فتاوى نور على الدرب [521]


الحلقة مفرغة

الشيخ: ما هي المساقاة والمزارعة؟ وما حكمهما والحكمة من تشريعهما؟ مأجورين.

الجواب: المساقاة والمزارعة نوعان من المعاملات التي أحلها الله تعالى ورسوله لعباده، وليعلم أن الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه، بخلاف العبادات فالأصل فيها المنع والتحريم، إلا ما قام الدليل على مشروعيته، وكون الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه يدل على رحمة الله تعالى بعباده وحكمته؛ لأن الناس يحتاجون إلى معاملات متعددة، وربما تحدث أشياء لا يحيط بها الحصر، ولو حصرت للناس لكان فيها تضييق، ولكن من رحمة الله تعالى أن جعل المعاملات حلالاً إلا ما قام الدليل على منعه، ومن ذلك المساقاة والمزارعة.

المساقاة تكون على الشجر، والمزارعة تكون على الأرض، مثال ذلك: إنسان عنده بستان فيه أشجارٌ من نخيلٍ وأعنابٍ وتين وبرتقال وغيرها، فيتفق مع شخص على أن يقوم هذا الشخص بسقيها ومئونتها وما يصلحها بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ من ثمرتها، فيقول مثلاً: خذ هذا النخل قم على إصلاحه ولك نصف الثمرة أو ربع الثمرة أو ما يتفقان عليه، ولا يحل أن يقول: خذ هذا النخل أو البستان قم عليه ولك من ثمرته مائة صاع، أو مائة كيلو، أو لك الجانب الشرقي ولي الجانب الغربي، أو الجانب الشمالي ولي الجانب الجنوبي وما أشبه ذلك؛ لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: ( كان الناس يواجهون على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن كراءٌ للناس إلا هذا فلذلك زجر عنه )، أي: زجر عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأما شيء معلوم مضمونٌ فلا بأس به، والشيء المعلوم المضمون هو السهم المشاع؛ لأنك إذا جعلت للعامل شيئاً مقدراً غير مشاع أدى إلى الغرر العظيم، إذ قد لا تنتج الثمار إلا هذا القدر الذي جعلته للعامل، وحينئذٍ تبقى أنت بلا فائدة، وقد تنتج الثمار شيئاً كثيراً كان العامل يظن أن ما اشترطه لنفسه يساوي العشر مثلاً أو النصف، فإذا صار الإنتاج كثيراً صار لا يساوي إلا أقل مما قدر، فيكون في هذا جهالة، وكذلك إذا كان يساقيه على شيء معلوم بالمكان بأن يقول: لك الشرقي ولي الغربي أو ما أشبه ذلك، فإنه ربما يهلك الشرقي المشروط للعامل فيخسر بدون فائدة، وربما يهلك الغربي المشروط لصاحب الأرض أو لصاحب النخل فيتضرر كذلك، فلهذا لا تصح المساقاة إلا على سهم معلوم مشاع كنصفٍ وثلثٍ وربع وما أشبه ذلك.

واختلف العلماء رحمهم الله هل يجوز أن يؤجر النخل بأجرة معلومة كل سنة لصاحب النخل ويكون للعامل الثمرة كلها بأن يقول: خذ هذا النخل لمدة عشر سنوات لك ثماره، وتعطيني كل سنة مائة ألف أو أقل أو أكثر، فجمهور العلماء على أن ذلك ليس بجائز؛ لاحتمال الغرر؛ لأن النخل قد يثمر ثمراتٍ كثيرة، وقد لا يثمر إلا قليلاً، وقد لا يثمر أصلاً تصاب الثمرة بآفاتٍ تفسدها، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أجاز ذلك وقال: كما يجوز إجارة الأرض بأجرةٍ معلومة ويكون الزرع كله للمزارع فكذلك إجارة النخل ولا فرق، واستدل لذلك بأثرٍ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضمن بستان أسيد بن حضير رضي الله عنه في قضاء دينٍ له، وما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله- هو عندي أقرب إلى الصواب؛ لعدم الفارق المؤثر بين إجارة الأرض للزرع وإجارة الأرض للاستثمار، وعلى هذا؛ فتكون المساقاة لها وجهان:

الوجه الأول: أن يعطي الفلاح النخل يقوم عليه بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ من ثمره كنصفٍ وربعٍ وما أشبه ذلك.

والوجه الثاني: الإجارة، بأن يقول: خذ هذا النخل لمدة عشرة سنوات، قم عليه ولك ثمره وتعطيني كل سنة عشرة آلاف ريال مائة ألف ريال حسب ما يتفقان عليه.

