياء أخرجها المؤلف رحمه الله عن هذا الأصل.

الشيء الأول: قال: (لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما).

الشيء الأول: كل مضر لا يباح، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، ومن هذا يؤخذ تحريم شرب الدخان؛ لأنه ثبت بالطب أنه مضر، فعلى هذا نقول: كل مضر لا يباح، ولا يجوز.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يحرم على الشخص أن يأكل حتى يضر بنفسه، وبعض الناس قد يأكل كثيراً ويضر بنفسه، وشيخ الإسلام يرى أن هذا لا يجوز، نحن نقول: صحيح الأصل في الأطعمة الحل، لكن ليس لك أن تضر نفسك؛ لأن المباح وإن كان مباحاً، إلا أن الإنسان إذا أكثر منه ينقلب إلى كونه مضراً، وإن كان نافعاً إلا أنه ينقلب إلى كونه مضراً.

ومن الأمثلة على ذلك: أن بعض المرضى يمنع من بعض الأطعمة، فإذا تناول هذا الطعام أضر به، نقول: هذا الطعام بالنسبة له حكمه: لا يجوز؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، مثلاً: الذين فيهم داء السكري تحرم عليهم الكثير من الأطعمة؛ لأنه إذا أكل هذا الطعام سيؤدي به ذلك إلى الضرر، وما دام سيؤدي به إلى الضرر نقول: لا تأكل هذا، أو لا تكثر منه، وإنما تأكل منه بنسبة يسيرة بحيث أنها لا تضرك.

إذاً: الضابط الأول الذي تخرج من هذه القاعدة الكبيرة، نقول: كل مضر لا يجوز، وفرع عليه ما شئت.

قال: (ولا يحل نجس).

هذا الضابط الثاني: كل نجس أو متنجس لا يحل، ويدل لذلك قول الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] ، قال: فإنه رجس، وأيضاً كما تقدم لنا قول الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فنقول: كل نجس أو متنجس فإنه لا يجوز، هذا هو الضابط الثاني.

قال: (كالميتة).

الميتة هي كل ما مات حتف أنفه، أو ذكي ذكاة غير شرعية.

قال: (والدم).

أيضاً الدم محرم، كما تقدم في الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، وقد كان العرب في الجاهلية يجمعون الدم المسفوح ويشوونه ويأكلونه، فحرمه الله عز وجل، وأيضاً كان الواحد منهم إذا جاع فصد الإبل ومص دمها، وهذا حرمه الشارع قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3].

قال: (ولا ما فيه مضره كالسم ونحوه).

قال: (وحيوانات البر مباحة إلا الحمر).

حيوانات البر مباحة تبعاً للأصل، والأصل الحل، إلا الحمر الأهلية، هذا الضابط الثالث، يقول: الحمر الأهلية محرمة ولا تجوز، وهذا رأي جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، ويدل لذلك حديث جابر في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل)، وعند الإمام مالك رحمه الله تعالى أنها مباحة، وتقدم لنا في القواعد النورانية أن مذهب الإمام مالك رحمه الله هو أوسع الناس في باب الأطعمة، فالمالكية يرون كراهتها، وإلا فإنها مباحة عندهم.

ويستدلون بقول الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145]، وحديث غالب بن أبجر في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعم أهلك من سمين حمرك)، لكن الحديث لا يثبت، ففيه غالب بن أبجر.

قال: (وما له ناب يفترس به).

هذا الضابط الرابع: ما له ناب يفترس به، لابد من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون له ناب، والناب هو السن التي تكون خلف الرباعية.

الأمر الثاني: يفترس به، أي: ينهش بنابه ويعض بنابه، إذاً لابد من أمرين: يكون له ناب ويفترس بنابه، فإذا توفر الأمران، فإن هذا محرم ولا يجوز، ولهذا أمثلة كثيرة ذكرها المؤلف رحمه الله، ويدل لذلك حديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير)، ومثله أيضاً حديث أبي هريرة في مسلم ، وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهم.

