مساجلات
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
جورجياس المصري
للأستاذ محمد مندور
كتب الأستاذ العقاد في العدد 476 من (الرسالة) تحت عنوان (مساجلات) يقول: (نبهت إلي كلمة لأديب يكتب في (الثقافة) بتوقيع (محمد مندور) قال فيها عني بصدد الكلام عن أبي العلاء ورسالة الغفران: (والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليه أحد غير (لوسيان) في محاوراته في الأولمب والهاوية؛ وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيراً ما تدهشنا لجرأتها، ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسان: عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء).
وأنا أحمد الله إذ نبه الأستاذ إلى كلمة محمد مندور هذا، فالعقاد رجل لديه ما يشغله عن (الثقافة) وعن محمد مندور، وهو منهمك في قراءة أمُّهات كتب الأدب التي وجد فيها أن (فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته)؛ فأنى له بقراءة (الثقافة)، وما هي بشيء إلى جوار عيون الأدب؟ ومن هو محمد مندور، ليقرأ له وهو مأخوذ بسحر لوسيان؟
و (محمد مندور) يسره أن ينبه العقاد قبل أن يبدأ في مناقشته إلى تتمة جملته كما هي بالثقافة عدد 176 (والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجه أوريديس؛ والكل يعلم وصف هوميروس لرحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر الإلياذة لرحلة أينوس بذلك العالم، كما نعلم جميعاً أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم، ومن تلك الرحلات الرائع الجميل كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في (التوهم) الذي نشره المستشرق آبري وصدر له الأستاذ أحمد بك أمين؛ وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب أبن شهيد رسالة التوابع والزوابع المنشورة بكتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) (ج1 ص210) وهي شديدة الشبه برسالة الغفران؛ ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة رسالة الغفران لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان)
وهذا فيما أظن كلام لا يستطيع العقاد ولا غير العقاد أن يدفعه، فهو يؤكد أن أدبياً لم يسبق أبا العلاء في وصف رحلة إلى العالم الآخر غير لوسيان، ونحن نقول له: بل سبقه هوميروس وفرجيليوس. و.
فما الرأي إذن؟ وهل يقبل الأستاذ العقاد - وهو العالم بكل تراث الإنسانية الروحي المقدر لقيمته - أن نمحو من الوجود كل هؤلاء الفطاحل ليصح ما أكده؟ ألا ليتنا نستطيع ذلك لنرضي كبرياء العقاد وإن كان قد وضعه في غير موضعه. وبعد فليس يضير العقاد أن يجهل وصف هوميروس أو فرجيليوس لرحلة كهذه، إذ لو علم العقاد بكل شيء لفقد أهم صفة يتميز بها جميع البشر بله الأدباء منهم وهي صفة الإنسانية، ونحن جميعاً نجهل أشياء كثيرة ولم أضفنا أعماراً إلى عمرنا ولو بذلنا جهد الرهبان في التحصيل، وإنما يضير العقاد ككاتب يجب أن يحترم كرامة العقل أن يصدر في محاجته للغير عن منهج معيب. لم يرد العقاد على ما وجهته غليه بل نقل الحديث إلى وجود الجنة والنار قبل أبي العلاء وقبل لوسيان (على نحو ما يرى أن لندن كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها).
وهذه سقطة ما كان يليق برجل كالعقاد أن يلجأ إليها في كبرياء المتعالي؛ فموضع الجدل ليس وجود النار والجنة، بل ولا علم الناس بهما، بل وصف الرحلة إليهما وفيهما وصفاً أدبيًّا فذِّيًّا على نحو ما فعل هوميروس وغيره ممن ذكرنا ولقد كان العقاد يستطيع أن يغالط - كما كان يفعل جورجياس كبير السفسطائيين عند اليونان على نحو أرقى من هذا النحو.
ألا ليته قال مثلاً إن اللغة كانت موجودة قبل وضع نحوها، وأن الطبيعة كانت قائمة قبل استنباط قوانينها، وأن العقل كان يعمل قبل صياغة المنطق، وأن المنطق أقدم وأصدق وأنبل من السفسطة.
ولو أنه فعل لوجدنا في مغالطاته جلالاً، وأما أن (لندن وباريس وبلاد الأفيال) كانت موجودة قبل الرحلات إليها فهذه حقيقة مغالطة تافهة كنت أود أن يترفع عنها العقاد أسرف العقاد إذن على نفسه وعلى القراء عندما أكد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان، وهذه المسألة لا تقبل الدفع فلنتركها إذن لما هو أهم وهو منهج العقاد في التفكير كما يطالعنا من رده وتلك مسألة يضطرنا العقاد إلى أن نثيرها لا بصدد حديثه عن أبي العلاء فحسب بل بوجه عام سمعت العقاد يوماً يناظر في الأثر الذي يمكن أن تحدثه الثقافة الأجنبية فينا فيقول: (إن الكتاب الأمريكي لا يمكن أن يجعلنا أمريكيين وإلا لجعلتنا الثقافة الأمريكية أمريكيين) وهذا مثل لكل ما كتب العقاد، فسبيله دائماً هو (المغالطة) ثم (القياس الفاسد) ألا تراه كيف ينقل الحديث من الرحلة الأدبية في العالم الآخر إلى وجود ذلك العالم وتصور الناس له، وهذه هي (المغالطة) ثم ينتقل إلى قياس وجود العالم الآخر في الواقع أو في خيال البشر وجوداً مستقلاً سابقاً على وصف ذلك العالم في الأدب، بوجود باريس ولندن وبلاد الأفيال وجودا مستقلاً سابقاً على رحلة المسافرين إلى تلك البلاد وهذا هو (القياس الفاسد) ووجه الفساد في كلا القياسين هو انعقاد بين أشياء مادية وأخرى روحية؛ فالتفاحة ليست كتاباً وإلا لكانت عقولنا معدات؛ ولندن ليست الجنة ولا باريس النار والسفر إليهما ليس وصفاً أدبياً للعالم الآخر نزوره بخيالنا وهذه ليست إلا مجرد أمثلة؛ ففي كل صفحة مما كتب العقاد، بل في كل سطر نفس المنهج.
