اللقاء الشهري [14]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الشهري الذي يتم في الأحد الثالث من كل شهر، وهو في ليلتنا هذه يوافق الليلة السادسة عشرة من شهر جمادى الأولى، عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، نسأل الله تعالى أن يكثر هذه اللقاءات مع أهل العلم ومع عامة الناس؛ لأن فيها فوائد جمة منها:

اكتساب العلم؛ فإن هذه اللقاءات بين العلماء سواء في هذه البلدة أو في غيرها يستفيد منها الحاضرون علماً جماً بحسب ما عند الملتقى به.

ومنها: أن الناس يجتمعون هذا الاجتماع المبارك؛ ليتآلفوا بينهم ويجتمعوا على الحق، ويدخلوا في عموم الأدلة الدالة على فضل الاجتماع على حلق الذكر.

ومنها: أنه قد يكون عند الإنسان أشياء مشكلة، في نفسه، إما في عقيدته، وإما في عبادته، وإما في أخلاقه، وإما في معاملته، وإما في عامة المجتمع، وإما في مجتمعات أبعد وأوسع، فيلقي ما في نفسه في مثل هذه اللقاءات حتى تنحل عنه تلك الإشكالات الكثيرة التي قد تختلج في صدره.

ومنها: أن الناس يكتسبون علوماً ينفعون بها غيرهم، فإن العلم أبرك بكثير من المال، العلم إذا أبلغته رجلاً من الناس ولو مسألة واحدة فانتفع بها ثم نفع بها غيره، ثم الثاني نفع ثالثاً، والثالث رابعاً، وهلم جرا حصل من هذا خير كثير، ويحصل للإنسان أن يكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ولا تظن أن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (علم ينتفع به) يختص بالعلماء الراسخين في العلم، الواسعين في الاطلاع، الثاقبين في الفهم، لا. حتى لو أنك بلغت آية من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفع الناس به بعد موتك فإنه يحصل لك أجر ذلك.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) وكان لقاؤنا في هذا المسجد (الجامع الكبير في عنيزة) نتتبع فيه التفسير، وابتدأنا فيه بسورة: (ق) لأنها أول المفصل، حيث قال العلماء: إنه ينبغي للإنسان في صلاته أن يقرأ منه، ففي الفجر يقرأ من طواله، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من أوساطه، وطواله من (ق) إلى (عم) وقصاره من (الضحى) إلى آخر القرآن، وأوساطه ما بين ذلك، وذلك من أجل أن يكون الناس إذا سمعوا هذه التلاوة من أئمتهم في الصلاة يعرفون شيئاً من معناها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن مع ذلك يأس أن نلقي شيئاً تدعو الحاجة إلى إلقائه بدلاً عن هذا التفسير، مثل أن يحدث شيء يهم الناس معرفته.

وهذه الليلة سيكون نصيبنا مع تفسير شيء من سورة (ق)، وتكلما فيما سبق إلى قوله تعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10] حسبما كلمني فيه الإخوان أننا وصلنا إلى هذا الجزء من السورة.

وهذه الآية: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10] معطوفة على قوله تعالى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق:9].

يعني: وأنبتنا به النخل باسقات، أي: عاليات: لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10] أي: منضود بحيث يكون متراكباً بعضه إلى جنب بعض على أحسن صورة وأحكمها؛ يكون مرتبطاً بهذا الشمراخ إلى أن يحين وقت أكله، فإذا حان وقت أكله سهل جداً أن يتناوله الإنسان بدون أن يتأثر هذا الرطب أو هذا التمر.

رِزْقاً لِلْعِبَادِ [ق:11] أي: جعلنا ذلك لرزق العباد؛ لأن العباد محتاجون إلى رزق الله سبحانه وتعالى.

وفي الحديث القدسي حديث أبي ذر الغفاري الذي رواه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ربه أنه سبحانه وتعالى قال: (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم) كل العباد جائعون، من يستطيع أن يخرج حبة من الأرض؟

من يستطيع أن يخرج تمرة أو ثمرة من شجرة؟

لا يستطيع ذلك أحد.

إذاً: الذي أخرج لنا هذه الثمرات هو الله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64] بل أنت يا ربنا الزراع، والله لو بذرنا في الأرض كل حب، وسقيناه بكل ماء، وخدمناه بكل طعم، ما استطعنا أن نخرج حبة واحدة منه، ولكن الله تعالى برحمته وقدرته هو الذي يخرجها: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ [الواقعة:64-65] أي: لو شاء الله عز وجل لجعله حطاماً بعد أن يخرج ويبرز ويطيب، يرسل الله عليه آفة من السماء فتحطمه، بعد أن تتعلق قلوبنا ونفوسنا به يحطمه الله عز وجل ولكن من رحمته جل وعلا وقدرته أن ينميه ويغذيه لنا حتى يطيب أكله ويسهل علينا ذلك.

