هذا الحبيب يا محب 117


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

انتهى بنا الدرس إلى وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد رغب بعض المستمعين في إعادة ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من ذلك.

تمريضه في بيت عائشة

قال: [في بيت عائشة] هذه أمنا عائشة الصديقة ، هذه بنت أبي بكر الصديق ، هذه زوج الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فهيا نقضي هذه الدقائق مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت عائشة رضي الله عنها.

قال: [وبعد أن أذن له أمهات المؤمنين في أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله عنها]، هذا عدل رسول الله ومن أعدل منه؛ فقد استأذن وطلب من نسائه أن يسمحن له بأن يمرض في بيت عائشة، وكان له تسع نسوة، ولكل امرأة بيت وحجرة، فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها.

قال: [خرج صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله، هما: العباس وعلي رضي الله عنهما] أي: يمشي بينهما كل آخذ بجنبه [وهو عاصب رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها، ثم حُمَّ]، أي: أصابته الحمى ونزلت به [واشتد به الوجع] أي: الألم [فقال صلى الله عليه وسلم: ( هريقوا علي سبع قرب من ماء حتى أخرج إلى الناس )]، أي: صبوا علي سبع قرب، والقربة معروفة من ماء بارد، حتى أخرج إلى الناس في المسجد. [( فأعهد إليهم )] أي: بما ينبغي أن يكون [قالت عائشة : فأقعدناه في مخضب لـحفصة بنت عمر] أي: من بيتها تملكه [ثم صب عليه الماء حتى طفق يقول: ( حسبكم حسبكم )]، أي: يكفي ما صببتم علي [ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، ثم ازداد مرضه، فقال: ( مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة : إن أبا بكر إذا قام مقامك لا يُسمِع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، وكررت عليه عائشة القول، فكرر الإجابة حتى قالت عائشة لـحفصة : قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس، فقالت له، فقال صلى الله عليه وسلم: مه! إنكن لأنتن صواحب يوسف )]، وصواحب يوسف هن النسوة اللائي جلسن إليه فقطعن أيديهن [( مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقام أبو بكر يصلي بالناس، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج بين رجلين: العباس وعلي بن أبي طالب لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا يتأخر، وقال للرجلين: أجلساني إلى جنبه )] أي: جنب أبي بكر [( فأجلساه إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، والناس يصلون بصلاة أبي بكر )، وفي مرضه هذا قال لـعائشة رضي الله عنها: ( ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم )]، يشير إلى ما وقع في السنة الثالثة من الهجرة لما غزا خيبر برجاله، فجاءت يهودية وقد ذبحت شاة وأطعمتهم، فأكل منها أحد الصحابة فمات، وأكل منها الرسول فما مات من الأكل، ولكن بقي يتألم ويتأذى به إلى هذا اليوم أربع سنوات، قال: ( ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا وقت أوان وجدت انقطاع أبهري ) أي: الوفاة من ذلك السم، فهؤلاء بني عمنا من اليهود قتلوا نبينا، والقتلة الأولى لما تآمروا عليه على ثلاثة أميال من المسجد في ديار بني النضير، وأجلسوه تحت جدار في ظل، وأهلوا وسهلوا، ثم كلفوا من يرمي عليه صخرة أو رحى على رأسه، وهذا قتل؛ فلهذا صدق الله العظيم: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، وهذه طبيعتهم وهذا وصفهم إلى يوم القيامة، اللهم إلا من انسلخ عن اليهودية ودخل في الإسلام، فلا يوثق فيهم ولا يطمأن إليهم، ولا يوفون بعهد ولا بمعاهدة أبداً، قد طبعوا على هذا، فالعنوهم.

قال: [ولما كان يوم الخميس وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربع ليال، اجتمع عنده ناس من أصحابه، فقال: ( ائتوني بكتف )]، كتف الشاة عظم أبيض معروف، واسع، يكتب فيه الوثائق [( ودواة )] بها الصبغ أو الحبر [( اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً )] أي: لو أخذتم به [( فتنازعوا عنده )] أي: الأصحاب. بعضهم يقول: دعوا رسول الله لا ترهقوه، لا تتعبوه، وآخر يقول: اكتبوه هكذا [( وأوصاهم بثلاث، فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )] وجزيرة العرب ها نحن فيها، وهي شبه جزيرة، يدخل فيها: عدن، وعمان، والإمارات، والكويت، وقطر، والمملكة، وهي قبة الإسلام وبيضته، ولا يحل أن يوجد فيها مشرك أبداً يعبد غير الله عز وجل، ولا يصح أن تبنى فيها كنيسة أو بيعة من بيع اليهود أو معبد من معابد الهنود؛ لأنها بمثابة المسجد، فهل تبني كنيسة داخل المسجد؟ ما هو معقول، فلهذا امتثل رسول الله أمر ربه تعالى في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2] هذه المدة التي أعطاهم إياها فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ٌ [التوبة:5]، لماذا يا رسول الله؟ من أجل أن تطهر هذه البقعة في العالم؛ لتبقى منار الإسلام وهداية المسلمين.