وهذا رأي جماهير العلماء: أن ما له ناب يفترس به فإنه محرم ولا يجوز، وعند الإمام مالك رحمه الله ومذهب المالكية: الإباحة، ويتمسكون بآية الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145].

قال: (غير الضبع).

الضبع استثناها المؤلف رحمه الله، فهي لها ناب تفترس به، ومع ذلك الشارع استثناها، فالمذهب ومذهب الشافعية أن الضبع مباحة، لحديث جابر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأكل الضبع)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيره وصححه البخاري.

وعلى هذا يكون استثناء الضبع سنة مستقلة، وإلا الأصل أن كل ذي ناب من السباع محرم، وكما تقدم في جحد العارية، الأصل أن اليد ما تقطع إلا في السرقة، أما جحد العارية ما فيه سرقة، نقول: هذه سنة مستقلة، وقيل: إن الضبع تختلف عن بقية السباع؛ فهي لا تعتدي إلا على من يعتدي عليها، بخلاف بقية السباع، فإن بقية السباع تعتدي وإن لم يُعتد عليها.

قال المؤلف: (كالأسد والنمر والذئب والفيل والفهد والكلب والخنزير وابن آوى وابن عرس والسنور والنمس والقرد والدب).

إذاً الضابط الرابع أن كل ما له ناب من السباع فإنه محرم ولا يجوز، وقلنا: إنه لابد أن يتوفر أمران:

الأمر الأول: أن يكون له ناب.

والأمر الثاني: أن يفترس بنابه.

قال: (وما له مخلب من الطير يصيد به).

هذا الضابط الخامس، ما له مخلب من الطير يصيد به.

قال: (كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة).

ويدل لذلك ما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير)، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة، فإن المالكية كما تقدم يتوسعون في باب الأطعمة، بخلاف الجمهور فيرون أن هذه الأشياء محرمة.

قال: (وما يأكل الجيف، كالنسر والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والغداف -وهو أسود صغير أغبر- والغراب الأسود الكبير).

هذا الضابط السادس، ما يأكل الجيف كالنسر والرخم، فهذه التي تأكل الجيف يقول المؤلف رحمه الله تعالى: بأنها محرمة ولا تجوز.

ويدل على أن هذه الأشياء محرمة ولا تجوز التي تأكل الجيف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها)، والجلالة هي التي تأكل العذرة، فمادام أن الشارع نهى عن الجلالة، فكذلك هذه بمنزلة الجلالة؛ لأنها تأكل الجيف وتأكل الميتات.

وأيضاً يدل على ذلك أن لحوم هذه الطيور التي تأكل الجيف قد تكون مضرة بسبب أكلها لهذه الميتات والجيف ونحو ذلك، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

وعلى هذا، يقال والله أعلم: إن مثل هذه الأشياء التي تأكل الجيف من الميتات ونحو ذلك، إذا ظهر أثر ما تأكله في اللحم في الطعم أو الرائحة أو العرق، نقول: بأنها لا تجوز، أما إن لم يظهر شيء من ذلك واستحالت هذه الجيف، فإن النجاسة تطهر بالاستحالة، والله أعلم.

وذكر المؤلف رحمه الله الغراب الأبقع، وكذلك أيضاً والأسود الصغير الأغبر، وكذلك الغراب الأسود الكبير، فالغراب محرم لا يجوز أكله، ويدل لذلك حديث عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل خمس فواسق، وذكر منها الغراب)، فلو كان مباحاً ما أمر الشارع بقتله، وإنما أباح صيده، وهذا مما يدل على أنه ليس مباحاً، ويستثنى من الغربان غراب الزرع الذي يأكل الحب، فجماهير العلماء على أنه مباح؛ لأن مرعاه الزرع.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2737 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2679 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2650 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2641 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2557 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2528 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2522 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2501 استماع