يقول: رِزْقاً لِلْعِبَادِ [ق:11] إذاً: ما نجده من ثمار النخيل وغيرها من الأشجار، وما نحصده من الزروع كله رزق من الله لعباد الله عز وجل وقوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبَادِ [ق:11] هل المراد عباد الرحمن المطيعون لأمره أم جميع العباد؟

المراد جميع العباد ولهذا نجد هذه النخلات وطلعها موجوداً عند أكفر عباد الله؛ لأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ولكني أقول لكم: ما يأكله الكفار من ثمرة، وما يرفعون إلى أفواههم من لقمة، وما يتجرعونه من شربة ماء فكله يأثمون به، ويعاقبون عليه يوم القيامة، والدليل على هذا قول الله تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]. إذاً هي لغير الذين آمنوا ليست حلالاً في الدنيا ولا خالصة يوم القيامة، ولكنها حرام عليهم وهم معاقبون عليها يوم القيامة.

وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93] إذاً: من لم يؤمن هل عليه جناح فيما طعم؟ نعم. عليه جناح فيما طعم؛ لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93] إذاً: الذين لم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات عليهم جناح فيما طعموا؛ ويوم القيامة يحاسبون ويعاقبون عليه، وهذا كما أنه ثابت بدلالة السمع فهو أيضاً ثابت بدلالة العقل، إذ كيف تتمتع بنعمة الله وأنت تبارزه بالعصيان؟ ما الذي يحلل لك أن تتمتع بنعمه وأنت تكفر به؟

ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12] وبهذا نعرف قدر نعمة الله علينا بدين الإسلام، نسأل الله أن يتمها علينا إلى أن نلقاه آمين آمين.

هؤلاء الكفار ما رفعوا من لقمة ولا تجرعوا من شربة إلا وهم آثمون عليه يوم القيامة يحاسبون به، وما لبسوا من ثوب إلا وهم محاسبون عليه يوم القيامة ويعاقبون على ذلك.

فلا تظنوا أن الجنة التي كتبت لهم في هذه الدنيا أنها ستكون يوم القيامة وروداً بل ستكون عذاباً عليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمن؛ فالمؤمن هي له في الدنيا خالصة يوم القيامة ولله الحمد على ذلك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) كيف نشرح هذا الحديث؟

شرحه أن نقيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة سجن، ولذلك إذا مات الإنسان في يومه، فإنه يشاهد الجنة بل قبل أن يدفن، إذا أتته الملائكة تبشره تقول لروحه: (اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان) فتخرج مستبشرة منقادة، يسهل عليها أن تفارق هذا البدن التي سكنت فيه، ما شاء الله أن تسكن؛ لأنها بشرت بما هو خير، فإذا حمل الناس الجنازة على أعناقهم تقول: (قدموني قدموني) يعني: أسرعوا بي حتى أصل إلى النعيم، فإذا دفن الإنسان وأجاب الرسل (الملائكة) الذين يسألونه عن ربه ودينه ونبيه، فتح له باب من الجنة ووسع له القبر مد البصر، وأتاه من نعيم الجنة وروحها ما لا يكون أكبر نعيم في الدنيا عند هذا شيئاً.

إذاً: الدنيا سجن المؤمن؛ لأنه انحبس فيها عما هو أكبر منها نعيماً وأكبر منها ملكاً، لكنها بالنسبة للكافر جنة؛ لأنه حبس فيها عن عذاب وهوان وغضب، فإذا أتاه أول مبشر عند الاحتضار، يبشر بالعذاب والعياذ بالله، يقال لروحه (اخرجي إلى غضب من الله) فتخرج مكرهة لا تريد الخروج، ثم تقول إذا حملت: (يا ويلها أين تذهبون بها) فإذا نزلت في القبر وجاءتها الرسل الملائكة، ولم تجب الصواب، ضيق عليها القبر حتى تختلف أضلاعه من شدة التضييق ويفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها.

إذاً: الدنيا بالنسبة لهذا العذاب تكون جنة؛ لأنها الراحة، ويذكر أن الحافظ ابن حجر رحمه الله صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري كان قاضي القضاة في مصر، مثل رئيس القضاة عندنا أو وزير العدل (أكبر منصب في القضاء) وكان يركب عربة تجرها البغال من بيته إلى مكان عمله، وهذا أكبر ما عندهم في ذلك الوقت، فمر ذات يوم برجل يهودي زيات -يبيع الزيت- والزيات تعرفون ثيابه دنسة وهو متعب، فلما مر به ابن حجر أوقفه، وقال: إن نبيكم يقول:

(الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وكيف يكون هذا؟ أنت الآن في نعيم وأنا في عذاب فكيف كانت لي جنة ولك سجناً؟

فقال له ابن حجر : نعم. لأن ما أنا فيه من النعيم الآن بالنسبة للنعيم في الآخرة سجن، وما أنت فيه الآن من الشقاء بالنسبة لعذاب الآخرة جنة، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن الواقع انطبق تماماً على حاله وحال ابن حجر رحمه الله، فالمهم أن قول الله تعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ [ق:10-11] لا يخص المؤمنين، والعباد: الكفار وغير الكفار، ولكن ستقولون كيف يكون الكافر عبداً؟ نقول: كان عبداً بالعبودية الكونية لا بالعبودية الشرعية، وهذه العبودية قد دل عليها قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93] فكل الناس عباد الله.