وأما المزارعة فإنها تكون على الزرع الذي ليس بشجر، وهي أن يعطي الرجل أرضه لشخص يزرعها بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ من الزرع كالثلث والربع ونحو ذلك، فيقوم المزارع بزراعة الأرض، ويكون ما يخرج من الأرض بينهما على حسب ما شرطاه، لكن لا بد أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً، فلو قال مثلاً: لك من الزرع مائة صاع والباقي لي فإن ذلك لا يصح؛ لأن الزرع ربما لا يكون إلا بمقدار مائة صاع، فيخسر العامل، وربما يكون أصواعاً كثيرة لم تكن في تقدير المالك فيخسر المالك، وهذا شبيهٌ بالقمار، ولذلك نهي عنه، وهكذا أيضاً لو قال: لك الزرع الشرقي ولي الزرع الغربي، أو لك الشمالي ولي الجنوبي فإن ذلك لا يصح أيضاً؛ لأنه ربما يهلك الجانب الذي لأحدهما فيكون الآخر مغبوناً، والمزارعة على وجهين كالمساقاة، هذا أحدها: أن يعطيه الأرض بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها من الزرع كالثلث والربع وما أشبهها.

والوجه الثاني: أن يعطيه الأرض إجارة بأن يقول: خذ هذه الأرض ازرعها لمدة عشر سنوات وكل سنة تعطيني كذا وكذا من الدراهم، لا مما يخرج منها، فإن ذلك لا بأس به، ولا حرج فيه، وإن كان هذا يسمى إجارة لكنه نوعٌ من المزارعة.

السؤال: أنكر ذوي العقول الضعيفة قضية البعث، فما ردكم عليهم؟ وهل يجوز أن نهجرهم بعد أن بينا لهم الحكم والأدلة؟

الجواب: نعم، إنكار البعث كفر مخرجٌ عن الملة؛ لأنه تكذيبٌ لله ورسوله وإجماع المسلمين، قال الله تبارك وتعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:7-8] ، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ [التغابن:9] يعني: تبعثون يوم يجمعكم يَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9].

فمن أنكر البعث فهو كافر خارجٌ عن الدين الإسلامي بإجماع المسلمين، فيستتاب فإن تاب وأقر بالبعث إقراراً صادقاً يقر به ظاهراً وباطناً يعني ظاهراً مع الناس وباطناً فيما بينه وبين نفسه ومع أهله فهو من نعمة الله عليه، ويكون رجوعاً للإسلام بعد الكفر، وإن أبى وأصر على إنكاره وجب قتله، وإذا قتل في هذه الحال فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة، فهذا حكم من أنكر البعث، ثم إن إنكار البعث مع كونه كفراً وتكذيباً لله ورسوله وإجماع المسلمين هو نقصٌ في العقل، إذ كيف يخلق الله هذه الخليقة ويرسل إليها الرسل، وينزل من أجلها الكتب، ويأمر بالجهاد من عارض شرعه، ثم تكون النتيجة أن تكون هذه الخليقة تراباً لا يبعثون، ولا يحاسبون، ولا يجازون، لو وقع هذا لكان من أسفه السفه، فكيف ينسب إلى رب العالمين الذي هو أحكم الحاكمين؟ فالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل السليم كلها توجب أن يكون للناس بعثٌ يجازون فيه على أعمالهم؛ ولهذا نقول: من أنكر البعث فهو كافر، وهو ضالٌ في دينه، سفيهٌ في عقله، والواجب على ولي الأمر أن يقتله إذا لم يتب، ويقر بالبعث.

السؤال: ما حكم من خرج منه قيء بدون قصد في أحد أيام رمضان؟

الجواب: إذا خرج من الصائم قيء بغير قصد منه فإنه لا يضر، لا ينقص به الصوم، ولا يفسد به؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في السنن ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه )، أي: من غلبه، وأما من طلبه طلب القيء فإنه يفطر بذلك.

السؤال: هل يجوز أن يقف المشيعون بعد الانتهاء من الدفن ويدعون دعاءً جماعياً للميت، ويتقدم بالدعاء أحدهم وهم يؤمنون على ذلك، أم أن كل واحدٍ يسأل للميت التثبيت وحده سراً؟

الجواب: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا أنه إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )، فيستغفر كل إنسان له، ويسأل الله التثبيت له كل إنسانٍ على حده، لا يجتمع الجميع على دعاءٍ واحد؛ لأن ذلك من البدع، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرشد إلى ذلك ولم يفعله بنفسه، بل كان يقف ويقول: ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت )، ولم يكن يدعو وهم يؤمنون، ولا أرشد إلى هذا، ثم إنه لا يحتاج إلى طول البقاء عند القبر يستغفر له ثلاثاً، ويسأل الله له التثبيت ثلاثاً ثم ينصرف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً، فيقول: ( اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته ) وينصرف، ولا حاجة إلى طول القيام. وعلى هذا؛ فنقول: إذا اجتمعوا وصاروا يدعون بدعاءٍ واحد، أو يدعو بهم واحد ويؤمنون فإن ذلك من البدع، ومن رآهم من طلبة العلم فليبين للناس أن هذا ليس من السنة.

