فتاوى نور على الدرب [334]


الحلقة مفرغة

السؤال: ونحن نستقبل هذا الشهر الفضيل شهر الصوم أوله رحمة, وأوسطه مغفرة, وآخره عتق من النار, ونحن نستقبل هذا الشهر الفضيل الذي تكثر فيه الدعوات وتكثر فيه الحسنات, نود من فضيلتكم مقدمة عن هذا الشهر الفضيل, وماذا يجب على المسلم تجاهه؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين, وإمام المتقين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هذا الشهر المبارك شهر رمضان قال الله تعالى فيه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] خصه الله تعالى بأنه نزل فيه القرآن العظيم, وخصه الله تعالى بليلة مباركة؛ هي ليلة القدر التي قال الله عنها: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:3-8], وقال الله تعالى عنها: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5].

وخصه الله تعالى بأن فرض صيامه على هذه الأمة, وجعل صيامه أحد أركان الإسلام, وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه ), وخصه الله عز وجل بأن جعل قيام لياليه سبباً لمغفرة الذنوب؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ؛ ولهذا شرع للمسلِّمين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوموا ليالي رمضان جماعة يصلوا في المساجد خلف إمام, وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ).

وإنني أحث إخواني المسلمين على صيام رمضان الصوم الذي تزكو به أعمالهم, ويزيد به إيمانهم, وهو الصوم الذي يحافظ عليه صاحبه حتى يحقق ما شرع الصيام من أجله, وقد أشار الله إلى ذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فبين الله الحكمة من فرض الصيام وهي تقوى الله عز وجل.

وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ).

فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحكمة من الصوم أن يدع الإنسان قول الزور والعمل به والجهل, فأما قول الزور فهو كل قول محرم؛ لأن كل قول محرم زور لازوراره عن الصراط المستقيم وانحرافه عنه, وكذلك العمل بالزور يشمل كل عمل محرم، وأما الجهل فهو العدوان على الناس وظلمهم في أنفسهم وفي أموالهم وفي دمائهم وأعراضهم.

أحث إخواني المسلمين على أن يغتنموا هذا الشهر بالعناية بقيام لياليه, فإنه كما أسلفنا آنفاً ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ), وقيام رمضان يغفر الله به ما تقدم من ذنب الغافل.

وأؤكد على إخواني الأئمة الذين يؤمون الناس أن يقوموا للناس قياماً يكون مشتملاً على الطمأنينة وقراءة القرآن بتمهل، وألا يفعلوا كما يفعل كثير من الأئمة فيسرعوا إسراعاً لا يتمكن به المأموم من فعل المستحب, بل أحياناً يسرعون إسراعاً لا يتمكن به المأموم من فعل الواجب من الطمأنينة والتسبيح ونحو ذلك.

وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يسن، فكيف إذا أسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب؟ والإمام ضامن, ضامن لمن وراءه أن يقوم بهم في الصلاة الكاملة على الوجه الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها ( أنها سئلت: كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ).

فإذا اقتصر الإمام على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة, كما جاء ذلك في حديث ابن عباس لكن بتأن وتمهل وطمأنينة وترتيل للقرآن وخشوع في الركوع والسجود وإقامة للذكر المستحب، حتى تؤدى الصلاة على الوجه الأكمل ويتمكن من وراءه من أدائها كذلك, كان هذا خيراً من كثرة العدد بدون طمأنينة.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في الصلاة الذي جاء فصلى صلاة لا يطمئن فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارجع فصل فإنك لم تصل, كرر ذلك عليه ثلاث مرات, حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني ).

أحث إخواني المسلمين على الجود في نهار رمضان بالجود بالنفس والجود بالمال, ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن )، فالعطاء والبذل والإحسان إلى الخلق في هذا الشهر له مزية على غيره؛ لأنه شهر الإحسان, والله تعالى يحب المحسنين في شهر الجود, والله عز وجل يجود على عباده في هذا الشهر بخيرات كثيرة وفيرة.