ثم قال تعالى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ق:11] أحييناها بالماء الذي قال: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً [ق:9] بالماء أحيا الله بلدة ميتاً، كيف موت البلدة؟ موتها أن تيبس أشجارها وأن يهمد حشيشها، وأن تصبح أرضاً قاحلة ليس فيها أخضر، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت: إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50] يحيي الله الأرض بعد موتها، بعد أن لم يكن فيها شجرة ولا ورقة، فتراها تهتز إذا أنزل الله الماء عليها.

قال الله تعالى: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] كذلك الخروج، يعني: مثل إحياء الأرض يكون خروج الناس من قبورهم، فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الناس من قبورهم، بل إنه جاء في الحديث: (إن الله تعالى يمطر الأرض -إذا مات الناس- مطراً أربعين يوماً كمني الرجال، فينفذ هذا المطر إلى قاع القبول فتنبت الأجساد منه) فإذا نبتت الأجساد واستكملت الأجساد نامية، أمر إسرافيل فنفخ في الصور، فخرجت كل نفس إلى بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا لا تخطؤه، على كثرة الأرواح لن تضل روح عن جسدها، فتدخل الأرواح في أجسادها، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً، يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الجنين من بطن أمه حياً، سبحان الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51].. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43] وقد وصفهم الله بأنهم كالفراش المبثوث، وكالجراد المنتشر، أمم لا يحصيها إلا الله تخرج من قبورها، وربما يكون قبر الإنسان الآن تحته قبور أخرى، من يحصي القبور منذ منذ خلق آدم؟ لا يحصيها إلا ربها عز وجل يخرجون كأنهم جراد منتشر، كالفراش المبثوث ومع ذلك يخرجون سراعاً فإذا هم قيام ينظرون يقول المجرمون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] أي: من قبورنا؛ لأنهم يعاينون يوماً كان على الكافرين عسيراً، فيقول عز وجل هنا: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] أي: مثل إخراجنا أو مثل إحيائنا هذه الأرض بعد موتها يكون الخروج (البعث) بعد الموت، وفي هذا دليل على أن القرآن الكريم يهدي الناس عن طريق القياس، فمعنى الآية: قيسوا إحياء الأموات بعد موتهم على إحياء الأرض بعد موتها، وأنتم الآن تشاهدون الأرض جرداء قاحلة ليس فيها شجرة ولا ورقة يحييها الله عز وجل بعد موتها.

قيسوا الغائب المنتظر، على الحاضر المنظور؛ لأن العقل يقيس ما غاب على ما شاهد، وفي هذا أكبر دليل على استعمال القياس، وعلى استعمال الأدلة العقلية في إقناع الخصم؛ لأن الخصم قد لا يقتنع بالأدلة الشرعية، قد لا يقتنع بالقرآن ولا بالسنة، لأنه يحتاج إلى دليل عقلي، ثم بعد أن يوقن عن طريق العقل يسهل عليه أن يوقن عن طريق الشرع، لأنه الآن يخاطب من ليس بمؤمن، أما المؤمن فإنه بمجرد ما يقال له هذا قول الله ورسوله، يقول: سمعنا وأطعنا: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51].

لكن يأتي إنسان غير مؤمن، أو عنده شك وضعف إيمان يحتاج إلى تقوية، لا بد أن نأتي له بأدلة عقلية حتى يقتنع، ولا مانع من أن نأتي بذلك، ربما يقول بعض الناس: إذا كان هذا لا يقتنع بالكتاب والسنة فلا علينا منه، وهذا غير صحيح، إذا لم يقتنع بالكتاب والسنة؛ ائت له بدليل عقلي لعله يقتنع به كأنك تداوي العقول، فإذا كنت تداوي العقول فاستعمل كل دواء يمكن أن يحصل منه الشفاء، سواء من القرآن أو السنة أو العقل، وإهدار العقول خلاف المعقول، العقول تحتاج إلى إقناع، وقد رأيتم ربنا عز وجل كيف يقنع هؤلاء الذين ينكرون البعث، كيف يقنعهم بقياس الغائب المنتظر على الحاضر المنظور، ولا حرج علينا إذا رأينا شخصاً لم يقتنع بالكتاب والسنة، أن نقول: تفضل .. نجادلك بالعقل، ولا يعد ذلك خروجاً عن طريق المؤمنين والسلف الصالح ، بل هذا من طريقة القرآن والسنة أيضاً.