السؤال: هل يجوز أن يحضر للتعزية أحد العلماء ليحمل أهل الميت على الصبر ويذكرهم بفناء الدنيا، ويبين لهم فوائد الصبر ويسليهم، بحيث يكون في مجلس التعزية روضة من رياض الجنة؟

الجواب: ليس هذا من السنة أن يحضر واعظ في مجلس التعزية يعظ أهل الميت، ويسمعه الحاضرون، بل إن الاجتماع للتعزية مكروهٌ كما صرح بذلك كثيرٌ من العلماء بل أطلق بعضهم عليه أنه بدعة؛ لذلك نحث إخواننا المسلمين على ألا يفعلوا ذلك، أي: ألا يجلسوا للتعزية يستقبلون الناس، أولاً: لأن ذلك لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا من هدي أصحابه.

وثانياً: أن حال هذا الجالس الذي فتح بابه للناس أو أن لسان حاله يقول: يا أيها الناس! ائتوا إلي فإني مصابٌ فعزوني، وهذا أمرٌ لا يليق بالعاقل، بل الإنسان المصاب ينبغي له أن يتصبر ويتحمل دون أن يقول للناس بلسان الحال أو لسان المقال: تعالوا عزوني.

وثالثاً: أن هذه المجالس قد بالغ فيها بعض الناس حتى أصبحوا يجعلونها كأنها حفل زواج تمر في بعض المناطق في البيت مضاءً بقناديل الكهرباء مفتوح الباب، قد بسط بالرمل أو بالفرش، وبالكراسي، والناس هذا داخلٌ وهذا خارج وكأنهم في محفل عرس، وهذا لا شك أنه ليس من السنة، بل إنه خلاف السنة قطعاً، بل إنه يجعل الناس يحسون بهذه الأمور إحساساً ظاهرياً بدنياً، يريدون أن يسلوا أنفسهم بهذه المظاهر فقط لا برجاء الثواب، وتحمل الصبر؛ لأن هذه عبارة عن سرورٍ ظاهري جسدي فقط، لكن إذا بقي البيت على ما هو عليه وبقي أهله على ما هم عليه وتصابروا فيما بينهم، وحث بعضهم بعضاً على الصبر كان هذا هو السنة؛ ولهذا لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم )، ولم يقل: واذهبوا إليهم، واجتمعوا إليهم، وكلوا معهم، وإنما قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم ) يعني: عن صنع الطعام؛ لأن النفوس مهما بلغت لا بد أن تتكدر، ولا سيما إذا كان المصاب جللاً عظيماً، لكن كون الناس يجتمعون وتصنع الولائم وتبعث إليهم، أو ربما يصنعونها هم، فإن الصحابة يعدون صنع الطعام واجتماع الناس إليه من النياحة، ولهذا نقول لإخواننا: خففوا على أنفسكم، اربعوا على أنفسكم، لا تكلفوها مثل هذه الأعمال التي لا تزيدكم إلا إيغالاً في البدعة التي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه، ونحن نقول هذا الكلام، ونقول لمن سمعه: إذا كان عندك شيء من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام يؤيد هذا فأهده إلينا وأنت مشكورٌ على ذلك، ونحن بحول الله سننقاد له، أما إذا لم يكن عندك شيء فلماذا تحدث أمراً لم يفعله الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه، ألم تسمع قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، إذاً فنقول: لا تدع عالماً يحضر مجلس أهل الميت من أجل أن يلقي فيهم المواعظ، بل إذا رأينا أن بعض الناس قد بلغ به الحزن مبلغاً عظيماً فإننا نأتي إليه واحد من العائلة أو واحد من طلبة العلم المعروف عنده يأتي إليه ويتكلم معه كلاماً عادياً في المجلس ويقول: اتق الله، اصبر احتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى، هذا أمرٌ مكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، والمكتوب لا بد أن يقع، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك )، وتشددك في الحزن والبكاء لا يرفع من الأمر شيئاً، بل يزيد الأمر شدة، ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، فيأتي إنسان عادي بصفة عادية يتكلم مع هذا الذي بلغت به المصيبة مبلغاً عظيماً ويخفف عنه، وأما الاجتماع وجلب الوعاظ للوعظ وما أشبه ذلك فكل هذا من البدع.

السؤال: ما هي الطريقة المثلى التي يمكن بها لطالب العلم دراسة الفقه الإسلامي؟ وهل من الممكن الاعتماد على الكتب ودراستها دون استشارة وطلب الشرح من الفقهاء والعلماء؟

الجواب: طلب العلم له طريقان:

الطريق الأول: التلقي من المشايخ.