أحث إخواني أيضاً على قراءة القرآن فيه بتمهل، وتدبر لمعانيه ومباحثة فيما يشكل مع أهل العلم, فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل, فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً.

وأحذر إخواني المسلمين من إضاعة وقت هذا الشهر المبارك, فإن أوقاته ثمينة, أحذرهم من أن يتجرءوا على ظلم عباد الله بالكذب في البيع والشراء والغش والخداع في أي معاملة يتعاملون فيها, فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: ( من غش فليس منا ).

وجملة القول: أنني أحث إخواني المسلمين على كل عمل صالح يقربهم إلى الله عز وجل, وأحذرهم من كل عمل سيئ يكون سبباً في آثامهم ونقص إيمانهم, وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق لما يحبه ويرضاه, واجتناب أسباب سخطه ومعاصيه.

السؤال: إذا لم يتمكن الإنسان من ختم القرآن الكريم في رمضان, وهو يؤم مجموعة من المصلين, فماذا يجب عليه؟

الجواب: لا شك أن قراءة القرآن في رمضان سنة, ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه جبريل في رمضان فيدارسه القرآن )، وذكر أهل العلم أنه ينبغي للإمام في قيام الليل في التراويح أن يختم بهم القرآن، أي بالمأمومين خلفه, ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب, بل هو على سبيل الاستحباب إن تمكن, وإذا كان يشق على المرء أن يجمع بين الترتيل والتدبر وبين إنهاء الختمة, فإن التدبر والترتيل والطمأنينة في الركوع والسجود أفضل من مراعاة الختمة, ولا شيء عليه إذا لم يختم بهم القرآن.

السؤال: هل القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب؟

الشيخ: أما من جهة قراءة القرآن في غير الصلاة فالقراءة من المصحف أولى؛ لأنه أقرب إلى الضبط وإلى الحفظ، إلا إذا كانت قراءته عن ظهر قلب أحضر إلى القلب وأخشع له فليقرأ عن ظهر قلب.

وأما في الصلاة فإن الأفضل أن يقرأ عن ظهر قلب؛ وذلك لأنه إذا قرأ من المصحف فإنه يحصل له عمل متكرر في حمل المصحف وإلقائه وفي تقليب الورق وفي النظر إلى حروفه, وكذلك يفوته وضع اليد اليمنى على اليسرى في حال القيام, وربما يفوته التجافي في الركوع والسجود إذا جعل المصحف في إبطه, ومن ثم رجحنا قراءة المصلي عن ظهر قلب على قراءته من المصحف.

وإذا كنا نرجح هذا باعتبار الإمام هو أن الأفضل أن يقرأ عن ظهر قلب لئلا يحصل له ما ذكرناه, فإننا كذلك نقول بالنسبة لبعض المأمومين الذين نشاهدهم خلف الإمام يحملون المصحف يتابعون قراءة الإمام، فإن هذا أمر لا ينبغي؛ لما فيه من الأمور التي ذكرناها آنفاً؛ ولأنه لا حاجة بهم إلى أن يتابعوا الإمام.

نعم لو فرض أن الإمام ليس بجيد الحفظ, وقال لأحد من المأمومين: صل ورائي وتابعني في المصحف إذا أخطأت فرد علي, فهذا لا بأس به للحاجة.

السؤال: متى يبدأ وقت الإفطار؟ وأيضاً: متى يمسك الصائم عن الأكل والشرب؟

الجواب: أما الإمساك عن الأكل والشرب؛ فقد قال الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].

فإذا تبين الفجر في الأفق.. والمراد به الفجر الصادق, وهو الذي يكون مستطيراً -أي ممتداً- من الشمال إلى الجنوب, إذا تبين واتضح وجب الإمساك؛ لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فإذا كانت السماء صحواً وأنت ترى الأفق من الشرق ولم يتبين لك النهار، فلك أن تأكل حتى يتبين.