ألم تسمعوا أن رجلاً أعرابياً جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود كأنه يعرض بزناها) من أين جاء الأسود وأنا أبيض والمرأة بيضاء؟ فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم معه دليلاً عقلياً لم يقل له: (إن الله على كل شيء قدير) لأنه أعرابي يحتاج إلى إقناع عقلي لو قال: (إن الله على كل شيء قدير) وهو مؤمن لآمن ومشى، لكنه أعرابي يحتاج إلى إقناع بشيء محسوس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها، قال: ألوانها؟ حمر -جمع حمراء- قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. -قال العلماء: الأورق الذي لونه بين البياض والسواد مثل الورق، أي مثل الفضة، ما هي بيضاء خالصة ولا سوداء- قال: من أين أتى؟ قال: يا رسول الله لعله نزعه عرق؟ -أي: ربما يكون أجداده أو جداته على هذا اللون، لعله نزعه عرق- قال: ابنك هذا لعله نزعه عرق).

هذا صحيح فيمكن أن يكون من أجداده من جهة أبيه أو من جهة أمه أو من جداته من جهة أمه أو من جهة أبيه رجل أسود، هل سكت الأعرابي أو جادل؟ سكت. اقتنع اقتناعاً تاماً لكن لو قال له: الله على كل شيء قدير، يجعل من الأبيض أسود ومن الأسود أبيض، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، على كل حال المؤمن يقتنع بذلك، لكن الأعراب اقتناعهم بالشيء الذي يدركونه بحسهم أكثر من الشيء الذي يدركونه بعقولهم أو بدينهم.

فالمهم أنه لا مانع إذا رأيت من شخص ضعفاً في قبول الشرع من الكتاب والسنة، أن تقنعه بشيء من أدلة الحس أو أدلة العقل؛ لأن المقصود الوصول إلى الاقتناع.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من المؤمنين بالله وبملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ونختم بقية اللقاء في استعراض بعض الأسئلة التي قدمت إلى الشيخ حمود بن عبد العزيز الصايغ .

حقيقة حساب المؤمن والكافر على ما أنعم الله عليهم في الدنيا

السؤال: فضيلة الشيخ: ذكرتم وفقكم الله، أن المسلم لا يحاسب عما يأكل، والكافر يحاسب، والرسول صلى الله عليه وسلم حين أخرجه الجوع ولقي أبا بكر وعمر ثم ذهبوا وأكلوا ذلك الطعام، قال عليه الصلاة والسلام: (لتسألن عن هذا النعيم) فكيف الجمع بين هذا وما قلت؟

الجواب: لم نقل:إن المؤمن لا يحاسب، قلنا: إن الكافر عليه عقوبة وإثم، وأما المحاسبة فإن المؤمن يحاسب ولكنه ليس حساب مناقشة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب هلك -أو قال- عذب) لكنه حساب عرض، وأما قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [التكاثر:8] أي عن شكر هذا النعيم هل قمتم به أم لم تقوموا به؟ هذا هو معنى الآية الكريمة.

حكم قول: قاضي القضاة

السؤال: أقرأ كثيراً عن النهي عن قول (قاضي القضاة) مع أنني أقرأ تراجم العلماء وكما ذكرتم عن ابن حجر أنه قاضي القضاة فما التوجيه؟

الجواب: يجب أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله) أخنع اسم، يعني: أوضع اسم عند الله هذا الرجل الذي تسمى؛ إما بتسمية نفسه أو برضاه بهذه التسمية (ملك الأملاك) من الذي يستحق هذا الوصف (ملك الأملاك)؟ لا يستحقه إلا الله؛ لأنه ما من ملك في الدنيا إلا وفوقه ملك، ويوم القيامة يزول ويتلاشى كل ملك إلا ملك الله عز وجل، فإن هذا أخنع اسم عند الله؛ يضعه الله حيث رفع نفسه.

وأما قاضي القضاة فقال بعض العلماء: إنه مثل ملك الأملاك، وإذا سلمنا أنه مثله، فإذا قيل: قاضي القضاة في جهة ما، فالمراد قاضي القضاة من هذه الجهة وابن حجر قاضي القضاة في مصر، وليس قاضي القضاة في كل مكان، ولذلك نقول: إذا سلمنا أن قولنا: قاضي القضاة مثل ملك الأملاك، فإن توجيه ما يذكر في بعض تراجم العلماء من قول قاضي القضاء، يعني: قاضي القضاء في هذه الجهة ليس قاضي القضاة في كل مكان، وإنما قلت: إن سلمنا أن يلحق بملك الأملاك؛ لأن ملك الأملاك تعني: السلطة المطلقة والإلزام والقهر، وليست سلطة القاضي وإلزامه وقهره كسلطة الملك، الملك له سلطان نافذ وإمرة، ويرى أن له منزلة فوق الناس، لكن القاضي ليس كذلك، وإن كان القاضي يحكم بالحق ويلزم به، لكن الذي له السلطة المطلقة على من هم تحت رعايته هو الملك، وعلى كل حال، العلماء يقولون كثيراً: فلان قاضي القضاة، يريدون بذلك الجهة التي هو فيها لا مطلق الجهات.