والطريق الثاني: مراجعة الكتب.

لكن الطريق الأولى يجب أن يكون الشيخ الذي يتلقى منه العلم شيخاً مأموناً في علمه، ومأموناً في دينه، في العقيدة وفي العمل؛ لأن بعض المشايخ يدعي المشيخة، وينصب نفسه معلماً ومفتياً وهو جاهل، لا يعرف من العلم إلا الشيء اليسير، فيضل الناس بغير علم، لكن إذا كان الرجل معروفاً بالاستقامة والعلم والدين والأمانة وسلامة العقيدة وسلامة الفكر فهذا يتلقى منه العلم، وطريق التلقي عن العلماء أسهل من طريق قراءة الكتب؛ لأن العالم كالمجهز للطعام يعطيك الطعام مطبوخاً منتهياً، فيكون تلقي العلم من طريقه أقصر؛ ولأن العالم إذا تلقيت من عنده علمك كيف تتلقى العلم، كيف تستنبط الأحكام من الأدلة، كيف الترجيح بين أقوال العلماء، وما أشبه ذلك، أما التلقي من الكتب فهذا يصار إليه عند الضرورة إذا لم يجد الإنسان عالماً في بلده يثق به علماً وديناً وخلقاً وفكراً فحينئذٍ ليس له طريق إلا التلقي من الكتب، ولكن التلقي من الكتب طريقٌ طويل يحتاج إلى جهدٍ كبير، ويحتاج إلى تأني، ويحتاج إلى نظر، ويحتاج أيضاً إلى مطالعة كتب الفقهاء عموماً؛ لأنك لو اقتصرت على مطالعة كتب فقهٍ معين فربما يكون عند الفقهاء الآخرين من الأدلة ما ليس عند هذا، فالطريق طويل؛ ولهذا أطلق بعض الناس أن من كان دليله كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، ولكن هذه ليست على إطلاقها، فإن من العلماء من تلقوا العلم من الكتب، ويسر الله لهم الأمر، وبرعوا في العلم، وصاروا أئمةً فيه.

أما كيف يتلقى العلم فنقول: ينظر إلى أقرب المذاهب إلى الحق فيأخذ به، ويتفقه عليه، ولكن لا يعني ذلك ألا يأخذ بما دل عليه الدليل من المذاهب الأخرى، بل يأخذ بالدليل ولو كان خلاف المذهب الذي اعتنقه، ولست بذلك أدعو إلى التقليد، لكني أدعو إلى أن يكون للإنسان طريقٌ معين يصل إلى الفقه منه، ولا يجعل العمدة كلام العلماء بل العمدة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا لا يضر أن أتفقه مثلاً على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وعلى قواعد هذا المذهب، وإذا تبين لي الصواب في مذهبٍ آخر أخذت بالصواب، كما هي طريق شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما من العلماء المحققين البارزين، وهذا لا يعني أنني لا أتفقه على الكتاب والسنة، أنا أتفقه على الكتاب والسنة لكن أجعل لي شيئاً أعبر منه إلى الكتاب والسنة.

وعلى هذا؛ فنقول: إذا اخترت مثلاً مذهب الإمام أحمد بن حنبل ففيه كتبٌ مختصرة كتب متوسطة كتب مطولة، فاحفظ أولاً الكتب المختصرة في هذا المذهب، ثم إن كان لديك عالم تتلقى العلم منه فاقرأ هذا الكتاب عليه بعد أن تحفظه، وهو يبين لك معانيه ويشرحه لك، وإذا كان عنده سعة علم بين لك الراجح من المرجوح، وبين لك مآخذ العلماء، وحصلت على خيرٍ كثير، ولكن لا تخلي نفسك من كتب الحديث، احفظ من كتب الحديث ما تيسر، فإن تيسر لك أن تحفظ بلوغ المرام من أدلة الأحكام فهذا حسنٌ جداً، وإن لم يتيسر فعمدة الأحكام، حتى يكون لك نصيب من الأدلة تعتمد عليه، وهذا كله بعد حفظ كتاب الله عز وجل وتفهم معانيه؛ لأنه هو الأصل، فصار هذا الترتيب الذي ذكرته هو من أحسن ما يتمشى عليه طالب العلم فيما أرى، والله الموفق.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
فتاوى نور على الدرب [707] 3913 استماع
فتاوى نور على الدرب [182] 3693 استماع
فتاوى نور على الدرب [460] 3647 استماع
فتاوى نور على الدرب [380] 3501 استماع
فتاوى نور على الدرب [221] 3496 استماع
فتاوى نور على الدرب [411] 3478 استماع
فتاوى نور على الدرب [21] 3440 استماع
فتاوى نور على الدرب [82] 3438 استماع
فتاوى نور على الدرب [348] 3419 استماع
فتاوى نور على الدرب [708] 3342 استماع