وقوله: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) أما غير المشركين كاليهود والنصارى فلا بأس، لكن المشركين لم يبق مجال لهم في البقاء هناك.

قال: [( وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم )] إذا جاء وفد من أي بلاد أجيزوه بجائزة كما كنت أجيز الوفود، ترغيباً لهم في الإسلام، وتأهيلاً لهم لدعوة الله عز وجل.

قال: [ولما كان يوم الإثنين الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم -والناس في صلاة الصبح وأبو بكر يصلي بالناس- لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف ستر حجرة عائشة ، فينظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمَّ الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستار] والحجرة هي هذه التي عن شمالنا.

قال: [وانصرف الناس وهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك] عبد الرحمن بن أبي بكر هو أخو عائشة من أبيها وأمها، فـأبو بكر ذهب إلى أهله، وعبد الرحمن دخل على أخته وحبيبه صلى الله عليه وسلم، وفي يده عود سواك يستاك به، والاستياك معلوم.

قال: [وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري] هي تقول هكذا [فرأيته ينظر إليه] أي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عبد الرحمن والسواك في يده وهو يستاك [وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟] أي: آخذ لك السواك من أخي [فأشار أن نعم] أي: خذيه لي. قالت: [فناولته إياه فاشتد عليه] كان العود قاسياً وليس بهش [فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته بأمره فاستن به، وهو مستند إلى صدري، وبين يديه ركوة ماء] أي: آنية فيها ماء [فجعل يدخل يده في الماء فيمسح به وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات ) وآخر كلمة قالها: ( اللهم الرفيق الأعلى )] يريد معنى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

قالت أم المؤمنين عائشة : [ومن سفهي وحداثة سني] لأنها صغيرة، تزوجها وهي ابن سبع، وما عاشت معه أكثر من ثمان سنين [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي. وكانت تقول رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه؛ أن لينت له السواك فاستاك به] فجمع الله بين ريقه وريقها.

قال: [وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة المباركة، وفي مثل هذا الوقت الذي دخل فيه المدينة. فيوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ولد فيه، وأوحي إليه فيه، ووصل دار الهجرة فيه، وتوفي فيه، ولذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم ويقول: ( يوم الإثنين ولدتُ فيه وأوحي إليَّ فيه )] هذا اليوم ولد فيه، وهاجر فيه ودخل المدينة، وتوفي فيه.

يا أصحاب المولد! كيف اخترتم فقط الفرح ونسيتم الحزن؟

يا شيخ! هذا كله باطل، لو سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المولد -والله- لتسابقنا إليها ولفزنا إن شاء الله بها، لكن ما سن هذا، ولا أوصى به، ولا أمر به، فهي عادة من عادات النصارى فقط، إذ المولد في الأمة الإسلامية لم يعرف في القرون الثلاثة قط، والله ما سمع به، ولا كان إلا في القرن الرابع، أخذوه عن النصارى جيرانهم فقط، ومع هذا من أراد أن يشكر الله كما كان الحبيب يشكره فليصم يوم الاثنين والخميس شكراً لله على أن أنعم به على رسوله بالولادة والنبوة والهجرة والاثنين، وفوق ذلك ائتساء واقتداءً بالحبيب صلى الله عليه وسلم إذ كان يصوم الاثنين والخميس، أما البقلاوة، والرقص، والبخور، والصياح كل هذا من عادات الجاهلية، ليس من الإسلام في شيء.

اشتداد الكرب وكمال الصديق

قال: [اشتداد الكرب وكمال الصديق وما إن علم الناس بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى طاشت عقولهم] وحق لهم [وعمتهم الحيرة، وأقعدتهم الدهشة، وأظلمت الحياة في وجوههم، حتى إن عمر -على جلالته- قام يحلف للناس بأن الرسول ما مات، حتى جاء أبو بكر] أي: من بيته [من السنح، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده قد سجي في ثوب حبرة، فكشف عن وجهه وقبَّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده! لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر ، فأبى أن يجلس، فأقبل عليه الناس وتركوا عمر . فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: أما بعد! فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال عز وجل: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] فنشج الناس يبكون، قال ابن عباس : والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها] أي: قرأها [أبو بكر ، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها] لأنها خففت آلامهم وأحزانهم.