حكم لبس الشماغ الأحمر المشابه لشماغ الصابئين

السؤال: فضيلة الشيخ: قرأت لأحد العلماء في تفسير قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ [البقرة:62] أن الصابئين هم طائفة من اليهود دخلت العراق واتخذت من الشماغ الأحمر علامة لهم مع تطويل شعرهم حزناً على قتل نبي الله يحيى، فهل يلزم من هذا القول على افتراض صحته، أننا نتشبه بهم في هذا الزي يعني الشماغ؟

الجواب: هذه مشكلة لعل أصحاب الدكاكين الذين يبيعون الشماغ لا يسمعون بهذا الكلام.

الواقع أن الأخبار التي تأتي عن بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، ولا يؤخذ منها أحكام شرعية، ثم اللباس الأحمر الذي يلبسونه هل هو لباس أحمر خالص أو مخلوط به لون آخر؟

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن اللباس الأحمر الخالص، وأما الشماغ فهو بحمد الله ليس لباساً أحمر خالصاً، بل نصفه أبيض أو قريباً من ذلك، فلا يدخل في النهي عن اللباس الأحمر، وأما ما ذكره عن الصابئين وأنهم قوم اتخذوا شعارهم اللباس الأحمر، فهذا لا أعرف عنه شيئاً، لكن كما قلت: ما جاء عن بني إسرائيل فإنه لا يصدق ولا يكذب، ولا تؤخذ منه أحكام إلا ما شهد شرعنا بصحته واعتباره.

تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)

السؤال: قول الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] في سورة يوسف، ما هو هذا الهم من يوسف عليه الصلاة والسلام؟ وما هو القول الصحيح في ذلك؟ وما معنى قوله: بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] ما المقصود بهذا البرهان؟

الجواب: المفسرون رحمهم الله يذكرون تفسير هذه الآية في أشياء غريبة، بعيدة عن دلالة اللفظ، وإذا قرأنا الآية والتي قبلها، وهي قوله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ [يوسف:23] (راودته) أي: حاولت أن يفعل بها ما تريد: وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] أي: أقبل، تعال: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23] أي: أستعيذ بالله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] يعني: الله عز وجل: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23] يعني: لو فعلت فأنا ظالم والظالم لا يفلح: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] تصوروا أن رجلاً شاباً غُلِّقت الأبواب بينه وبين الناس وراودته عن نفسه امرأة من أجمل النساء، وهي في نفس الوقت سيدته لها السيطرة عليه، ماذا يكون؟ سوف يكون الهم؛ لأن الإنسان بشر، ولهذا قال: لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] فما هو البرهان؟ البرهان ما في قلبه من النور والإيمان الذي حال بينه وبين هذا الذي طلبته المرأة، وهذا يدل على كمال عفته عليه الصلاة والسلام، وعلى كمال تقديم ما يرضي الله على ما يهواه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إله ظله، وذكر منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) أن يدعى رجل إلى فعل الفاحشة في مكان لا يطلع عليه إلا الله ثم يقول: إني أخاف الله، هل هذه منقبة أو مثلبة؟ الجواب: منقبة.

إذاً: هي منقبة ليوسف عليه الصلاة والسلام أن ترك هذا الأمر لله مع قوة الداعي وانتفاء المانع، فلا يوجد ما يمنعه، والداعي في حقه قوي؛ لأنه رجل شاب ومع ذلك ترك هذا لله.

لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] ثم قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] الأمر كان كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخْلصين، أما قول بعضهم: إنها همت به لفعل الفاحشة وهم أن يضربها فهذا غلط؛ لأنه لو ضربها في هذه الحال، هل يقال: إن الله صرف عنه السوء والفحشاء؟ ضرب هذه المجرمة قد يكون بحق، فعلى كل حال الآية واضحة، وتدل على كمال عفة يوسف عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي جرى منه يعتبر منقبة عظيمة له، وقد جعله النبي عليه الصلاة والسلام من الأعمال التي يظل الله بها من عملها يوم لا ظل إلا ظله.

إخراج الجن بالرقية وحكم طالبها

السؤال: فضيلة الشيخ: هل القراءة على الإنسان لإخراج الجن تعتبر من الرقية، وهل من طلبها يكون خارجاً من السبعين ألفاً، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟

الجواب: الرقية لإخراج الجن داخلة في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مر بامرأة ومعها صبي لها قد أصيب بالجن، يصرعه الجن فقرأ عليه، وقال له: (اخرج عدو الله إني رسول الله) فخرج الجني وأفاق الصبي وشفي من ذلك.