وأما الغروب فقد قال الله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187], وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا أقبل الليل من هاهنا -وأشار إلى المشرق- وأدبر النهار من هاهنا- وأشار إلى المغرب- وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم )، فإذا شاهدت قرص الشمس قد غاب فقد حل لك الفطر.

والأفضل المبادرة بالفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً)، هذا إذا كان الإنسان يمكنه أن يشاهد الأفق عند طلوع الفجر وغروب الشمس.

أما إذا كان لا يمكنه مشاهدة ذلك كما هو الغالب في أهل المدن والقرى، فإنهم يقلدون من يثقون به من المؤذنين, فإذا أذن المؤذن وهو يقول: إنني لا أؤذن إلا إذا طلع الفجر، فليمسكوا, وإذا أذن المؤذن وهم يثقون به فليفطروا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم, فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر )، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك معلقاً بسماع الأذان, وهذا فيمن لا يمكنه أن يشاهد الفجر بنفسه.

أما من شاهد الفجر بنفسه فإنه يعتبر مشاهدته إياه, وكذلك من شاهد غروب الشمس، ورآها غربت وغاب قرصها في الأفق فله أن يفطر وإن لم يسمع أذان المؤذن.

السؤال: هل يجوز للمرأة إذا خرجت لصلاة التراويح أن تتبخر فقط بالبخور وليست العطور؟

الجواب: لا يجوز للمرأة إذا خرجت إلى السوق لصلاة أو غيرها أن تتطيب لا ببخور ولا بدهن ولا غيرهما؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء ).

وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أمر يفعله بعض النساء اللاتي يحضرن إلى المسجد في ليالي رمضان يحضرن معهنّ مبخرة وعوداً ويتبخرن بها وهن في المسجد, فتتعلق الرائحة بهنّ, فإذا خرجن إلى السوق وجد فيهنّ أثر الطيب, وهذا خلاف المشروع في حقهنّ!

نعم لا بأس أن تأتي المرأة بالمبخرة وتبخر المسجد فقط بدون أن يتبخر النساء بها, وأما أن يتبخر النساء بها فلا.

السؤال: كيف كانت حالة الصحابة رضوان الله عليهم في استقبالهم لهذا الشهر الفضيل؟

الجواب: حال الصحابة رضي الله عنهم في مواسم الخيرات في شهر رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي غيرهما من مواسم الخير، أنهم أحرص الناس على اغتنام الأوقات بطاعة الله عز وجل؛ لأن هذا من الخيرية التي أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم ).

وهكذا ينبغي لنا أن نتأسى بهم في مثل هذه الأمور, وأن نحرص على اغتنام المواسم لفعل الخير واجتناب الشر, فإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله, ولهذا تجد الرجل يرى أن كل ما فاته أو كل ما سبق وقته الحاضر في الدنيا كأنه ليس بشيء؛ كما قال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35].

وأنت عند حلول أجلك كحالك عند انتباهك الآن وتدبرك وتفكرك, أي أنه إذا حل أجلك لم تجد معك من دنياك شيئاً كأنها مضت وهي أحلام, ولكن إذا كنت قد استوعبت هذا الوقت الثمين بطاعة الله فأنت في الحقيقة قد ربحت، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

السؤال: هناك أمور استجدت في رمضان القطرة الإبرة, ماذا عن هذه الأمور يا شيخ محمد ؟

الجواب: هذه الأمور التي جدت قد جعل الله تعالى في الشريعة الإسلامية حلها في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تنقسم إلى قسمين:

قسم ينص على الشيء بعينه، وقسم آخر تكون قواعد وأصولاً عامة يدخل فيها كل ما جد وحدث من الجزئيات.

فمثلاً: مفطرات الصائم التي نص الله عليها في كتابه هي الأكل والشرب والجماع؛ كما قال الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].