غسل الحبيب وكفنه ودفنه

قال: [غسل الحبيب وكفنه ودفنه: ولما فرغ الصديق وفرغ الأصحاب من البيعة] بايعوا أبا بكر في سقيفة بني ساعدة يومين والاجتماع دائر [وبويع لـأبي بكر الصديق بالخلافة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، أقبلوا على تجهيز الحبيب صلى الله عليه وسلم، فتولى غسله آل البيت وهم: علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان العباس وولداه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله بيده فوق ثيابه، فلم يفض بيده إلى جسده الطاهر قط] وإنما على الثوب [فلم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرى من الميت، وكان علي يغسله ويقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حياً وميتاً، وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين وبرد حبرة] من ثياب اليمن [أدرج فيها] أي: في الثياب الثلاثة [إدراجاً] ولف فيها.

قال: [ومن آيات نبوته صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا، هل يغسلونه كما يغسل الرجال بأن يجرد من ثوبه؟] أي: يبقى عارياً أو ماذا يفعلون؟ هذه المجموعة من الصالحين الذين سمعتم عنهم، اختلفوا كيف نغسله؟ ننزع عنه ثيابه أو نتركه ونغسله فوقها؟ [فأخذهم النوم وهم كذلك، وإذا بهاتف يقول: غسلوا رسول الله وعليه ثيابه، ففعلوا، ولما أرادوا دفنه اختلفوا في موضع دفنه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض )] كل الأنبياء بالآلاف ما يدفن النبي إلا في مكان موته، وهذه خصوصية خصهم الله بها [فرفع فراشه صلى الله عليه وسلم وحفر في موضعه، وذلك بأن حفر له أبو طلحة الأنصاري لحداً، ثم دخل الناس أرسالاً] أي: جماعات جماعات [يصلون عليه فرادى: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد، ولما فرغوا من الصلاة عليه دفن صلى الله عليه وسلم وذلك ليلة الأربعاء، وكان الذي نزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران -مولى رسول الله-، وأثناء ذلك قال أوس بن حولي الأنصاري لـعلي : أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن تأذن لي في النزول إلى قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالنزول في القبر معهم فنزل، وسووا عليه التراب، ورفعوه مقدار شبر عن الأرض.

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة، ولم يخلف من متاع الدنيا ديناراً ولا درهماً، بل مات ودرعه مرهونة في آصع من شعير، فصلى الله عليه وسلم يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حياً].

قال: [في بيت عائشة] هذه أمنا عائشة الصديقة ، هذه بنت أبي بكر الصديق ، هذه زوج الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فهيا نقضي هذه الدقائق مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت عائشة رضي الله عنها.

قال: [وبعد أن أذن له أمهات المؤمنين في أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله عنها]، هذا عدل رسول الله ومن أعدل منه؛ فقد استأذن وطلب من نسائه أن يسمحن له بأن يمرض في بيت عائشة، وكان له تسع نسوة، ولكل امرأة بيت وحجرة، فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها.

قال: [خرج صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله، هما: العباس وعلي رضي الله عنهما] أي: يمشي بينهما كل آخذ بجنبه [وهو عاصب رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها، ثم حُمَّ]، أي: أصابته الحمى ونزلت به [واشتد به الوجع] أي: الألم [فقال صلى الله عليه وسلم: ( هريقوا علي سبع قرب من ماء حتى أخرج إلى الناس )]، أي: صبوا علي سبع قرب، والقربة معروفة من ماء بارد، حتى أخرج إلى الناس في المسجد. [( فأعهد إليهم )] أي: بما ينبغي أن يكون [قالت عائشة : فأقعدناه في مخضب لـحفصة بنت عمر] أي: من بيتها تملكه [ثم صب عليه الماء حتى طفق يقول: ( حسبكم حسبكم )]، أي: يكفي ما صببتم علي [ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، ثم ازداد مرضه، فقال: ( مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة : إن أبا بكر إذا قام مقامك لا يُسمِع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، وكررت عليه عائشة القول، فكرر الإجابة حتى قالت عائشة لـحفصة : قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس، فقالت له، فقال صلى الله عليه وسلم: مه! إنكن لأنتن صواحب يوسف )]، وصواحب يوسف هن النسوة اللائي جلسن إليه فقطعن أيديهن [( مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقام أبو بكر يصلي بالناس، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج بين رجلين: العباس وعلي بن أبي طالب لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا يتأخر، وقال للرجلين: أجلساني إلى جنبه )] أي: جنب أبي بكر [( فأجلساه إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، والناس يصلون بصلاة أبي بكر )، وفي مرضه هذا قال لـعائشة رضي الله عنها: ( ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم )]، يشير إلى ما وقع في السنة الثالثة من الهجرة لما غزا خيبر برجاله، فجاءت يهودية وقد ذبحت شاة وأطعمتهم، فأكل منها أحد الصحابة فمات، وأكل منها الرسول فما مات من الأكل، ولكن بقي يتألم ويتأذى به إلى هذا اليوم أربع سنوات، قال: ( ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا وقت أوان وجدت انقطاع أبهري ) أي: الوفاة من ذلك السم، فهؤلاء بني عمنا من اليهود قتلوا نبينا، والقتلة الأولى لما تآمروا عليه على ثلاثة أميال من المسجد في ديار بني النضير، وأجلسوه تحت جدار في ظل، وأهلوا وسهلوا، ثم كلفوا من يرمي عليه صخرة أو رحى على رأسه، وهذا قتل؛ فلهذا صدق الله العظيم: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، وهذه طبيعتهم وهذا وصفهم إلى يوم القيامة، اللهم إلا من انسلخ عن اليهودية ودخل في الإسلام، فلا يوثق فيهم ولا يطمأن إليهم، ولا يوفون بعهد ولا بمعاهدة أبداً، قد طبعوا على هذا، فالعنوهم.