وهناك أيضاً وقائع كثيرة جرت للعلماء المخلصين كالإمام أحمد ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وغيرهما من أهل العلم.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه جيء إليه بمصروع قد أصابه الجن، فقرأ عليه فخاطبته الجنية التي في هذا الرجل، فقالت: إني أحبه.

فقال لها شيخ الإسلام: لكنه لا يحبك.

فقالت: إني أريد أن أحج به.

فقال: هو لا يريد أن يحج معكِ.

فجعل يحاورها وأبت أن تخرج، فجعل يضربها بضرب الرجل المصروع، لكن الضرب يقع في الظاهر على المصروع وهو في الحقيقة على الجنية، حتى يقول: إن يده قد تعبت من الضرب.

ثم قالت: أنا أخرج كرامة للشيخ -تعني: شيخ الإسلام ابن تيمية -

فقال: لا تخرجين كرامة لي، اخرجي طاعة لله ورسوله، فخرجت فأفاق الرجل، فتعجب الرجل:

قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟

قالوا: أما أحسست بالضرب الذي كلت منه يد الشيخ؟

قال: والله ما أحسست به؛ لأن الضرب كان يقع على الجنية، فخرجت ولم تعد.

فالقراءة على الذي أصابه مس من الجن تنفع بإذن الله، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يتوهم ويتخيل فكلما أصابه شيء قال هذا جن، وربما لو جاءه زكام قال: هذا جن، هذا غير صحيح، والإنسان إذا تخيل الأشياء صارت حقيقة، بل الآن لو تتخيل الشيء البعيد يتحرك وهو ساكن قلت: هذا يتحرك.

الآن بعض الناس قبل أن يفرش المسجد بهذا الفرش، (كان قبل ذلك مفروشاً بمدات فيها زركشة) فجاء إليَّ أناس فقالوا: يا فلان! كيف تصلي على هذه المدات؟ قلت: وماذا فيها؟ قالوا: كلها عصافير، النقوش التي بها تخيلوا أنها عصافير، فصارت في رأيهم عصافير، ماذا نفعل؟ المهم أن الإنسان إذا تخيل شيئاً فإنه ربما يقوى هذا التخيل في نفسه حتى يكون كأنه حقيقة وهذه مشكلة، لذلك نحن نحذر من أن يتخيل الإنسان كلما أصابه شيء، قال: هذا من الجن.

ثم نأمر وندعو إخواننا أن يكثروا من الأذكار والأوراد التي تمنع من ذلك مثل قراءة آية الكرسي، إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، يعني: لو أنك قلت لإنسان: كن حارساً لي هذه الليلة من كل شيطان ظاهر أو باطن وأعطيك كذا وكذا من المال؛ أليس رخيصاً؟ بلى. لكن هذه آية الكرسي اقرأها في ليلة قراءة مؤمن بأنها تحفظه، مصدقاً للرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك، وحينئذ يحميك الله عز وجل من كل شيطان، لا يقربك حتى تصبح، وغيرها من الأوراد، لكن الناس غفلوا عن الأوراد الشرعية، والذين يقومون بالأوراد الشرعية، ربما يقرءونها وقلوبهم غير حاضرة، ومن الناس من يقرأها وهو في شك، ولذلك كان نفعها قليلاً، لا لأنها لا تنفع؛ لكن لأن الذي قرأها لم يقرأها على الوجه المطلوب، فكثرت الأوهام من الناس وصار بعض الناس كلما أصيب قال: هذا جن.

ثم إن السائل يقول: هل إذا طلبت من أحد أن يقرأ علي، هل أخرج بذلك من السبعين ألفاً الذين قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم: إنهم لا يسترقون؟

نقول: نعم. إذا كان الإنسان يطلب من أحد أن يرقيه، فإنه يفوته وصف من الأوصاف، وليس كل الأوصاف تفوته؛ فهذا وصف منها هم الذين لا يسترقون، والباقي: ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، ربما يفوت الإنسان كل الصفات الأربع، وربما يفوته صفه من هذه الصفات الأربع، وإذا أصلح الإنسان عمله، فما أوسع فضل الله عز وجل!

مشاهدة المباريات في الميزان

س290: فضيلة الشيخ: حصل نقاش بيني وبين شاب مصل، أرجو الفصل بيني وبينه، ليس انتصاراً للنفس وإنما بحثاً عن الحق لي وله، قلت له: يا أخي لا يجوز لك أن تضيع وقتك بمشاهدتها، أعني بذلك: المباريات، فأنت مسئول أمام الله تعالى عن هذا الوقت، وحتى لو فرض أن مشاهدتك مباحة، فإن فيها من المحذورات ما يكفي لتحريمها ومن ذلك: أولاً: ما يصاحبها أحياناً من الموسيقى والطبول ونحو ذلك.