وفي الحق أني لا أعرف عيباً في التفكير أخطر من هذا. أما المغالطة فخطرها بين؛ ومن نافلة القول أن نقف عندها. بقى القياس فاسداً وغير فاسد؛ ومن الثابت أن المنطق الشكلي كله لا القياس فحسب لا يمكن أن يوصل إلى الكشف عن حقيقة جديدة، وإنما تعمل الأقيسة في الحقائق المعروفة؛ فإذا كان القياس صحيحاً انتهى إلى إقحام مناظرنا، ولا أقول إلى إقناعه، لأن الإقناع إحساس وتسليم قلبي، وأما الإفحام فانعقاد اللسان أو شلل العقل وهذا هو الجدل.
وإذا كان القياس فاسداً فتلك هي السفسطة التي لا تقنع ولا تفحم ولا تليق بالإنسان على أي نحو. وإنما تكتشف الحقائق بالخيال والقلب، وتلك ملكات لا أحس لها بوجود فيما يكتب العقاد. أنظر إليه في رده كيف يقول: (إن الجمع بين المعري ولوسيان مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه) وتلك لعمري مقارنة عجيبة، وأنا لا أرى أصلاً أي شبه بين أبي العلاء ولوسيان، بل ولا بين أبي العلاء وأي كاتب آخر؛ وذلك لإيماني بأن النفوس لا يمكن أن تتشابه أصالتها؛ وقد بينت ذلك في الثقافة، ولن أعود إليه. واتجاه العقاد الخاطئ واضح في كل مقارناته.
والذي أفهمه من المقارنة هي أن تكون إما (مقارنة تأثر) نبغي منها إيضاح أخذ كاتب عن آخر، والمنهج الصحيح في هذا هو أن نثبت قراءة هذا الكاتب لذاك وتأثره به تاريخياً، إذ لا يكفي مجرد التوافق على فكرة أو صورة؛ والجمع بين أبي العلاء ولوسيان لا يمكن أن يكون على هذا النحو.
أو (مقارنة فهم) وذلك بأن نجمع بين كاتب وآخر لنفهم كليهما على ضوء ما اختلفا فيه تبعاً لاختلاف منحاهما النفسي رغم وحدة الموضوع الذي يتحادثان فيه أو المصدر الذي يأخذان عنه.
وهذا ما لم يفعله العقاد؛ وإنما فعل وفعل دائماً أن حاول التماس أوجه شبه بين أناس وأشياء من السذاجة أن نجمع بينها، فهو طوراً يقول بأن أبا العلاء قد كان اشتراكياً، وطوراً أنه قد أخذ بمبدأ النشوء والارتقاء وبقاء الأصلح (الفصول).
وهذه محاولات باطلة؛ فأبو العلاء لم يحلم بشيء من هذا؛ ومذاهب الاشتراكية والنشوء غير بيت من الشعر أو جملة منثورة.
وإنه لتعسف باطل أن يرج العقاد بتلك الكلمات الضخمة في معرض الحديث عن شاعر مسكين كأبي العلاء وشاء العقاد إلا أن يختم حديثه بتذكيرنا بقوله عن رسالة الغفران: (أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفاً موصوفاً؟ أي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهوداً للناس مألوفاً؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان.
) وهذا كلام لا علاقة له أصلاً بموضع المناقشة فهو لا يدل في شيء على (أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان (وإنما يدل على أن فكرة الجنة وأوصاف الجنة كانت معروفة عند الناس كما وردت في الديانات والكتب المقدسة.
وأما أنها تستخدم الأدب قبل أبي العلاء إلا عند لوسيان فهذا ما لم يرد عليه العقاد ثم إن هذه الجملة في ذاتها تأكيد آخر من تأكيدات العقاد الغير مقبولة، فأبو العلاء لم يعرف الجنة كما كان الناس يعرفونها أو يتصورونها؛ والجانب الهام من جنته هو دنيانا أو على الأصح دنيا العرب، إذ أنه قد نقل الدنيا إلى الآخرة وقد جمعت تلك الدنيا بتاريخها الطويل في صعيد واحد، فهناك ترى الهذلي يحلب ناقته، وابن القارح محمولاً زقفونة على السراط، وابن عدي يصيد، والأعشى في عينه حور، وكل أولئك أشياء لم يكن يعرفها أحد عن الجنة بل ولا يتصورها مجرد تصور، وما هي من الجنة كما وصفها القرآن في شيء ويضيف العقاد تذكيرنا بقوله: (إنها رحلة قديمة ولكن أبا العلاء أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة.
) وموضع البحث هو كما قلت وأكرر أن نعرف مدى قدم تلك الرحلة ومن سبقه إليها، أهو لوسيان فقط أم لوسيان وغير لوسيان ممن ذكرنا والآن لم يبق لدي إلا أن أترك للقاري الحكم على طريقة الأستاذ العقاد في توجيه الخطاب من (لا يا شيخ!) إلى أمثال ذلك مما أمسك قلمي عن الرد بمثله، فهذا أمر سهل ميسور لكل إنسان. محمد مندور