قال: [ولما كان يوم الخميس وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربع ليال، اجتمع عنده ناس من أصحابه، فقال: ( ائتوني بكتف )]، كتف الشاة عظم أبيض معروف، واسع، يكتب فيه الوثائق [( ودواة )] بها الصبغ أو الحبر [( اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً )] أي: لو أخذتم به [( فتنازعوا عنده )] أي: الأصحاب. بعضهم يقول: دعوا رسول الله لا ترهقوه، لا تتعبوه، وآخر يقول: اكتبوه هكذا [( وأوصاهم بثلاث، فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )] وجزيرة العرب ها نحن فيها، وهي شبه جزيرة، يدخل فيها: عدن، وعمان، والإمارات، والكويت، وقطر، والمملكة، وهي قبة الإسلام وبيضته، ولا يحل أن يوجد فيها مشرك أبداً يعبد غير الله عز وجل، ولا يصح أن تبنى فيها كنيسة أو بيعة من بيع اليهود أو معبد من معابد الهنود؛ لأنها بمثابة المسجد، فهل تبني كنيسة داخل المسجد؟ ما هو معقول، فلهذا امتثل رسول الله أمر ربه تعالى في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2] هذه المدة التي أعطاهم إياها فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ٌ [التوبة:5]، لماذا يا رسول الله؟ من أجل أن تطهر هذه البقعة في العالم؛ لتبقى منار الإسلام وهداية المسلمين.

وقوله: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) أما غير المشركين كاليهود والنصارى فلا بأس، لكن المشركين لم يبق مجال لهم في البقاء هناك.

قال: [( وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم )] إذا جاء وفد من أي بلاد أجيزوه بجائزة كما كنت أجيز الوفود، ترغيباً لهم في الإسلام، وتأهيلاً لهم لدعوة الله عز وجل.

قال: [ولما كان يوم الإثنين الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم -والناس في صلاة الصبح وأبو بكر يصلي بالناس- لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف ستر حجرة عائشة ، فينظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمَّ الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستار] والحجرة هي هذه التي عن شمالنا.

قال: [وانصرف الناس وهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك] عبد الرحمن بن أبي بكر هو أخو عائشة من أبيها وأمها، فـأبو بكر ذهب إلى أهله، وعبد الرحمن دخل على أخته وحبيبه صلى الله عليه وسلم، وفي يده عود سواك يستاك به، والاستياك معلوم.

قال: [وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري] هي تقول هكذا [فرأيته ينظر إليه] أي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عبد الرحمن والسواك في يده وهو يستاك [وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟] أي: آخذ لك السواك من أخي [فأشار أن نعم] أي: خذيه لي. قالت: [فناولته إياه فاشتد عليه] كان العود قاسياً وليس بهش [فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته بأمره فاستن به، وهو مستند إلى صدري، وبين يديه ركوة ماء] أي: آنية فيها ماء [فجعل يدخل يده في الماء فيمسح به وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات ) وآخر كلمة قالها: ( اللهم الرفيق الأعلى )] يريد معنى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

قالت أم المؤمنين عائشة : [ومن سفهي وحداثة سني] لأنها صغيرة، تزوجها وهي ابن سبع، وما عاشت معه أكثر من ثمان سنين [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي. وكانت تقول رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه؛ أن لينت له السواك فاستاك به] فجمع الله بين ريقه وريقها.