ثانياً: التعلق بالصور للشباب والأشخاص ورؤية أفخاذهم.

ثالثاً: انشغالك عن الجماعة وعدم الصلاة مع المسلمين.

رابعاً: ما يصحب ذلك من التعلق باللاعبين والولاء حتى ولو كانوا كفاراً على حساب إخوانك المسلمين.

خامساً: أننا في وقت تتقطع القلوب لما يحدث للمسلمين في البوسنة والصومال وكشمير فأين نحن من مودة إخواننا المسلمين وتطبيق ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان من جوابه:

أولاً: أن فضيلتكم يفتي بجواز النظر إلى الفخذ بأنه ليس من العورة.

ثانياً: يقول: إن الموسيقى يغطي عليها صوت المعلق وليست كثيرة، وأما الوقت فإنه إذا لم يضع مع المباريات ضاع بغيره، أما الصلاة فإن تأخير صلاة العشاء أفضل.

فما رأي فضيلتكم وجزاكم الله خيراً؟

الجواب: هذا السؤال فيه صدق وفيه كذب، أما الكذب فهو عليَّ وأنا معتاد أن يُكْذَب عليَّ، ولكن نسأل الله لمن كذب عليَّ يريد الحق فيما يقول أن يعفو الله عنه، أما إذا كان يريد العدوان فإن بيني وبينه موقفاً يوم القيامة.

فنقول: إن ما قاله السائل والمناقش لأخيه هو حق في مشاهدة هذه المباريات مما ذكره من المساوئ، وفيه أيضاً إضاعة مال؛ لأن هذه الآلات التي يشاهد من خلالها هذه المباريات، تستهلك أموالاً من الكهرباء والآلات الناقلة وغير ذلك، ثم من أشد ما فيها أنه لو نجح أحد في هذه المسابقة من الكفار، وربما نقول: من جنس من الكفار هم أعدى الناس للمسلمين، ربما يتعلق قلبه به ويحترمه ويعظمه، فتفوت المعاداة التي قال الله تعالى فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ [الممتحنة:1].

فأنا مع الأخ لا لأني أعرفه، لكن أرى أن ما قاله حق، وأنه ينبغي للمسلم أن يربأ بنفسه عن مشاهدة هذه المباريات لما فيها من المساوئ التي عدَّدها السائل وإضاعة المال.

أما قوله: إنني أبيح النظر للأفخاذ فهذا كذب عليَّ، أنا لا أبيح النظر لأفخاذ الشباب أبداً، وأرى أنها فتنة، وأنه يجب على الشاب المسلم الذي يمارس هذه الرياضة أن يستر ما بين سرته وركبتيه مهما كان الأمر، حتى لو قدر أنه فصل؛ لأن طاعة الله ورسوله أولى أن تتبع.

ثم إني أقول: إذا كان هذا نجماً في هذه المباريات ومرموقاً فإنه قد يكون قائد خير وأسوة حسنة، إذا قام بستر ما بين سرته وركبته، ويكون قد سن في الإسلام سنة حسنة؛ لأنه عمل بها بعد أن كانت مضاعة: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة؛ فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

والحقيقة أننا -ولله الحمد- أمة مسلمة لنا كياننا، ولنا أخلاقنا، ولنا ما نفخر به من شريعتنا، فلا ينبغي أن نكون إمعة نقلد غيرنا في أمور تخالف ما جاء في شريعتنا، الواجب علينا إذا كنا نمارس هذه الرياضة -والغالب أن الذي يمارسها من الشباب- أن نستر ما بين السرة والركبة، وألا نبالي بغيرنا، يجب أن تكون لنا شخصية قائمة تفرض نفسها على الناس، ولا يفرض الناس أنفسهم عليها؛ لأننا نحن إذا عملنا فقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب على هؤلاء النصارى أن يتبعوه، لكن إذا قلدنا غيرنا، وأهملنا ما تمليه شريعتنا؛ صار قدوتنا غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة، وإن كان من الناس الذين يمارسون هذه الرياضة، من قد عرفوا بالصلاح والصلاة وحسن الخلق، لكن ينبغي أيضاً أن يتمموا ذلك، وأن يتمموا مكارم أخلاقهم باللباس الساتر ما بين السرة والركبة.

وإني بهذه المناسبة أود أن أقول: إننا نسمع ما ينسب إلينا وما ينسب إلى شيخنا عبد العزيز بن باز وما ينسب إلى الشيخ ناصر الدين الألباني أشياء إذا محصناها وجدنا أنها كذب، قد تكون متعمدة وقد يكون الذي نقلها أخطأ في الفهم، أو أخطأ في صيغة السؤال الذي بني عليه الجواب، أو ما أشبه ذلك.