وجاءت السنة بمفطرات أخرى كالقيء عمداً, والحجامة.

وإذا نظرنا إلى هذه الإبر التي حدثت الآن وجدنا أنها لا تدخل في أكل ولا شرب, وأنها ليست بمعنى الأكل ولا بمعنى الشرب, وإذا لم تكن أكلاً ولا شرباً ولا بمعنى الأكل والشرب فإنها لا تؤثر على الصائم؛ لأن الأصل أن صومه الذي ابتدأه بمقتضى الشريعة الإسلامية صوم صحيح حتى يوجد ما يفسده بمقتضى الشريعة الإسلامية, فمن ادعى أن هذا الشيء يفطر الصائم مثلاً قلنا له: ائت بالدليل, فإن أتى بالدليل وإلا فالأصل صحة الصوم وبقاؤه.

وبناء على ذلك فنقول: الإبر نوعان: نوع يقوم مقام الأكل والشرب بحيث يستغني به المريض عن الطعام والشراب، فهذا يفطر الصائم؛ لأنه بمعنى الأكل والشرب, والشريعة لا تفرق بين المتماثلين, بل تجعل للشيء حكم نظيره.

والنوع الثاني: إبر لا يستغنى بها عن الأكل والشرب, ولكنها للمعالجة وتنشيط الجسم وتقويته, فهذه لا تضر ولا تؤثر شيئاً على الصيام, سواء تناولها الإنسان عن طريق العضلات أو عن طريق الوريد, وسواء وجد طعمها في حلقه أم لم يجده؛ لأن الأصل كما ذكرنا آنفاً صحة الصوم حتى يقوم دليل على فساده.

والكحل والقطرة في العين لا يؤثر ذلك شيئاً على الصائم مطلقاً؛ لأنه كما مر علينا في القاعدة: أن ما ليس أكلاً ولا شرباً ولا بمعنى الأكل والشرب فإنه لا يؤثر على الصائم استعماله.

السؤال: نحن نذهب -ولله الحمد- كل سنة إلى مكة المكرمة للعمرة في رمضان المبارك, وفي كل مرة أنوي العمرة لأبي, ومرة أخرى أنويها لأمي, ولكنني في آخر مرة نويتها لهما معاً, فعندما سئلت عن أمر هذه العمرة قيل لي بأنها تحسب لك ليس لهما, هل هذا صحيح يا فضيلة الشيخ؟

الجواب: هذا صحيح عند أهل العلم رحمهم الله, يقولون: إن النسك لا يمكن أن يقع عن اثنين, النسك لا يقع إلا عن واحد، إما للإنسان وإما لأبيه وإما لأمه, ولا يمكن أن يلبي عن شخصين اثنين, فإن فعل لم يصح لهما, وصار النسك له.

ولكني أقول: إنه ينبغي للإنسان أن يجعل الأعمال الصالحة لنفسه من عمرة وحج وصدقة وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك؛ لأن الإنسان محتاج إلى هذه الأعمال الصالحة, سيأتيه يوم يتمنى أن يكون في صحيفته حسنة واحدة, ولم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى أن يصرفوا الأعمال الصالحة إلى آبائهم وإلى أمهاتهم, لا إلى أحيائهم ولا إلى أمواتهم, وإنما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء للأموات؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له ).

فتأمل قوله: ( يدعو له ), لم يقل أو ولد صالح يقرأ له القرآن، أو يصلي له ركعتين، أو يعتمر عنه، أو يحج عنه، أو يصوم عنه, بل قال: (أو ولد صالح يدعو له), مع أن السياق في العمل الصالح, فدل هذا على أن الأفضل للإنسان أن يدعو لوالديه دون أن يعمل لهما عملاً صالحاً يجعله لهما.

ومع ذلك فإنه لا بأس أن يعمل عملاً صالحاً يجعله لوالديه أو أحدهما, إلا أن الحج والعمرة لا يلبي بهما عن اثنين.