قال: [وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة المباركة، وفي مثل هذا الوقت الذي دخل فيه المدينة. فيوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ولد فيه، وأوحي إليه فيه، ووصل دار الهجرة فيه، وتوفي فيه، ولذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم ويقول: ( يوم الإثنين ولدتُ فيه وأوحي إليَّ فيه )] هذا اليوم ولد فيه، وهاجر فيه ودخل المدينة، وتوفي فيه.

يا أصحاب المولد! كيف اخترتم فقط الفرح ونسيتم الحزن؟

يا شيخ! هذا كله باطل، لو سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المولد -والله- لتسابقنا إليها ولفزنا إن شاء الله بها، لكن ما سن هذا، ولا أوصى به، ولا أمر به، فهي عادة من عادات النصارى فقط، إذ المولد في الأمة الإسلامية لم يعرف في القرون الثلاثة قط، والله ما سمع به، ولا كان إلا في القرن الرابع، أخذوه عن النصارى جيرانهم فقط، ومع هذا من أراد أن يشكر الله كما كان الحبيب يشكره فليصم يوم الاثنين والخميس شكراً لله على أن أنعم به على رسوله بالولادة والنبوة والهجرة والاثنين، وفوق ذلك ائتساء واقتداءً بالحبيب صلى الله عليه وسلم إذ كان يصوم الاثنين والخميس، أما البقلاوة، والرقص، والبخور، والصياح كل هذا من عادات الجاهلية، ليس من الإسلام في شيء.

قال: [اشتداد الكرب وكمال الصديق وما إن علم الناس بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى طاشت عقولهم] وحق لهم [وعمتهم الحيرة، وأقعدتهم الدهشة، وأظلمت الحياة في وجوههم، حتى إن عمر -على جلالته- قام يحلف للناس بأن الرسول ما مات، حتى جاء أبو بكر] أي: من بيته [من السنح، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده قد سجي في ثوب حبرة، فكشف عن وجهه وقبَّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده! لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر ، فأبى أن يجلس، فأقبل عليه الناس وتركوا عمر . فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: أما بعد! فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال عز وجل: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] فنشج الناس يبكون، قال ابن عباس : والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها] أي: قرأها [أبو بكر ، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها] لأنها خففت آلامهم وأحزانهم.

قال: [غسل الحبيب وكفنه ودفنه: ولما فرغ الصديق وفرغ الأصحاب من البيعة] بايعوا أبا بكر في سقيفة بني ساعدة يومين والاجتماع دائر [وبويع لـأبي بكر الصديق بالخلافة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، أقبلوا على تجهيز الحبيب صلى الله عليه وسلم، فتولى غسله آل البيت وهم: علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان العباس وولداه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله بيده فوق ثيابه، فلم يفض بيده إلى جسده الطاهر قط] وإنما على الثوب [فلم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرى من الميت، وكان علي يغسله ويقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حياً وميتاً، وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين وبرد حبرة] من ثياب اليمن [أدرج فيها] أي: في الثياب الثلاثة [إدراجاً] ولف فيها.

قال: [ومن آيات نبوته صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا، هل يغسلونه كما يغسل الرجال بأن يجرد من ثوبه؟] أي: يبقى عارياً أو ماذا يفعلون؟ هذه المجموعة من الصالحين الذين سمعتم عنهم، اختلفوا كيف نغسله؟ ننزع عنه ثيابه أو نتركه ونغسله فوقها؟ [فأخذهم النوم وهم كذلك، وإذا بهاتف يقول: غسلوا رسول الله وعليه ثيابه، ففعلوا، ولما أرادوا دفنه اختلفوا في موضع دفنه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض )] كل الأنبياء بالآلاف ما يدفن النبي إلا في مكان موته، وهذه خصوصية خصهم الله بها [فرفع فراشه صلى الله عليه وسلم وحفر في موضعه، وذلك بأن حفر له أبو طلحة الأنصاري لحداً، ثم دخل الناس أرسالاً] أي: جماعات جماعات [يصلون عليه فرادى: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد، ولما فرغوا من الصلاة عليه دفن صلى الله عليه وسلم وذلك ليلة الأربعاء، وكان الذي نزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران -مولى رسول الله-، وأثناء ذلك قال أوس بن حولي الأنصاري لـعلي : أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن تأذن لي في النزول إلى قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالنزول في القبر معهم فنزل، وسووا عليه التراب، ورفعوه مقدار شبر عن الأرض.

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة، ولم يخلف من متاع الدنيا ديناراً ولا درهماً، بل مات ودرعه مرهونة في آصع من شعير، فصلى الله عليه وسلم يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حياً].