اتصلت بالشيخ الألباني أسأل عن صحته فقال: إنه بخير، وقال: إن رجلاً من الناس قال لي إن معه كتاباً منك إليَّ، وإني قد قلت له: صلِّ معي يوم الجمعة الماضية فقال: لا أستطيع، ولكن آتيك به يوم السبت، يقول الشيخ: فهل كتبت إليَّ شيئاً؟ قلت: ما كتبت لك شيئاً، وإذا جاءك هذا الكتاب فليس مني، فأنا لا أدري ما في هذا الكتاب! وقد يكون فيه طامات كثيرة لا تقوى على حملها السيارات ولا السفن ولا الطائرات؛ لكن هو قال لي هذا. فقتل له: يا شيخ! الناس يكذبون علي ويكذبون على غيري، قال: وأنا قد كذبوا علي! وقالوا: إن الشيخ الألباني مات!! فقلت له: لعلهم يريدون وفاة النوم؛ أن الله توفاك بالليل وأيقظك بالنهار.

فالمهم أن الناس يتقولون على العلماء؛ لكن أوصيكم بكل شيء تسمعونه عني وأنتم تستنكرونه أن تتصلوا بي حتى تتحققوا هل هو صحيح، أو غير صحيح فقد يكون كذباً، وقد يكون حقاً صدقاً ولكن لي وجهة نظر لا يعرفها، وإذا سمعتم أيضاً ما تستنكرونه عن العلماء الآخرين أن تتصلوا بهم، وألا تشيعوا كل ما يقال، فنسأل الله السلامة، قال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم دعاء القنوت: (وعافني فيمن عافيت).

قال: لا أجد عافية أكمل من أن يعافيك الله من الناس ويعافي الناس منك.

وهذا الأخ الذي يناظر أخانا في مسألة المشاهدة، يقول إن لم أشغل نفسي بمشاهدة هذا شغلتها بغيره، فنقول: إذا شغلتها بغيره مما هو أقل ضرراً أو مما هو نافع فهو خير، وكان الذي ينبغي لك أن تشغلها بما هو نافع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) هذا في القول كيف بالفعل؟

أما قوله: إنه يجوز أن تؤخر صلاة العشاء إلى نصف الليل، فنعطيه المزيد: فنقول: وقد قال بعض العلماء: إنه يمتد إلى طلوع الفجر للضرورة. وإذا كنت ترى أن من الضرورة مشاهدة هؤلاء فمعناه: أخرها إلى الفجر!! ونقول لهذا الرجل: نحن معك في أن الأفضل في صلاة العشاء التأخير لكن بشرط: ألا تتأخر عن نصف الليل، ولكن لا يجوز للإنسان الذي تلزمه الجماعة أن يؤخرها ويترك الجماعة؛ لأن التأخير سنة والجماعة واجبة، ولا تعارض بين السنة والواجب، فيجب عليك أن تصلي مع الجماعة.

ولكن أخشى أن يحتج بحجة ثانية، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) وذلك لانشغال القلب وانشغال القلب بهذه المباراة أشد من انشغالها بالطعام، ماذا نقول؟

نقول: الطعام من ضروريات الحياة، وهذه ليست من الضروريات أبداً، وكم من شباب -ولله الحمد- سلموا منها ولم يشكوا من أي نقص في حياتهم، لا الحياة الدينية ولا الحياة الدنيوية، وهم -والحمد لله- سعداء في حياتهم.

ثم إنني من هذا المكان أدعو إخواني الذين يمارسون هذه الرياضة، أدعوهم إلى التمسك بالدين وإن كنت أعلم أن فيهم -ولله الحمد- من هو متمسك تماماً، لكن أحب أن يكونوا دعاة لإخوانهم الآخرين في التمسك بدين الله عز وجل وإقامة الصلاة جماعة في أوقاتها، واللباس الساتر الذي أشرنا إليه قبل قليل، ونرجو لهم التوفيق لما فيه الخير والصلاح.

تزوير فتوى الشيخ بتصوير إمضائه

السؤال: أرجو تنبيه الشيخ على أنه في بعض الفتاوى تزور الإمضاءات، مثل أن يصور إمضاء الشيخ ثم يوضع على فتوى كاذبة؟

الجواب: يمكن ذلك الآن بما يعرف بالدبلجة، يعني: أن بعض الناس يمكن يدبلج الكلام الطيب ويقلب إلى كلام سيئ تؤخذ حرف من هذه الكلمة وحرف من هذه الكلمة، ثم يجعل كلاماً سيئاً إلى آخره، مثل ما شاهدنا من دبلجة الرجال والصور في أيام حرب الخليج، فعلى هذا كل شيء ممكن، ولكن كما قلت لكم: أوصيكم بأنكم إذا سمعتم عني ما يستنكر، أو عن غيري من أهل العلم، أن تتصلوا بهم حتى يتبين الحق من الباطل.

وفي هذا القدر الكفاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.